الجمعة 27 / جمادى الأولى / 1446 - 29 / نوفمبر 2024
(29- أ) حرف الفاء من قوله الفاء إلى حرف القاف من قوله قدر
تاريخ النشر: ٠٥ / رجب / ١٤٣٦
التحميل: 1642
مرات الإستماع: 1448

الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدِّين.

أما بعد: قال المصنف -رحمه الله تعالى-:

"الفاء ثلاثة أنواع: عاطفة، ورابطة، وناصبة للفعل بإضمار أن، ومعناها: الترتيب، والتَّعقيب، والتَّسبب". هكذا في النُّسخة، وفي جميع النُّسخ الخطيّة: "والتَّسبيب".

الشيخ: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

أما بعد: فالفاء التي جاء الحديثُ عنها هنا هي الفاء التي هي حرف معنًى، وليس المقصود بذلك حرف التَّهجي، فحينما يُقال: فاز، فالفاء هنا في بناء الكلمة حرف تهجٍّ، لا معنى لها بمُفردها، وإنما الكلام في معاني الحروف إذا كانت هذه الحروف لها معنى، وهذا الحرف ليس له عملٌ، يعني: ليس هذا من الحروف المؤثرة في الإعراب: لا في رفع، ولا في نصب، ولا في جرّ، ولا في جزم.

تعلمون أنَّ من الحروف حروف المعاني: ما له أثرٌ في الإعراب، فحروف الجرِّ من حروف المعاني، وهي تُؤثر على ما دخلت عليه من الأسماء.

هذه الفاء لها ثلاثة استعمالات:

الأول: أن تكون عاطفةً.

والثاني: أن تكون رابطةً، والمقصود بذلك أن تكون رابطةً للجواب بالشَّرط -جملة جواب الشرط بالشرط-، هذا المقصود بالرابطة، كما في قوله -تبارك وتعالى-: فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ [المائدة:115] من هذه شرطية، ويكفر هذا فعل الشَّرط: فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ الآية. هذا المعنى الثاني: الرابطة.

المعنى الثالث الذي ذكره المؤلف: أن تكون ناصبةً، يقول: أن تكون ناصبةً للفعل بإضمار أن، ليست هي النَّاصبة، ولكن الذي أثَّر النَّصب هو أن.

وكما قلنا: إنَّ الفاء لا تعمل، فهي تكون ناصبةً للفعل بإضمار أن؛ إن وقع المضارعُ بعد فاء السَّببية المسبوقة بنفي أو طلب محضين. بهذا القيد، ليس دائمًا، وإنما إذا كانت مسبوقةً بنفي أو طلب محضين، فهنا يجب النَّصب: لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا [فاطر:36]، ما قال: فيموتون، فجاء الفعل منصوبًا، الفعل المضارع: يموتوا.

وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي [طه:81]، فيحلّ، ولاحظ هنا أنها مسبوقة بنفي محضٍ: لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا في المثال الأول. وكذلك أيضًا النَّهي: وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فهذا طلب؛ لأنَّ الطلب يكون طلبَ فعلٍ، وطلبَ تركٍ، وتكون أن والفعل -أن هذه المقدّرة والفعل- في تأويل مصدر معطوف بالفاء على مصدر متصيد من الفعل قبلها، يعني: يمكن أن نعرفه، أو نتعرف عليه، أو نتلمسه من الفعل قبلها، والتقدير: لا يحصل عليهم قضاء، يعني: فموت، موت مصدر: لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا، لا يحصل عليهم قضاء فموت. وفي المثال الثاني: ولا يكن منكم طغيان حلول غضب، فيحلّ، وهكذا.

