الجمعة 27 / جمادى الأولى / 1446 - 29 / نوفمبر 2024
(28- ب) حرف الفاء من قوله فاحشة إلى قوله في
تاريخ النشر: ٢٨ / جمادى الآخرة / ١٤٣٦
التحميل: 1575
مرات الإستماع: 1363

"فاحشة، وفحشاء، هي كلّ ما يقبح ذكره من المعاصي".

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

أما بعد: فهذه المادة عند ابن فارس تدلّ على قُبحٍ في شيءٍ وشناعةٍ، من ذلك: الفُحش، والفحشاء، والفاحشة، يقول: كل شيءٍ جاوز قدره فهو فاحش، ولا يكون ذلك إلا فيما يُتكرّه، وأفحش الرجل: إذا قال الفُحش، وفحش كذلك، يُقال: هو فحّاش، ويقولون للبخيل: فاحش، وهذا بنوعٍ من الاتِّساع في الاستعمال يُقال له: فاحش، كما قال طرفة:

 أرى الموتَ يعتام الكرام ويصطفي عقيلة مال الفاحش المتشددِ[1]

الفاحش يعني: البخيل، باعتبار أنَّ البُخل هو أقبح خصال المرء، فهذا وجه الارتباط، فكأنَّه اتَّصف بصفةٍ مكروهةٍ شنيعةٍ في غاية القُبْح.

فالفاحشة والفحشاء إذا كانت بهذا الاعتبار: ما يشتدّ قبحه من الذنوب قولًا أو فعلًا، لكنَّه كثيرًا ما يرد في الاستعمال بنوعٍ خاصٍّ من الذنوب، وهو الزنا، أو ما في معناه، كعمل قوم لوطٍ، والله -تبارك وتعالى- يقول: وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا [الأعراف:28]، وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ [النساء:15] يعني: الزنا، إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ [البقرة:169]، هنا يحتمل أن يكون المقصود به الزنا، ويحتمل أن يكون الأفعال الشَّنيعة، القبيحة؛ ولهذا قال: وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ [الأنعام:151]، فسّره بعضُهم بالزنا، والظاهر والباطن باعتبار هذه الممارسات، سواء كانت مُعلنةً لذوات الرَّايات، كما كانت البغايا الـمُعلنات في الجاهلية، وما بطن: الخليلات سرًّا، كما يقوله بعضُ السلف. وقيل غير ذلك.

والله -تبارك وتعالى- يقول: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ [النحل:90]، الفحشاء يمكن أن تكون الذنوب القبيحة، فعطف عليها الأعمّ، وهو الـمُنكر. ويحتمل أن تكون الفحشاء: الزنا، وما في معناه.

وقوله -تبارك وتعالى-: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا [النور:19]، فالفاحشة هنا الزنا، ونحو ذلك، ففُسّر هذا بمعانٍ قد مضى الكلامُ عليها، أو على بعضها في الكلام على "المصباح المنير"، قلنا: يدخل فيه التَّحدث بها في المجالس، ولو على سبيل الغيرة بدون تفاصيل، وقد يكون هذا بنشر مقاطع، ولو على سبيل الغيرة، يُشاهدها الناس، وتتحرك النفوس، ويهون هذا الجُرم في نفوس الناس، ويخفّ على أسماعهم.

كذلك أيضًا في قوله –تعالى-: أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ [الأعراف:80] هنا بمعنى: عمل قوم لوط، فهذا إذا ذُكِر في الشَّرع على سبيل الذَّم غالبًا فالمراد به معنى خاصّ، أو معنى عامّ، الخاصّ: الزنا، وما في معناه، وهو الغالب، فذلك معنى عُرفي، وإلا فأصله في اللغة أنَّه يُقال للشَّيء للذَّم الشَّنيع، ونحو ذلك، وقد يُستعمل في أصل اللُّغة في غير المعصية، يُقال: المال الفاحش، يعني: الكثير، ويُقال: دمٌ فاحش، يعني: كثير.

"فرض، له معنيان: الوجوب، والتَّقدير".

يقول ابنُ فارس: الفرض: يرجع إلى أصلٍ صحيحٍ يدلّ على تأثيرٍ في شيءٍ: من حزٍّ، أو غيره[2].

الآن هذا الطرف لهذه الخشبة مثلًا، لو أنَّه أُجريت عليها حديدة، أو منشار، أو حُزّ جُزءٌ منها، يُقال: حزّ. وكذا الحبل مثلًا في البئر لكثرة ما يُستخرج به من الدّلاء يظهر أثرُه في الحجر، فهذا الأثر يُقال له: حزّ.

فهنا الفرض يقول: أصلٌ صحيحٌ يدلّ على تأثيرٍ في شيءٍ من حزٍّ، أو غيره. فالفرض: الحزّ في الشيء.

ومن الباب عنده: اشتقاق الفرض الذي أوجبه الله تعالى، وسُمّي بذلك لأنَّ له معالم وحدودًا مثل هذا الحزّ الذي في الصَّخر، أو في الخشب، أو نحو ذلك، قد يكون الحزُّ في اليد، في الجلد، ظاهره، فهذا الفرض باعتبار ما له من المعالم والحدود قيل له ذلك؛ لأنَّ الله حدَّه.

ومن الباب: الفُرضة، وهي لفظة مُستعملة إلى اليوم تُقال للمشرعة في النَّهر وغيره، باعتبار أنها حزٌّ في شطِّ النهر، هذه يمكن أن تقف فيها الزَّوارق، أو السُّفن، أو نحو ذلك، ولا زال هذا مُستعمل إلى اليوم.

هنا كان يُقال: الفُرضة للموضع الذي تقف فيه السُّفن، أو العبّارة، أو كذا، فهذه يُقال لها: فُرضة، فهذا استعمال عربي صحيح، وسُمّيت بذلك بهذا الاعتبار؛ تشبيهًا بالحزِّ في الشيء، باعتبار أنَّها مثل الحزّ في طرف النَّهر، من أجل أن يكون موضعًا عميقًا في هذا الطرف.

وهكذا أيضًا من ذلك: الفرض: ما يفرضه الحاكمُ من نفقةٍ للزوجة ولغيرها، فرض القاضي، وسُمّي بذلك باعتبار أنَّه شيء معلوم يبين كالأثر في الشَّيء.

ويقولون: الفرض: ما جُدت به من غير ثوابٍ، يعني: ليس بمكافأةٍ على عطيةٍ، أو هديةٍ، أو نحو ذلك. وأمَّا القرض: ما كان للمُكافأة، يعني: إذا أعطيت أحدًا شيئًا مكافأةً، فهذا يُقال له: قرض.

