تفسير التسهيل لابن جُزي
معاني اللغات (الغريب)
(25- ب) من حرف النون: أناب إلى حرف الصاد: صعد
يقول الإمام ابن جُزي الكلبي -رحمه الله تعالى-: أناب إلى الشيء: رجع، ومال إليه، ومنه: مُنِيبٍ سبأ: 9.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذه المادة -النون والواو والباء- أرجعها ابن فارس إلى معنى: اعتياد المكان، والرجوع إليه، وابن جُزي -كما سمعتم أيضاً- أعادها إلى هذا المعنى، فالإنابة بمعنى: الرجوع، ومعنى: التوبة وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ الرعد: 27، وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ لقمان: 15، وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ ص: 34، فالإنابة بمعنى: الرجوع، والتوبة، وهذا ظاهر، تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ [ق: 8]، كثير الإنابة، مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ ق: 33.
قال -رحمه الله تعالى-: نفِد ينفَد: أي: تم وانقطع.
هذه في الطبعة الأخرى: بالذال، ولكن الصحيح: بالدال، كما هنا، نفِدَ، ابن فارس أرجعها إلى معنى واحد، وهو ما ذكره ابن جُزي: الانقطاع، انقطاع الشيء وفناؤه، هي ترجع إلى هذا المعنى، مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ النحل: 96، فينفد بمعنى: يفنى، ويذهب، وينقطع، ويزول، قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ الكهف: 109يعني: لفنى، وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ لقمان: 27يعني: ما فنيت، إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ ص: 54يعني: ليس له فناء وانقضاء.
قال -رحمه الله تعالى-: نهَر -بفتح الهاء-: الوادي، ويجوز الإسكان، وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ الضحى: 10، فهو: من الانتهار، وهو: الزجر.
يعني في الآية: وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ الضحى: 10، فهو من الانتهار، وهو: الزجر، هذه المادة أرجعها ابن فارس إلى أصل واحد، يدل على: تفتح شيء، أو فتحه، فتقول: أنهرتُ الدم، أي: فتحته، وأرسلته، وسُمي النَّهر؛ لأنه ينهر الأرض، أي: يشقها، وكذلك النهار باعتبار: انفتاح الظلمة عن الضياء، فيقال النهار: لما بين الطلوع إلى الغروب، هذا في اللغة، ويقال ذلك في الشرع: من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.
لاحظ: ويقال: نهره، يعني: زجره في غِلطة، فَلا تَنْهَرْ الضحى: 10، والنَّهْر: الأخدود الواسع المستطيل في الأرض يجري فيه الماء، هذا الذي قال فيه: بفتح الهاء: الوادي، يعني: الشق الذي يكون في الأرض، الآن الأنهار هذه تجري المياه فيها في شق من الأرض، هذا الشق هو الذي عبر عنه بالوادي، لكن لما كانت هذه الأودية عندنا جافة ليس فيها شيء، فتراها على طبيعتها، فالنهر يقال: للشق، ويقال: للماء الذي يجري فيه؛ ولهذا قال الله: وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ محمد: 15، أي: في الجنة أنهار من لبن، وليس هذا هو الشق، وإنما المقصود: الذي يجري فيه من لبن، أو عسل، أو خمر، فهنا قيل: للجاري، فقال: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى محمد: 15، وهذا مضى الكلام عليه في الكلام على المجاز الذي العلاقة فيه الحالّية والمحلية، الحالّ والمحل، فالمحل هو: الشق، والحالّ هو: الماء الذي يجري فيه، فيضطربون في مثل هذا، فبعضهم يقول: هو حقيقة في الشق مجاز في الجاري، وبعضهم يقول: هو حقيقة في الجاري مجاز في الشق، طيب ما الاستعمال الأول منهما؟، لأن المجاز عندهم هو الاستعمال الثاني، هل العرب أطلقته أولاً على الماء الذي يجري، أو أطلقته أولاً على الشق؟، يعني: هذه الشقوق التي نراها الآن لو جئت بالطائرة، ونظرت إلى أسفل، وأنت تسير في هذه الصحراء الشاسعة، وأتيت إلى مواضع الأودية، إذا كنت أتيت من خارج هذه البلاد، وعلى ارتفاع شاهق، ترى الأنهار في تلك البلاد في كل مكان، وإذا أتيت هنا ترى مثلها، ولكنها جافة، وهي واضحة بين الجبال، وما إلى ذلك، مثل التي هناك، لكنها جافة تماماً، ليس فيها شيء، فهذه لو جرى فيها الماء لكانت كتلك، كانت أنهاراً، فتسمى أودية، تسيل في بعض الوقت، تسيل في بعض السنة، ونحو ذلك، ثم بعد ذلك ما تلبث أن تجف، فهل هذه الآن يقال لها: أنهار؟، الجواب: لا، وهل الماء وحده يقال له: نهر؟، الجواب: لا، يعني: الذي يجري على سطح الأرض هكذا من غير شق، فيضان مثلاً، أو سيل في أرض مستوية، فهل يقال له: نهر؟ الجواب: لا، وهذا كما ذكرنا في المِيزاب، تقول: أصلحت الميزاب، يعني: المجرى، وجرى الميزاب، يعني: السائل، والمطر، فأيهما الحقيقة وأيهما المجاز؟، ما الاستعمال الأول عند العرب، وما الاستعمال الثاني؟، هذا لا يتضح فيه الاستعمال الأول أو الاستعمال الثاني؛ ولذلك يثير مثلَ هذا شيخُ الإسلام -رحمه الله- في الرد على القائلين بالمجاز، تقول: أجريت النهر يعني: الماء، وشققت النهر وحفرت النهر يعني: الشق الذي في الأرض، يحفرون ويُجرون له فروعاً ليصل إلى نواحٍ أخرى، حفرت النهر، وهكذا: كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا الكهف: 33، النَّهَر والنَّهْر لغتان، نَهْر ونَهَر، وبعضهم يقول: إن النَّهْر يُجمع على نَهَر وأنهار، وبعضهم يقول: لغتان، والله أعلم.
قال -رحمه الله تعالى-: مُنير: من النور، وهو: الضوء حسًّا أو معنى.
هذه المادة يقول ابن فارس: ترجع إلى أصل صحيح، يدل على: إضاءة، واضطراب، وقلة ثبات، النون والواو والراء تدل على: إضاءة، واضطراب، وقلة ثبات، منه: النور، والنار، وسمي بذلك من طريقة الإضاءة، النور فيه إضاءة، والنار فيها إضاءة، يقول: ولأن ذلك يكون مضطرباً سريع الحركة، ومنه: النَّوْر، يعني: نَوْر الشجر، ونُوّاره، يعني: الزهر الذي عليه، والمنارة: من الاستنارة، ومَنار الأرض هي: حدودها، وأعلامها، سميت: لظهورها وبيانها، وكذلك المنارة ظاهرة، لماذا وضعت المنارة في المسجد؟ ليُعرف أن هذا مسجد؛ لظهورها، وكذلك كان يصعد عليها المؤذنون ويؤذنون فوقها؛ ليصل الصوت لأبعد مدى، فسميت منارة.