وأمَّا ما ذكره بعد ذلك من قوله: "ومعناها: الترتيب، والتَّعقيب، والتَّسبيب، أو التَّسبب"، فهذا في الكلام في معنى الفاء، يعني: ماذا تُفيد هذه الفاء؟ يعني: هي تأتي عاطفة، وتأتي رابطة، وتأتي ناصبة للفعل بإضمار أن، هي إذا دخلت في الكلام فما الذي تُفيده؟

تُفيد الترتيب، والتَّعقيب، والتَّسبيب، هذا من جهة المعنى الذي تُفيده، ويأتي إيضاح ذلك -إن شاء الله-، لكن العلماء -رحمهم الله- يذكرون للفاء أيضًا أحوالًا أخرى غير ما ذكره المؤلف؛ من ذلك: أن تكون عندهم زائدة، وهذا في مواضع، من ذلك: في خبر المبتدأ، إن كان الخبر أمرًا، أو نهيًا، وحمل عليه، هذه المواضع يختلفون فيها، وليست محل اتِّفاق، والمقصود بذلك هو التَّمثيل للإيضاح بصرف النَّظر عن هذه المحامل: هل هي راجحة، أو مرجوحة؟ إنما المقصود التَّقريب والإيضاح بالمثال فقط على قول بعضهم، يعني: نحن نذكر هنا الشيء الذي قال به بعضُ أهل العلم إذا كان ذلك يُوضّح المراد، يعني: بهذا الاعتبار.

فمن ذلك مثلًا من زيادتها على ما قاله الزجاج: في قوله -تبارك وتعالى-: هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ [ص:57]، لاحظ: هنا جاءت الزيادة في خبر المبتدأ، وذلك إذا كان الخبرُ أمرًا أو نهيًا، هنا أمر: فَلْيَذُوقُوهُ يقولون: إنها زائدة[1]، كما تُزاد أيضًا في نحو قوله: بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ [الزمر:66] على قول بعضهم هنا أنها زائدة.

وقد عرفنا الكلام في الزيادة في القرآن، وهل يُقال: فيه شيء زائد؟ لكن يقصدون أنَّها زائدة إعرابًا: بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ.

وكذلك في قوله -تبارك وتعالى-: وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ۝ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ [المدثر:3-4] يعني: وربّك كبّر، وثيابك طهّر. هذا التَّقدير، والله أعلم.

وعلى كل حالٍ، إذا أردنا أن نفصل ما أجمله المؤلف فيما سبق: فالفاء العاطفة، يقول: تكون عاطفةً، أليس كذلك؟

هذه الفاء العاطفة تُفيد واحدةً من ثلاثة أمور:

الأمر الأول: الترتيب. تُفيد الترتيب، وهذا الترتيب قد يكون معنويًّا: قام زيد فعمرو. أو يكون هذا الترتيب في الذكر الذي يُسمّونه: بالترتيب الذكري، والمقصود به حُسن ذكر ما بعدها بأثر ما قبلها، وهذا يكون في مواضع، من ذلك: عطف الـمُفصّل على المجمل: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ [البقرة:36]، فهذا تفصيلٌ لما أُجمل قبله.

لاحظ: هذه أفادت الآن ترتيبًا بهذه المذكورات: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ يعني: هذا الترتيب في الذكر، وليس في الوقوع؛ لأنَّ ذلك الذي وقع من الشيطان حينما أزلهما؛ أزلّ الأبوين بإخراجهما من الجنة، فجاء التَّفصيل بعده.

وهكذا في قوله: فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً [النساء:153]، سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ هو قولهم: أرنا الله جهرةً. هذا هو السؤال، فليس هذا من قبيل الترتيب المعنوي؛ الترتيب في الوقوع، وإنما هو من باب الترتيب في الذكر فقط، الترتيب الذكري بتفصيل ما أُجمل قبله.

وهكذا يكون ذلك أيضًا بذم الشيء أو مدحه بعد ذكره، ذمّ الشيء، هذا كلّه داخلٌ في الترتيب الذكري: ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ [الزمر:72]، فبئس، بئس للذَّم: بئس مثوى المتكبرين.

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [الزمر:74]، فنعم هذه تُفيد الترتيب في الذكر، هنا في المدحِ، والذي قبله في الذَّم.

ومن المعاني التي تأتي لها: الترتيب، والتَّعقيب.

