الخميس 24 / جمادى الآخرة / 1446 - 26 / ديسمبر 2024
(26- ب) حرف الصاد من قوله صرح إلى قوله عفو من حرف العين
تاريخ النشر: ١٦ / جمادى الأولى / ١٤٣٦
التحميل: 1525
مرات الإستماع: 1561

"صَرْح: قصر، وهو أيضًا البناء العالي".

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

وبعد: فهذه المادة أرجعها ابنُ فارس -رحمه الله- إلى معنى: ظهور الشَّيء وبروزه[1]، الظُّهور والبروز، يُقال: الشيء الصَّريح، يعني: كأنَّه أظهر ذلك، فكلّ خالصٍ يُقال له: صريح، صرَّح بما في نفسه: أظهره، الصَّرح يُقال: هو بيت واحد يُبنى منفردًا، ضخمًا، طويلًا في السَّماء، وكل بناءٍ عالٍ فهو صرح؛ لهذا قال ابنُ جُزي: أنَّه البناء العالي، البناء المرتفع: قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ، قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ  [النمل:44].

وهكذا في قوله: وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ [غافر:36]، يعني: البناء المرتفع، وهذا يدلُّ على معنى الظُّهور، ونحو ذلك الارتفاع، يُقال: فلان صرَّح بكذا، بمعنى: الظُّهور، أنَّه لم يكن ذلك خُفيةً، كلام صريح، ليس فيه غبشٌ، ليس فيه خفاءٌ، وإنما يكون ذلك للأشياء المرتفعة التي تُشاهد ويراها الناس.

"حرف الضاد:

ضرب: له أربعة معانٍ: من الضَّرب باليد، وشبهه من ضرب الأمثال، ومن السَّفر، ومنه: ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ [النساء:101]، ومن الالتزام، ومنه: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ [البقرة:61]، أي: أُلزموها، فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ [الكهف:11]، أي: ألقينا عليهم النوم، أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ [الزخرف:5]، أي: نُمسِك عنكم التَّذكير".

هذه معانٍ أربعة، ولكن ابن فارس -رحمه الله- أرجعه إلى أصلٍ واحدٍ، وأنَّ ما قد يبدو أنه يُخالفه فإنَّ ذلك يرجع إليه، ويُحْمَل عليه، يقول: "من ذلك: ضربت ضربًا، إذا أوقعت بغيرك ضربًا"[2].

ويُستعار منه ويُشبه به الضَّرب في الأرض للتِّجارة وغيرها من أغراض السفر: كالجهاد، وهذا الذي يضرب في الأرض كأنَّه يضرب بقدميه حينما يخطو ويتنقّل عليها، كذلك الضَّرب للصّيغة، يُقال: هذا من ضرب فلان، أي: من صيغته؛ لأنَّه إذا صاغ شيئًا فقد ضربه، يُقال: ضرب الدّراهم، ضرب النُّقود، ضرب العملة، ونحو هذا، بمعنى: الصيغة.

ولا زال الناسُ يستعملون هذا في هذا المعنى: ضرب العُملة، وكذلك يقولونه حتى في أوصاف الناس فيما يتّصل بالخلقة والصورة والهيئة، فيُقال: هذا ضربٌ عربي، وهذا ضربٌ صيني، وهذا ضربٌ فارسي. ونحو ذلك، يعني: في ملامحه وهيئته، لا سيّما في البيئات المختلطة، يعني: التي حصل فيها امتزاجٌ بين أقوام شتى، فتجد فيهم مَن ملامحهم ملامح العرب، ومن ملامحه ملامح الشَّرقيين، ومن ملامحه ملامح الأوروبيين، ونحو ذلك، فيُقال: هذا ضربٌ عربي، وهذا ضربٌ ...

لا زال الناسُ يستعملون مثل هذا، فهو بمعنى: الصِّيغة، وهذا من ضرب فلان، وكذلك في الأشياء المعنوية ما يتّصل بالطَّبائع والعادات، وكذلك أيضًا الأخلاق والتربية، ونحو هذا.

ويُقال أيضًا: "الضريب" للمثل، فلان ضريب فلانٍ، كأنَّهما ضُربا ضربًا واحدًا، وصيغا صياغةً واحدةً؛ ولهذا يقال للسَّجيّة والطَّبيعة: الضريبة، كأنَّ الإنسان قد ضُرِبَ عليها ضربًا، وصيغ صيغةً، يُقال: فلان حسن الضَّريبة، يعني: السَّجية والطَّبيعة والخُلق.

وهكذا يُقال للصنف من الشيء: الضرب، يُقال: هذا الضَّرب من المعاني، هذا الضَّرب من الناس، كأنَّه ضُرب على مثال ما سواه من ذلك الشَّيء، ثم يُقال أيضًا: "الضَّريبة" لما يُضرب على الإنسان من الجزية وغيرها، كأنَّه قد ضُرِبَ بها ضربًا، "الضَّريبة" تُجمع على: ضرائب، ثم يتوسَّعون فيقولون: ضرب فلانٌ على يد فلانٍ، إذا حجر عليه، فلان يحتاج مَن يضرب على يده من أجل أن يكفَّه عمَّا هو فيه، كأنَّه قد أراد بسط يده، فضرب الضاربُ على يده؛ فقبض يده. هكذا يُرجعه ابنُ فارس[3].

كذلك الضَّرب على يد الـمُجرمين بهذا المعنى، بهذا الاعتبار، وهكذا الإضراب، يُقال: "أضرب فلانٌ عن الأمر" إذا كفَّ، كأنَّه أراد التَّبسط فيه ثم أضرب، أي: أوقع بنفسه ضربًا فكفَّها عمَّا أرادت. هذا الذي ذكره ابنُ فارس -رحمه الله-.

هذه المعاني التي ذكرها ابنُ جُزي يمكن أن ترجع إلى هذا، والضَّرب يُقال لإيقاع شيءٍ على شيءٍ، فيختلف تفسير هذه المادة بحسب اختلاف ما يُوقع، تُوقع شيئًا على شيءٍ، فما الذي تُوقعه على غيره؟

هنا يأتي بمعنى هذه المادة في استعمالاتها المختلفة وتنوع الاشتقاق، فيتوسّعون فيه بتشبيه بعضه ببعضٍ: ضرب الكفّ، الضرب في الأرض، ضرب العرق، ضرب الخِبَاء –الخيمة-، ضرب المثل، الضِّراب.

كلّ هذه استعمالات يمكن أن ترجع إلى هذا المعنى: إيقاع شيء على شيء، فهذا المعنى: الضَّرب باليد وشبهه الذي ذكره ابنُ جُزي، المعنى الأول: هذا الضرب الحسيّ: وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ [النور:31]، يعني: هي تمشي مصدرةً صوتًا بأقدامها، الصّوت يُصاحبه صوت الحُلِي الذي تلبسه المرأة، فتتحرك معه قلوب النَّوكى من الرجال، ضُعفاء القلوب تتحرك قلوبهم إذا سمعوا هذا الصّوت من الزينة الخفيّة الذي هو الخُلخال الذي تلبسه المرأة في ساقها كالسّوار الذي يكون باليد، فهنا ضربٌ حسيٌّ.

كذلك ضرب الملائكة للكفَّار: يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ [محمد:27]، هذا ضربٌ حسيٌّ.

اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ [البقرة:60]، هذا ضربٌ حسيٌّ.

فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ [الأنفال:12]، ضربٌ حسيٌّ.

فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا [البقرة:73]، كذلك هذا ضربٌ حسيٌّ.