وأمّا ما يتعلق بقلة الثبات فكقولهم: امرأة نَوار، يعني: عفيفة، تَنُور، يعني: تنفر من القبائح، ونارت: نفرت، والنِّوار: النِّفار، وبعضهم يقول: إن النار قيل لها ذلك: لمعنى ارتفاعها، وعلوها، أن فيها معنى الارتفاع، فكأن هذه ترتفع عن القبائح، امرأة نَوَار، يقال: نارت الظبية، بمعنى: الارتفاع، فبعضهم يقول: إن النار مأخوذة من هذا، والله أعلم، لكن ابن فارس ذكر هذا المعنى الذي هو: الاضطراب، وقلة الثبات، والإضاءة، والعرب يتسعون في الاستعمال، فالعرب تقول: أوقدوا نار الحرب، والله يقول: كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ المائدة: 64، هذا يعبر به عن العزم على الحرب، وتعاطي أسباب الحرب، ويقولون: من عادة العرب إذا أرادوا حرباً أن يوقدوا ناراً إيذاناً بالحرب؛ ليستعد القوم، يقولون: هذا أصله، ثم بعد ذلك تُنوسي إيقاد النار، فعُبر به عن الاستعداد، والعمل على خوضها، خوض الحرب.
والنار تجمع على: نيران، ونِيرة، وأنوار، وأما النور فيجمع على: أنوار، ونيران، ويكون هذا النور -كما قال ابن جُزي- حسيًّا، وهو: الضوء الذي يكون للأجرام المضيئة، هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا يونس: 5، هذه الإنارة التي تكون في القمر من غير حرارة فهي نور، وأما الذي يكون معه حرارة كالشمس فهذا يقال له: ضياء، ضوء الشمس ونور القمر؛ ولذلك قال النبي ﷺ: (الصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء)[1]، فالصبر ضياء لما فيه من الحرارة، والصلاة نور ليست فيها حرارة، (وجُعلت قرة عيني في الصلاة)[2]، (أرحنا بها يا بلال)[3]، (كان إذا حَزَبه أمر فزع إلى الصلاة)[4]، وفرق الله بين الشمس والقمر، هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا يونس: 5، ففيها الحرارة بخلاف القمر؛ ولهذا قال الله: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ البقرة: 17، فذكر الإضاءة، فالإضاءة مع النار، والنار فيها معنى: الإحراق والحرارة، فما الذي ذهب في المثل؟، النور الذي يكون به الإبصار، فبقيت الحرارة والإحراق، لاحظ التعبير: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ البقرة: 17، فذكر الإضاءة لوجود النار، وهو أثر عنها، فهو ضوء، فذهب النور، فبقي الإحراق، فهذا النور إذا فُصل من الحرارة لم يعد ضوءًا، وإنما يقال له: نور، فذهب النور، وبقي الحرارة والإحراق.
وأما النور المعنوي فيقال بمعنى الهدى والإيمان والعلم واليقين وثلج الصدر بذلك، وهكذا يقال لِمَا يوصل إلى ذلك من الكتاب المنزل والنبي المرسل، فكل هذا يقال له: نور، ويقال: أنار الشيءَ: نشر ضوءَه، والقمر منير، والسراج منير، وأنار البرهان المسألة يعني: أوضحها، وأنار الأمرُ يعني: اتضح واستبان، والكتاب المنير: الواضح، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ الحج: 8، وهكذا في الآيات الكثيرة التي تذكر النار والنور، مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ النور: 35.
وأما تسمية السبب كالكتاب والنبي، فالله -تبارك وتعالى- سمى كتابه نورًا، وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا النساء: 174، وكذلك الرسول -عليه الصلاة والسلام- على أحد الأقوال-: قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ المائدة: 15، فالنور هو: الرسول، والكتاب هو: المنزل، على بعض الأقوال في التفسير، فالهادي: نور، والكتاب الذي هو الهدى، يقال له: نور، والهدى يقال له: نور، يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ البقرة: 257، من ظلمات الشرك والجهل إلى نور الإيمان والتوحيد والعلم، إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ المائدة: 44، لكن قوله: وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ الأنعام: 1، هل هذا النور الحسي أو المعنوي؟ هو النور الحسي، أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ الأنعام: 122، هذا النور المعنوي، الهدى، قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا الحديد: 13، النور الحسي، انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ الحديد: 13، النور الحسي، وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ التوبة: 32، هل هذا الحسي أو المعنوي؟، هذا المعنوي الذي هو هداه، والدين الذي ارتضاه.
قال -رحمه الله تعالى-: نُصُب: بضمتين، وبضم النون وإسكان الصاد، وبفتح النون وإسكان الصاد بمعنى واحد، وهو: حجر أو صنم كان المشركون يذبحون عنده، وجمعه: أنصاب.
هذه المادة أرجعها ابن فارس إلى أصل يدل على: إقامة شيء وإهدافٍ في استواء، يقال: نصبت الرمح، يعني: أقمته، تَيْس أنصَب، وعنز نصباء، يعني: إذا كانت القرون منتصبة قائمة، ليست منثنية، والناقة النصباء: مرتفعة الصدر، والنَّصْب: حجر كان يُنصب فيعبد، ويقال: هو النُّصُب، حجر يُنصب بين يدي الصنم تُصب عليه دماء الذبائح والقرابين للأصنام، والنَّصَب: العناء، بأي اعتبار؟ وبأي معنى؟ وكيف نُرجعه إلى المعنى الذي ذكره ابن فارس؟ هو: أرجعه وربطه، قال: معناه: أن الإنسان لا يزال منتصباً حتى يُعْيِي، كأنه يكدح ويعمل؛ ولهذا يقال: فلان ينصَب، ويتعب، فعُبر عن التعب، كأنه قد انتصب في عمله حتى أصابه الإعياء، والتعب، وغبار منتصب أي: مرتفع، والانتصاب يعني: الانتشار، والنصيب: الحظ، يعني: كأنه الشيء الذي رُفع لك، وأهدف، يعني: هذا النصيب والحظ، يعني: كأنك بلغت الشيء الذي نُصب لك، يعني: كأنك وضعت لك هدفاً أصبته، وحققته، فهذا هو: الحظ والنصيب، وبلغ المال النصاب الذي تجب فيه الزكاة، كأنه بلغ ذلك المبلغ، وارتفع إليه، وهكذا يقال: نَصَب الشيءَ: رفعه، وأقامه، حتى كان شاخصاً مائلاً، يعني: يكون مرتفعاً وبارزاً، وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ الغاشية: 19أي: رُفعت، وهكذا أيضاً يقال: نَصَب فلان، يعني: جد في عمله؛ لأنه بسبيل إلى التعب، ونصِبٌ بمعني: تعِبٌ، فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ الشرح: 7، ما معناها؟ هل معناها فاتعب، أو المقصود به الانتصاب للطاعة والعمل الصالح؟، يحتمل، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ التوبة: 120، هنا النَّصَب: الإعياء، والتعب، كأنه حصل لكثرة العمل وطول السفر، أو نحو ذلك، لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ الحجر: 48يعني: أهل الجنة لا يصيبهم فيها تعب، لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا الكهف: 62يعني: التعب، عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ الغاشية: 3، قيل: تَنصَب، وتعمل كثيراً، وتجتهد، وتجدُّ مما يورث الإعياء، والتعب، لكن من غير نتيجة مما يرجون، ولا عاقبة محمودة، والنُّصْب يقال: للداء والبلاء، وما يوجب التعب، أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ص: 41، والنُّصُب -كما سبق- يقال: للحجر الذي يُعبد، ويقال أيضاً: للعَلَم يُنصب في الصحراء ليهتدي به السابلة من المسافرين، يقال له: نُصُب، أو ليجتمع عنده الناس إذا وضع لهم، ويُنصب لهم، والنصيب: الحصة من الشيء، والجمع: أنصبة، وأنصباء، أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا البقرة: 202، أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ آل عمران: 23، فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ النساء: 33، وهكذا: كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ المعارج: 43، إلى وثن، أو إلى علم، يسرعون إليه، إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ [المائدة: 90]، الأنصاب هذه هي: التي كانت تُذبح عندها الذبائح، أو نحو ذلك، والله أعلم.