التَّعقيب مثل: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً [الحج:63] يعني: متى تُصبح الأرض مُخضرّة؟

بعد إنزال الماء من السَّماء، ومعلومٌ أنَّ الترتيب فيها في كل شيء بحسبه، يعني: الأصل أنها تُفيد الترتيب المباشر، هذا الأصل، تقول: دخل زيد فعمرو، يعني: جاء بعده مُباشرةً، ولكن تعقيب كل شيءٍ بحسبه، فإذا رأيتَ في القرآن التَّعقيب بالفاء، فالأصل أنَّه للتَّعقيب المباشر، وأن (ثمّ) تُفيد التراخي.

وهذا يُؤخذ منه بعض المعاني واللَّطائف كما لا يخفى، ولكن ذلك ليس بهذا الإطلاق، وإنما يُقال: ترتيب كل شيءٍ بحسبه، فإذا أدركت هذه الجملة وهذا المعنى انحلَّت عنك إشكالات.

فمثلًا في قوله -تبارك وتعالى-: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً هي للتَّعقيب المباشر، فمَن نظر إلى أنها للتَّعقيب المباشر تجد في أقوال بعض المفسّرين مَن حمل ذلك على جبال مكّة، يقولون: جبال مكّة فيها عنصر النحاس، فإذا نزل عليها ماء المطر رأيتها تضرب إلى الخُضرة، ليس بالنبات، وإنما الصُّخور يكون فيها لون الخُضرة.

هل هذا هو المراد؟

الجواب: لا، الله -تبارك وتعالى- يذكر ذلك على أنَّه من آياته ودلائل قُدرته على إحياء الموتى؛ ولذلك الذي حمل هؤلاء على هذا القول هو أنَّهم نظروا إلى الفاء على أنها تُفيد التَّعقيب المباشر، وكأنَّهم نظروا إلى أنَّ النباتَ لا يخرج مباشرةً بعد نزول المطر، وإنما يحتاج إلى مُهلةٍ ووقتٍ، لكن إذا أدركنا هذا المعنى: أنَّ التعقيب في كل شيءٍ بحسبه انحلَّ هذا الإشكال، كما في قوله -تبارك وتعالى-: ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا [المؤمنون:14]، لاحظ: التَّعقيب في ذلك بالفاء، مع أنَّه بين كل مرحلةٍ ومرحلةٍ من هذه المراحل أربعون يومًا، كما في حديث الصَّادق المصدوق.

فالجواب عن هذا هو: أنَّ التعقيب في كل شيءٍ بحسبه.

فهذه المعاني: الأول: الترتيب، تُفيد الترتيب، وكذلك أيضًا هي تُفيد التَّعقيب المباشر، هذا في الأصل، كذلك أيضًا تُفيد السَّببية، يعني: تسبب ما بعدها عمَّا قبلها، هذه التي يُسمّونها: فاء التَّفريع، وقد تدخل على السَّبب، فتكون بمعنى: لام التعليل: فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ [ص:77]، لماذا أُخرج منها؟

هذه أفادت التَّعليل والتَّسبيب؛ لكونه متَّصفًا بهذه الصِّفة، وهذا كثيرٌ في القرآن، وهذا الذي يُسميه الأصوليون: دلالة الإيماء والتَّنبيه، كما قال في "المراقي": دلالة الإيماء والتَّنبيه[2]، هذه قال: أن يقرن الوصفَ بحكمٍ، يعني: لو لم يكن عِلّة له لكان ذلك معيبًا عند العقلاء، تقول: سهى فسجد، ما عِلّة السجود؟ السَّهو، تقول: وقع فانكسر، ما عِلّة الانكسار؟ الوقوع، فلو كانت له عِلّة أخرى غير الوقوع فلا معنى لترتيبه على الوقوع بالفاء، فهي تدلّ على ترتيب ما بعدها على ما قبلها، وأنَّ ذلك أيضًا يكون للسَّببية، أو للتَّعليل، وهذه السَّببية هي الغالبة في العاطفة لجملةٍ.

فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ [القصص:15]، (قضى عليه) هذه جملة فعلية: فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ، ما عِلّة هذا القضاء عليه، موت هذا الرجل؟ أنَّ موسى وكزه، لو قيل: إنَّه مات بسبب سكتةٍ قلبيَّةٍ، أو نحو ذلك، فلا معنى لذكر ذلك مُرتَّبًا على الوكز، وبذكر الفاء.

فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ [البقرة:37]، ما سبب هذه التوبة؟

توبة الله على عبده أن يرجع عليه بالقبول؛ قبول التوبة، تقول: تاب فتاب اللهُ عليه، مَن تاب تاب اللهُ عليه، يعني: قبل توبته في هذا الموضع، فتاب عليه، ما العِلّة؟ ما السَّبب في توبة الله على آدم ؟

تلك الكلمات: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا الآية [الأعراف:23]، فهذه هي الكلمات: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ، فقال آدمُ هذه الكلمات؛ فتاب الله -تبارك وتعالى- عليه.

وكذلك أيضًا العاطفة للصّفة: لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ * فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ [الواقعة:52-54]، فشاربون، فمالئون، هذه صفة، عطفت صفة، وقد تأتي أيضًا في ذلك لمجرد التَّرتيب، من غير مُراعاةٍ للسَّببية.

هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ ۝ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ ۝ فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ [الذاريات:24-26].

إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ ۝ فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ هذا ترتيب هذه الأمور في وقوعها: دخلوا فقالوا: سلامًا، يعني: بعد الدُّخول قالوا: سلامًا، بعد ذلك ذهب في خُفيةٍ وسُرعةٍ إلى أهله، فأحضر لهم عجلًا سمينًا: فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ [الذاريات:27]، فلمَّا لم يأكلوا: فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً [الذاريات:28]، فكلّ هذا للترتيب.

لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [ق:22].

فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ هو كان في غفلةٍ في الدنيا، فلمَّا عاين الحقائق في الآخرة كان ذلك كشفًا للغطاء.

فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ [الذاريات:29]، أقبلت في صرةٍ، يعني: في صيحةٍ، فصكّت وجهها، هذا للترتيب، يعني: ولولت وصاحت مُتعجّبة، ثم أيضًا كذلك وقع منها ذلك: صكّت وجهها.

وعلى كل حالٍ، هذه الفاء لها مع الصِّفات ثلاثة أحوال: أن تدلّ على ترتيب معانيها في الوجود، أو أن تدلّ على ترتيبها في التَّفاوت من بعض الوجوه، أو أن تدلّ على ترتيب موصوفاتها في ذلك. ترتيب الموصوفات يعني: ترتيب المعاني في الوجود: وَالصَّافَّاتِ صَفًّا ۝ فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا ۝ فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا [الصافات:1-3].

ترتيبها في التَّفاوت من بعض الوجوه كأن تقول مثلًا: خذ الأكمل فالأكمل، أو الأكمل فالأفضل، ونحو هذا. كذلك أيضًا ترتيب موصوفاتها بحسب تفاوتها: رحم الله المحلّقين ... فالمقصّرين[3] مثلًا.

قال:

"حرف القاف: قُرآن: له معنيان: القرآن العزيز، ومصدره: (قرأ) أي: تلا".

وفي بعض النُّسخ:

"الكتاب العزيز، ومصدر (قرأ) أي: تلا، ومنه قوله تعالى: إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ [القيامة:17]".

القرآن تعرفون أنَّ بعض أهل العلم يقولون: إنَّه غير مُشتقّ، أنَّه علمٌ على الكتاب المنزل على النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-. وهذا قولٌ معروفٌ، مشهورٌ عن الإمام الشَّافعي[4]-رحمه الله-، وعامَّة أهل العلم يقولون: إنَّه مُشتقّ. وهذا الذي مشى عليه ابنُ جُزي -رحمه الله-، قال: ومصدره (قرأ) أي: تلا، فهو يرى أنَّه من قبيل المشتقّ.

وابن فارس -رحمه الله- يُرجع هذه المادة في أصلها إلى معنى الجمع[5]، هي ترجع إلى معنى الضمِّ والجمع، من ذلك: (قرى) بالألف المقصورة، هو يتحدث عن الحرف المعتلّ، يعني: القاف، والراء، والحرف المعتل. قرى، القرية من قرى، قرى بالألف المقصورة، بأي اعتبارٍ؟

لاجتماع الناس فيها.