المعنى الثاني الذي ذكره ابنُ جُزي: هو ضرب الأمثال، من هذا يُقال: ضرب الدَّراهم بآلة السّك؛ لأنَّه شيء يظهر أثرُه في غيره: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلً [الكهف:32]، فكأنَّ المثل يظهر أثرُه بفهمٍ لأمرٍ معنويٍّ قُرب بصورةٍ محسوسةٍ مثلًا، باعتبار أنَّ هذا نوعٌ مشهورٌ من الأمثال، فيحصل الاعتبار بذلك، كذا فيما يتّصل بالقصص كما يأتي، وكما سبق في الكلام على الأمثال؛ من أنَّ شيخ الإسلام -رحمه الله- أدخل القصص في الأمثال: انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ [الفرقان:9]، ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا [النحل:75]، ضرب، ضربوا لك الأمثال، وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ [إبراهيم:45]، فهذا ضرب المثل.

المعنى الثالث الذي ذكره ابنُ جُزي: السَّفر، والذَّهاب في الأرض، باعتبار إيقاع الأقدام عليها، فهذا الذي يمشي يضرب بقدميه الأرض: ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا [النساء:94]، إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى [آل عمران:156]، ضربوا في الأرض، وهكذا يضربون في الأرض: السَّفر للتِّجارة أو للغزو، كما في قوله: إِذَا  ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يعني: الجهاد.

المعنى الرابع: يقول: الالتزام، ومنه: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ [البقرة:61]، يعني: أُلزموا ذلك، وهذا من معنى: الإيقاع، كما قلنا بحسب الإيقاع، توقع ماذا على ماذا؟ فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ [الكهف:11]، أي: ألقينا عليها النوم هنا، أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ [الزخرف:5]، نُمسِك عنكم التَّذكير، كما قلنا في معنى "أضرب"، بمعنى: الكفّ والامتناع، وهكذا.

"ضاعف الشَّيء: كثَّره، ويجوز فيه التَّشديد، وضِعف الشَّيء -بكسر الضاد-: مِثلاه، وقيل: مثله، والضّعف أيضًا العذاب، والضُّعف بالضم، ويجوز فيه الفتح.

هذه المادة: (الضاد والعين والفاء) أرجعها ابنُ فارس إلى أصلين[4]: يدلّ أحدهما على خلاف القول، فالضَّعف والضُّعف خلاف القوّة، بالضمِّ والفتح.

والثاني: أن يُزاد على الشَّيء مثله، يُقال: أضعفت الشَّيء إضعافًا، وضعّفته تضعيفًا، وضاعفته مُضاعفةً، وهو أن يُزاد على الشَّيء فيُجعل مثلين أو أكثر.

وبعضهم يقول: قد يُخصّ بالضم (الضُّعف) بالجسد، وبالفتح (الضَّعف) بالرأي والعقل. هكذا قالوا، وليس هذا محلّ اتِّفاقٍ، يُقال: أضعاف الجسد.

الآن المعنى الذي يمكن أن ترجع إليه هذه المادة في استعمالاتها: (أضعاف الجسد) هي أعضاؤه، وكذا يُقال لعظامه: أضعاف، والواحد ضِعْف، ثم استعملوا من هذا فقالوا: أضعاف الكتاب، تضاعيف الكتاب. يعني: أثناء سطوره، يمكن أن يكون باعتبار أنَّ (أضعاف الجسد) هي أعضاؤه، أبعاضه، فكذلك هذا، ويُقال للواحد من هذه الأجزاء: ضِعف، يُقال مثلًا: (ضعُف فلان) كأنَّه أُصيب ضِعفه، يقولون: أُصيب عظمه، فكان ذلك من الضّعف، يعني: خلاف ما يُقال، خلاف القوة، كأنَّه قد أُصيب ضِعفه، يعني: عظمه، وأضعافه يعني: العِظام.

ومن التَّصرف في هذا في الاستعمال يقولون: (ضعف الشَّيء) يعني: أطبق بعضه على بعضٍ وثناه، ضعف، فإذا ضعفتها هذه يعني: جعلتها على أضعاف، كأنَّك طبقت ذلك، طبقت بعضَه على بعضٍ وثنيته، فصار كأنَّه ضعف، فصارت طاقات الشَّيء المتماثلات، لما صارت مُتماثلات قيل: الضِّعف بهذه الصورة، يعني: المِثْل.

ويمكن اجتماع المعنيين: خلاف القوة، وزيادة مثل الشيء؛ باعتبار علاقة التَّضاد بينهما.

الآن الضَّعف خلاف القوة، والضِّعف تعني: الزيادة؛ زيادة المثل فأكثر، فهذه العلاقة فيها تضاد كما يبدو، فيُقال: (ضَعُفَ) يعني: في قوّته، و(أضعفته) صيرته ضعيفًا، فكأنَّك أرجعته بهذا الاعتبار إلى أصله الذي هو الضّعف.

الله خلق الإنسان من ضعفٍ، ويُقال: أضعفه، يعني: زاد على أصله، لاحظ: أضعفه يعني: نقص من ضعفه، كأنَّه أرجعه إلى أصله، وأضعفه بمعنى: زاده على أصله المثل مثلًا أو أكثر، مُضاعف، فهذه (أضعفه) تُستعمل في هذا وهذا.

ويُقال أيضًا كما نقول بمعنى: السَّلب، يُقال: (أضعفه) سلب الضَّعف عنه بالزيادة، كما تقول: أشكيته، يعني: أزلت شكايته، اشتكى إليَّ فلانٌ فأشكيته، يعني: أزلت، رفعتُ شكايته، فأضعفته: أزلت ضعفه بزيادته على أصله.

بهذا الاعتبار يمكن أن تقترب هذه المعاني، وهكذا يُقال: مرضته، يعني: أزلت مرضه، ونقول: (ضعفه) زاد في ضعفه، وكذا زاد على أصله مثلًا أو أكثر، فيُقابل ما قبله، الـمُضعف هو الدَّاخل في التَّضعيف، فهو ذو أضعافٍ، مُضعف، يعني: في الحسنات مثلًا صاحب أضعاف.

الضِّعف يُقال في مثل الشَّيء إلى ما زاد، فضِعف الشَّيء هو الذي يُثنيه، فإذا أُضيف إلى عددٍ اقتضى ذلك العدد ومثله، تقول مثلًا: ضعف العشرة عشرون، وضعف المئة مئتان، وضعف الألف ألفان، فإذا لم يُضف فقيل: ضِعفان، فهنا يُجرى مجرى الزوجين عند بعض أهل العلم؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ منهما يُزاوج الآخر، يعني: المِثل، يُزاد المثل فقط، وليس بزيادة المثلين، فهذا الواحد يكون اثنين ضِعف، والتَّعبير عنه بالتَّثنية: ضعفان، هذا هو الأكثر، أكثر من إفراده، قولهم: الضّعف، وهم يُريدون بذلك معنى الضِّعفين، إذا قالوا: الضِّعف، يقصدون معنى الضِّعفين، لكن يُعبّرون بالتَّثنية غالبًا، فهذه تأتي بخلاف القوّة، وتأتي بمعنى: زيادة المثل فأكثر بحسب السياق: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً [الروم:54]، هذه تُستعمل في الضَّعف الذي هو خلاف القوّة: وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا [الأنفال:66]، ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ [الحج:73]، وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا [آل عمران:146]، إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي [الأعراف:150]، يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ [القصص:4]، فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا [البقرة:282]، ذُرِّيَّةً ضِعَافًا [النساء:9]، يُجمع الضَّعيف على الضُّعفاء والضِّعاف؛ ولهذا قال: وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ [البقرة:266]، جمع ضعيف، لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ [التوبة:91]، جمع ضعيف، وَأَضْعَفُ جُندًا [مريم:75]، فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ [الأعراف:38]، وهكذا: فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ [البقرة:265]، فَيُضَاعِفَهُ لَهُ [البقرة:245]، لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً [آل عمران:130]، فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ [الروم:39].

لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا، هنا عبَّر بالأضعاف، لكن لو كانت النسبةُ واحدًا في المئة، أو نصفًا بالمئة، أو رُبعًا في المئة، فكذلك الحكم واحد، لكن لماذا عبَّر عنه بالأضعاف على طريقة العرب؟ فهو بحسب المقام والسياق يعني: أنَّه عبَّر عن ذلك بأقبح صورةٍ؛ تنفيرًا للنفوس عن مُقارفته، لكن لا يأتي مَن هو –يعني- مُتّبع لهواه فيقول: إنَّ الذي يحرم من الرِّبا هو ما كان من هذا القبيل: الأضعاف المضاعفة، أمَّا النسبة: واحد بالمئة، وسبعة بالمئة، وعشرة بالمئة، فهذا لا إشكالَ فيه.

هذا يقوله بعضُ الزائغين، ولكن هذا غير مُرادٍ، وهذه عُجْمَة في فهم القرآن.

فهذه جُملة من الاستعمالات لخلاف القوّة، وكذلك أيضًا الزيادة؛ زيادة المثل فأكثر في قوله: لِكُلٍّ ضِعْفٌ [الأعراف:38]، فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ، هُمُ الْمُضْعِفُونَ، وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا [النساء:40]، فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا.

هذا كلّه بمعنى: زيادة المِثل وأكثر، والذي قبله هو بمعنى ما يُقابل القوّة: ذُرِّيَّةً ضِعَافًا.

هذا فيما يتعلّق بهذه المادة: الضعف.

قول ابن جُزي: "والضُّعف بالضم، ويجوز فيه الفتح"، هنا لا يريد أن يذكر معنًى، وإنما يذكر اللّغات فقط، في النُّسخة الأخرى غير موجودة هذه الزيادة.

"ضرّ: بفتح الضَّاد وضمّها بمعنًى واحدٍ، وكذلك الضَّير بالياء، ومنه: لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ [آل عمران:120]، والضَّراء: ما يُصيب من المرض وشبهه".

هذه المادة: (الضاد والراء) أرجعها ابنُ فارس إلى ثلاثة أصول[5]:

الأول: خلاف النَّفع، يُقال: ضرّه يضرّه، يقول: ثم يُحْمَل على هذا كلّ ما جانسه أو قاربه، فالضُّر: الهُزال، والضِّر: تزوج المرأة على ضرةٍ، الضِّر يعني: على امرأةٍ كانت قبلها، يعني: تكون هي الزوجة الثانية، تزوجت على ضِرٍّ، يعني: على ضرةٍ، ويُقال: على ضُرٍّ. رجل مُضرّ يعني: عنده زوجتان أو أكثر، والضّرة: اسم مُشتقّ من الضّر، كأنَّها تُضرّ، أو كأنَّها تضُرّ الأخرى، كما تضرّها تلك أيضًا، يعني: العلاقة -للأسف- مبناها على الـمُضارة، هذا في الغالب، والعبرة بالغالب.

والمراد من كون العلاقة مبناها على الـمُضارة: كأنَّ هذا شيء جُبِلت عليه وفُطِرت عليه؛ لما يُجدد في نفسها؛ ولذلك مَن أراد أن يُعدد في النِّساء فعليه أن يُطفئ حرارةَ الغيرة بالماء، والماء المقصود به المال، يُطفئها المال، فإذا نفرت من هذه سكنت إلى الأخرى، هذا هو الذي يُسكنها ويُطفئها؛ ولذلك غالب الحالات النَّاجحة في التَّعدد هي عند ذوي الجِدَة، الذين يبسطون أيديهم، ويُغدقون المال، وتسكن إلى المال، يُعطيها ويُوسّع عليها في العطاء والنَّفقة.

أمَّا إذا لم تجد شيئًا، وإنما تجد حرارةً من هذه الضّرة، وهذا الضِّر، فإلى أي شيءٍ تسكن، تبقى نار تتلهّب، يجد حرَّها كلما اقترب منها، وتزوج من أجل أن يستريح، فيجد نفسَه في تنّورٍ، هذا هو الواقع لدى الكثيرين؛ يظنّ أنها نُزهة وزيادة في المتعة والأُنس والراحة، ويُريد أن يقبض يده، أو أن يأخذ منها مالها من أجل أن يتزوّج أخرى: موظفة، أو مُعلّمة، أو غير ذلك، من أجل أن تقوم بالنَّفقة على نفسها؛ فيحترق بين هاتين الضّرتين، ويكون الضَّرر الواقع عليه من الجهتين، أمَّا المرأة فالضَّرر الواقع على كل واحدةٍ منهما من جهةٍ واحدةٍ، أمَّا هو فيجد ذلك من الجهتين، فمَن كان أهلًا، وإلا فليُرح نفسه ويستريح ويُريح.

و(الضَّرير والـمُضارة) أكثر ما يُستعمل في الغيرة، ويُقال: الضَّرير أيضًا الذي به ضررٌ من ذهاب عينيه، أو الضنى في الجسد، في الجسم، مرض ضرير يعني: مريض. فهذا المعنى الأول الذي هو خلاف النَّفع.

وأمَّا المعنى الثاني الذي ذكره ابنُ فارس فهو: اجتماع الشَّيء، هذا لم يرد في القرآن، ومنه ضرّت الإبهام: اللحم الـمُجتمع تحتها. هذا ضرّة الإبهام، هذه يُقال لها: ضرّة.

وكذلك أيضًا الـمُضرّ الذي له ضرّة من مالٍ، فهذا من صفة المال الكثير، هذا المعنى الثاني الذي هو الاجتماع.

المعنى الثالث: القوّة عند ابن فارس، فالضّرير يُقال لقوّة النفس، وكذلك يُقال: فلان ذو ضرير، إذا كان له صبرٌ واحتمالٌ ومُقاساةٌ للأمور، وتجلّد وثبات عليها، يعني: يصبر مثلًا على مقاساة العمل، وصُعوبته، وشدّته، وما يلقى فيه من العناء.

ولا يبعُد أن يمكن في هذه المعاني أن يجتمع منها معنًى مُتَّحد -والله تعالى أعلم-، لكنَّ في القرآن هذه المادة: الضَّرر ونحو ذلك جاءت بمعنى: الضيق والنَّقص في النفس، أو البدن، أو المال، الضَّراء تُقال للشّدة والاضطرار، اضطر فلانٌ، مُفتعلة من الضّر، وحمل الإنسان على ما يضرّ، لكن في العُرف: فلان مُضطر، اضطرّ إلى كذا، اضطره فلانٌ إلى كذا، بمعنى: حمله على ما يكره: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ [البقرة:173]، إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ [الأنعام:119]، أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ [النمل:62]، فهو يرجع إلى هذا، لكن المعاني الثانية موجودة، أقصد التي ترجع إلى معنى النَّقص والضَّرر الذي بمعنى: الشّدة ونحو ذلك، الضَّراء يعني: الشّدة.

وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا [آل عمران:144]، يعني: لن يُوصل إليه الضَّرر، فإنَّ ذلك لا ينقص من ملك الله شيئًا.