قال -رحمه الله تعالى-: نَصَبٌ -بفتحتين- تعبٌ، ومَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ ص: 41أي: بلاء، وشر.
هذه تابعة لما قبلها، والكلام فيها قد مضى في مضامين ما سبق، النَّصَب: التعب.
قال -رحمه الله تعالى-: نقِم الشيء ينقِمه، أي: كرهه وعابه.
هذه المادة يرجعها ابن فارس إلى معنى: الإنكار للشيء، وعيبه، كما ذكر ابن جُزي، النِّقمة من العذاب والانتقام، كأنه أنكر عليه فعاقبه، لاحظ: النِّقمة: كأنه أنكر عليه وعابه، يرجع إلى معنى: كراهة الشيء وعيبه، أو إنكاره وعيبه، نَقَم ينقِم نقْماً، يعني: كرهه أشد الكراهة، وسخطه، وانتقم منه: عاقبه على ذنب صدر منه، فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ الأعراف: 136، وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ المائدة: 95، وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا الأعراف:126، قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا المائدة: 59الآية.
قال -رحمه الله تعالى-: نضيد: أي: منضود بعضه إلى بعض.
هذه المادة أرجعها ابن فارس إلى أصل يدل على: ضم شيء إلى شيء في اتساق وجمع، منتصباً أو عريضاً، لاحظ وجوه الاستعمال: يقال: نضَدتُ الشيء بعضه إلى بعض، يعني: متسقاً، أو من فوق، النَّضَد، يعني: السرير يُنضد عليه المتاع، أنضاد الجبال: جنادل بعضها فوق بعض، أنضاد القوم: جماعاتهم، وعددهم، تقول: أنضد فلان عشيرته، أو عصبته، أو نحو ذلك، يعني: جمعهم لنصرته، فهنا النَّضد يكون من فوق، أي: منضود، كما يُنضد المتاع على السرير، يكون بعض المتاع فوق بعض، وأنضاد الجبال: بعضها فوق بعض، وأنضاد السحاب كذلك، أي: السحاب المتراكم، ويكون أيضاً للشيء المتسق من غير تراكب بعضه على بعض، يقال: نَضَدَ قومَه، هل معنى ذلك أنه وضع بعضهم على بعض؟ لا، وإنما في اتساق، يقول: منتصباً أو عريضاً، فهذا هو، ومن هنا يقال فيما نُضد: منضود ونضيد، كما يقال في مقتول ومجروح: قتيل وجريح، في قوله -تبارك وتعالى-: وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ ق: 10، لاحظ: الآن في النخل، وثمر النخل، يعني: تراكَمَ، وركِب بعضه بعضاً، والطلح: وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ الواقعة: 29، إذا فُسر بشجر الموز، أو بالموز، يعني: نُظم بالثمر من أعلاه إلى أسفله، بحيث كأنه لا يبدو أصله، والسجيل المنضود: وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ هود: 82قيل: نُظم بعضه فوق بعض، أو تتابع في السقوط، كما يتتابع الخرز حين يهوي من سلكه، هذا السجيل المنضود.
قال -رحمه الله تعالى-: نكير: إنكار، ويقال: نكِر الشيء وأنكره بمعنى.
النكير أرجعه أيضاً ابن فارس إلى أصل يدل على: خلاف المعرفة التي يسكن إليها القلب، نكِر الشيء وأنكره: لم يقبله قلبه، ولم يعترف به لسانه، ومن ثَمَّ فإن من نكِر شيئاً فإنه يستوحش منه، والناس أعداء ما جهلوا، كما قيل؛ ولهذا تجد في عبارات أهل اللغة في تفسير هذا الموضع يذكرون الاستيحاش من الشيء، بهذا الاعتبار، أنه إذا نكِر شيئاً استوحش منه ونفر، وأصل ذلك يرجع إلى: جهله به، ومن جهل شيئاً استوحش منه في العادة، نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً هود: 70، ويقال: نَكُر الشيءُ ينْكُر نكارة، فهو: نُكْر ونُكُر، إذا اشتد، وصعُب، واستوحشت منه النفوس، ونَكُر بمعنى: قَبُح، وكرهته النفوس، لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا الكهف: 74، فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا الكهف: 87يعني: شديداً صعباً، تستوحش منه النفوس، فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ القمر: 6أي: شديد وصعب، وهكذا نكّر الشيءَ: غير معالمه، غير شكله وهيئته، نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا النمل: 41، فإذا نكروه فإنها قد لا تتعرف عليه، فيرجع إلى معنى الجهل الذي ذُكر أولاً، وهكذا: فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ سبأ: 45يعني: نكيري، أو إنكاري عليهم بالعقوبة والعذاب، ويقال: أنكره: إذا لم يجده على ما عهده كما يقال إذا جهله أيضاً، تقول: لقيت زيداً فأنكرته، يعني: لطول العهد به، أتيت المكان فأنكرته، يعني: تغير، ويقال: أنكر الحق بمعنى: جحده، أنكر العدو إذا نفر منه، أنكر المعصية أو المحرم يعني: إذا حصل له الكراهية، وغيَّرَه، فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنكِرُونَ غافر: 81، يعني: تجحدون، أو تجهلون، وَمِنَ الأَحْزَابِ مَنْ يُنكِرُ بَعْضَهُ الرعد: 36يعني: يجحد، يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ النحل: 83يجحدونها، وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ الشورى: 47يعني: لا تستطيعون إنكار ما اقترفتم، وهكذا: ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ الحج: 44، فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ سبأ: 45، تغيير القبيح بعقوبة فاعله يقال له ذلك، فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ يوسف: 58، بمعني: جاهلون، أي: يوسف -عليه الصلاة والسلام-، قُلُوبُهُمْ مُنكِرَةٌ النحل: 22يعني: جاحدة، والمُنكَر: اسم لما تنكره الفِطر السليمة، والعقول المستقيمة، فضلاً عما جاء في النقل من إنكاره، فهو: منكر شرعاً، منكر نقلاً، وعقلاً، وفطرة، وذلك يرجع إلى الشرع، فإن العقل الصحيح والفطرة الصحيحة من دلائل الشرع، كما النقل أيضاً من دلائله، فهذا هو المُنكَر، ويأتي بمعنى: الإنكار للشيء والكراهة له، وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ المجادلة: 2.
قال -رحمه الله تعالى-: نَسَل: بمعنى أسرع، ومنه: يَنسِلُونَ الأنبياء:96، من النَّسَلان، وهو: الإسراع في المشي مع قُرب الخطا.
