الأربعاء 18 / جمادى الأولى / 1446 - 20 / نوفمبر 2024
(22- ب) حرف الكاف من قوله كأن إلى حرف اللام قوله لعل
تاريخ النشر: ١٧ / ربيع الآخر / ١٤٣٦
التحميل: 2161
مرات الإستماع: 2571

تفسير التسهيل لابن جُزي

معاني اللغات (الغريب)

(22- ب) حرف الكاف من قوله: كأنّ إلى حرف اللام قوله: لعلّ

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، أما بعد:

فيقول المصنف -رحمه الله تعالى-: كأنَّ: معناها: التشبيه.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:  

فكأنّ هذه حرف مركب من: الكاف وإنَّ، تقول مثلاً: كأنَّ زيداً أسدٌ، الأصل: إنَّ زيداً كأسد، ثم قُدم حرف التشبيه اهتماماً به، ففُتحت همزة إنّ لدخول الجار عليها وهو: الكاف، هكذا يقول بعض أهل العلم، كأنّ، فالكاف للتشبيه، وتأتي على كل حال للتشبيه، وهذا هو الغالب، وهو الذي أطلقه عليها عامة أهل العلم، يعني: الجمهور يقولون: إنها تأتي للتشبيه، ويشترطون لذلك: أن يكون خبرها اسماً جامداً، هذا الخبر، مثلما مثلت آنفاً: كأنّ زيداً أسدٌ، فأسد: غير مشتق، بل جامد، بخلاف ما لو قلت: كأن زيداً قائم، أو كأن زيداً في الدار، أو كأن زيداً عندك، يقولون: هذه للظن، وليست للتشبيه؛ ولهذا ذكروا من معانيها: الشك، والظن، أنها تأتي للشك، والظن، تقول: كأني كلمتك عن هذا الأمر، إذا كنت تشك في ذلك، كأني رأيت هذا من قبل، ويقولون: تأتي لمعنى ثالث، وهو: التقريب، هذا عند الكوفيين، تقول للمريض: كأنك بالشفاء قد حل، أو أقبل، وتقول للمكروب: كأنك بالفرج قد جاء، للتقريب، لكن المشهور: أنها للتشبيه، والسياق يدل على معانٍ قد يبقى معها أصل المعنى، أو يبقى من رائحته، أي: المعنى الأصلي الذي هو: التشبيه.

أما ورودها في القرآن فهو للتشبيه، فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ النمل: 42، والذين يقولون: إنها تأتي لمعانٍ أُخر كالظن، يحتمل هنا أن يكون المراد: الظن، كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ المدثر: 50، هذا للتشبيه قطعاً من غير احتمال، وهكذا: كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ المرسلات: 33، هذا للتشبيه، كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا النازعات: 46.

قال -رحمه الله تعالى-: كي: معناها: التعليل.

كي هذه حرف بمنزلة: لام التعليل، في معناها، وفي عملها أيضاً، كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ الحشر: 7يعني: ما شرعه الله من قسم الفيء إلى هذه الأقسام الخمسة من أجل ولعلة ما ذُكر، وهي: أن لا يكون المال حكراً بين الأغنياء، يتداولونه دون الفقراء، وهكذا في قوله: لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ الحديد: 23فهي: للتعليل.

قال -رحمه الله تعالى-: كم: معناها: التكثير، وهي: خبرية، واستفهامية.

هي كذلك، سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ البقرة: 211، أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ الأنعام: 6الآية، فتكون خبرية تدل على: التكثير، وتأتي بمعنى: الاستفهام، كقوله -تبارك وتعالى-: قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ الكهف: 19، قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ المؤمنون: 112، فهذا للاستفهام.

وأما المعنى الآخر أن تكون خبرية فهذه هي التي تكون للتكثير.

قال -رحمه الله تعالى-: كأيّن: بمعنى: كم، وهي عند سيبويه: كاف التشبيه دخلت على أي

 

كأيّن: بمعنى: كم، وهي عند سيبويه: كاف التشبيه دخلت على أي

 

.

كأيّن هذه يقول: بمعنى: كم، يعني: أنها تفيد ما تفيده كم الخبرية من إفادة التكثير، وعند سيبويه: أنها مركبة من كاف التشبيه وأي، وبعضهم يقول: هي: اسم له الصدارة في الجملة، وقد جاءت في سبعة مواضع في كتاب الله -تبارك وتعالى-، وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ آل عمران: 146جماعات، وأتباع كثُر، فهذه للتكثير، وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ يوسف: 105، وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا الحج: 48، وَكَأَيِّن مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ العنكبوت: 60، وهكذا في سائر المواضع.

قال -رحمه الله تعالى-: كلّا: حرف ردع وزجر، وقيل: إنها تكون للنفي، أي: ليس الأمر كما ظننت، وقيل: إنها استفتاح كلام بمعنى: ألَا.

ألَا: في الطبعة الثانية: بكسر الهمزة، وهذا خطأ فتُصحح بفتحها: ألَا، هذا هو حرف الاستفتاح، أما إلّا فهي للاستثناء.

كلا هذه لفظ يراد به: الردع والزجر، أو التحذير، أو الاستنكار، كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ التكاثر: 3، وقد يكون الغرض من ذكرها: إثبات ما بعدها، والتنبيه على أنه حقيقة واقعية، أو طبيعية، كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى [العلق: 6]، أي: أن ذلك من طبيعته، لكنها في الواقع حتى على هذا المعنى لا تخلو من الردع أو الزجر، فيبقى فيها أصل هذا المعنى.

يقول -رحمه الله تعالى-: حرف ردع وزجر، وقيل: إنها تكون للنفي، أي: ليس الأمر كما ظننت، فهي: تكون للنفي، لكن يبقى فيها معنى: الإنكار والزجر، أو نحو ذلك.

يقول: وقيل: إنها استفتاح كلام، بمعنى: ألَا، لكن المشهور: أنها للردع والزجر، كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ مريم: 79، فهنا: للردع، والزجر، والإنكار، والتحذير، كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ مريم: 82، لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا المؤمنون: 100، فهذا للتحذير، والردع، والإنكار، قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا الشعراء: 15، هذه للنفي، يعني: لا يصل إليكما بمكروه، قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي الشعراء: 62، فهذه للنفي، وهكذا كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ المعارج: 39، كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ عبس: 11، كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ المدثر: 54، فهذا وأشباهه كذلك، وقد جاءت في القرآن في ثلاثة وثلاثين موضعاً، في خمس عشرة سورة، ليس في النصف الأول من المصحف منها شيء، كلها في النصف الثاني.