وهكذا في قوله -تبارك وتعالى- عن قول المشركين: وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ [الأعراف:95]، فالضَّراء هي الشّدة من المرض ونقص العافية في الأبدان، وكذلك أيضًا نقص الأموال؛ الشّدة في العيش، وضيقه، ويُقال ذلك بمعنى: الضيق.

مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا [المائدة:76]، يعني: الضّرر، يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ [الحج:13]، ضرّ، يعني: الضّرر.

وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا [البقرة:231]، يعني: مُضارة، يعني: بقصد إلحاق الضَّرر بها، إيقاع الضَّرر عليها، لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا [آل عمران:120]، في قول الله في الحديث القُدسي: إنَّكم لن تبلغوا ضُرّي فتضرّوني[6]، يعني: أنَّ الخلق أصغر من ذلك، بخلاف الأذى: لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى [آل عمران:111]، يُؤذيني ابن آدم[7]، ففرقٌ بين الأذى والضّرر، الضّرر أخصّ من الأذى، أمَّا الأذى فيكون بالقول ونحو ذلك.

"ضُحى: أول النَّهار، والفعل منه: أضحى، وأمَّا ضحِي -بكسر الحاء- يضحى في المضارع فمعناه: برز للشمس، وأصابه حرُّها، ومنه: وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى [طه:119]".

هذه المادة: (الضاد والحاء والحرف المعتلّ) أرجعها ابنُ فارس[8] -رحمه الله- إلى أصلٍ واحدٍ يدلّ على بروز الشَّيء، في كل الاستعمالات الضّحاء: امتداد النَّهار، الضّحى يُقال: الضّحى المرتفع، يعني: إذا ارتفع النَّهار يُقال له: ضحى، وكذلك قيل له هذا باعتبار أنَّه وقتٌ بارزٌ مُنكشفٌ، الشمس تكون فيه مرتفعةً، ويُقال: ضحي الرجل يضحى: إذا تعرّض للشمس: وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى، ما تتعرض للشمس، ولا تتأذّى بحرِّها، يُقال: الناس ضاحون، يعني: أنَّهم بحالٍ من البروز للشمس، ليس ثمّة ما يسترهم ويُكنّهم.

وكذلك يُقال: ضحى بمعنى: تعرّض للشمس، ومنه قيل: الأُضحية، يُقال: أُضحية، وإضحية، تُجمع على أضاحٍ، ويُقال: ضحية، تُجمع على ضحايا، ويُقال: أضحاة، تُجمع على أُضحى. هذه قيل لها ذلك باعتبار أنَّها تُذبح في وقت إشراق الشَّمس، يعني: بعد الإشراق بوقتٍ، بعد الإشراق بوقتٍ تكون الصلاةُ والخطبة، ثم يذبح الإمامُ في المصلى، ولا يذبح الناسُ إلا بعد الصَّلاة، وبعد ذبح الإمام إذا كان يذبح في المصلّى، فهذا يكون في وقت الضُّحى، فقيل لها: أُضحية.

ولا يرد على هذا: أنَّ الأُضحية قد تُذبح العصر، وقد تُذبح بعد المغرب، وبالليل، وفي كل الأوقات يصحّ ذبحها. لكن باعتبار أصل الوقت، متى مبدأه؟

فمثل هذه الأشياء لا يُحتاج أن يُنبّه عليها، وإنما يكون ذلك -يعني: حينما يُستشكل- يكون عُجْمَةً، فيُقال: ليلة إضحيانة، وضحياء، أي: مُضيئة، لا غيمَ فيها.

ومثل هذه الليالي إن لم يوجد الغيمُ مع وجود القمر مُكتملًا يُقال لها: إضحيانة، وضحياء: مُضيئة، وضاحية كل بلدٍ هي: الناحية البارزة فيه، الضَّاحية، الأطراف يُقال لها: ضاحية وضواحٍ، ضواحي البلد هي: النواحي البارزة، بخلاف وسط البلد ونحو ذلك.

وفي قوله -تبارك وتعالى-: وَالضُّحَى [الضحى:1]، المقصود به الوقت المعروف: أول النَّهار، الذي يبدأ بعد طلوع الشمس، ويكون مُرتفعًا، الضُّحى يكون له أول، ووسط، وآخر: وَالضُّحَى ۝ ۝ وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى [الضحى:1-2].

وهكذا في قوله -تبارك وتعالى-: أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى [الأعراف:98]، يعني: في الوقت المعروف، وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا [النازعات:29]، الوقت المعروف، مع أنَّ بعض أهل العلم يقولون: المقصود النَّهار. وكذلك في قوله: وَالضُّحَى ۝ وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى، وهو اختيار ابن جرير[9]، باعتبار أنَّه قابله في الليل.

ليس الكلامُ في هذا في أقوال المفسّرين والخلاف بينهم، لكن أصل ذلك لا شكَّ أنه يُقال لأول النَّهار، أقسم به لشرفه؛ لأنَّ القسم لا يكون إلا بمعظّمٍ، وكذلك أيضًا بما جاء من هذا القبيل -والله تعالى أعلم-.

إذن: وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى يكون المعنى: لا تكون ضاحيًا، يعني: لا تتعرض لحرِّ الشمس.

بهذه المعاني خُوطِب الناس؛ بما يعهدون، يعني: البلاد التي لا يرون فيها الشمس، أو لا يكاد الواحدُ يرى الشمس إلا ويُسرّ، ويكون ذلك يوم عيدٍ عندهم؛ لنُدرة ما يرون الشمس فيها، مثل: نحن إذا رأينا الغيم في يومٍ، فإنَّ ذلك يستهوي النفوس ويجذبها، ويأسرها كما هو معلومٌ؛ لأننا في صحراء، الشمس تكون في حالٍ من الشّدة والحرارة، فإذا جاء يوم غيمٍ فرح الناس.

تجد الشُّعراء منذ القدم -من أيام الجاهلية- يتغنون بأيام الغيم، ويدّخرونها لأمورٍ عندهم لها شأنٌ وخطبٌ، مثل: مُعاشرة النساء، هذا موجودٌ في كلامهم، وفي أشعارهم، فيوم الغيم هو يومٌ جميلٌ يأسر النفوس، يبحثون فيه عن أعظم اللَّذات فيُزاولونها فيه؛ لتكتمل بهجتهم ولذّتهم، أمَّا الذين لا يجدون لهذا طعمًا فمثل هؤلاء لا يُحرّك نفوسهم، هم يبحثون عن الشَّمس؛ لأنَّهم لا يرونها إلا نادرًا.

فالقرآن خاطب الناسَ بما يعهدون –أعني: العرب في بيئتهم-؛ ولذلك ذكر لهم الجمل، وذكر لهم الطَّلح على التفسير المشهور له بأنَّه شجر الشّوك الذي قد قُطِع ونضج، فهم يبحثون عن الظلِّ، ويعرفون عن شجر الطّلح أنه ظليل، لكنَّهم يتأذون بالشّوك الذي يكون مُتساقطًا، لكن هناك بلاد لا يحتاجون إلى ظلِّ الأشجار، أو الطلح، أو عندهم ما هو أحسن من الطلح، وأكثر ظلًّا، وأوفر، وأكبر، لكن القرآن لم يُخاطب العرب بمثل هذه الأشياء التي لا عهدَ لهم بها، والله أعلم.

"ضيف: يُقال للواحد والاثنين والجماعة".