(قرية) لا تُقال لما عهده الناس اليوم في عُرف الاستعمال من أنَّها مجمع البنيان الصَّغير، وإنما في لغة العرب، وهكذا جاء في القرآن: تُستعمل في مجمع البنيان، سواء كان ذلك صغيرًا أم كبيرًا، كلّ مكانٍ اتّصلت به الأبنية يُقال له: قرية، وقد تكون هذه القرية بلادًا شاسعةً كبيرةً: عاصمة، وقد تكون صغيرةً، وقد تُطلق القرية ويُراد أهلها: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ [الأعراف:4]، فالمقصود أهل القرية، الذين أُهلكوا هم أهلها: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ [محمد:13]، مَن الذين أخرجوه؟

هم أهل قريته؛ أهل مكة.

وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ [هود:102]، القرية تكون ظالمةً! المقصود هنا أهل القرية.

وقد يُراد نفس البلدة، وليس أهل البلدة: وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ [الأعراف:82] يعني: البلد.

وهكذا في قولهم: لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا [الأعراف:88]، المقصود البلد.

فالقرية تُقال لما اتّصل، المكان الذي اتّصل به البُنيان، وتُقال أيضًا للسَّاكنين، والسياق هو الذي يُبين ذلك.

ويُقال: قريت الماء.

لاحظ معنى الجمع في استعمالاتها: (قريت الماء) بمعنى: جمعته، ويقولون: ما قرأت هذه النَّاقة سلا، يعني: ما حملت قط، يعني: ما اطم رحمُها على حملٍ.

قالوا: ومن ذلك القرآن، كأنَّه سُمّي بذلك لجمعه من الأحكام، والقصص، والأمثال، والعقائد، وما إلى ذلك، قيل له: قرآن.

وبعضهم يقول: لأنَّه جمع ثمرة الكتب التي قبله، قرآن من معنى الجمع.

وبعضهم يقول: معنى الجمع فيه اجتماع السور والآيات.

وهو قرآن بهذا الاعتبار، بصرف النَّظر عن هذه التَّعليلات، لكن الملاحظ في ذلك هو الجمع.

ويُقال: أقرأت المرأة. بعضهم يقول: هو من هذا أيضًا، وذكروا أنَّها تكون كذلك في حال طُهرها، كأنَّها جمعت دم الحيض في رحمها، فلم يخرج، نعم، فلم يخرج، بقي مُجتمعًا في جوفها، يُقال: إقراؤها؛ خروجها من طهرٍ إلى حيضٍ، أو من حيضٍ إلى طهرٍ. قالوا: والقُرء: وقتٌ يكون للطُّهر مرةً، وللحيض مرةً. هذا كلام ابن فارس[6].

ولذلك اختلفوا في قوله -تبارك وتعالى-: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228]، هل المقصود به الحيض: ثلاث حيضات، أو المقصود به الطُّهر؟

فيه خلافٌ معروفٌ، مشهورٌ، وذلك يرجع إلى أنَّ القُرء من الأضداد؛ فيُقال للطُّهر، كما يُقال أيضًا للحيض، لكن المقصود هنا بيان هذا المعنى المشترك، وهو الجمع بلفظة (قرى).

ويُقال: قرأ، يقرأ، قراءةً، قرآنًا، يعني: تلا: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ [الأعراف:204]، شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة:185]، إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا [يوسف:2]، وكذلك في قوله -تبارك وتعالى-: وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ [الإسراء:106]، إلى غير ذلك، والله أعلم.