قال -رحمه الله تعالى-: الكاف: بمعنى: التشبيه، وبمعنى: التعليل، وقيل: إنها تكون زائدة.

الكاف هذه حرف جر، يأتي لمعنى: التشبيه، ويأتي لمعنى: التعليل، ويأتي للتوكيد، فهذه التي للتوكيد هي التي يقولون: إنها زائدة إعراباً، نحو: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ الشورى: 11، بعضهم يقول: إن الكاف هنا دخلت على مثل، والكاف: للتشبيه، ومثل: للتشبيه، ليس مثل مثله شيء؛ ولذلك قال بعضهم: إن الكاف زائدة، وليس هذا محل اتفاق، وفي الآية كلام كثير معروف، فمعنى التشبيه ثابت، كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ البقرة: 264، هذه للتشبيه، وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ البقرة: 198، هذه يمكن أن تكون للتعليل، كَمَا هَدَاكُمْ، يعني: لكونه هداكم، بسبب هدايته لكم، أمّا الزائدة فكما ذكرت، يقولون: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ الشورى: 11.

قال -رحمه الله تعالى-: حرف اللام.

لبَس الأمرَ: أي: خلطه، بفتح الباء في الماضي، وكسرها في المستقبل.

ولبِس الثوبَ: بالكسر في الماضي، والفتح في المستقبل.

لبَس: هذه المادة أرجعها ابن فارس إلى معنى، وهو: أنها تدل على مخالطة ومداخلة، من ذلك: لبِستُ الثوب ألبَسه، وهذا هو: الأصل، أي: اللباس الحسي، لبِستُ الثوب، ويقال للفراش الذي يجلس عليه الإنسان أي: البساط، يقال له: لِباس، قال أنس بن مالك في الحديث: فقمت إلى حصير لنا، قد اسود من طول ما لُبس[1]، فكأن ذلك من الملابسة، هذا المعنى الأصلي، تقول: لبِستُ الثوب ألبَسه.

وقد يستعمل في غير هذا اللباس المحسوس، يقولون -أعني: أرباب المجاز-: إن ذلك على سبيل المجاز، فيستعمل فيما يشبه الثوب، فيدخل في ذلك: ستر قبائح الغير، وستر معايب الغير، وستر العيوب، فيقال له ذلك أيضاً.

وكذلك أيضاً: الليل لباس، باعتبار: أنه يستر، وكذلك: ما يؤثر في حياة الإنسان تأثيراً عامًّا مثل الليل، كالفقر يقال له: لباس، لباس الفقر، وكلباس الجوع، ونحو ذلك، فهو: يحيط به كالثوب، وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا الفرقان: 47، وهكذا: وَلِبَاسُ التَّقْوَى الأعراف: 26، باعتبار: أن التقوى تؤثر في صاحبها من نواحٍ مختلفة، في جوارحه، وقلبه، ولسانه، ونحو ذلك، وهكذا أيضاً قوله -تبارك وتعالى-: لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ النحل: 112.

فيقال: اللَّبس: اختلاط الأمر، يقال: لبَسْتُ عليه الأمر أُلبِسُه، وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ الأنعام: 9بمعنى: أنه يبقى الأمر مُبهماً عليه، فلا يعرف وجهه من جهة الصواب والحق، فيقع في الحيرة، يقال: في الأمر لبْسَة، يعني: ليس بواضح.

واللَّبس يقال: لاختلاط الظلام.

والمرأة يقال لها: لباس، والزوج لباسها، باعتبار: أن كل واحد منهما يستر عيب الآخر، هذا ذكره بعض أهل العلم في تعليل هذه التسمية، باعتبار: أن المرأة لا تتحدث عن زوجها بما يُسقطه، أو يجرحه، أو يعيبه، أو يكون شيناً في حقه عند أهلها، أو عند صواحباتها، أو عند الآخرين، ليس ذلك من المروءة، وهذا خلاف كون المرأة لباسًا للرجل، وكذلك الرجل لا يتحدث عنها بما يشينها، ويعيبها، ويجرحها عند أصحابه، أو عند أهله، أو نحو ذلك، أو باعتبار: أنها لباس، وهو لباس لها أيضاً؛ للمخالطة، والملامسة، كما يلامس الثوب لابسه، لما يكون بينهما من الملابسة.

وهكذا أيضاً: اللبُوس: كل ما يُلبس من الثياب يقال له: لبُوس، سواء كان من هذه المنسوجات، من الحرير، أو الكتان، أو غير ذلك، أو كان من الحديد، وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ الأنبياء: 80، وهكذا في قوله تعالى: وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا فاطر: 12، فلبس هذه الحِلية التي تستخرج من البحر هذا يقال له ذلك، ما يُلبس من الحلية، أو من الثياب، يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا الأعراف: 26، هذا في اللباس.

وقوله -تبارك وتعالى-: بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ق: 15يعني: اختلط عليهم الأمر، وخفيت عليهم الحقيقة حتى وقعوا في الحيرة والشك من إمكان بعث الناس، وخلقهم خلقاً جديداً.

يقول ابن جُزي -رحمه الله تعالى-: لبَس الأمرَ: أي: خلطه، بفتح الباء في الماضي، لبَس، وكسرها في المستقبل يلبِس، ولبِس الثوب بالكسر في الماضي، والفتح في المستقبل.

قال -رحمه الله تعالى-: ألباب: عقول، وهو: جمع لُب.

هذه المادة عند ابن فارس تدل على: لزوم وثبات، وعلى: خلوص وجودة، لاحظوا: ذكر معنيين:

الأول: اللزوم والثبات تقول: ألبّ بالمكان إذا أقام به، يُلِبُّ إلباباً، ورجل لبٌّ بهذا الأمر إذا كان ملازماً له، وامرأة لَبّة أي: محبة لزوجها، مقيمة على الوداد دائماً، ويقال أيضاً: لَبّة: مُحبة لولدها، مقيمة على محبته، والتلبية: لبيك اللهم لبيك، فسرها بعضهم: بالإقامة والثبات، أنا مقيم على طاعتك، وفسرها بعضهم: بالمحبة، أنا محب لك محبة بعد محبة، لبيك اللهم لبيك، وفُسر ذلك: بالإجابة، إجابة لك بعد إجابة، وقيل غير ذلك، ويمكن أن تجتمع هذه المعاني في التلبية، فإن من معاني هذه المادة: اللزوم والثبات، والإقامة، والمحبة الثابتة، ونحو ذلك، ومنه: المُلَبْلِب: الثابت على الود، هذا ما يتعلق بالمعنى الأول الذي هو: اللزوم والثابت.