يُقال: ضيف، والمرأة: ضيفة، هذه المادة أرجعها ابنُ فارس[10] إلى أصلٍ واحدٍ؛ يُقال: أضفت الشَّيء إلى الشَّيء، يعني: أملته، ضافت الشمس، وتضيّفت يعني: مالت إلى الغروب، وكذلك أيضًا يُقال: ضافت الشمس، تضيف، تتضيف. وكذلك أيضًا الضّيف من هذا، يُقال: ضفت الرجل يعني: ملت إليه، تعرّضت له ليُضيفني، أضفته يعني: أنزلته عليَّ. وكذا ضيّفته.

والضيف يُقال للواحد والجمع، يُقال: أضياف وضيفان: وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ [الحجر:51]، هم مجموعة من الملائكة -عليهم السلام-، فقال: ضيف، اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا [الكهف:77]، يعني: أن يُنزلوهما للقِرَى؛ ولهذا صارت الضِّيافة تُقال أيضًا للقِرَى، يُقال: هذه ضيافة، وهو القِرَى الذي يُجْعَل للضّيفان، فهذا أصله.

يعني في قوله: وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ [القمر:37] هم مجموعة أيضًا، وكذلك: وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي [هود:78]، فهذا يدلّ على ميل الشَّيء إلى الشَّيء عند ابن فارس[11].

"ضِيق -بكسر الضاد- مصدر، وبفتحها مع إسكان الياء تخفيف من ضيِّق الـمُشدد، كمَيْت ومَيِّت".

هذه المادة أرجعها أيضًا ابنُ فارس[12] إلى أصلٍ واحدٍ، وهو خلاف السّعة، وذلك هو الضّيق، والضَّيقة أيضًا كذلك، فالضِّيق بالكسر بعضُهم يقول: هذا يختصّ بالأشياء الحسيّة، الضيق الحسي الذي يتّسع كالثّوب، والدَّار، ونحو ذلك.

والضَّيق -بالفتح- يقولون: في غير ما يتّسع، كالصّدر: وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا [هود:77]، يعني: ضاق ذرعُه بهم، يعني: عجز، ضاق ذرعُه بكذا يعني: عجز عنه، والصّفة: ضيق، وقد يُخفف ويُقال: ضيق، واسم الفاعل: ضائق، فهذا يُقال في الأمور المعنوية والأمور الحسيّة: وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا، هذا في المعنوي، وضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ [التوبة:118] في الحسيّ، باعتبار أنَّ الذي يكون في حالٍ من الكرب والشّدة تضيق به الأرض على سعتها، ويمكن أن يُرجع إلى المعنوي، لكن هنا ضاقت بهم الأرض جُعِل بمثابة مَن ضاقت عليه الأرض حسًّا، وهكذا الـمُنهزم يُقال: ضاقت عليه الأرض بما رحُبت.

ضاقت عليهم الأرض حتى ظنَّ هاربهم إذا رأى غير شيءٍ ظنّه رجلا[13]

يعني: ما يجد مكانًا يختبئ به، يشعر أنَّه يُطلب في كل مكانٍ، تضيق عليه الأرض الواسعة.

وفي قوله -تبارك وتعالى-: لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ [الطلاق:6]، هذا معنوي، التَّضييق المعنوي.

وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ [هود:12]، التَّضييق المعنوي، وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ [الحجر:97]، وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ [النحل:127]، وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا [الفرقان:13]، هذا الضيق الحسيّ.

"حرف العين: عاذ بالله يعوذ، أي: استجار به، ولجأ إليه؛ ليدفع عنه ما يخاف. ويُقال أيضًا: استعاذ، يستعيذ، ومنه: عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ [غافر:27]، ومَعَاذَ اللَّهِ [يوسف:23]".

هذه المادة: (العين والواو والذال) أرجعها ابنُ فارس[14] إلى أصلٍ واحدٍ؛ وهو الالتجاء إلى الشَّيء، ثم يحمل عليه كلّ شيءٍ لصق بشيءٍ أو لازمه.

ونقل عن الخليل: تقول: أعوذ بالله، أي: ألجأ إليه. أعوذ بالله عوذًا، أو عياذًا، كلّ ذلك يُقال، ويُقال: فلان عياذ لك، يعني: ملجأ. ومعاذ الله، أي: أعوذ بالله. والعوذة والمعاذة التي يعوذ بها الإنسانُ: ما يُوضع إمَّا من كلامٍ، عوذة، ومعاذة، فهذا يُقال، وكذلك التَّمائم ونحو ذلك يُقال لها: عوذة ومعاذة.

هذا المعنى في أصله عند ابن فارسٍ -رحمه الله-، لكن ابن جُزي هنا في المعنى الذي ذكره يرجع أيضًا إلى هذا: عاذ به يعني: استجار به، هذا بمعنى اللُّجوء: عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ، التجأتُ إليه، قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ، أي: أعوذ بالله.

والعامّة لا زالوا يستعملون مثل هذا: أعوذ بالله، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، لكن يقولون: العوذة، يعني: كأنَّه يقول: أطلب العوذة، فيما ينقبضون منه، ويطلبون الخلاص.

"قال: العالمين جمع عالم، وهو عند المتكلّمين: كلّ موجودٍ سوى الله تعالى. وقيل: العالمين: الإنس والجنّ والملائكة؛ لجمعه جمع العُقلاء، وقيل: الإنس خاصّة؛ لقوله: أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ [الشعراء:165]".

هذه المادة أرجعها ابنُ فارس[15] إلى أصلٍ واحدٍ، وهو يدلّ على أثرٍ بالشيء يتميز به عن غيره، من ذلك: العلامة، أو العلم يُقال: للراية، والجبل يُقال له: علم، وكل شيءٍ يكون معلمًا، خلاف المجهل، ومن هنا العالمون، وذلك أنَّ كل جنسٍ من الخلق فهو في نفسه معلم، وعلم يدلّ على خالقه -تبارك وتعالى- بهذا الاعتبار.

وبعضهم يقول: العالم سُمّي بذلك لاجتماعه، ربّ العالمين يعني: الخلائق جميعًا، فهذه المادة تعني: العلامة، يعني: هي التي تُترك في الشَّيء مما يُعرف به. ومنه: علمت الشّيء يعني: عرفتُ علامته وما يُميّزه. وتقول: علّمته يعني: جعلتُ له علامة يُعرف بها.

العالم بعضهم يقول: هو اسمٌ لما يُعلم به، كالطابع، والخاتم، وجُعِل بناؤه على هذه الصّيغة لكونه كالآلة، فهو كالآلة في الدّلالة على الصَّانع.

وبعضهم يقول: كل جنسٍ من الخلق، وجُمِعَ جمع العُقلاء تغليبًا للناس على غيرهم.

يقول: جنس من الخلق. يعني: من العُقلاء وغير العُقلاء، أو لكون المراد به مَن يعقل: الملائكة والإنس والجنّ.

وفي القرآن يمكن أن نُفسّر العالمين: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2] بماذا؟

قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ۝ قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا [الشعراء:23-24].

وقوله: "كلّ ما سوى الله فهو عالم"، هكذا يقول بعضُ أهل العلم؛ باعتبار أنَّها علامة دالّة على خالقه ومُوجده -تبارك وتعالى-.

يقول: "عند المتكلّمين: كلّ موجودٍ سوى الله"، ويقصد بالمتكلّمين: علماء الكلام، علماء الكلام سُمّوا بذلك؛ لكثرة الكلام والجدل الذي امتهنوه، وصار ذلك سمةً بارزةً عُرِفوا بها، وقيل غير ذلك في أسباب التَّسمية؛ تسمية هؤلاء بالمتكلّمين، وتسمية الاشتغال الذي يشتغلون به: علم الكلام.