وابن فارس يقول: مما شذَّ عن هذا الأصل (الفارض) يعني: الـمُسنّة، مع أنَّ بعضهم يقول: أنَّها مأخوذة من التَّقدير والإلزام، الفارض: لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ [البقرة:68][3].

هنا ابن جُزي يذكر معنيين: الوجوب، والتَّقدير. وهذا لا إشكالَ فيه، وكما نقول في سائر المواد: أنَّ ذلك يأتي باستعمال أمور حسيّة، وكذلك يكون في أمورٍ معنويّة، فهو في المعنوي يأتي بمعنى: البيان، والتَّقدير، واللزوم، من لزوم الحزّ للمحزوز. وهذا كلّه من باب التَّفصيل في المعنى، فرضٌ يلزم الـمُكلّف كلزوم الحزِّ للشيء المحزوز.

ويُقال: فرض بمعنى: بين، وقدر، وأُلزم. والسياق يُبين المراد.

والفريضة صفة جُعِلت اسمًا، فأُدخلت فيها الفاء، فرائض الله هي: حدوده التي بيّنها، وقدّرها، وألزم بها. بيَّن، قدّر، ألزم بذلك، يُقال: فريضة.

كذلك تأمّل قوله -تبارك وتعالى-: أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً [البقرة:236]، هنا فُسّر بمعنى: التقدير، تُقدّروا: مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً يعني: في المهر ما قُدّر، وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ [النساء:24]، التَّقدير؛ قدّر لها مهرًا مُعينًا، ثم بعد ذلك نزلت عن بعضه، أو نحو ذلك.

فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ [البقرة:197]، قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ [الأحزاب:50] يعني: أوجبنا، سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا [النور:1] هنا فُسّر بمعنى: فرضناها، يعني: أوجبنا الإيمان بها، وأوجبنا العمل بما تضمنته من الأحكام، والشَّرائع، ونحو ذلك، يعني: ألزمنا العمل بها.

نَصِيبًا مَفْرُوضًا [النساء:7] يعني: مُقدَّرًا مثلًا على قول بعضهم.

فهذا لاحظ أنَّه يأتي بمعنى: الوجوب، وبمعنى: التَّقدير، وبينهما ارتباطٌ؛ لأنَّ هذا الذي وجب إنما وجب بتقديرٍ من مُوجِبه.

"فتح، له معنيان: فتح الأبواب، ومنه: فتح البلاد وشبهها. والحُكم، ومنه: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا [الأعراف:89]. ويُقال للقاضي: فتّاح، واسم الله -تعالى-: الفتّاح، قيل: الحاكم، وقيل: خالق الفتح والنصر".

أصل هذه المادة عند ابن فارس يرجع إلى خلاف الإغلاق، يُقال: فتحت الباب فتحًا، يقول: ثم يُحْمَل عليه سائر ما في هذا الباب، ما يُقابل الإغلاق، فالفتح، والفِتاحة، والفُتاحة يعني: الحكم، والله فاتح، يعني: حاكم، والفتح بمعنى: النصر، والإظفار، استفتحت: استنصرت[4]: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ [الأنفال:19] يعني: تطلبوا الحكم مثلًا، قد جاء الحكمُ بين الطَّائفتين، أو تستنصروا. لكن لا يخلو من إشكالٍ تفسيره بالنَّصر في هذا الموضع، لكن قوله –تعالى-: وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا [البقرة:89]، اليهود كانوا يستفتحون بالنبي الذي سيأتي، يستنصرون، يقولون: سيُبعث نبيّ، ونقتلكم معه قتل عادٍ. فلمَّا جاء هذا النبي كفروا به.

وفواتح القرآن: أوائل السور، ويُقال: الفتح أيضًا للماء الذي يخرج من عينٍ، أو غيرها. وتدور مادته كما قال ابنُ فارس على خلاف الإغلاق[5]، يعني: إزالة الإغلاق يُقال له: فتح، فالأمور المادية مُدركة بالبصر: فتح الباب، بخلاف الإغلاق، افتح الباب، أغلق الباب.

وفي الأمور المعنوية التي تُدرك بالبصيرة كذلك أيضًا بإزالة ما يتعلّق به القلب والنفس من الهمِّ والغمِّ، أو الفقر، أو بإعطاء المال، أو النَّصر في الحرب، أو الحكم في الخصومة، فتحصل به إزالة ما في النَّفس.

وكذلك يُقال بمعنى: فتح الـمُستغلق من أبواب العلم والمعرفة؛ ولذلك ندعو للإنسان فنقول: الله يفتح عليك، فتح الله عليك. فيُدعى للمُتعلم، ونحو ذلك.

وفي قوله: أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ [البقرة:76] ذُكِر فيه أقوال للمُفسّرين: ما المراد بذلك؟

مما قيل في تفسيرها: بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ، قيل: بما حكم عليكم. وبعضهم يقول: بما فتح عليكم من العلم، فيستوون معكم، فهم يحسُدونهم بهذا. وبعضهم يقول: إنَّ ذلك ليس على سبيل الحسد، وإنما بأي اعتبارٍ؟

باعتبار الـمُحاجة، يكتمون ذلك من خبر النبي ﷺ ومبعثه؛ لئلا يُحتجّ بذلك عليهم.

وهكذا فاتحة الشَّيء هي مُبتدأه الذي يصحّ به ما بعده: فاتحة الكتاب، المفتاح: آلة الفتح، ويُجمع على مفاتح، ومفاتيح.

وتأمّل قوله -تبارك وتعالى-: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا [الزمر:71]، فتح المغلق، أو الإغلاق معروف، هذا في الأمور الحسيّة: فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا [الفتح:18]، الفتح هنا ما المقصود به؟

صُلح الحُديبية هو الفتح، أو فتح خيبر، أو فتح مكّة، فسّره بعضُهم بفتح خيبر، لكن قوله: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا [الفتح:1] فُسّر بصُلح الحديبية: أنَّه فتحٌ؛ لما حصل بعده، لكن الفتح القريب فُسّر بفتح خيبر، فهذا فتح البلاد.

وكذلك أيضًا في قوله -تبارك وتعالى-: فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا [الشعراء:118]، فهذا يمكن أن يكون بمعنى: الحكم.

حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ [الأنبياء:96]، هذا فتحٌ حسيّ، فتح السَّد.

لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ [الأعراف:40]، فُسّر بالفتح الحسيّ، والسَّماء لها أبواب.

كذلك: وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا [البقرة:89]، كما سبق: يستنصرون، يطلبون الفتح، يعني: النصر.

وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ [الأنعام:59] هذا في المعنوي، أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ [النور:61] يعني: المفاتيح، وكذلك في قوله: فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ [النساء:141] هنا النصر والغنيمة وما يتبع ذلك. فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ [المائدة:52] يمكن أن يُفسّر هنا بالنَّصر، ونحوه. وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ [الحجر:14] هنا يمكن أن يُفسّر بالحسي، لكن قوله: فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ [الأنعام:44] إغداق الأموال، ونحو ذلك. وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ [يوسف:65] هذا فتحٌ حسيّ. مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ [فاطر:2] التَّوسعة في الرزق، ونحو ذلك.

سؤال: قوله يا شيخنا: "خالق الفتح والنَّصر"، هل يُعدّ هذا من التَّأويل؟

الشيخ: يُقال للقاضي: فتّاح، واسم الله تعالى: الفتّاح، الحاكم، وقيل: الفتَّاح: خالق الفتح والنصر. هو لا يُفسّر بهذا، أحسنتَ، لا يُقال: إنَّ الله فتَّاح، يعني: خالق، يعني: أنَّه لا يُوصف بهذا إلا باعتبار أنَّه خلقه، ولكن يُقال: أنَّ الله هو الفتَّاح، بمعنى: الحاكم، وهو الذي يفتح على قلوب أوليائه بالعلوم، والمعارف، والمواهب الربانية. ويفتح أيضًا عليهم بأبواب الرزق، والنصر، وما إلى ذلك. فيشمل الهدايات، والمعارف، والعلوم. ويشمل كذلك النصر، والرزق، وفتح البلاد، يعني: الفتح المادي والمعنوي، ولا يُفسّر بخالق الفتح والنَّصر، لا يُفسّر بهذا. فمثل هذا يدخل في باب التَّأويل، لكنَّه هنا لم يذكره على أنَّه فسَّره بهذا، وإنما قال: وقيل: اسم الله الفتَّاح، قيل: الحاكم. وقيل: خالق الفتح والنصر. ومثل هذه الأقوال يفترض أنَّها ما تُورد.

وبعض أهل السُّنة يُورد أحيانًا بعض الأقوال التي تكون بعيدةً، أو لا تصحّ بحالٍ من الأحوال، يُوردها على أنَّها قولٌ، هكذا، وهذا لا يصحّ.

وكما ذكرتُ في الكلام على عقيدة المؤلف -رحمه الله- أنَّه لم يطرد على اعتقادٍ معينٍ: كعقيدة الأشاعرة مثلًا، ولكنَّه يُورد بعض الأشياء على أنَّها قول، ويذكر القولين أحيانًا: يذكر قول أهل السُّنة، وقول المبتدعة، وأحيانًا يذكر قول أهل السُّنة فقط، وأحيانًا يذكر قول المبتدعة، وأحيانًا يذكر بعض العبارات التي تدلّ على تفويضٍ، وقد يفهمها بعضُهم بأنَّ ذلك من قبيل الإجراء على الظَّواهر، ويظنون أنها عقيدة أهل السُّنة؛ ولذلك كلّ مَن رأيته يتكلّم على عقيدة المؤلف يُورد بعض هذه العبارات، ويقول: كان على عقيدة السَّلف. والواقع أنَّه ليس بهذه الصُّورة، لكنَّه غير مُطردٍ.

"انفضُّوا؛ أي: تفرَّقوا".

هذه المادة تدلّ على تفريقٍ وتجزئةٍ، كما يقول ابنُ فارس، من ذلك تقول: فضضت الشيء: فرّقته[6]، انفضّ القوم: تفرَّقوا، وانفضّ المجلس كذلك، تقول: فضضت عن الكتاب ختمَه، ومنه: فضّ المرأة، وفضّ البكارة، ونحو هذا.

ويقول ابنُ فارس: ويمكن أن تكون الفضّة من هذا الباب، كأنَّها تُفضّ لمَ يُتّخذ منها من حليٍّ؛ لكثرة ما يتّخذ منها من حُليٍّ، كأنَّها تُفرّق، تُفضّ، أو باعتبارٍ آخر، مع أنَّ بعض أهل العلم يستبعد هذا.

من العبارات الشَّائعة يقول:

رأيتُ الناس قد ذهبوا إلى مَن عنده ذهبُ[7]
ورأيت الناس مُنفضّة إلى مَن عنده فضّة

وابن فارس يقول: مما يجوز أن يُقاس على ذلك الفضفضة، أصلها تُقال لسعة الثوب: ثوب فضفاض، ودرع فضفاضة، يعني: واسعة، تباعدت أطرافها[8]. فكذلك هذا الإنسان الذي يُفضفض ما في نفسه، فهو يُخرجه، يُفرّقه؛ فيتّسع بذلك صدره، يُفضفض، كأنَّ صدره قد ضاق بما فيه، فحينما يتحدّث إلى الآخرين يكون قد استفرغ ما في نفسه، واتَّسع صدره بذلك، مع أنَّه لا يجد ربما بُغيتَه فيما يتّصل بشكايته، فالفضّ يكون بمعنى: التَّفريق والتَّجزئة، هذا في الأصل.

وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159] يعني: تفرَّقوا، وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا [الجمعة:11] يعني: تفرَّقوا.

وأمَّا الفضّة ونحو ذلك فهذا كثيرٌ: مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ [آل عمران:14]، سُقُفًا مِّن فَضَّةٍ [الزخرف:33]، لكن المادة التي أوردها هنا بمعنى: التَّفرق، انفضّوا.

قول المنافقين مثلًا: لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا [المنافقون:7]، يقولون: هؤلاء أتوكم في بلادكم، فكاثروكم، وقاسمتموهم، فتداعوا، فكثروا في بلادكم، فلا تُنفقوا على هؤلاء، قاطعوهم بالنَّفقة حتى يطلبوا بلادًا أخرى، حتى ينفضّوا، يعني: يتفرَّقوا عنكم ويذهبوا إلى بلدٍ آخر يجدون فيه شيئًا. هذا كلام المنافقين: عبدالله بن أُبي.

مُداخلة: (فطره) هذه المادة -يا شيخنا- تختلف في النُّسخ الخطيّة؛ بدل: (فطره) فطر، بدون هاءٍ. وأيضًا الآية التي هي: فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [الروم:30] غير موجودةٍ في النُّسخ الخطيَّة.

الشيخ: بالنسبة للآية لا إشكالَ أن توجد، وفطره، وفطر: لا إشكالَ أن تكون بالهاء، وبدون الهاء، الأمر في هذا يسير، النُّسخ الخطيّة تقول عندك، لا يوجد فيها؟

الطالب: لا يوجد.