المعنى الثاني وهو: الخلوص والجودة، فاللُّب من كل شيء هو: خالصه، لُبّ الثمر، وهكذا: اللبيب العاقل، ومنه: اللَّبّة، وهو: موضع القلادة من الصدر، بأي اعتبار قيل له: لَبّة؟ باعتبار: أنه خالص، هذا المكان خالص، هذا الذي يعبر عنه العامة يقولون: اللُّبَّة، في نحر البُدن، يقولون: إنه يطعن في لُبتها، والصحيح: يطعن في لَبتها بفتح اللام، اللَّبَّة، هذا الموضع موضع القلادة. 

فهنا على كل حال يقول: ألباب: عقول، وهو: جمع لُب، أي: الألباب، وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ البقرة: 179يعني: يا أصحاب العقول الراجحة، وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ البقرة: 197، لاحظ: الخطاب هنا في هذه المواضع يوجه لأولي الألباب الذين يفقهون أن القصاص فيه حياة، وأن شرع الله -تبارك وتعالى- فيه المصلحة الكاملة، والحياة الحقيقية التي تستحق أن يقال لها: حياة، هؤلاء هم أصحاب العقول الكاملة، وأما خفافيش الظلام التي أعشاها النهار بضوئه فهذه لا تبصر هذه الحقائق، وترى ذلك تخلفاً، ورجعية، وظلاماً، وأنه لا يليق بهذا العصر، وهكذا التقوى، التقوى إنما تكون لأولي الألباب، والذكرى تكون لأولي الألباب، وَذِكْرَى لِأُوْلِي الأَلْبَابِ ص: 43، وهم أهل العبادة كما سبق في الجمع بين الموضعين فيما قصه الله من خبر أيوب -عليه الصلاة والسلام-، وقول من قال بالجمع بينهما بأن أولي الألباب هم العابدون، وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ الأنبياء: 84، وَذِكْرَى لِأُوْلِي الأَلْبَابِ ص: 43، فالذي ينظر نظراً بعيداً هذا صاحب العقل، ينظر إلى آخرته، وإذا أراد أن يقدم على شيء فإنه يتفكر في عواقبه، ويؤثر الدار الآخرة الباقية الأبدية على دار تتقضى وهي مكدَّرة بأنواع المكدرات، وهكذا: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ آل عمران: 190، وهكذا: فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا الطلاق: 10، أكمل الناس عقولاً هم أهل الإيمان.

قال -رحمه الله تعالى-: لبث في المكان: أقام فيه.

هذه المادة عند ابن فارس حرف يدل على: تمكُّث، لبث بمعنى: أقام بالمكان، لبث في العمل يعني: استمر على ذلك، تقول: ما لبث أن فعل كذا، يعني: أسرع إلى فعله، بادر من دون توانٍ، فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ هود: 69يعني: أنه بادر وأسرع، وأصل ذلك يرجع إلى: الإقامة، ويقول اللهإِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا طه: 104، وهكذا: قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ المؤمنون: 112 - 113يعني: أقمنا، قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا المؤمنون: 114، وهكذا: قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ الشعراء: 18يعني: أقمت عندنا، وهكذا في قوله عن نوح -عليه الصلاة والسلام-: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا العنكبوت: 14أي: أقام يدعوهم إلى الله -تبارك وتعالى.

قال -رحمه الله تعالى-: لمَز يلمِز، أي: عاب الشيء.

اللمز يرجع إلى معنى: العيب، وتقول: لمز فلاناً يعني: عابه، أو طعن في عرضه بقول أو فعل، وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ التوبة: 58يعني: يعيبك، هنا يعيب فعل النبي ﷺ أنه لا يعدل، وهكذا: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ التوبة: 79يعني: إن جاء بصدقة قليلة قالوا: الله غنيٌّ عن هذا وعن صدقته، وإن جاء بكثير قالوا: مِراء، فلا يتركون أحداً إلا عابوه، فهم يقصدون العيب؛ لأن قلوبهم قد انعقدت على العداوة، والعدو لا يرى إلا المساوئ، وتتحول المحاسن عنده إلى قبائح، فيلمزون على الصدقة القليلة والكثيرة، وكذلك أيضاً: وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ الحجرات: 11، يعني: العيب، أن يعيب بعضهم بعضاً بوصفه بوصف لا يرتضيه، والحط منه، ونحو ذلك، والله يقول: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ الهمزة: 1، الهُمزة: كثير الهمز، واللُّمزة هو: كثير اللمز، يعني: لا يسلم منه أحد، هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ القلم: 11، فالهمّاز والهُمزة هذا كله لم يأتِ إلا في الذم، فمن الناس من تكون هذه بضاعته، وهذه صنعته، وهذا الشيء الوحيد الذي يُحسنه، لا يُحسن العمل، والعبادة، والطاعة، ولا يُحسن العلم، لا علم، ولا عمل، ولا مروءة، ولا كرم، وإنما هو: همّاز لمّاز، هُمزة لُمزة، وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ [الهمزة: 1]، وإذا قرأت في حسابه في تويتر، أو غير ذلك لا تجد إلا الهمز، واللمز، والطعن في الناس، ورميهم بالأوصاف القبيحة، فهو: ينظر إلى الناس بنظر عداوة، ويرميهم بكل قبيح رجماً بالغيب، ولا يسلم منه أحد، فهذه بضاعة وقوت لا تُبلغ إلى دار كرامة الله -تبارك وتعالى-، وإنما هؤلاء جمعوا مع الإفلاس من العلم والعمل جمعوا هذا الحطب الذي إنما يعود عليهم بالشر والوبال، فيكون قوتاً يقتاتون به إلى مساخط الله -تبارك وتعالى-، وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ الهمزة: 1، هذا لا يكون لأهل الإيمان، المؤمن إذا رأى عيباً ستره، فكيف بالذي يرمي الناس بالعيوب التي هم بُرآء منها، أو يحول الحسنات لهؤلاء إلى قبائح وعيوب، وهذا للأسف ذاع وشاع، وكان اللئيم من هؤلاء سابقاً ينحبس ذلك في نفسه، ولربما استفرغه عند نُظراء له، لكنه لا يتعدى إلى غيرهم، أما اليوم فكل تافه وكل عليل الفؤاد يمكن أن يكتب ويقرأ ذلك مَن بأرجائها للأسف، وهذه من آفة هذه الوسائل التي ابتلي بها الناس، أنها صارت بلاغاً لكل كسيح يستطيع أن يكتب وهو في مكانه دون أن يكون له أدنى مقومات لا من العلم، ولا من العمل، فتبلغ الآفاق، والواقع: أنه في النهاية لو فكر واعتبر فإنه لا يضر إلا نفسه، كما قال اللهالْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ النور: 26، فهذه كما قال ابن جرير: الخبيثات من الأقوال والأفعال، ونقول: والأوصاف، والنساء، يعني: الأزواج، للخبيثين من الناس، فإن صدرت عنهم فهم مظنتها، يعني: هذا الإنسان لو صدر عنه الكلام الجيد لكان ذلك محل استغراب، كيف صدر عنه؟ ما الذي حصل؟ هل هي فلتة؟ فيُستغرب منه الكلام الجيد، والكلام الطيب، أو أن يُثني على أحد من أهل الإيمان، ويذكر محاسنه، فيقال: ما الذي حصل؟ هذا مُستغرب منه؛ لأن ذلك ليس من مظانه، وإنما يصدر عنه كل قبيح، الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ النور: 26، ويقابل ذلك: وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ النور: 26الطيبات من الأقوال، والأفعال، والأوصاف، والكمالات، والأفعال الجميلة، والأيادي البيضاء في المجتمع، للطيبين من الناس، وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ النور: 26من الأوصاف، والذوات، والأقوال، والأفعال، هذه حقيقة أثبتها الله -تبارك وتعالى-، فمن كان بضاعته السوء، والهمز، واللمز، وقالة السوء، فإن ذلك كما قال الله -تبارك وتعالى-: الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ النور: 26، فهذا لا يُستغرب منه؛ ولذلك لا أتعجب حينما يتكلم من يتكلم أيًّا كان في الحق، ويطعن فيه، أو يطعن في أهله، وحملته، فإن هذا هو المظنون بهم، لكن لو قالوا خلاف ذلك بالثناء على الحق، وتعظيمه، وإجلاله، وإكباره، أو تكلموا في حملة الحق، وأثنوا عليهم، لقيل: ما الذي حصل؟، ما هذا التغير؟ ما هذا التحول؟ كيف جاءت هذه؟ هل كُتبت على لسانه؟ هل اختُرق حسابه فأُضيفت هذه؟ لأنه لا يُظن به هذا، ولا يصدر عنه، نسأل الله الهداية للجميع.