في الطبعة الأخرى: ينسلون، لكن هنا: نَسَل، وهو: الأقرب، بمعنى: أسرع، قال: ومنه: يَنسِلُونَ الأنبياء: 96، هذه ليست في الطبعة الأخرى أصلاً، ابن فارس -رحمه الله- أرجع ذلك إلى أصل يدل على: سَلِّ شيء وانسلاله، سلَّ شيء، ينسلون، نَسَل، فالنَّسْل: الولد، بأي اعتبار؟ لأنه ينْسلّ من الوالد، ينسلّ من والدته، تناسلوا: ولد بعضهم من بعض، ومنه: النَّسَلان، يقولون: هي: مشية الذئب إذا أعنق وأسرع، ويقال: نسَل ينسِل وينسُل نسْلاً ونسَلاناً، يعني: الإسراع، يقال: للإسراع في السيل، ونسَله نسلاً يعني: ولده، ويقال: للولد نسْل، من إطلاق المصدر على المفعول: نسْل، كالخلق يقال: للمخلوق، يقال: هذا خلق الله، يعني: المخلوق، ويقال بالمعنى المصدري: لاسم المفعول، يعني: الفعل، فعل الله: الخلق، يعني: الخلق يقال مراداً به: المفعول، يعني: المخلوق، ويقال أيضاً: لفعل الله خَلَق، فيقال: الخلق، كما يقال الكلام: للفعل، وللمتكلم به، تقول: هذا كلام زيد، وهذا كلامك، كما الكتابة أيضاً تقال: للفعل، وتقال أيضاً: للمفعول، تقول: هذه كتابة فلان، وهكذا، وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ البقرة: 205، ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ السجدة: 8، كل هذا يرجع إلى ما سبق، حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ الأنبياء: 96، قلنا: النَّسَلان: مشية كمشية الذئب فيها إسراع مع شيء من تقارب الخطا، يقال له: النَّسَلان، وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ يس: 51، فيه معنى: الإسراع.
قال -رحمه الله تعالى-: حرف الصاد.
صراط: هو في اللغة: الطريق، ثم استعمل في القرآن بمعنى: الطريقة الدينية، وأصله السين، ثم قُلبت صاداً؛ لحرف الإطباق بعدها، وفيه ثلاث لغات: بالصاد، وبالسين، وبين الصاد والزاي.
هذه المادة يقولون: مُبدلة؛ لأن أصلها: السين؛ ولذلك نجد أن مثل ابن فارس أشار إليها في الصراط: بالصاد، وأحال إلى السين، أي: السين والراء والطاء، فبعد أن ذكر ذلك موجزاً فقال: الصراط هو: الطريق، قال ذلك هناك، لكنه في أصلها الذي هو: السين والراء والطاء، يقول: ذلك أصل صحيح، يدل على: غيبة في مَرٍّ وذهاب، من ذلك يقال: سرطتُ الطعام، إذا بلعته؛ لأنه إذا سُرط غاب، يقول: وبعض أهل العلم يقول: السراط مشتق من ذلك؛ لأن الذاهب فيه يغيب غيبة الطعام المُستَرط، هكذا أرجعه إلى هذا الأصل.
على كل حال: هما لغتان: السراط، والصراط، وقراءتان متواترتان أيضًا، وبعضهم يزعم: أنه مُعرّب من الرومية، وهذا لا دليل عليه، فالصراط: كما أطلق ابن فارس، وكما عرفنا، قال: هو: الطريق، ولكن بعضهم يقيده ويقول: الطريق الذي لا اعوجاج فيه، يعني: إذا كان الطريق الذي لا اعوجاج فيه كما يقول الحافظ ابن القيم: إن الصراط لا يكون صراطاً إلا إذا تحقق فيه أوصاف، وذكر منها: الاستقامة، فيكون قوله على هذا الاعتبار: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ الفاتحة: 6، المستقيم ماذا تكون؟ صفة، من أي الأنواع؟ من الصفة الكاشفة، ونحن ذكرنا الصفة الكاشفة من قبل، فيكون هذا بهذا الاعتبار، فالصراط لا يكون إلا مستقيماً، إذن: في قوله: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، كلمة المستقيم تكون صفة كاشفة، هي: لا تضيف قيداً؛ لأن الصراط لا يكون إلا مستقيماً، كما إذا قلت: رجل ذكر، فأنت لم تقيده؛ لأن الرجل لا يكون إلا ذكرًا، وإنما هي: تكشف عن الحقيقة فحسب، لكن هذا الصراط قد يكون للخير وللشر، اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ الفاتحة: 6، فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ الصافات: 23، فذكر ذلك في الشر، لكن تُخصصه الصفة أو الإضافة، يعني: الصفة مثل: الصراط المستقيم، والإضافة مثل: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ الفاتحة: 7، أضافه إلى المُنعَم عليهم، وهكذا في أكثر من أربعين موضعاً في كتاب الله ذُكر فيها الصراط، فإنه يُذكر موصوفاً أو مضافاً، ولم يُذكر هكذا من غير إضافة ولا وصف إلا في موضعين اثنين فقط: وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ المؤمنون: 74، ما قال: عن صراط الله مثلاً فأضافه، أو وصفه فقال: عن الصراط المستقيم لناكبون، لا، بل قال: عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ، فأطلقه، وهكذا: وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ الأعراف: 86، لاحظ: قوله: وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ المؤمنون: 74، دل السياق أنهم ناكبون عن الصراط، يعني: الطريق التي رسمها الله لعباده، وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا الأنعام: 153، لاحظ: صِرَاطِي: أضافه إلى الضمير؛ لأنه هو الذي رسمه، أي: صراط الله، وأضافه إلى المُنعَم عليهم؛ لأنهم السالكون له، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ الفاتحة: 7، وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ الشورى: 52، فأضافه إلى الله تارة، باعتبار أنه هو الذي شرعه، وأضافه إلى السالكين، باعتبار أنهم أهل سلوكه، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ الفاتحة: 7، وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ الأعراف: 86، هنا الصراط لا يُحمد ولا يُذم في هذه الآية، يعني: الطريق، فهم يقطعون الطرق على السابلة، وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ الأعراف: 86، يقطعون على الناس الطريق، أو يؤذونهم في طريقهم، كفعل السفهاء، أو أنهم يأخذون منهم الجبايات، ونحو ذلك، على أيٍّ كان التفسير، فالمقصود: أن الصراط هنا كل طريق من الطرق يحصل فيه منهم الأذى الواصل إلى الناس، هذا ما يتعلق بالصراط، فابن جُزي فسره: بالطريق هكذا مطلقاً، وكما قلت: إن البعض يقيده يقول: لا يكون صراطًا إلا إذا كان مستقيماً، لابد فيه من الاستقامة، يقول: واستُعمل بمعنى: الطريقة الدينية، إلى آخر ما ذكر.
قال -رحمه الله تعالى-: صلاة: إذا كانت من الله فمعناها: رحمة، وإذا كانت من المخلوق فلها معنيان: الدعاء، والأفعال المعلومة.
هذه المادة في أصلها ترتبط بها مادة آتية بعدها ربما بعشر كلمات وهي: تصطلون، نقرؤها أولاً.