الشيخ: لا يوجد، إذًا فطر، لكن (فطره) ليست غلطًا، وأيضًا المادة التي بعدها لها علاقة بها: (فطور).

"فطر: خَلَقَه ابتداءً، ومنه: فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [فاطر:1]، ومنه: فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [الروم:30]، وفطرة الله: الخلقة التي خلق الخلقَ عليها، وأفطر بالألف من الطَّعام.

فطور: شقوق، ومنه: انفَطَرَتْ [الانفطار:1] أي: انشقّت، ويَتَفَطَّرْنَ [مريم:90]".

هذه المادة عند ابن فارس تدلّ على شيءٍ وإبرازه[9]؛ فطر: فتح شيءٍ وإبرازه، من ذلك: الفِطر من الصّوم، والفِطرة: الخِلقة. هذا أشار إليه ابنُ جُزي، قال: "فطرة الله: الخلقة التي خلق الخلقَ عليها، وأفطر بالألف من الطعام"، يعني: هذا يدلّ على ابتداءٍ، يُقال: فطر البئر، يعني: ابتدأ حفرها، تفطّرت الأرضُ بالنبات؛ إذا انشقّت عنه، يعني: كأنَّ الأرض تنشقّ عن مسمار النَّبات، انفطرت الأرض.

فطر نابُ البعير: إذا شقَّ اللَّحم وطلع. فطر العجين، فطره: أعجله عن الإدراك، وكلّ ما أُعْجِلَ فهو فطيرٌ.

تسمية الفطيرة بهذا ما وجهه؟

ربما من الأصل: العجين قبل أن يُدرك، وكلّ ما أُعجل فهو فطير، ماديًّا كان، أو معنويًّا، والتَّفطر: التَّشقق؛ لأنَّ الفطر هو الشقّ، والفطور: الشُّقوق، والله -تبارك وتعالى- يقول: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ، الفطرة تُقال لأصل الخِلقة: فِطرة، وما طُبِع عليه الإنسان أولًا فهو فِطرة، والنبي ﷺ يقول: كل مولودٍ يُولد على الفطرة، فأبواه يُهودانه[10]، أو نحو ذلك.

كذلك أيضًا الله يقول عن نفسه: الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، ويقول: فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ [الأنعام:79]، ويقول: فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الإسراء:51]، وَالَّذِي فَطَرَنَا [طه:72] يعني: خلقنا، أوجدنا ابتداءً، الَّذِي فَطَرَهُنَّ [الأنبياء:56] فطر السَّماوات، فطرهنَّ، فطركم، يعني: أوجدكم أول مرةٍ، خلقكم، وهكذا، والله أعلم.

ابن عباسٍ كان يقول: "ما كنتُ أعلم معنى: فاطر، حتى جاء أعرابيان يختصمان في بئرٍ، يقول أحدهما: أنا فطرتها"[11]، يعني: ابتدأتُ حفرها.

والطَّعام الذي يُؤكل في أول اليوم يُقال له: فطور، وتناوله: فطور، باعتبار أنَّه يُبتدأ به، وما يبتدئ به الصَّائم إذا أفطر يُقال له: فطور، وفعله يُقال له: فُطُور.

وبعضهم يُعبّر عن نفسه إذا كان مُفطرًا قال: أنا فاطر. وهذا غير صحيحٍ، إنما يُقال (الفاطر) للكبيرة السّن: ناقة فاطر، كبيرة: لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ [البقرة:68]، لا يقول: أنا فاطر، وإنما يقول: أنا مُفطر، وليس بفاطرٍ، فيما يتعلّق بالفطور. كلّ ذلك فيما ذكرتُه مُضمّن.

مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ [الملك:3]، قلنا: الشُّقوق، إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ [الانفطار:1]، كذلك أيضًا: السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ [المزمل:18]، يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ [مريم:90]، يتفطرن: يتشققن.

"فجّ: طريق واسع، وجمعه: فجاج".

هذه المادة عند ابن فارس تدلّ على تفتح وانفراج، ومن ذلك (الفجّ): الطَّريق الواسع[12]، تفتح وانفراج؛ فلذلك يقال: (الفجّ) تفريجك بين الشَّيئين، بين الرجلين، أو غيرهما، فجّ، ومنه جاءت السّعة المادية: مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ [الحج:27] يعني: الطَّريق الواسع. بعضهم يُقيّده ويقول: بين الجبلين. وبعضهم يقول: منه تجيء السُّرعة، يقال: أفجّ الرجل: إذا أسرع. ومن ذلك تكون الفجاجة لكلِّ ما لم ينضج، الفجاجة، يعني: هذا كأنَّه الآن الفجّ: الطَّريق الواسع، فهذا الطَّريق الواسع يكون مُهيئًا لإسراع الناس، بخلاف الطريق الضَّيق، يُقال: هذا الرجل ذو فجاجةٍ. وكلام فجّ بمعنى: السعة، يعني: أنَّه لم يضبط كلامه، ولم يحترز فيه، وإنما يُلقي الكلامَ على عواهنه من غير مراعاة ما تنبغي مُراعاته، يُقال: هذا كلامه فجّ، ورجل فجّ، ونحو ذلك.

فما لم ينضج يُقال له: فجّ، ويُقال للواسع كذلك أيضًا، يعني: لم يُقيّد بقيودٍ، ويُضبط بضوابط.

يُقال: (الفِجّ) للنّيء من الشَّيء، يُقال له: فجّ، طعام فِجّ، لحم فِجّ، يعني: لم ينضج.

والله -تبارك وتعالى- يقول: وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا [الأنبياء:31] يعني: طرق واسعة، وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ [الحج:27]، يَأْتُوكَ رِجَالًا يعني: على الأقدام، وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ أي: الدَّابة التي طال السَّير والسَّفر بها، فذهب ما بها من السِّمَن والزّهم، فأصابها الضُّمور مع طول المسير والسَّفر، وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ البُعد، فالسَّفر والمشقّة وبُعْد المسافة: وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، هكذا، والله أعلم.

"فار التّنور: يُقال لكل شيءٍ هاج وغلا حتى فاض، ومنه: وَهِيَ تَفُورُ [الملك:7]، وقولهم: فارت القدر".

هذه المادة أيضًا تدلّ على غليان[13]: "هاج وعلا حتى فاض"، نعم، ماذا عندكم في النُّسخة الثانية؟

"علا"، فار التّنور يُقال لكل شيءٍ هاج وعلا حتى فاض، عندكم في النسخة الثانية: "غلا"، في نُسختكم: "غلا"؟

مُداخلة: نعم.