قال -رحمه الله تعالى-: لؤلؤ: جوهر.

اللؤلؤ: يقال للجوهر، ويُجمع على: لآلئ، وتلألأ الشيء إذا لمع لمعان اللؤلؤ، فاللؤلؤ هو: الدُّر، وهي: أجسام معروفة لطيفة مستديرة، أو قريبة من الاستدارة، بيضاء لماعة، نعرفها جميعاً، تتكوّن في الأصداف، يقولون: من رواسب بعض الحيوانات المائية الدنيا، فهنا يقول: جوهر، يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ الرحمن: 22، كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ الواقعة: 23أي: المُغطى، يعني: بقي على بياضه، وبريقه، ولمعانه، لم تمسه الأيدي، وكذلك في قوله في خدم الجنة: وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنثُورًا الإنسان: 19، قالوا: اللؤلؤ هنا منثور، وما قال: مكنون؛ لأن هؤلاء ينتشرون في الخدمة، واللؤلؤ إنما يكون مستحسناً إذا كان مجتمعاً إن كان منظوماً ليوضع في الجِيد، وأما في غير ذلك فإن الأُبّهة تكون حيث اللمعان في كل مكان، والبريق في كل مكان، حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنثُورًا الإنسان: 19.

قال -رحمه الله تعالى-: لغو الكلام: الباطل منه، والفُحش، ولغو اليمين: ما لا يلزم.

هذه المادة أرجعها ابن فارس إلى أصلين:

الأول: يدل على شيء لا يُعتد به.

والآخر: على اللَّهَج بالشيء، لاحظ: الشيء الذي لا يُعتد به، واللَّهَج بالشيء، اللَّهَج بالشيء من قولهم: لَغِيَ بالأمر، يعني: لهج به، ويقال: إن اشتقاق اللغة منه؛ لأن صاحبها يلهج بها، هكذا قالوا، لاحظ: يقال: لغا يلغو يعني: إذا أتى بما يقبُح، أو لا يحسُن، أو لا يجمُل، أو لا ينبغي من القول والفعل، يقال: لَغِيَ في القول يَلْغَى، أو في الأمر عابه وطعن فيه، كما قال اللهوَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ فصلت: 26يعني: أن يأتوا عند قراءته، أو عند سماعه عندما يُقرأ يأتوا بما يشوش على القارئ، أو على المستمعين؛ لئلا يحصل لهم به انتفاع، وبعضهم فسره بأن المقصود: الغوا فيه، يعني: اطعنوا فيه بالعيب، وأن ذلك طلب لعيب القرآن.

فهذا المعنى الذي ذكره ابن جُزي يقول: لغو الكلام: الباطل منه، والفُحش، ولغو اليمين: ما لا يلزم، هو المعنى الأول الذي ذكره ابن فارس: الشيء الذي لا يُعتد به، الشيء الذي لا قيمة له، فيدخل في ذلك ما لا يقبُح، ويدخل في ذلك ما لا عبرة به، الكلام الذي لا معنى له، والكلام الذي لا فائدة فيه، سواء كان هذا الكلام من قبيل الفُحش، بأن كان قبيحاً، أو غير ذلك، ويكفي المؤمن للتنزه عن اللغو بجميع أنواعه أن الله قال عن الجنة: لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً الغاشية: 11يعني: لا تسمع فيها كلاماً لا قيمة له، أو الكلام المُستهجن، أو الساقط، أو القبيح، الكلام الذي لا جدوى فيه، لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلامًا مريم: 62، اللغو: مثل هذه الأشياء التي يرسلها الناس ويتداولونها عبر الواتس آب، وغيره، من كلام لا قيمة له، ورسومات لا قيمة لها، ومزاولات وتصرفات لا قيمة لها، تدل على بلادة وحقارة وتفاهة في الاهتمامات، وتجد الناس يتقبلونها، يصدرها تافه، ويتلقاها خلق لا يحصيهم إلا الله، وليس تحتها شيء، لا قيمة لها، لا علم، ولا عمل، ولا فائدة، ولا عبرة، ولا عظة، وإنما هي: توافه تدل على سفول، وانحطاط بالاهتمامات، فهذا لا يليق بأهل الإيمان، والله يقول: وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا الفرقان: 72كالحديث عن الأشياء التي لا قيمة لها، مثل: هذا يشجع هذا الفريق، وهذا يشجع هذا الفريق، ثم يحصل الجدال، فهذا كله لا قيمة له، وهذا الجدال لا جدوى فيه، ولا فائدة منه، وقل مثل ذلك في الكلام في التوافه التي يشتغل بها كثير من الناس، هذا من اللغو.