وبعضهم يقول: باعتبار أنَّهم من عادتهم كانوا يقولون: الكلام في قوله كذا، الكلام في المسألة الفلانية، الكلام في كذا. فقيل: أهل الكلام، لكن لما كثُر كلامُهم وخوضُهم الباطل قيل لهم: علماء الكلام، وأهل الكلام.

طبعًا هم عند قومهم، عند أصحابهم، عند أضرابهم؛ أنَّهم عُلماء العقائد، يُسمّونها: علم الكلام، العقيدة يُسمّونها: علم الكلام، والله المستعان.

يقول: "وقيل: الإنس خاصّة؛ لقوله: أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ"، هذا نوعٌ من الاستعمال دلَّ عليه السياقُ، وإلا فإنَّه لا يختصّ بالإنس.

وأحسن ما يُفسّر به -كما سبق- هو القرآن، قال: قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا، فكلّ ما سوى الله هو عالم.

أمَّا صيغة الجمع باعتبار أنَّها للعُقلاء؛ فيُمكن أن يكون ذلك من باب التَّغليب، أنَّ العُقلاء أشرف من غيرهم، فعُبّر بالصيغة المختصّة بهم، فإذا اجتمع العُقلاء وغيرُ العُقلاء فإنَّه يمكن أن يُعبّر بصيغة تكون للعُقلاء للتَّغليب، ويمكن أن يُعبّر بصيغة لغير العُقلاء أيضًا من باب التَّغليب في الكثرة، والعُقلاء من ناحية الشَّرف.

قال:

"يعمهون: يتحيّرون في ضلالهم، والعمه: الحيرة".

كذلك أيضًا ابنُ فارس[16] أرجعه إلى هذا المعنى: الحيرة وقِلّة الاهتداء. يُقال: أرض عمهاء؛ لا أعلامَ فيها، عمهاء. وذهبت إبلُه العُمهاء والعُميهاء، يعني: لا يدري أين ذهبت؟

وكذلك العمه بعضُهم يقول: هذا في البصيرة كالعمى في البصر.

لا زال الناسُ يستعملون هذا، يقولون: فلان يتعمّه، يعني: يتخبّط على غير اهتداءٍ، يعمهون.

قال:

"عدل يَعدل عدلًا ضدّ: جارَ، وعدل عن الحقِّ عدولًا، وعدلتُ فلانًا بفلانٍ: سوّيتُ بينهما، ومنه قوله: بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الأنعام:1]، والعدل له ثلاثة معانٍ: ضدّ الجور، والفدية، ومنه قوله تعالى: وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ [البقرة:123]، وقوله: وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ [الأنعام:70]، ومثل الشّيء، ومنه: أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا [المائدة:95]".

هذه المادة أرجعها ابنُ فارس[17] إلى أصلين، وأنَّهما يتقابلان كالضدّين:

الأول: يدلّ على الاستواء.

والثاني: الاعوجاج.

الاستواء: العدل من الناس: المرضي، المستوي الطَّريقة، وكذلك العدل: الحكم بالاستواء. ويُقال أيضًا للشيء يُساوي الشّيء: هو عدله. وكذلك يقال: عدلتُ بفلانٍ فلانًا، وهو يُعادله، يعني: يُساويه. والمشرك يعدِل بربِّه؛ كأنَّه يُسوِّي به غيره.

ومن الباب يُقال: العِدلان: حملا الدَّابة، الدَّابة يكون لها من ناحيتين، يُحْمَل عليها من النَّاحيتين؛ لتساويهما، عِدلان.

وكذلك أيضًا يقال: العدل؛ لقيمة الشَّيء ولفدائه: وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ، وهذا يكون عادةً في المساوي، يعني: الفدية، وكلّ هذا من المعادلة التي هي المساواة.

والعدل أيضًا يُقال لنقيض الجور، واليوم المعتدل هو الذي تساوى حرُّه وبردُه. هذا فيما يتعلّق بالمعنى الآخر: الاعوجاج، يُقال: عدل يعني: مال، عدل عن كذا. فيُقال للمُعوج: العدل أيضًا. فهذا هو المعنى الآخر، وهو يُقابل الأول.

إذن هذه المادة فيما يتعلّق بالمعنى الأول: الاستواء، العِدل: نصف الحِمل، حِمل معدول بمُساوٍ له.

وبعضهم يُفرّق بين العَدل والعِدل: من جهة أنَّ الشيء إذا كان من جنسه أو من غير جنسه: {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا، هل الصيام من جنس المعدول به في الصّيد: جزاء الصيد، وفدية الصيد؟

الجواب: لا، فإذا كان من غير جنسه يُقال له: عَدل، وإذا كان من جنسه يُقال له: عِدل.

هكذا عند بعضهم، والعديل: المثل والنَّظير.

وبعضهم يُفرّق بين العَدل والعِدل: فالعِدل عندهم ما يُدرك بالحواس، وما يُدرك بالبصيرة يُقال له: عدل.

فمعاني هذه المادة تختلف باختلاف حروف التَّعدية، يعني: السياق يُبين ذلك، تقول: عدل به، يعني: سوَّاه بغيره. عدل عنه: مال وانصرف. هذا معنى الاعوجاج الذي ذكره ابنُ فارس، عدل إليه: مال نحوه، عاد إليه: الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ [الانفطار:7]، هنا لم يُعدَّ بحرفٍ: (عدلك) يعني: خلقك في حالٍ من الاستواء والاعتدال، فهذا يمكن أن يكون من قبيل الحسيّ، وهكذا فيما يتعلّق بالعدل الذي يُقابل الجور، هذا في المعنوي: بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ، هذا في المعنوي: يُسوون به غيره من المعبودات من دون الله -تبارك وتعالى-.

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ [البقرة:165]، فهذا من عدلهم.

وكذلك –يعني- الجور: الميل، الاعوجاج، في قوله -تبارك وتعالى-: وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ، ليس المقصودُ هنا العدل الذي يُقابل الجور، وإنما المقصود الفدية، تفتدي، أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا، يعني: المثل، أو القيمة، أو الفدية، أو نحو ذلك، كما يكون المعنى بحسب السياق كما سبق -والله أعلم-: يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ [المائدة:95]، يعني: العدول.

قال:

"عزيز: اسم الله تعالى، معناه: الغالب، وعزَّ: غلب، ومنه قوله: وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ [ص:23]، أي: غلبني، والغلبة ترجع إلى القوّة والقُدرة، ومنه قوله: فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ [يس:14]، أي: قوّينا. وقيل: العزيز: العديم المثلِ".

المعنى الأخير: "العزيز: العديم المثل" مضى الكلامُ على هذا في الكلام على الأسماء الحسنى.

وابن فارس أرجع ذلك إلى أصلٍ واحدٍ، وهو الشّدة والقوة[18]، وما يُضاهي ذلك من الغلبة والقهر، يُقال: عزَّ الشّيء.

فالمعنى الأخير الذي يذكره أهلُ اللغة، وذكره هنا ابنُ جُزي: عديم المثل، يعني: الشيء الذي لا نظيرَ له، تقول: هذا عزيزٌ، هذه جوهرة عزيزة، يعني: لا نظيرَ لها. هذا ابنُ فارس لا يرتضيه، وإنما أرجعه إلى معنى القُدرة أيضًا، يعني: ليس بمعنًى مُباين، أرجعه إلى معنى القُدرة باعتبار أنَّه يُعبّر عنه فيُقال: لا يكاد يُقدر عليه[19].