قال -رحمه الله تعالى-: تصطلون: تفتعلون، من صَلِيَ بالنار إذا تسخن بها، والطاء بدل من التاء.
بما أن المادة في الأصل واحدة فسنختصر الكلام عليهما؛ من أجل أن لا يُعاد، فهذه المادة التي هي: الصاد واللام والحرف المعتل هنا في الصلاة يكون الواو، وهناك في يصْلَى، ويصلاها، وتصطلون يكون أصله الياء، صَلِيَ، فهنا ابن فارس يقول: إن ذلك يرجع إلى أصلين، ومن هنا انضمت تلك المادة إلى الصلاة:
الأول: النار، وما أشبهها من الحُمى، تقول: صليتُ العود بالنار، وكذلك أيضاً الصَّلَى صَلَى النار، واصطليت بالنار، والصِّلاء: ما يُصطلى به، وأيضاً يقال: لما يُذكى به النار، ويوقد، فهذه أصلها يائية: صَلِيَ، وما يقال أيضاً في الحُمى، والصَّلَى والصِّلاء هي: النار، ويقال أيضاً: صَلِي النار، وصَلِي بالنار صَلْيَاً، وصُلِيًّا، وصَلاءً وصِلِيًّا، ويقال: صِلاءً أيضاً، يعني: قاسى حرها، وصلاه غيره، وأصلاه إياها، وأصلاه فيها، وأصلاه على النار يعني: أدخله إياها، اصطلى بالنار، يعني: استدفأ بها، وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ الواقعة: 94يعني: أنه يُعرض على النار، ويدخل النار، لا يَصْلاهَا إِلَّا الأَشْقَى الليل: 15، هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا مريم: 70، لاحظ: هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا مريم: 70يعني: يقاسون حرها، ويحترقون فيها، تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً الغاشية: 4يعني: تقاسي حرها وتحترق، يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا الإسراء: 18، سَأُصْلِيهِ سَقَرَ المدثر: 26، ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ الحاقة: 31يعني: يُعرض على النار، ويدخلها، ويقاسي حرها، كل ذلك يرجع إلى هذا المعنى، إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ النمل: 7يعني: تستدفئون مثلاً، أو بمعنى: أنهم يضعون عليها ما أرادوا إنضاجه من الطعام بعرضه على النار، وبعضهم يقول غير ذلك، والله تعالى أعلم.
أما فيما يتعلق بالصلاة فهنا الأصل الثاني الذي ذكره ابن فارس يقول: جنس من العبادة، يعني: إذن: الأصل الأول الذي هو يائي، من صليت العود بالنار، واصطليت بالنار، فهذا بمعنى: مقاساة حر النار، أو الاحتراق بالنار، أو عرض الشيء على النار، ونحو ذلك، والثاني مما ترجع إليه هذه المادة: الصاد واللام والحرف المعتل الذي هو الواو هنا في الصلاة، فهذا يأتي بمعنى: الدعاء، والصلاة أيضاً بمعناها الشرعي التي هي: الأقوال والأفعال المخصوصة، المفتتحة بالتكبير، المختتمة بالتسليم، وهكذا يقال أيضاً فيما يتعلق بالصلاة التي هي بمعنى: الدعاء، وقد تأتي بمعانٍ أُخر، فصلاة الله على عبده بعضهم يقول: المقصود بها الرحمة، والحافظ ابن القيم يقول: أن يذكره في الملأ الأعلى، هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ الأحزاب: 43، وصلاة الملائكة بمعنى: الاستغفار، وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ الشورى: 5، وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا غافر: 7، هي: الاستغفار، وصلاة العبد بمعنى: الدعاء، فيقال له: صلاة.
فهذا أصل هذه المادة -الصلاة-، وبعضهم أرجعها إلى معنى: اللزوم، فيقال: صَلِي، إذا لزم الصلاة لزوم ما فرض الله -تبارك وتعالى-، وهذا المعنى غير مشهور، كذلك المعنى الآخر الذي ذكره بعضهم: أنها من الصِّلاء، وهو: النار، كأنه أزال عن نفسه بهذه العبادة الصِّلاءَ -يعني: دخول النار، أو العذاب بالنار-، وهذا المعنى غير مشهور، لكن المعنى المشهور: أنها تأتي بمعنى: الدعاء، فالصلاة بمعنى: الدعاء، فبعضهم يقول: إنها سُميت ببعض أجزائها؛ لأن الدعاء جزء منها، فسُميت ببعض أجزائها، وبعضهم أرجعها إلى معنى: التعظيم، يقول: ففي التشهد مثلاً: الصلوات لله، يقولون: والأدعية المراد بها التعظيم، فسُميت الصلاة بذلك؛ لما فيها من تعظيم الله -تبارك وتعالى-، وهذا المعنى غير مشهور، وبعضهم يقول: من الصَّلا، وهو: ما عن يمين وشمال الذَّنَب، حيث يتحركان عند الركوع والسجود، يعني: في آخر ظهر الإنسان، في مؤخر الظهر مما يتصل بأسافله، يقال له: الصَّلا، ويقال: صَلَواني للحيوان، فيقولون: يتحركان في الركوع والسجود، فقيل لها: صلاة بذلك، وبعضهم يقول: من الصَّلا وهو: ما يكون في وسط الظهر للإنسان والحيوان، فالإنسان يبسط صَلاه عند الصلاة، هكذا بعضهم يقول، وبعضهم يقول: هي أصلاً ليست عربية، وأنها في الآرامية، فيقال في تلك اللغة: صَلُوطا، يعني: من فِعْلٍ معناه عندهم: الانحناء والانثناء، فهذا يرتبط به القولان الأخيران، الخامس والسادس: تحريك الصَّلَوين، أو الصَّلو بالانثناء والانحناء، لكن هذا لا يثبت.
وأما قوله -تبارك وتعالى-: لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ الحج: 40، فهذه الصلوات قيل: جمع صَلات من صَلُوتا، وهذه بعضهم يقول: هي: عبرية، وبعضهم يقول: آرامية، وبعضهم يقول: سُريانية، ولا شيء يثبت من هذا، ويقولون: إن معناها: المعبد، ومكان الصلاة، وبعضهم يقول: كنائس اليهود يقال لها: صلوات، وبعضهم يقول: الصلوات الحقيقية بقتل المصلين.
على كل حال: المعنى المشهور للصلاة في اللغة هو: الدعاء، والمعنى الآخر في الشرع هي: الصلاة المعروفة، وأما قوله: لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ الحج: 40فالمقصود: نوع من المعابد، والله تعالى أعلم، أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ البقرة: 157، يمكن أن يُفسر: بذكرهم في الملأ الأعلى، وما يعقب ذلك ويتبعه من الهدايات والألطاف الربانية، وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ النساء: 77، الصلاة المعروفة، الصلاة الشرعية، وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ البقرة: 45، وأما خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ التوبة: 103فهنا قطعاً المراد به: الدعاء، (اللهم صلِّ على آل أبي أوفى)[5]، إذا جاء رجل بصدقته دعا له، فلما جاء أبو أوفى قال: (اللهم صلِّ على آل أبي أوفى)، فدعا لهم، وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ التوبة: 84، فسرت الصلاة هنا: بصلاة الجنازة، وفسرها بعضهم: بالدعاء، لكن الأقرب: أنها صلاة الجنازة؛ لأنه قال: وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ التوبة: 84، يعني: للدعاء، والله تعالى أعلم.