ويدخل في اللغو أيضاً: الكلام القبيح من الكلام في أمور الوقاع، ونحو ذلك، أو القيل والقال، والاشتغال بما يضر، ولا ينفع، من الوقيعة في أعراض الناس، ونحو هذا، فهذا كله من اللغو، بل هو أقبح اللغو، وكما قيل: بئس الزاد إلى المعاد الوقيعة في أعراض العباد، ويقول الله -تبارك وتعالى-: وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ الفرقان: 72، فكل المجالس التي فيها باطل فهي: شهادة زور، فأعياد المشركين لا يحضرونها، والأماكن التي فيها المنكر لا يشهدونها، والحفلات التي فيها منكر لا يشهدونها، هذا من شهادة الزور، ويدخل فيه: الشهادة المعروفة عند القاضي، أو غيره، شهادة الزور، فالشهادة بمعنى: الحضور، والشهادة بمعنى: الإدلاء والإقرار لإثبات حق، أو نفي أمر، فهذا يقال له: شهادة، وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا الفرقان: 72، لا يقفون عنده، ولا يشاركون أهله، وإنما يترفعون عن اللغط الذي يكون في المجالس، وغير ذلك، فكل هذا لا يليق الاشتغال به، كالمجالس التي تُقضى باللعب بالورق، والتوافه، فمثل هذه كلها من مجالس اللغو، والغفلة، فأهل الإيمان يترفعون عنها، ويتنزهون عن ذلك كله، فمجالسهم مجالس نفع، ويتخيرون أطايب الكلام، وتجد المروءات الكاملة، والسمت الحسن، وأخلاق أهل الدين والمروءة، كل ذلك تجده موفراً في مجالسهم.

فالذي لا يُعتد به: يكون هذا المعنى تماماً في قوله: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ البقرة: 225، فهنا: كقول الرجل من غير قصد لعقد اليمين: لا والله، وإي والله، ونحو ذلك مما يقوله الإنسان، لا يقصد به اليمين، هذا يقال له: لغو اليمين، فيرجع ذلك إلى معنى: ما لا يُعتد به، الذي لا يُعتد به يقال له: لغو، ومن النعيم: أن يكون الإنسان في مجالس لا لغو فيها، فتلك مجالس أهل الجنة، فمن النعيم المعجّل: أن يسلم الإنسان من اللغو بجميع صوره وأشكاله.

قال -رحمه الله تعالى-: لها -بفتح الهاء- من اللهو، ومُضارعه يلهو، ولَهِي عن الشيء -بالكسر والياء- يلهَى -بالفتح- إذا أعرض عنه، وألهاه الشيء: إذا أشغله، ومنه قوله -تعالى-: لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ المنافقون: 9.

هذه المادة أرجعها ابن فارس إلى أصلين:

الأول: يدل على: شغل عن شيء بشيء، ومنه: اللهو، فكل شيء شغلك عن شيء فقد ألهاك، تقول: لهوت، أي: من اللهو، ولهيت عن الشيء، يعني: الترك له، لهيت عن الشيء إذا تركته لغيره، وقد يُكنى به عن غيره، يعبر عن بعض الأشياء باللهو، مثل: الزوجة، والولد، كما في قوله -تبارك وتعالى-: لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا الأنبياء: 17، ما هذا اللهو؟ قيل: الزوجة، وقيل: الولد، يقول الحسن وقتادة: إن ذلك المرأة، وقال آخرون: الولد، فسماه لهوًا، لماذا؟ لأنه يُتلهى به، هذا المعنى الأول، يدل على: شغل عن شيء بشيء.

المعنى الآخر الذي ذكره ابن فارس وهو يدل على: نبذ شيء من اليد، اللُّهوة هي: ما يطرحه الطاحن في ثُقبة الرحى بيده، والجمع: لُهى، واللَّهاة: في أقصى الفم، كأنها شُبهت بثقبة الرحى، سُميت: لهاة، لما يُلقى فيها من الطعام.

هذا الثاني لا وجود له في القرآن، لكن المعنى الأول هو: الموجود، أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ التكاثر: 1شغلكم عن طاعة الله، وذكره، وما ينفعكم، وما يرفعكم، فصار اشتغالكم بجمع الحطام، والاستكثار منه، والاستكثار من الأموال، والاستكثار من الأولاد، والاستكثار من الضيعات -المزارع والعقارات-، والاستكثار أيضاً من كل ما يتكثر به الناس في هذه الدنيا، مما يشغلهم عما هم بصدده من عبادة الله، وذكره، وطاعته، والإقبال على ما ينفع، ويرفع، واليوم صار أكثر هذا الاشتغال والإقبال بالتكاثر على أمور تعلمونها، من كثرة المتابعين، وكثرة المشاهدين للبرامج، وكثرة القارئين لهذا المقال، أو ذاك، وكثرة الباعثين المُرسلِين لهذه التغريدة، بالأسماء التي يسمونها بها مما نعرف، حتى الأسماء أعجمية، فهذا التكاثر لا يغني عن أصحابه شيئاً، وما يغني عن الإنسان أن يتابعه الملايين، ثم يكون عند الله -تبارك وتعالى- مردوداً، إذا كان عمله على غير صلاح، وهدى، أو كان على غير إخلاص، وإذا أردت أن تعرف أن ذلك لا قيمة له حقيقة فانظر إلى أكثر المُتابَعين في هذه الوسائل، تجد أنهم يعني: على مستوى العالم لربما أولئك الذين لا خلاق لهم، من المغنيين، والممثلين، والراقصين، وأصحاب الفجور، والمجون، والفُحش، فإذا رأى المؤمن مثل هذا، وأن هؤلاء يتبعهم عشرات الملايين فإنه يدرك أن ذلك ليس له اعتبار، ولا قيمة، وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ الأنعام: 116، فليست العبرة بالكثرة، وإنما يشتغل الإنسان بإصلاح عمله، وقصده، ونيته، فيكون على جادة صحيحة، سيأتي النبي وليس معه أحد، ويأتي النبي ومعه الرجل والرجلان، المهم ما يكون عليه الإنسان، وليس كثرة من يتبعه، أو من يعجب به، هذه فتنة للتابع والمتبوع.