ونقل عن الفرّاء أيضًا قوله: (عزَّ عليَّ كذا) يعني: اشتدّ[20]. عزَّ عليَّ ذهاب، عزَّ عليَّ كذا، اشتدَّ عليَّ.

والمعاني التي ذكرها ابنُ جُزي هنا الغالب: عزَّ بمعنى: غلب: وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ، هذا يرجع -كما يقول- إلى القوّة والقُدرة، فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ قوّينا. فهذا يرجع كلّه إلى المعنى الذي ذكره ابنُ فارس، والمعنى الأخير هذا هو الذي يذكرونه، يقولون: (العزّة) هذه المادة يقولون: ترجع إلى معنى القوة والشّدة، فالله عزيزٌ بهذا الاعتبار: القوّة والغلبة والقهر والشّدة.

والعزيز أيضًا يُقال للشَّيء الذي يكون نفيسًا، تقول: هذا كلامٌ عزيزٌ، ونحو ذلك، وللشّيء الذي لا نظيرَ له. هكذا يقولون.

ابن فارس لما يُرجع ذلك جميعًا إلى الشّدة يقول: هو الذي لا يُقدر على مثله.

إذن انتفاء القُدرة على الشَّيء، فالله -تبارك وتعالى- يقول: فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة:209]، يعني: القوة والقهر والغلبة ونحو ذلك. فالعزّة تكون من مجموع أوصافٍ، فلا يُعبّر عنها بلفظةٍ تفي بمعناها، وإنما ذلك من الصِّفات الجامعة، تكون من مجموعة أوصافٍ، مثل: المجد، يدلّ على السّعة في أوصاف الكمال والكثرة، ونحو ذلك.

وهكذا: وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ [فصلت:41]، وقد تحدّثتُ عن هذا في مجلسٍ خاصٍّ، والمعاني الدَّاخلة تحته.

وكذلك في صفة المشركين، وأنَّهم وما اتَّخذوا من الآلهة قال: لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا [مريم:81]، يعني: يتعززون بهم، قوّة، ومنعة. وهكذا لما قال السَّحرة: بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ [الشعراء:44]، يعني: غلبته وقوّته وقهره. أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ [البقرة:206]، بمعنى: الشّدة ونحو ذلك، أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ [المائدة:54]، يعني: أشدّاء، وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً [النمل:34]، يعني: جعلوا الأعزاء؛ أهل القوة والقهر والغلبة والشّدة، جعلوهم أذلّاء، ضُعفاء، في حالٍ من المهانة.

قال:

"عفى: له أربعة معانٍ: عفى عن الذَّنب، أي: صفح عنه. وعفى: أسقط حقَّه، ومنه قوله: إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ [البقرة:237]. وعفى القوم: كثروا، ومنه قوله: حَتَّى عَفَوا [الأعراف:95]. وعفى المنزل، أي: درس".

المادة التي بعدها تتعلق بها أيضًا.

"عفوٌ له ثلاثة معانٍ: الصَّفح عن الذَّنب، والإسقاط، والسَّهل من غير كُلْفَةٍ، ومنه قوله: وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ [البقرة:219]".

هذه المادة: (العين والفاء والحرف المعتلّ) عند ابن فارس[21] ترجع إلى أصلين:

المعنى الأول: ترك الشّيء، من ذلك: عفو الله -تبارك وتعالى- عن خلقه، بمعنى: الترك وعدم المعاقبة.

ونقل عن الخليل: "أنَّ كلَّ مَن استحقَّ عقوبةً فتُرِكَ فذلك عفوٌ عنه"[22]، يكون من قبيل العفو، يعني: لمن استحقَّ العقوبة، لكن ابن فارس -رحمه الله- ذكر أنَّه لا يتقيد بذلك، يعني: ليس ذلك مختصًّا بمَن استحقَّ العقوبة فتُرِك، بل قد يكون التركُ من قبيل العفو إن لم يكن لمستحقِّ العقوبة، يُقال: عفى، بمعنى: درس، يعني: انمحت معالمه، فهذا تقول فيه: عفت الدِّيار، عفت عليها الرياح، ونحو ذلك، يعني: انطمست معالمها، فهذا شيء كأنَّه قد تُرك، فهو مهجورٌ لا يُنزل، ولا يُلاحظ ويُراعى، فيخفى على مرور الأيام، ينطمس تمامًا. وهذا كلّه يرجع إلى معنى الترك.

ويُقال أيضًا: عفى بمعنى: كثُر، حَتَّى عَفَوا، يعني: كثروا، فما علاقة العفو هنا بالترك؟ عفى هنا بمعنى: كثُر!

بعضهم يقول: هذا من الأضداد؛ هناك تُرِك، وهنا كثُر، تُرِك بمعنى: طُمِسَت معالمه، وهنا كثُر.

ابن فارس يقول: ليس ذلك من الأضداد. وإنما يقول: لأنَّه تُرِكَ صار بهذه المثابة، عفى النَّبت، عفى الزرع؛ لم يُقْطَع فطال، إعفاء اللِّحية: عدم التَّعرض لها بحلقٍ أو قصٍّ أو نحو ذلك.

المعنى الثاني الذي ذكره يدلّ على طلب الشَّيء، هذا لم يرد في القرآن، يُقال: (العُفاة) طُلاب المعروف، يعني: الذين يطلبون الصِّلة أو العطاء أو الإحسان أو نحو ذلك.

وابن فارس[23] لا يستبعد أن يرجع ذلك إلى معنى الترك إذا كان المقصودُ، إذا كان المعروفُ هو العفو، (العُفاة) الذين يطلبون العفو، فيقول: هذا يمكن أن يرجع إلى معنى الترك؛ وذلك أنَّ هذا الذي يُعطى لهم يُسمح به، فكأنَّه لا يقبض عليه الـمُعطي يده ويُمسِك، وإنما يُرسله، كأنَّه تركه يصل إلى الآخرين، فيرجع إلى معنى الترك بهذا الاعتبار؛ ولذلك تجدون في الاستعمال: العافية، العافية تُقال –يعني- بمعنى: السَّلامة، فذلك لحصول مطالب النفوس من سلامة الأجساد والأموال والدِّين، وما إلى ذلك، كأنَّها تُركت فلم تُستأصل أو تُنتقص.

العافية لا يعدلها شيء: فلان في عافيةٍ، أنت في عافيةٍ من كذا، عافاك الله، ونحو هذا.

وتُقال العافية أيضًا لهذه الدَّواب والسِّباع والوحش، ونحو ذلك مما تأتي إلى الماء، أو تأتي إلى ناحيةٍ، هذه التي تأكل من الزرع، كما جاء في الحديث: إذا أكلت منه العافية[24]، فكأنَّها تسترسل فيه، فكأنَّه يرجع إلى معنى الترك -والله أعلم-، وعلى المعنى الآخر الذي ذكره ابنُ فارس: الطلب، تطلب الكلأ، العُشْب، النَّبْت، المرعى، الصيد، ونحو ذلك.

ابن جُزي هنا ذكر المعاني الأربعة: عفى عن الذَّنب، يعني: صفح عنه، بأي اعتبارٍ؟ العفو، عفت الريح الأثر بمعنى: المحو، لا يبقى له أثرٌ في النفس.

فالمراتب هكذا:

أوّلها: العفو، لا يبقى للجناية أثرٌ في النَّفس.

المرتبة الثانية: التي هي الصَّفح، الإعراض، كأنَّه من صفحة العُنق، لا يقف عنده، فلا يُعاتب ويقول: ليس في نفسي شيء. لكنَّه يُعاتبه، يقول: قد أخطأت في كذا. فهذه مُعاتبة، الصَّفح أن لا يُعاتب.