الشيخ: أي نعم، المادة تدلّ على الغليان، فار القدر: غلا وفاض بسبب الغليان، فالفور هو الغليان، فار غضبُه: إذا جاش. وكذلك ما قيس على هذا كما يقول ابنُ فارس.

ابن فارس يُرجعها إلى معنى الغليان[14]، يقولون: فعله من فوره، يعني: في بدء أمره قبل أن يسكن مباشرةً. يُقال: فورًا، فهذه المادة، وهذه الكلمة: فور، على سبيل الفور، على سبيل كذا، يعني: مُباشرةً.

ولهذا بعضُ أهل العلم يقول: إنَّ المادة هذه ترجع إلى معنى السُّرعة والغليان، وكما يُقال في شدّة الغليان يُقال أيضًا في نفس هياج النار: تفور.

ويقولون: الفور في الفعل؛ إيقاعه في غليان الحال. كذا يُعبّر بعضُهم ليربطه بالغليان: الفور قبل سكون الأمر، يعني: والقضية ساخنة مُباشرةً، لا يُمهل؛ ولذلك يأتي بمعنى: السُّرعة، وكأنَّ هذا يرجع إلى معنى: الغليان، يعني: إذا قلنا: إنَّه جاء به فورًا، فهو في حال الغليان، إبان الغليان، دون الإمهال حتى يسكن، فهذا يكون من لازمه السُّرعة، فيكون من قبيل التَّفسير باللَّازم، وأنَّ السرعة ليست في أصل المعنى، وإنما هو تفسير باللازم.

ولاحظ: في قوله -تبارك وتعالى-: وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ [آل عمران:125]، أقوال المفسّرين فيها معروفة: وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ، فبعضهم يقول: مِنْ فَوْرِهِمْ يعني: من غضبتهم هذه.

تعرفون الوقائع كما ذكرنا في تعليقٍ في غير هذا الموضع قبل مدّةٍ قريبةٍ: أنَّ النبي ﷺ كان في مغازيه ونحو ذلك لا يُمهل الكفَّار، وإنما إذا بلغه عن قومٍ أنَّهم أرادوا شرًّا؛ أرسل إليهم سريةً، أو جيشًا، فكان هذا هديه -عليه الصلاة والسلام- دائمًا، فالسرايا التي كانت قبل غزوة بدر، والغزوات: نخلة، وغيرها، كانت سببًا لحنق الكفَّار؛ ولذلك -كما تعرفون- في خبر غزوة بدرٍ لما أراد عُتبة بن ربيعة أن يصرف القوم، فأبى أبو جهل، وحرَّك بعض أولياء ابن الحضرمي الذي قُتِل في سرية نخلة، فخرج أمام الناس، وشقَّ ثوبَه، وطلب الثَّأر؛ فاحتمت النفوسُ، واحتدمت المعركة. فهم خرجوا غاضبين انتقامًا لما وقع لهم من سرايا رسول الله ﷺ، وما حصل من أخذ تجارتهم وعيرهم، وقطع الطَّريق عليهم إلى الشَّام، فأغضبهم هذا.

فبعضهم يقول: وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ يعني: أهل الإشراك، الكفَّار في غضبتهم هذه، في مخرجهم. وبعضهم يقول: مِنْ فَوْرِهِمْ يعني: في مخرجهم هذا. وبعضهم يقول: مِنْ فَوْرِهِمْ يعني: بمعنى السُّرعة، جاءوا مُسرعين. وبعضهم يقول: هذا لا يرجع إلى المشركين، وإنما وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا أنَّهم وعدوا بالمدد من ناحيةٍ يترقبون مجيئه منها، فيقول: إن جاء من فورهم، يعني بالفور: الناحية، مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يعني: من ناحيتهم هذه، يُمدكم الله بمددٍ آخر من الملائكة، لكن هذا المدد ما جاء للمُشركين؛ فما جاء المددُ الآخر الذي هو الخمسة آلاف للمُسلمين؛ لأنَّه كان مُقيّدًا بهذا القيد.

هذه معانٍ يذكرها المفسّرون، لكن إذا قيل: أنَّ أصل الفور بمعنى: الغليان، أو الغضب، فهذا معنى مشهور، يكون بغضبتهم هذه. وإذا فُسّر بالإسراع فهذا من لازمه، التَّفسير له باللَّازم، والله أعلم.

وقد يُفسّر بالناحية -كما سبق-: مِنْ فَوْرِهِمْ أي: من ناحيتهم هذه، والله -تبارك وتعالى- يقول: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ [هود:40]، فار يعني: إذا امتلأ بالماء. وفُسّر بالتنور هنا، وهو الأقرب، التنور الذي يُخبز به، فيخرج منه الماء، يفور بالماء في أول الأمر، ثم بعد ذلك يكون الطُّوفان. وفسّره بعضُهم بغير هذا.

وفي قوله -تبارك وتعالى- أيضًا: إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ [الملك:7]، تفور يعني -كما سبق-: أنَّ ذلك يُقال للنار، تفور، يعني: تكون في حالٍ من الهياج والاضطرام.

"فوج: جماعة من الناس، وجمعه: أفواج".

هذه المادة تدلّ عند ابن فارس على تجمّع، ومن ذلك الفوج: الجماعة من الناس[15]: فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا [النبأ:18] يعني: جماعات، وَيوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا [النمل:83] يعني: جماعة، هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ [ص:59] يعني: جماعة، وكُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ [الملك:8] يعني: جماعة من النَّاس.

"فاكهين: من التَّلذذ بالفاكهة، أو من الفُكاهة، وهي السّرور واللَّهو".

أصل هذه المادة عند ابن فارس يدلّ على طيب واستطابة، ذلك الرجل الفَكِه هو الطّيب النَّفس[16]، يعني: الإنسان في حالٍ من التَّألق والارتياح، ونحو ذلك، فكه؛ إذا كان ذلك من عادته وسجيّته.

وكذلك يُقال لآكل الفاكهة، يُقال: فكه، الذي يأكل الفاكهة، ومن الباب: الفاكهة، بأي اعتبارٍ؟

أنها تُستطاب، وتُستظرف، وكذلك الـمُفاكهة: الممازحة، وما يُستحلى من الكلام، والتَّفكُّه ما المراد به في قوله: فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ [الواقعة: 65]؟

ابن فارس يقول: ليس من هذا، وهو من باب الإبدال. عند ابن فارس من باب الإبدال[17]؛ أنَّ المادة فيها إبدال حرف بحرف، فلها أصلٌ آخر، الأصل أنَّه: تفكنون، يعني: تندمون، هي مادة أخرى عند ابن فارس، حصل فيها إبدال حرفٍ بحرفٍ.