هنا ابن جُزي يقول: لها: من اللهو، ولهِي عن الشيء: أعرض عنه، وألهاه: شغله، وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ الأنعام: 32، يتلهى بها الناس، ويشتغلون بها عن آخرتهم، وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا الأنعام: 70، وهكذا: الانصراف عن الشيء فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى عبس: 10يعني: تنشغل عنه بغيره، تنصرف عنه إلى الكبراء الذين ترجو إسلامهم؛ ليكون ذلك قوة للإسلام، ونصراً للمسلمين، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لقمان: 6، لَهْوَ الْحَدِيثِ فسره أصحاب النبي ﷺ كابن مسعود : بأنه الغناء، ولا شك أن الغناء من اللهو، وآلات اللهو كالمعازف، وآلات الطرب، وما يؤدي مؤداها من الأصوات المطربة التي تصدر عن أجهزة، قد لا تكون في صورة المعازف، كالمؤثرات الصوتية، فهذه لها حكمها، هذا كله من اللهو، فيدخل فيه: الغناء، ويدخل فيه: هذه الأصوات، أصوات المعازف، ويدخل في ذلك -أي في لهو الحديث- تلك القراءات للحكايات والروايات التي لا خير فيها، مما يحرك الغرائز، أو يثير الشبهات، ويهدم الدين، والعقائد الصحيحة في نفوس الناس، هذه التي يُكب الناس عليها، وتخرج بأغلفة جذابة، وعناوين لربما تستهوي بعض من قل بصره، فيتهافتون عليها، تجد ذلك في المعارض التي تقام للكتب، وتجد جموعاً من الناس يتهافتون تهافت الفراش على النار على بعض الدور المشبوهة، التي تطبع وتوزع الكتب التي تشكك في العقائد والإيمان، وتهدم ذلك في نفوس الناس، هذه التوافه والروايات كل ذلك من الروايات السيئة، التي تشكك في الأنبياء والرسل، وتورث الإلحاد، والتي تحرك الشهوات في النفوس، وتغري بالفاحشة والمنكر، كل هذا من اللهو، يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لقمان: 6؛ ولهذا بعض أهل العلم يقولون: هي: الحكايات، والقصص التي من أخبار فارس، ونحو ذلك، كل هذا داخل فيه، ليست القضية أن يقرأ الإنسان، لكن ماذا يقرأ، فقد يكون ترك القراءة أفضل له؛ لأن هذه القراءة قد تهدم الإيمان في نفسه، أو تحرك الغرائز، تجد كثيراً ما يقال عن الغربيين بأنهم يقرءون، وتُذكر نسب وإحصاءات للقراءة، نعم هم يقرءون، لكن يقرءون ماذا؟ تجد الواحد منهم يقرأ وهو في محطة القطار، وهو في المطار، وهو في الطائرة، وهو يأكل، ولربما وهو في الحمام، في مُستحمه وهو يقرأ، وتجد هذا الإنسان يقرأ بكل حين، لكن هذه القراءة الجاذبة له، التي تأسره، سواء كان من الرجال أم النساء، ومُكب على هذا الكتاب في يديه حتى ينهيه لربما في مجلس واحد، هو يقرأ ماذا؟ هو يقرأ روايات، وكتبًا تورث الشبهات، ولا تزيده إلا غيًّا وإلحاداً، أو تحرك الغرائز في النفوس، فيكون ذلك كالطعم الذي يقوده إلى الشر، والغي، والمكروه، هذا هو الواقع في غالب قراءات أولئك الذين ترونهم قد حمل الواحد منهم كتاباً لا يفارقه في السفر والحضر، فمثل هذا لا يُغبط عليه، فكون الإنسان يحمل فأساً، ويحتطب، أو يشتغل بشيء آخر في أمر دنياه، أو ينام أفضل من هذه القراءة التي تورث الشر، وتحرك نوازع السوء في نفسه.

قال -رحمه الله تعالى-: لطيف: اسم الله تعالى، قيل: معناه: رفيق، وقيل: خبير بخفيات الأمور.

هذا قد مضى الكلام عليه في الكلام على اسم الله: اللطيف، في الكلام على الأسماء الحسنى، فهذه المادة عند ابن فارس -رحمه الله- تدل على: رفق، وتدل أيضاً على: صِغر في الشيء، يقال: تلطف، بمعنى: ترفق، فأصحاب الكهف حينما بعثوا أحدهم ليشتري لهم طعاماً قالوا: وَلْيَتَلَطَّفْ الكهف: 19بمعنى: أنه يخرج خروجاً لا يشعر به أحد، وحينما يتعامل مع هؤلاء ليحصل مطلوبه فإنه يتلطف دون أن يُشعرهم بأمره، ويقال: لطُف الشيء يلطُف لطفاً ولطافة: إذا دق، لطَف الله بعباده يلطُف لُطفاً: أحسن إليهم، وأنجاهم من المكاره، والشدائد، ونحو ذلك.

إذن: هذه المادة تدل على رفق، إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ الحج: 63بمعنى: رفيق بعباده، وتدل على: دقة، تقول: هذه مادة لطيفة، هذه جوهرة لطيفة، هذه لفتة لطيفة، يعني: دقيقة جدًّا، استُخرجت بالمناقيش، تقول: هذا الأمر يحتاج إلى لطافة ذهن، يعني: دقة في التفكير، وحُسن نظر؛ ليستخرج هذه المعاني، فالله -تبارك وتعالى- لطيف بمعنى: رفيق، وهو أيضاً: يعلم دقائق الأشياء، ويكون هذا المعنى إذا ذُكر مع الخبير، ونحو ذلك، فالخبير هو: الذي يعلم الخفيات، والبواطن، فهو: لطيف خبير، فاللطيف هو: الذي يعلم الدقائق -الأشياء الدقيقة-، والخبير: يعلم البواطن والخفايا، لكن اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ الشورى: 19بمعنى: أنه يرفق بهم، ويوصل إليهم ألطافه، وبره، وإحسانه، ويخلصهم من المكاره، وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ الملك: 14يعلم دقائق الأشياء، إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ يوسف: 100يعني: أنه يوصل ذلك بالطرق التي تَدِقُّ، أو أنه يوصل ذلك بوجوه البر، والإحسان، أو يوصل إحسانه من طرق خفية، أو برفق على أدق الوجوه.