المرتبة الثالثة: وهي الغفر، أن لا يلحقها من ذلك شيء من جرّاء إساءته، كذلك معنى السّتر، فقد يعفو الإنسان ويُعرض عن الإساءة، لكنَّه يتكلم ويقول: فلان أساء إليَّ وعفوتُ عنه. فيكون قد فضحه.

فهذه مراتب متفاوتة، فالأعلى أن يكون العفو مطلقًا تمامًا، يشمل المعاني الثلاثة، يعني: ينتظم معنى التَّجاوز والمحو، وعدم المعاتبة، معنى الصَّفح، وكذلك أيضًا السّتر، فيكون هذا العفو بمعنى: المحو تمامًا، فلا يبقى أثرٌ على لسانه أو قلبه أو جوارحه؛ فيطال هذا الإنسان ما يكره بسبب إساءته، هذا العفو التام.

فإذا قال العبدُ: (اللهم اعفُ عنا)، بمعنى: التَّجاوز ومحو الخطايا والذُّنوب، فهنا يُقال: عفى بمعنى: أسقط حقَّه، ومنه: إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ [البقرة:237]، هو يرجع إلى المعنى السابق: يعفون، فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ [البقرة:178]، إسقاط الحقّ، فهذا يرجع إلى معنى الترك، ترك حقّه، لم يُطالب به، ولم يقتصّ.

وكذلك أيضًا المعاني التي ذكرها ابنُ جُزي، المعاني الأخرى: حَتَّى عَفَوا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ [الأعراف:95]، بمعنى: كثروا، وعرفنا وجه الارتباط، بمعنى: الترك عند ابن فارس.

فيما يتعلّق أيضًا بما ذكره بعد ذلك في مادة العفو –أعني: ابن جُزي-، قال: العفو عن الذَّنب: الإسقاط، وكذلك الشَّيء السَّهل من غير كُلْفَةٍ، العفو من أخلاق الناس، يعني: السّهل الميسر، وأيضًا ما سهُل وتيسر، وما جاء من غير سؤالٍ وطلبٍ ونحو ذلك، ما جاءك عفوًا فاقبله، يعني: من غير استشراف نفسٍ، ومن غير مُطالبةٍ به.

وفي قوله -تبارك وتعالى-: خُذِ الْعَفْوَ [الأعراف:199]، مضى الكلامُ على هذا في مجلسٍ مُستقلٍّ أيضًا: خُذِ الْعَفْوَ يعني: ليس المسامحة، وإن كان قاله بعضُ المفسّرين، وإنما المقصود ما تسمحت به نفوس الناس فبذلوه من غير مطالبةٍ، يعني: خذ العفو مما جادت به نفوسهم، من غير أن تستنطف حقّك منهم؛ ولهذا يقولون: ما استوفى كريمٌ قطّ، خذ العفو من الزوجة، خذ العفو من القرابات، خذ العفو من الأصحاب والناس أجمعين، لا تستنطف حقّك منهم، فيُطالب هؤلاء أن يأتوا بحقوقك كاملةً، فإنَّك تُحمّلهم بذلك عنتًا، وأنت أيضًا ربما تكون ممن يُستثقل عند هؤلاء ويتبرمون منك.

وكذلك أيضًا يثقل عليك ذلك؛ فترى أنَّ هؤلاء قد أتوا من التَّقصير ما يُوجب ربما التَّحامل عليهم والمعاتبة ونحو ذلك، خذ العفو ما تسمحت به نفوس الناس من غير تكلُّفٍ، وإلا فإذا لم يحصل ذلك في خُلق الإنسان: أنَّه يقبل العفو -ما تسمحت به النفوس- فإنَّ الناس قد يتكلَّفون له، ويكون ذلك سببًا لاستثقاله؛ فيُحسنون إليه اتِّقاء شرّه، لربما اتِّقاء تحامله عليهم، أو مُطالبته، أو مُعاتبته، ونحو ذلك.

معروفٌ أنه يُعاتب: مرضت، سافرت، تزوّجت، ونحو ذلك، لم تُرسل لي رسالةً، لم تُعلّق على كلامي، وعلّقت على كلام فلان في (الواتس آب)، فلان قلت له: ما شاء الله، أحسنت، عبارة جميلة أرسلها، ونحو ذلك، وأنا أرسلت مثلها وما قلت لي مثل هذا الكلام. طيب، وأنت أحسنت، بارك الله فيك، وشكرًا لك.

ويبدأ الناس دائمًا يرقبونه من أجل الإحسان إليه اتِّقاء شرّه، فهو لا يترك شيئًا، ولا يفوت شيئًا إلا ويُطالب، يستنطف حقّه؛ ولهذا قال ابنُ عباسٍ -رضي الله عنهما- في الزوجة في قوله: وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [البقرة:228]، قال: "هو التَّجاوز والإغضاء، فلا يستوفي حقَّه منها"[25].

يقول: ما أُحبّ أن أستوفي حقِّي منها. فهم يقولون: ما استوفى كريمٌ قط.

فهذا الذي يريد أن تكون المرأةُ راكعةً وساجدةً له -مجازًا طبعًا عند القائل بالمجاز- يُحمّلها عنتًا.

هذا ما يتعلّق بهذه المادة، والله تعالى أعلم.

  1. "مقاييس اللغة" (3/347).
  2. "مقاييس اللغة" (3/398).
  3. "مقاييس اللغة" (3/398).
  4. "مقاييس اللغة" (3/362).
  5. "مقاييس اللغة" (3/360).
  6. أخرجه مسلم: كتاب البرّ والصّلة والآداب، باب تحريم الظّلم، برقم (2577).
  7. متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب تفسير القرآن، باب {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} الآية [الجاثية:24]، برقم (4826)، ومسلم: كتاب الألفاظ من الأدب وغيرها، باب النَّهي عن سبِّ الدهر، برقم (2246).
  8. "مقاييس اللغة" (3/391).
  9. "تفسير الطبري = جامع البيان" ت: شاكر (24/482).
  10. "مقاييس اللغة" (3/380).
  11. المصدر السابق.
  12. "مقاييس اللغة" (3/383).
  13. انظر: "تفسير المراغي" (28/109)، و"المعجم المفصل في النحو العربي" (1/448).
  14. "مقاييس اللغة" (4/183).
  15. "مقاييس اللغة" (4/109).
  16. "مقاييس اللغة" (4/133).
  17. "مقاييس اللغة" (4/246).
  18. "مقاييس اللغة" (4/38).
  19. "مقاييس اللغة" (4/38).
  20. "مقاييس اللغة" (4/42).
  21. "مقاييس اللغة" (4/56).
  22. "مقاييس اللغة" (4/56).
  23. انظر: "مقاييس اللغة" (4/57).
  24. أخرجه أحمد في "المسند"، برقم (14361)، وقال مُحققوه: "حديثٌ صحيحٌ، وهذا إسنادٌ حسنٌ من أجل عبيدالله بن عبدالرحمن الأنصاري -واختلف في اسمه-، فقد روى عنه جمعٌ، وذكره ابنُ حبان في "الثقات"، وقد تُوبع في الحديث السَّالف"، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة"، برقم (568).
  25. رُوِيَ بمعناه في "الدر المنثور في التفسير بالمأثور" (1/661)، و"تفسير الطبري = جامع البيان" ت: شاكر (4/536)، و"تفسير ابن أبي حاتم" مُحققًا (2/417).

مواد ذات صلة