لكن -على كل حالٍ- بعضهم لا يُوافق على هذا، ويقولون: أنها لغة تميم، يقولون: يتفكنون، وأزد شنوءة يقولون: يتفكّهون، يتفكنون، يعني: يتندّمون. أصل هذا الاستعمال: يتفكّهون عند بعضهم، يعني: عند بعضهم كأنَّهم يطرحون التَّفكه عنهم، إذا طرحوا التَّفكه عنهم ماذا يكون حالهم؟

الحُزن، إذا طرحوا التَّفكه والفُكاهة، ونحو ذلك؛ فهم في حالٍ من الحُزن والكآبة. هكذا يُفسّره بعضُ أهل العلم.

وهنا ابن جُزي يقول: فاكهين من التَّلذذ بالفاكهة، أو الفُكاهة، وهي السرور واللَّهو.

الفاكهة تُقال للثِّمار كلِّها، مع أنَّ بعضهم استثنى شيئًا من ذلك، لكن المشهور أنَّ ذلك يُطلق على الثِّمار كلِّها، يُقال لها: فاكهة؛ ولذلك الرُّطب والتَّمر يُقال له: فاكهة، ويُقال: فكههم، يعني: أظرفهم بالـمُلَح. وكذلك أيضًا من الاستظراف، الإعجاب، يقولون: أمر فَكِه؛ يعني: مُعجب، كأنَّ هذا يُعجب هذا الشَّيء الظَّريف.

وكذا أيضًا حينما يُقال: تفكّه، كما يُقال فيمَن أكل الفاكهة: تفكّه، كذلك يُقال أيضًا فيمَن تمتع بالشَّيء؛ ولذلك من هذه الصّيغة يقولون: معنى ينتهي إلى التَّدبر والاعتبار كما سبق في تفكن: تندم، وتفكّه كذلك، يُقال: تفكن في هذا المعنى، يعني: تندم، لكن ما يجعلون هذا باعتبار أنَّها لغة.

فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ قيل: تتعجّبون. وقيل: تطرحون التَّفكه عنكم، بمعنى: أنَّكم تصيرون إلى حالٍ من الحزن: انقَلَبُوا فَكِهِينَ [المطففين:31] يعني: في حالٍ من الفُكاهة.

وفي قوله -تبارك وتعالى- عن أهل الجنة: فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ [يس:55]، فاكهون باعتبار أنَّهم بحالٍ من الفرح والغمرة، أو التَّفكّه بمعنى: الفرح، لكن هنا السياق يدلّ على أنَّهم في شغلٍ.

قال بعضُ السَّلف لما ذكر بعده عَلَى الْأَرَائِكِ [يس:56] قالوا: هم في شغلٍ بافتضاض الأبكار بحالٍ من السُّرور[18]، وما إلى ذلك من التَّمتع بالشيء -كما سبق-: وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ [الدخان:27]، فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ [الطور:18]، كلّ هذا، والله أعلم.

"فؤاد: هو القلب، وجمعه: أفئدة".

الفؤاد عند ابن فارس يرجع إلى أصلٍ صحيحٍ يدلّ على حُمّى وشدّة حرارة[19].

تقول: فأدت اللحم، يعني: شويته. يقول: من قياس الباب: الفؤاد، سُمّي بذلك لحرارته وتوقّده.

يُقال: إنَّ الفؤاد هو القلب، قيل له ذلك لكثرة تفؤده، يعني: لكثرة تقلّبه.

الراغب قيّد هذا بأن يكون ذلك الاستعمال –يعني- قد اعتُبر فيه معنى التَّفؤد، يعني: التوقد، يعني: حينما يقل بأنَّ ذلك يرجع إلى معنى الحرارة مثلًا، أو نحو ذلك، فيكون مُعتبرًا فيه معنى التَّوقد، أو نحو هذا.

هنا ابن جُزي قال: "الفؤاد هو القلب، وجمعه: أفئدة"، فسَّره بالمعنى المباشر، لكن ما أصل هذا التَّفؤد؟

التوقد، يتوقد بالخواطر، والأفكار، والإرادات، فهو لا يتوقف، دائم التَّوقد، فالإنسان قد يكون في مكانٍ لا يسمع فيه صوتًا، وقد يكون في مكانٍ مُظلمٍ، وقد يكون أعمى، وقد يكون قد أغمض عينيه؛ فلا يرى شيئًا، ولكن القلبَ لا يتوقف، فترد عليه الخواطر والأفكار، وكذلك يسترجع تلك المشاهدات التي شاهدها، ويتخيل ما لم يُشاهده، فهو دائم التَّفؤد.

والله -تبارك وتعالى- يقول: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ [هود:120] يعني: قلبك، واستعمال لفظ (الفؤاد) هنا يمكن أن يُراعى فيه ما ذُكِرَ: مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ، فهذا الفؤاد كثير التَّحول، والتَّقلب، والتَّوقد، فيحتاج إلى تثبيتٍ: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ [الإسراء:36]، فالسّمع والبصر ميزابان يصبّان في القلب، فيتحرّك بسبب هذه المسموعات والمشاهدات؛ تارةً يتأثر تأثرًا إيجابيًّا، وتارةً تأثرًا سلبيًّا.

وهكذا: وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ [الأنعام:113]، وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ [الأنعام:110].

لاحظ: أحيانًا يستعمل لفظ القلوب، وأحيانًا الأفئدة في العمى: وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج:46]، فهنا لا يوجد توقّد، عمى، لكن في التَّحرك يأتي لفظ: الفؤاد، والله أعلم.

"استفزّ، يستفزّ، أي: استخفّ".

(استفزّ) هنا أيضًا ابن فارس يُرجع هذا إلى أُصيلٍ يدلّ على خفَّةٍ وما قاربها، تقول: فزّه، استفزّه؛ إذا استخفّه: وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ [الإسراء:76] يعني: يحملونك على أن تخفّ عنها[20]. يعني: تخرج من بلدك، رجل فزّ، يعني: خفيف. وهذا فيه عبرة.

كثيرٌ من الألفاظ إذا عرفنا أصل المعنى ربما العاقل يربأ بنفسه عنها، الآن الإنسان الذي يُستفزّ يسهل استفزازه، هذا يدل على خفَّته، يطيش مُباشرةً، فهو لا عقلَ يحجزه، فهو رجل فزّ؛ ولذلك يُقال: فزّ فلان في كذا إلى كذا، بمعنى: خفَّ، فهذا الذي تكثر منه الاستجابة لدواعي الغضب، ونحو ذلك، يُقال: يستفزّ، فلان استفزّ فلانًا. فالعاقل يربأ بنفسه عن مثل هذه الأمور، ولا يُستخفّ.