قال -رحمه الله تعالى-: صوم: أصله في اللغة: الإمساك مطلقًا، ثم استُعمل شرعاً في الإمساك عن الطعام والشراب، وفي إحدى النسخ الخطية زيادة: والجماع، -أي: عن الطعام والشراب والجماع-، وقد جاء بمعنى: الصمت في قوله: إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا مريم: 26؛ لأنه إمساك عن الكلام.
هذه المادة أرجعها ابن فارس إلى أصل واحد، وهو: إمساك وركود في مكان، فمن ذلك: صوم الصائم: إمساكه عن مطعمه ومشربه وسائر ما مُنعه -يعني: مثل الجماع-، وكذلك الإمساك عن الكلام يقال له: صوم، هذا في اللغة، وأما الركود فيقال للقائم بلا عمل: صائم، يقول الشاعر:
خيلٌ صِيامٌ وخيلٌ غيرُ صائمة *** تحت العَجَاج وخيلٌ تَعلُك اللُّجُما
فصائمة يعني: واقفة لا تنطلق، ولا تتحرك، وهكذا أيضاً يقولون لركود الريح: صوم، صامت الريح، والأرض لا زال العامة يستعملون هذا فيها، فيقال: صامت الأرض على النبات، أي: لم يخرج النبات، نزل المطر فصامت عليه الأرض، بسبب شدة البرد مثلاً، ونحو ذلك، وهكذا استواء الشمس في وسط النهار يقال له: صامت الشمس، فهذا كله يقال له: صوم في اللغة، وعموماً يقال: للترك للشيء، والإمساك عنه، فكل ممسك عن طعام، أو كلام، أو سير، أو حركة، فهو: صائم، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ البقرة: 183، هنا الصيام الشرعي المعروف، إمساك بنية من طلوع الفجر إلى غروب الشمس عن الطعام والشراب وسائر المفطرات، وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ البقرة: 184، لكن قوله -تبارك وتعالى-: إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا مريم: 26يعني: عن الكلام.
قال -رحمه الله تعالى-: صَدَقة: يُطلق على الزكاة -وفي النسخة الأخرى: ينطلق على الزكاة- الواجبة، وعلى التطوع، ومنه: إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ الحديد: 18بالتشديد، أي: المتصدقين، وأمّا أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ الصافات: 52بالتخفيف فهو: من التصديق.
هذه المادة -الصاد والدال والقاف- يقول ابن فارس: أصل يدل على: قوة في الشيء، قولاً وغيره، فأصل المادة -الصاد والدال والقاف- يدل على: قوة.
فالصدقة: ما يتصدق به المرء عن نفسه وماله، والصدقة هي تقال: لما يخرجه الإنسان من مال على وجه القربة، ما علاقة هذا بالصدق؟ قالوا: لأنها تظهر صدق العبودية؛ ولهذا قال النبي ﷺ: (والصدقة برهان)[6]، أي: دليل على الصدق، فإذا بذل المال فإن ذلك يدل على صدقه، فدعوى الإيمان سهلة، يدعيها كل أحد، فإذا بذل في سبيل ذلك شقيق الروح -وهو المال- فهذا برهان على صدق دعواه، وقد يقال ذلك: للإسقاط، والإعفاء، والإبراء، ونحو ذلك، وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ البقرة: 280يعني: بإسقاط بعض الدين، أو بإسقاط الدين كاملاً، فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ المائدة: 45، هنا: القصاص بالعفو، فهذا يقال له: تصدُّق، فقد يتصدق بعرضه، وقد يتصدق بماله، وقد يتصدق ببدنه، وبجهد يبذله، فيعين الضعيف، ونحو ذلك، كل هذا من مفهوم الصدقة، فهو واسع في الشرع، فيدخل فيه أنواع الصدقات من بذل وإعطاء، أو إسقاط وإعفاء، خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا التوبة: 103، فالصدقة هنا: ما يبذله من المال، والألفاظ التي بعده تتعلق به، والأصل واحد.
قال -رحمه الله تعالى-: صَدُقة -بضم الدال-: صَدَاق المرأة، ومنه: وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً النساء: 4، والصِّدق في القول: ضد الكذب، والصدق في الفعل: حُسن النية فيه، والصدق في القصد: العزم الصادق.
لاحظ: الآن الصَّدُقة والصِّدق، هنا في الطبعة هذه جعل ذلك مرتبطاً ببعضه، وفي الطبعة الأخرى فصلها، لاحظوا أصل المعنى الذي ذكره ابن فارس في هذه المادة: قوة في الشيء، قولاً وغيره، الآن لفظة: الصَّدُقة: صَدَاق المرأة سُمي بذلك: لقوته، انظر ارتباطه بمعنى: القوة، وأنه حق يلزم، حق ثابت للمرأة، يقال له: صَدَاق وصَدُقة، فلثبوته ولزومه فهو من ألزم الأمور، وأوجبها في الحقوق، أن يُعطي هذه المرأة التي استحل بُضعها، أن يعطيها مهرها؛ ولهذا قال الله تعالى: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا البقرة: 229، وقال: وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا * وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا النساء: 20 - 21، فإذا أخذ منها بأي لون، إما بطريق من الضغط عليها حتى تعطيه، أو هددها بالطلاق، أو لربما كان ذلك بأذاها من أجل أن تفتدي منه ببذل الصداق؛ ليطلقها، فيضيق عليها حتى تعيد إليه هذا المهر، وهو لا رغبة له فيها، فهذا ما يحل، لكن إن زهدت فيه المرأة، وهو يريدها ويرغبها فله أن يطلب منها العِوض، فيكون ذلك بخلع بالمهر، أو بما يتفقون عليه، لكن هو لا يريدها فيؤذيها، ويضيق عليها من أجل أن تفتدي منه، فهذا لا يجوز، وهذا المهر حق ثابت لها، لا يجوز لأبيها أن يأخذه، ولا لغيره، سواء كان الزوج، أو غير الزوج، إلا بطيب نفسها، وبعضهم يقول: سُمي ذلك بالصداق؛ لدلالته على صدق الرغبة، يعني: حينما نقول مثلاً الآن: هذا المعهد من أراد أن يسجل فالمجال مفتوح بدون رسوم، وعلى الموقع، قد يسجل ألف، لكن إذا حقت الحقائق، وجاء الجد، قد لا يأتي العُشر، لكن حينما يقال: إن التسجيل بدفع رسوم، من أراد أن يسجل فليدفع ألفاً مثلاً، فهنا ما يأتي إلا من عنده رغبة حقيقية، فبعضهم يقول: إن الصداق قيل له ذلك؛ لأنه يدل على صدق الرغبة، فيدفع المال؛ ولهذا فإن الذي يضع مهر المرأة ريالا مثلاً فهذه المبالغات لا حاجة إليها، وقد دلت التجربة على أن ذلك يفضي إلى حال غير محمودة غالباً، فلربما عيرها من لا خلاق له من الأزواج بذلك، فيقول: أهلكِ قد أهدوكِ لي، فهم زاهدون فيكِ، ولو كان لكِ قدر عندهم ما زوجوكِ بريال، وبعضهم يسميها: أم ريال، ولربما ناداها بذلك أمام أطفالها، أو أمام الآخرين، يعني: أحيانا تصل الوقاحة بالبعض أنه لربما دعاها في صالة أفراح، أو نحو ذلك، هكذا في مبكر الصوت: أم ريال -نسأل الله العافية- بسبب فظاظته وبذائته، فهذا لا يدل على صدق رغبة، لكن هي فيما بعد إذا رأت رجلاً تُحمد سجاياه، يمكن أن تعيد له ما شاءت من المهر مساعدة له إذا كان محتاجاً، فتقول له: أنا يكفيني من هذا المهر ألف، وخذ الباقي،
استعن به على أمورك، وعلى حاجاتك، هذا لا إشكال فيه، لكن صدق الرغبة لا يكون بمن يبذل ريالاً، أو نحو ذلك، ويحتج عليها بأن: (أعظمهن بركة أيسرهن مهراً)[7]، فالبعض لا يزال بها يقنعها، ويحوم حول هذه القضية حتى تنزل عن رأيها، وتقبل أن يدفع لها ريالاً، أو عشرة ريالات، متذرعاً بهذا الحديث بأن: (أعظمهن بركة أيسرهن مهرًا)، صحيح أنأعظمهن بركة أيسرهن مهرًا، لكن لا يكون ذلك بإلحاحه، وطلبه، ثم بعد ذلك يعيرها بهذا، أو يطلقها لأتفه الأسباب، بزعمه: أنه لم يخسر شيئاً، ثم يبحث عن ثانية وثالثة ورابعة وعاشرة، ويتزوج على ريال، الأمر سهل بالنسبة إليه، فلا يحتاج إلى كثير نصَب وعناء وبذل للمهور، وكذا المهور المبالغ فيها هذا غير صحيح، لكن أيضاً مثل هذه التصرفات غير صحيحة، والنبي ﷺ لما قال: (التمس ولو خاتماً من حديد)[8]، هذا لرجل مفلس، ليس عنده شيء، فقير، لكن إنسانٌ يجد، ويقال له: المهر ريال، هذا خطأ.