هذا يوسف -عليه الصلاة والسلام- فيما قص الله عنه، يقول: وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ يوسف: 100، كل هذا الذي حصل يقول بعده في آخر ما ذكر الله عنه: إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ يوسف: 100يعني: هذه الأشياء التي حصلت له من النجاة، والتخليص، والرفعة بهذه الطرق الدقيقة اللطيفة، وهذا الإحسان الذي حصل له، كل ذلك من اللطف، لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ الأنعام: 103الذي يعلم دقائق الأشياء، اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ العَزِيزُ الشورى: 19، هنا لطيف يعني: يوصل إليهم الألطاف، الإحسان والبر، ويكون أيضاً بعلمه الدقيق بهم، فمن كان في حال من الفقر، ونحو ذلك، لا يظن أن الله قد غفل عنه، أو لا يعلم مكانه، وموضعه، وحاجته، وفقره، فالله لطيف بعباده، نافذ البصر، يعلم أحوالهم علماً دقيقاً، لكن المتبادر في قوله: اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ: بالبر، والإحسان.

قال -رحمه الله تعالى-: لدَى ولدُن: معناهما: عند.

لدَى ولدُن، ابن فارس يقول: إن ذلك يقال: لليِّن من القضبان، يقال له: لدْنٌ، ولدُن بمعنى: لدى، أي: عند، الليِّن من القضبان يقال له: لدْنٌ، هذه لم تأتِ في القرآن، لكن التي عندنا هي: لدُن، بمعنى: لدى، أي: عند، هذه التي فسرها ابن جُزي بقوله: عند، لدُن -حرف اللام والدال والنون- ظرف مكاني، أو زماني، بمعنى: عند، ولم يرد في القرآن إلا مجروراً بمن، مِنْ لَدُنَّا النساء: 67.

أمّا لدى فهذه مادتها: اللام والدال والألف المقصورة، فهي: ظرف، مثل: لدُن، ومعناها: عند، وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ يوسف: 25يعني: عند الباب، إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ غافر: 18يعني: عند الحناجر، الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود: 1يعني: من عند حكيم خبير، وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ النمل: 6يعني: من عنده.

قال -رحمه الله تعالى-: ليت: معناها: التمني.

هذه للتمني، وغالباً ما تكون للمستحيل، يقول الشاعر:

ألَا ليتَ الشبابَ يعود يومًا *** فأخبره بما فعل المشيبُ

هذه ليت، أما لعل -كما سيأتي- فهي: تكون للترجي، فيما يُترجى وقوعه وحصوله، فليت كقوله: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ الأنعام: 27، هذا محال، وهكذا: يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ القصص: 79، هذا بعيد وليس بمحال، وهكذا: قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي يس: 26 - 27، حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ الزخرف: 38، فهي: تأتي للتمني، وغالباً ما يكون ذلك المطلوب الذي يتمناه من قبيل المحال، لكنه قد لا يكون من قبيل المحال، تقول: ليتني أسافر معك، ليتني أفهم هذه المسألة، فهذا للتمني.

قال -رحمه الله تعالى-: لعل: معناها: الترجي في المحبوبات، والتوقع للمكروهات، وأشكل ذلك في حق الله تعالى، فقيل: جاءت في القرآن على منهاج كلام العرب، وبالنظر إلى المخاطب، أي: ذلك مما يُرتجى عندكم، أو يتوقع، وقد يكون معناها: التعليل، أو مقاربة الأمر، فلا إشكال.

أرجو أن تحضروا أذهانكم قليلاً، فهذا الإشكال الذي ذكره سيتضح -إن شاء الله-، ويتجلى، وليس ثمة إشكال، وأذكر لكم قاعدة في هذا الباب، ينزاح فيها الإشكال، أو أكثر من قاعدة.

لعل هذه تأتي لمعانٍ: منها: التوقع، وهذا هو: الأصل، توقع المحبوب، ترجي المحبوب، الإشفاق من المكروه، هذه تكون في الممكن، ولا تكون في المستحيل، هذا الأصل: أنها للترجي، لعل: للترجي، يقول فرعون: لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ غافر: 36 - 37، هذا هل يمكن أن يبلغ أسباب السموات؟ الجواب: لا، لكن قالوا: إنه قال ذلك؛ لحماقته، وتكبره، وعتوه، وجهله، وإلا فهو يعلم أنه إذا بنى صرحاً يبلغ مائة متر، أو ألف متر، أو نحو ذلك، أنه لن يبلغ السموات، ولا أسباب السموات، ولن يقرب من هذا، وهو أول من يعلم بذلك، لكن يقوله على سبيل الصَّلف، والكِبر، والغطرسة، والتعالي.

وتأتي بمعنى آخر، وهو: التعليل، فتكون بمعنى: كي التعليلية، فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى طه: 44، فسرها بعضهم بالتعليل.

المعنى الثالث الذي ذكره بعضهم، ذكره الكوفيون من النحاة، وليس محل اتفاق، وهو: الاستفهام، لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا الطلاق: 1، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى عبس: 3، يعني: بمعنى: وما يدريك هل يحصل له الزكاة أو لا؟ وما يدريك هل يُحدث بعد ذلك أمرًا أو لا؟ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا الأحزاب: 63يعني: وما يدريك هل تكون الساعة قريبًا؟ أو ما يدريك الجواب عن هذا السؤال؟ هكذا يقول الكوفيون، لكن هذا المعنى غير مشهور.

إذن: بقينا بين معنيين، المعنى الأول الذي هو: الترجي، وهذا الذي ذكر فيه الإشكال فيما يضاف إلى الله، الله حينما يقول لموسى وهارون -عليهما الصلاة والسلام-: فَقُولا لَهُ أي: فرعون، قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى طه: 44، إذا كانت للترجي، فهذا وجه الإشكال، الترجي لا يقع ممن يعلم العواقب، تقول: لعل المطر ينزل، لا تدري هل سينزل أو لا؟ لعل المسافر يصل، لعل زيداً يتوب، وأنت لا تدري هل يتوب أو لا؟ فهذا يقال: للترجي، الترجي لا يكون إلا ممن لا يعلم العواقب، والله أحاط علمه بكل شي

 

الترجي لا يكون إلا ممن لا يعلم العواقب، والله أحاط علمه بكل شي

 

ء، فهل يقع منه الترجي؟ الجواب: لا، لا يقع منه الترجي، طيب،  لعل إذا أُضيفت إلى الله كيف يكون المعنى؟ فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ طه: 44، إذا أُضيفت يعني: أنها من كلام الله "لعله يتذكر"، الله يعلم أنه لن يتذكر ولن يخشى، إذن: فهنا من أهل العلم من قال: إن كل لعل في القرآن فمعناها: التعليل، أي: من أجل، إلا في موضع واحد، قالوا: وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ الشعراء: 129أي: كأنكم تخلدون، حتى هذا الموضع ليس بمحل اتفاق، فبعضهم قال: إنها بمعنى: التعليل، لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ، وبعضهم قال: فيها معنى الترجي، أي: على رجائكم، ترجون الخلود باتخاذ هذه القصور؛ لأن المصانع فُسرت: بالقصور، والبنايات الكبيرة التي لا يتخذها من كان بقاؤه في هذه الدنيا عابراً، كأنهم يخلدون، يُرجُّون الخلود.