وهكذا لو ترجع إلى بعض المعاني: الحماقة، وفلان حمقي، أو نحو ذلك من الحُمق، خلاف العقل، حُمق، أحمق، ومَن الذي يقبل أن يكون بهذه المثابة؟!

"فقه: فهم، ومنه: لَا يَفْقَهُونَ [الأنفال:65]، ومَا نَفْقَهُ كَثِيرًا [هود:91]".

 الفقه أرجعه أيضًا ابنُ فارس إلى أصلٍ واحدٍ يدلّ على إدراك الشَّيء والعلم به، تقول: فقهتُ الكلام، أفقهه[21].

وهكذا كل علمٍ بشيءٍ عنده فهو فقه، ثم اختُصّ ذلك بعلم الشَّريعة، وكذلك اختُصَّ بنوعٍ من علم الشَّريعة، ومعرفة الأحكام الشَّرعية الفرعية، وإلا فالأصل أنَّ الفقه يُقال للفقه الأكبر، والفقه الأصغر، كلّ ذلك يُقال له: فقه، يُقال للفهم: فقه، لكن في عُرف الاستعمال صار يُقال للعالم بالحلال والحرام: فقيه، وإلا فأصله الفهم.

لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء:44]، لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا [النساء:78]، يَفْقَهُوا قَوْلِي [طه:28] أي: يفهموا قولي، لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ [التوبة:122]، فهذا يرجع إلى معنى الفهم، لكنَّه إنما يكون الفقه في الأصل لما يدقّ في الفهم؛ ولهذا لا يُقال لكل علمٍ: فقه، إلا لما يحتاج إلى شيءٍ من الاستخراج، أو الاستنباط، أو الفهم الدَّقيق، ونحو ذلك؛ ولذلك فإنَّ بعضهم يقول: إنَّ أصله من الشقِّ والفتح في الأمور الحسيّة، وفي المعنوي يُقال: الفهم، لكنَّه -كما يقول بعضُهم- يُخصّ بالتوصل، يعني: ما كان يتوصّل به، يعني: بطريقٍ، يتوصل إلى غائبٍ بمُشاهد، ويكون أخصّ من مُطلق العلم، يُقال: (فقه) إذا فهم، وفقُه بمعنى: صار فقيهًا؛ إذا صار الفقه سجيةً له وملكة، يُقال: فَقُه.

هكذا فرَّق بعضُهم، وعلى كل حالٍ، المشهور أنَّ الفقه بمعنى: الفهم، لكن فيما يدقّ، والله أعلم.

"في: حرف جرّ بمعنى: الظَّرفية، وقد تكون للتَّعليل، وقد تكون بمعنى: مع، وقيل بمعنى: على".

"في" هذه هي حرفٌ من حروف المعاني -كما هو معلومٌ-، حرف جرٍّ، هنا ذكر له ابنُ جُزي الظَّرفية، وذكر التَّعليل، وأنَّها قد تكون بمعنى: مع، أو بمعنى: على.

عرفنا في بعض المناسبات: أنَّ مذهب الكوفيين أنَّهم يقولون بتضمين الحرف معنى حرف آخر، فـ(في) تأتي بمعنى حروفٍ أخرى مثل: على، أو مع، لكن الظرفية في الواقع هي أصلٌ فيها، يعني: هي أخصّ بالظرفية وأعلق، بل إنَّ بعض أهل العلم يقولون: إنَّ الحرف إذا استُعمل في غير معناه الأصلي فإنَّه يبقى مُشَمًّا معنى ذلك الحرف في أصله، يعني: لا تذهب منه رائحته، تبقى، حينما تُلحظ في ألوان الاستعمال.

و(في) هذه الواقع أنها ليست فقط بهذه المعاني التي ذكرها ابنُ جُزي، فتأتي ظرفية، سواء مكانية، أو زمانية؛ ظرف مكان: "في المسجد" هذا ظرف مكان، و"في الصبح" هذا ظرف زمان، وتأتي أيضًا للمُصاحبة، وللتَّعليل، والاستعلاء، ومُرادفة للباء، وكذلك أيضًا مُرادفة لـ(إلى)، ومُرادفة لـ(من)، وللمُقايسة، وهي الدَّاخلة بين مفضول سابق، وفاضل لاحق، وتأتي للتَّعويض؛ وهي الزائدة عوضًا من أخرى محذوفة، وتأتي للتوكيد؛ وهي الزائدة في مثل قوله -تبارك وتعالى-: وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِاسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا [هود:41]، ارْكَبُوا فِيهَا بعضهم يقول: زائدة؛ اركبوها.

وقد مضى الكلامُ على إطلاق لفظ الزيادة في القرآن، وأنَّ بعضهم يمنع من هذا تأدُّبًا، وهم لا يقصدون –أعني: الذين أطلقوا مثل هذا الإطلاق: الزيادة- أنها حشو، وإنما يقصدون زائدة إعرابًا؛ ولذلك فإنَّ بعضهم يُسميه: صلة، أو نحو هذا، من باب التَّأدب في التَّسمية.

على كل حالٍ، هذه عشرة معانٍ لـ"في" كما ترون، وابن جُزي إنما ذكر نحو أربعة، أليس كذلك؟ أربعة معانٍ.

في قوله -تبارك وتعالى-: الم ۝ غُلِبَتِ الرُّومُ ۝ فِي أَدْنَى الأَرْضِ [الروم:1-3]، هذه ما نوعها: فِي أَدْنَى الأَرْضِ؟

أدنى الأرض يعني: من جزيرة العرب كما يقول بعضُهم، فالواقعة حصلت في أطراف الشَّام، في أدنى الأرض، فهذه للظَّرفية المكانية.

قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ [الأعراف:38] يعني: في جملة أُممٍ، مع أُممٍ، فهذه للمُصاحبة: فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ، حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا [الأعراف:38]، ادَّارَكُوا فِيهَا، هذه للظَّرفية المكانية، يعني: في النار.

قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ [يوسف:32] هذه للسَّببية، يعني: بسببه، تلوموني في فلان، يعني: بسببه، وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ [يوسف:32] إلى آخر ما ذكره الله -تبارك وتعالى-.

وهكذا في قوله: لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ [النور:14] يعني: بسببه، على قول بعض المفسّرين، فتكون هنا للسَّببية.