أما أولئك الذين يكذبون فهذا لا يجوز، يعني: يكون المهر أحياناً مائة ألف، وإذا جاء الذي يكتب ويعقد قيل له: كم المهر؟، قال: ريال، وهو كاذب بهذا، فبعضهم يفعل ذلك دفعاً للحسد، وقد يكون أخذ مالاً كثيراً ويُحرج أمام المجتمع، وبعضهم يخفي أصلاً كل شيء سجية وخلقة وطبيعة، ولو استطاع أن يخفي نفسه ويمشي تحت الأرض لفعل، فهو لا يذكر شيئاً حتى لو كان لا يتضرر به، كل شيء يخفيه، وكل شيء يكذب فيه، حتى لو قيل له مثلاً، وسئل سؤالا عاديًّا طبيعيًّا، يعني: مثلاً: هل تعمل؟ يقول: لا، كان بإمكانه أن يقول: نعم، لكن هو اعتاد أن يكذب ويقول: لا، ويجحد كل شيء، فإن قيل له: ألك ولد؟، لا، أمتزوج؟ لا، أحي؟ لا، فبعض المخلوقات هكذا، ولله في خلقه شئون، (وإن الرجل ليكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً)[9]، فهؤلاء الجهلة يقولون: المهر ريال، وهو ليس كذلك، ثم إذا اختصموا فيما بعد، وذهبوا إلى القاضي، ووصلت الأمور إلى المطالبة بخلع، فقيل له: خالعها، أبوها يقول: نعيد له المهر ريالا، فتقوم قيامة الزوج، ويقول: أنا باذل لها مائة وخمسين ألفًا، فكيف تعيدون ريالا؟، فيقول: هذا الذي كتبتم، ريال فقط، تفضل خذه، وهذه الكذبة ليست جديدة في هذا العصر، هذه يذكرها بعض المتقدمين من الفقهاء، في قرون قديمة، يعني: لربما تُذكر في وقت التابعين، فمن بعدهم، فبعضهم يفعل ذلك دفعاً لقالةٍ لربما تطاله أنه طلب مهراً كثيراً، وبعضهم يفعل ذلك لربما دفعاً للعين، وبعضهم يفعل ذلك لربما رياءً أنه زوج ابنته على هذا الشيء اليسير، وهو غير صادق، فإذا حصلت الخصومة عند ذلك عرفوا ما يجره هذا الكذب والجهل معاً، فهذا يقول: نعطيك ريالا، وهذا يقول: لا، بل المهر لم يكن كذلك، فهذا الصَّدَاق وسبب تسميته بذلك.
وأما الصِّدق فهو خلاف الكذب، وابن فارس يقول: سُمي لقوته في نفسه، لاحظ: كل هذه الأشياء ترجع إلى معنى: القوة؛ لقوته في نفسه؛ لأن الكذب لا قوة له، فهو: باطل، وأصل هذا من قولهم: شيء صَدْق، أي: صُلْب، ويقال: صدقوهم القتال، والصدّيق: كثير الصدق والتصديق، فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ النساء: 69، فالصدّيق هو: كثير الصدق، وكثير التصديق، فأبو بكر ما قال النبي ﷺ شيئاً إلا قال: صدق، فهو كثير الصدق.
والصدق يقال في الأشياء الحسية، فالمَصْدق: الصلابة، وفي الأمور المعنوية، فيقال: للكامل من كل شيء، ويأتي بمعنى: الصحة والاستقامة في القول، وقد يستعمل في كل ما يحق ويحصل، قولاً أو ظنًّا أو فعلاً، كل ما حق ووقع يقال له ذلك، وفي كل ما يحسُن من شيء، أو شخص، ويجري الوصف بالمصدر منه مضافاً، فيقال: رجلُ صدقٍ، وامرأة صدق، وقوم صدق، وقدم صدق، ومقعد صدق، ولسان صدق، وهكذا الصداقة: صدق المودة، فهذا كله يرجع إلى معنى: القوة، يقول الله وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا النساء: 87، وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا المائدة: 113، هذا في الصدق، حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا التوبة: 43، فالصدق: ثبات وقوة، والكذب: ضعف؛ ولذلك فإن الذي يكذب؛ لأنه يجبن أمام الحقيقة، فيلتوي ويحيد، فيضعف، فيكذب؛ ليتخلص، فالكذاب جبان؛ ولهذا جاء في حديث الثلاثة الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ذكر منهم: الملك الكذاب[10]، بأي اعتبار؟ باعتبار أنه ليس بحاجة إلى الكذب؛ لأنه ليس بضعيف، فكيف يكذب؟!، إنما يكذب الضعيف الجبان؛ لأنه لا يستطيع أن يواجه، فمن خصائص النفس وأوصافها: أن النفوس القوية الواثقة تصدق، ولو كان ذلك مُرًّا، والنفوس الضعيفة الهشة المترددة غير الواثقة تكذب، تلجأ إلى الكذب، فإذا قوي ضعفها واشتد واستحكم ذلك فيها فإنها تكذب دائماً، لا يكاد يُذكر له شيء أو يُسأل عن شيء إلا كذب.