لاحظ: كل لعل في القرآن فهي: للتعليل، فإذا فسرتها بالتعليل بهذا المعنى انحلت الإشكالات، لم يبقَ هناك إشكال، فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى طه: 44أي: من أجل أن يتذكر أو يخشى.

طيب، يَرِد على هذا أنه لم يحصل له الذكرى، والله يعلم أنه لن يحصل له الذكرى، ومن هنا فسرها بعضهم: بالترجي، هنا يقع الإشكال الذي ذكره ابن جُزي، كيف يقع الترجي، والله يعلم أنه لن يقع ذلك، وهذا من قول الله؟ هنا قاعدة أخرى، وهي: أن الخطاب في القرآن قد يرد مراعًى فيه حال المخاطب، وفهم المخاطب، وهذا له صور، وأنواع كثيرة، لكن يكفينا الآن أن نعرف هذا القدر، أن يرد الخطاب مراعًى فيه فهم المخاطب، ونظر المخاطب، فيكون المعنى: قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى طه: 44أي: على رجائكما، وقد ذكرنا هذا في مناسبات سابقة، على رجائكما، مثل ما ذكرنا في قوله تعالى في غير الترجي ولعل، في خبر يونس -عليه الصلاة والسلام- لما أرسله الله إلى أمة أخرى قال: مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ الصافات: 147، والله يعلم عدد هؤلاء، لكن بحسب نظر الناظر منكم، هذا روعي فيه فهم ونظر المخاطب، مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ الصافات: 147، قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى النجم: 9، يعني: بحسب نظر المخاطب، هذا إذا ما فُسرت بالإضراب في الموضعين، يعني: بل يزيدون، قاب قوسين بل أدنى من ذلك، فإذا فُسرت بأن "أو" هذه تدل على: التردد، يعني: بحسب نظر الناظر منكم معاشر المخاطبين، إذا رأيتَهم تقول: مائة ألف أو يزيدون، إذا نظرت إلى هذه المسافة تقول: قاب قوسين أو أقل، أمّا الله فيعلم مدى ذلك.

إذن: الخطاب في القرآن قد يخرج مُراعًى فيه نظر المخاطب، فتأتي لعل للترجي، لا إشكال في ذلك، يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا الأحزاب: 63، اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ الشورى: 17، وفي الطلاق والعِدة، وتطليق الناس للعدة، أن تُطلَّق في طهر لم يجامعها فيه، والنهي عن إخراج المطلقات من البيوت أي: المطلقة الرجعية تبقى في بيت زوجها، لا يجوز أن تخرج، قال: لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًاالطلاق: 1، "لعل الله"، يعني: الرجعة، إذا بقيت عنده في البيت هذه المدة، فذلك يكون سبيلاً وسبباً لارتجاعها.

طيب، وفي بعض المواضع تحتمل المعنيين: الترجي والتعليل، ففي قصة السحرة الناس والملأ يقولون: لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ الشعراء: 40، هذه تحتمل: الترجي، أنهم يميلون إلى السحرة، وتحتمل: التعليل، وهكذا: وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ الأنبياء: 111، وبعضهم قال: هذه استفهامية، يعني: وَإِنْ أَدْرِي يعني: لا أدري، لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ يعني: أهو فتنة لكم؟ لكن هذا المعنى غير مشهور، وعامة أهل العلم لا يعتدون به.

لاحظ: فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ هود: 12، هذا بأي اعتبار؟ يحتمل: أن تكون للترجي والتوقع ممن لهم علاقة بموضوع الكلام، فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ هود: 12يعني: هؤلاء الذين رأوك قد بذلت طاقتك وجهدك في تبليغ الناس الرسالة، لربما توقعوا أنك تترك بعض ذلك سآمة، أو يأساً، أو نحو ذلك، هكذا قال بعضهم، وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى طه: 130يعني: تكون للترجي، بمعني: مُرجِّياً أن ترضى، فلعل هنا: للترجي من المخاطب، يحصل لك الرجاء، اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ البقرة: 21يعني: من أجل أن تكونوا من المتقين، فتكون للتعليل، أو للرجاء، راجين أن تكونوا من المتقين، فيمكن أن تكون بمعنى: كي، كي تكونوا من المتقين، أو الرجاء، فهذه الآيات لعل دخلت فيها على ضمير جمع المخاطبين، كما أنها مسبوقة بفعل أمر للمخاطبين، فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى طه: 44، اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ البقرة: 21، أمر، لكن إن لم تُسبق بفعل أمر يقولون: الغالب أنها تكون للتعليل وليست للترجي، إن لم تُسبق بفعل أمر، ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ البقرة: 52أي: من أجل أن تشكروه، كي يتحقق الشكر، مع أن ذلك ليس بقاطع، يمكن أن تكون للترجي، لكن كيف يكون ذلك من الله؟، لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ البقرة: 52، على رجائكم أن العفو يحصل به الرجاء عادة لدى المخاطبين وهم البشر، باعتبار: أن من حصل له العفو يمكن أن يستعيد حياة جديدة، ويستأنفها، وعلاقة جديدة بالله، لكن الغالب -والله أعلم- أن ذلك للتعليل، فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ البقرة: 186، هذه بعد الأمر، فتحتمل المعنيين: الترجي والتعليل، كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ البقرة: 187، أي: لكي تحصل التقوى، لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ يوسف: 46أي: لكي يعلموا، وتحتمل أيضاً: أن تكون للترجي، إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ طه: 10أي: أرجو أن آتيكم منها بقبس، وهكذا، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله، وصحبه.



[1] أخرجه البخاري، كتاب الصلاة، باب الصلاة على الحصير، رقم: (380)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب جواز الجماعة في النافلة، والصلاة على حصير وخُمرة وثوب، وغيرها من الطاهرات، رقم: (658).

مواد ذات صلة