وفي قوله: وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [طه:71] أنها بمعنى: على، لكن لاحظوا: هذا ليس محلّ اتِّفاقٍ في جميع المواضع، لكن هم يقولون: أنَّ جذع النَّخلة ...، لاحظ أنَّه يُشَمّ معنى الحرف الأصلي الذي هو الظَّرفية، هو لا يُريد أنَّه يُدخل هؤلاء السَّحرة –سابقًا طبعًا- في جوف الجذع، لا، وإنما يُصلبون على الجذع، لماذا جذع النَّخل؟

قالوا: أخشن جذعٍ هو جذع النَّخل، فإذا صُلبوا عليه؛ فهذا أشدّ في الإيلام، فهو لشدّة الربط إلى الجذع كأنَّه أدخلهم فيه، لاحظ البقية من معنى الحرف الذي هو الظَّرفية (في)، كأنَّه أدخلهم فيه من شدّة الربط، كأنَّه جعلهم في داخله، فجعله ظرفًا لهم: وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ يتوعدهم، ما قال: في جذوع الشَّجر، وإنما قال: فِي جُذُوعِ النَّخْلِ؛ لأنَّ هذا أشدّ في الإيلام.

لكن هنا على هذا المعنى: وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ يعني: على جذوع النَّخل، باعتبار أنَّه لا يريد أن يضعهم في جوف الجذوع، وإنما على، فتكون هنا بمعنى: الاستعلاء.

وهكذا: فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ [إبراهيم:9] على خلافٍ في المراد بذلك، فِي أَفْوَاهِهِمْ يعني: إلى أفواههم. هل المقصود ردّوا أيديهم في أفواه الأنبياء لإسكاتهم، أو لأفواه أنفسهم كأنَّهم بُهتوا، أو لشدّة تعجّبهم ردُّوا أيديهم في أفواههم؟ وبعضهم يقول غير هذا.

وتفسير الأيدي أيضًا: هل هي اليد الجارحة المعروفة، أو المقصود بها غير ذلك؟

ليس هذا هو موضع الكلام على هذه القضية، وإنما الشَّاهد فقط على هذا التفسير، على هذا المعنى.

وهكذا في قوله -تبارك وتعالى-: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ [التوبة:38]، يقولون: هذه للمُقايسة، مُقايسة بمتاع الدنيا ومتاع الآخرة.

وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِاسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا [هود:41] يقولون: الباء هذه زائدة للتوكيد. وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا اركبوها، مثلما تقول: دخلت في البيت، في الدار. يعني: دخلت الدار، يقولون: أنها زائدة للتوكيد.

والمرادفة للباء هذه بعضُهم يُفسّر بها قوله -تبارك وتعالى-: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ [فصلت:26]، وَالْغَوْا فِيهِ بعضهم يقول: الغوا به، باعتبار أنَّها من لغى بكذا؛ إذا رمى به، يعني: يقصدون نبذه، ونحو ذلك.

كذلك في قوله تعالى: فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ بعضهم يقول: بأفواههم. يعني: بعضهم فسّر ردّ الأيدي بتكذيبهم، على هذا المعنى تكون بمعنى الباء: بتكذيبهم. لكن إذا قيل: اليد الحسيّة في أفواههم، يعني: إلى أفواههم.

المرادفة لـ(من) على خلافٍ طبعًا، لكن كما يقول بعضُهم كالزجاج في قوله تعالى: فِي تِسْعِ آيَاتٍ [النمل:12] يعني: من تسع آيات، يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ [النمل:25] يعني: من السَّماوات، على قول بعضهم. فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا [البقرة:200] بعضهم يقول: بمعنى: من، من الدنيا، (في) بمعنى: من الدنيا.

وكما سبق في بعض المناسبات: أنَّ مذهب البصريين أدقّ، وهو الذي يُسميه ابنُ القيم -رحمه الله-: مذهب فُقهاء النَّحويين، باعتبار أنَّهم يقولون بتضمين الفعل أو ما يقوم مقامه معنى الفعل، فتكون فيه زيادة في المعنى، كأنَّه فعل، وفعل آخر صحَّ أن يُعدّى بهذا الحرف؛ لتكون في ذلك زيادة في المعنى.

والزائدة -على كل حالٍ- مما يُمثّل به بعضهم: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا يعني: آتنا الدنيا. لكن هذا بعيد، وقال عنه أبو حيان: أنه قول ساقط. وهذا صحيح.

وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا كما سبق، يعني: هذا على الأقلّ أقرب مما قبله، يعني: اركبوها، لكن يوجد في كلام العرب بشعرهم ما هو بهذا المعنى -والله أعلم-، لكن هنا بمعنى: مع: فِي تِسْعِ آيَاتٍ مع تسع آيات. لاحظ: هناك فُسّر بمن، بينما ابن عطية يُفسّره بمعنى: مع، مع تسع آيات. وهذه -على كل حالٍ- ليست محل اتِّفاقٍ بين المفسّرين، ولا النَّحويين، لكن كما قيل:

والشَّأن لا يُعترض المثال إذ قد كفى الفرض والاحتمال[22]

فتُورد الأمثلة التي تُوضّح فقط، وليس المقصود هو تحقيق المعنى في مثل هذه المواضع في بيان هذه الألفاظ والغريب.

  1. انظر: "مقاييس اللغة" لابن فارس (4/478)، و"ديوان طرفة بن العبد" (ص26).
  2. انظر: "مقاييس اللغة" لابن فارس (4/488).
  3. انظر: المصدر السابق (4/489).
  4. انظر: المصدر السابق (4/469).
  5. انظر: المصدر السابق (4/469).
  6. انظر: المصدر السابق (4/440).
  7. انظر: "نفحة اليمن فيما يزول بذكره الشجن" للشرواني (ص217).
  8. انظر: "مقاييس اللغة" لابن فارس (4/441).
  9. انظر: المصدر السابق (4/510).
  10. أخرجه البخاري: كتاب الجنائز، باب ما قيل في أولاد المشركين، برقم (1385).
  11. أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان"، برقم (1682)، وقال المناوي: "أخرجه أبو عبيد في "غريب الحديث"، وفي "فضائل القرآن" بإسنادٍ حسنٍ". انظر: "الفتح السماوي بتخريج أحاديث القاضي البيضاوي" (2/602).
  12. انظر: "مقاييس اللغة" لابن فارس (4/437).
  13. انظر: المصدر السابق (4/458).
  14. انظر: المصدر السابق (4/458).
  15. انظر: المصدر السابق (4/458).
  16. انظر: المصدر السابق (4/446).
  17. انظر: المصدر السابق (4/446).
  18. انظر: "تفسير القرآن من الجامع" لابن وهب (2/22).
  19. انظر: "مقاييس اللغة" لابن فارس (4/469).
  20. انظر: المصدر السابق (4/439).
  21. انظر: المصدر السابق (4/442).
  22. انظر: "نشر البنود على مراقي السعود" للشنقيطي (2/244).

مواد ذات صلة