قال -رحمه الله تعالى-: صعِد يصعَد: أي: ارتفع، وأصعَدَ -بالألف-: يُصعِد -بالضم-، أي: أبعد في الهروب، ومنه: إِذْ تُصْعِدُونَ آل عمران: 153، صَعِيدًا طَيِّبًا النساء: 43أي: ترابًا، والصعيد وجه الأرض.
ابن فارس أرجع هذا إلى أصل يدل على: ارتفاع ومشقة، -الصاد والعين والدال- فمن ذلك: الصُّعُود: خلاف الحَدُور، فالإصْعاد مقابلة: الحَدُور من مكان أرفع، والصَّعُود: العقبة الكئود، والمشقة من الأمر، سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا المدثر: 17، قيل: عقبة في النار يصعدها، ويُكلَّف هذا الصعود، وقيل: المشقة بالعذاب.
وأما الصَّعَدات فهي: الطرق، (لخرجتم إلى الصَّعَدات تجأرون إلى الله)[11]، يعني: الطرق، والواحد: صعيد، يقال: صعيد وصُعُد، وأيضاً يقال: صُعُدَات، كطريق وطُرق وطُرقات، وأما الصَّعيد فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا النساء: 43، فقيل: وجه الأرض، وبعضهم كالإمام مالك -رحمه الله- يقول: سواء كان عليه غبار، أو لم يكن عليه غبار، وجه الأرض سواء عليه غبار أو لا، سواء وُجد تراب أو لم يوجد تراب، وعن الأصمعي: الصعيد هو التراب، أما قولهم: تنفس الصُّعَداء، تنفس يعني: بتوجع، فما علاقته بالعلو، أي: صَعَد؟ يعني: باعتبار: أنه نفَس يعلو ويرتفع، تنفس الصُّعداء، فهو: نفس يعلو، ففيه معنى: العلو، وأصعَدَ: أبعد في الأرض، إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ آل عمران: 153يعني: تُبعدون، وتُمعنون في الهزيمة، يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا الجن: 17يعني: ذا مشقة، شديدًا، وهكذا في قوله -تبارك وتعالى-: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ الأنعام: 125، ما معنى يصَّعَّد؟، أهل الإعجاز العلمي ماذا يقولون؟ يقولون: هذه فيها إعجاز علمي، أين الإعجاز العلمي؟ يقولون: إنه حينما يصعد إلى الأعلى ويرتفع يضيق النفس؛ لقلة الأكسجين، فيضيق عليه النفس، كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ الأنعام: 125، يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا، يضيق عليه التنفس، وهذا غلط، ليس هذا هو المراد.
أولاً: ليس هذا بإعجاز؛ لأن العامة يعرفون هذا منذ القِدم، أن الأعالي يضيق فيها النفس، وإن كانوا لا يعرفون فلسفته، يعني: أن الأكسجين تقل نسبته، هذا ليس بإعجاز؛ لأنه معروف عند العرب أنه كلما ارتفع ضاق النفس، فهو ليس بإعجاز.
ثانيا: أن المعنى الذي بنوا عليه غلط أصلاً؛ لأنه ما قال بهذا أحد من أهل العلم من السلف، والأئمة المعتبرين في التفسير، فإن قولهم قاطبة في هذه الآية، كما يقول ابن جرير، ونقل أقوال السلف فيه، قول السلف في المعنى: أن هذا مثل من الله -تعالى ذكره- ضربه لقلب هذا الكافر في شدة تضييقه إياه عن وصوله إليه، مثل: امتناعه من الصعود إلى السماء، وعجزه عنه، يعني: لأن ذلك ليس في وسعه، هذا كلام ابن جرير، كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ، يعني: يُطالَب بالصعود، وهو: لا يستطيع، ليس له أجنحة يطير، كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ، لا أنه يضيق نفسه إذا ارتفع لقلة الأكسجين، هذا ما يقول به أحد، وإنما يُكلَّف الصعود ولا يستطيع أن يصعد أصلاً، هل يستطيع أن يصعد في السماء؟، لا يستطيع، وبنحو هذا قال ابن كثير، ونَقل عن ابن عباس -ا- قوله: فكما لا يستطيع ابن آدم أن يبلغ السماء، فكذلك لا يستطيع أن يدخل التوحيد والإيمان قلبه، هذا قول ابن عباس -ا-، وبهذا قال عطاء الخرساني، وعكرمة، فهذا قول السلف، وقول الأئمة من المفسرين، وما أحد قال بقول هؤلاء الذين يقولون: هذا من الإعجاز، هذا مثال مما تسمعون كثيراً، ويُذكر على أنه إعجاز، وهذه الأمثلة التي يذكرونها لو نوقشت واحداً واحداً لرأيتم فيها مثل هذا، وما هو أوضح من هذا فيما يذكرونه من الأمثلة.
وقوله: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ فاطر: 10، يصعد هنا بمعنى: الارتفاع، فهو واضح، وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا الكهف: 8، فالصعيد قلنا: وجه الأرض، فهنا المقصود: أرض جرداء، صَعِيدًا يعني: ظاهر الأرض ليس عليه نبات، ولا شجر، ولا ما يُكنّ الإنسان، أو يستره، ليس عليها جبال، ولا غير ذلك، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله، وصحبه.
[1] أخرجه مسلم، كتاب الطهارة، باب فضل الوضوء، رقم: (223).
[2] أخرجه النسائي، كتاب عشرة النساء، باب حب النساء، رقم: (3939)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته (1/ 599)، رقم: (3124).
[3] أخرجه أبو داود، كتاب الأدب، باب في صلاة العَتَمة، رقم: (4985)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته (2/ 1307)، رقم: (7892).
[4] أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة، باب وقت قيام النبي -صلَّى الله عليه وسلم- من الليل، رقم: (1319)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته (2/ 858)، رقم: (4703).
[5] أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب صلاة الإمام، ودعائه لصاحب الصدقة، رقم: (1497)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب الدعاء لمن أتى بصدقته، رقم: (1078).
[6] أخرجه مسلم، كتاب الطهارة، باب فضل الوضوء، رقم: (223).
[7] أخرجه أحمد، رقم: (24529)، وقال محققو المسند: إسناده ضعيف، والنسائي في الكبرى، رقم: (9229)، والبيهقي في الكبرى، رقم: (14356)، وضعفه الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة (3/ 243)، رقم: (1117).
[8] أخرجه البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب: خيركم من تعلم القرآن وعلمه، رقم: (5029)، ومسلم، كتاب النكاح، باب الصداق، وجواز كونه تعليم قرآن، وخاتم حديد، وغير ذلك من قليل وكثير، واستحباب كونه خمسمائة درهم لمن لا يجحف به، رقم: (1425).
[9] أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب قول الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقينالتوبة: 119وما ينهى عن الكذب، رقم: (6094)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب قبح الكذب وحسن الصدق وفضله، رقم: (2607).
[10] أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان غلظ تحريم إسبال الإزار، والمن بالعطية، وتنفيق السلعة بالحلف، وبيان الثلاثة الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم، رقم: (107).
[11] أخرجه الترمذي، أبواب الزهد عن رسول الله ﷺ، باب في قول النبي ﷺ: لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا، رقم: (2312)، وقال: هذا حديث حسن غريب، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب الحزن والبكاء، رقم: (4190)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته (1/481)، رقم: (2449).