قرآن مصدر (قرأ)، أي: تلا: إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ۝ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ بمعنى: تلوناه فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ [القيامة:17-18] أي: فاتَّبع تلاوته، فهو مصدر (قرأ)، وليس مصدره (قرى)، هذا في أيّ النُّسخ الذي مصدره (قرى)؟

في هذه "الضياء"، مصدره (قرى)، قرأ هذا فعل ماضٍ، ليس مصدرًا، وإنما القراءة، نعم، القراءة هي المصدر، وقرأ أي: تلا، فالقرآن بعضهم يقول: هو اسم علمٍ على هذا الكتاب غير مُشتقّ. وبعضهم يقول: مُشتقّ. مُشتقّ من ماذا؟

بعضهم يقول: من قرأ. وبعضهم يقول: من القراءة. ولا شكَّ أنَّ الاشتقاق من المصادر أولى من إعادة ذلك إلى الأفعال.

النُّسخ المصححة عندك ماذا؟

مُداخلة: في جميع النُّسخ له معنيان: الكتاب العزيز، ومصدر (قرأ).

الشيخ: ومصدر (قرأ)، يعني: يُقال: القراءة، قرآن: إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ [النحل:98]، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، نعم.

مداخلة: ألا يُؤثر فيه هذا الحكم؟ ابن جُزي يرى أنَّ القرآن علمٌ جامدٌ.

الشيخ: أنَّه ميّزه عن المصدر؟

مداخلة: نعم.

الشيخ: ليس بالضَّرورة، وما ذكرتُه قبل أيضًا ليس بالضَّرورة؛ من أنَّه يرى أنَّه مُشتقّ، وكما ذكرتُ لكم: أنَّ ابن جُزي -رحمه الله- يذكر المعنى المباشر، فالقرآن ما هو؟ هو الكتاب العزيز، هذا القرآن، ومصدر (قرأ) يعني: إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ۝ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ هذا مصدر (قرأ)، فهو يأتي بالمعاني المباشرة، والله أعلم.

"قنوت، له خمسة معانٍ: العبادة، والطَّاعة، والقيام في الصَّلاة، والدُّعاء، والسُّكوت".

هذه المادة (القنوت) يذكرون لها هذه المعاني، وأكثر من ذلك أيضًا، يذكرون معانٍ كثيرة للقنوت، لكن ابن فارس -رحمه الله- أرجعها إلى معنى الطَّاعة والخير في دينٍ، يقول: لا يعدو هذا الباب[7]. الأصل فيه الطَّاعة، ثم سُميت كل استقامةٍ في طريق الدِّين، قيل لها: قنوت، وهكذا قيل لطول القيام في الصلاة: قنوت، وسُمّي السُّكوت في الصلاة والإقبال عليها أيضًا قيل له: قنوت.

فهذا الأصل الذي يُرجع إليه عند ابن فارس: الطاعة، وخير في دين.

وهذه المعاني التي ذكرها ابنُ جُزي -رحمه الله- ترجع إلى ما ذكره ابنُ فارس؛ ولهذا فإنَّ بعضهم يُفسّر القنوت بالطَّاعة، وفي بعض المواضع قد يُفسَّر بالسكوت: وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238]، وكذلك أيضًا بعضهم فسّره بالخشوع في الصَّلاة، وبعضهم فسَّره بالدعاء، وبعضهم فسَّره بالطاعة: وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ يعني: مُطيعين، باعتبار أنَّ أصل القنوت عند بعض أهل العلم هو: الطاعة، وهذه الطَّاعة قد تكون في الصَّلاة، وقد تكون خارج الصَّلاة.

لكن ابن جرير -رحمه الله- يُرجح أن يكون المرادُ بقوله: وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ يعني: مُطيعين، باعتبار أنَّ الأصل عنده أنَّ القنوت معناه: الطاعة[8]، القنوت عند ابن جرير بمعنى: الطاعة، فتكون الطاعةُ لله في الصلاة بالسُّكوت عمَّا نهى الله عنه.

وقد تكون الطاعةُ لله فيها بالخشوع، وخفض الجناح، وإطالة القيام. وقد تكون بالدعاء. فهذا كلّه مما أُمِرَ به المصلي وجوبًا، أو ندبًا.

والعبد في هذا كلّه مُطيعٌ لله -تبارك وتعالى-، وهو بذلك يكون قانتًا لربه، فرجع أصله إلى الطَّاعة لله ، فاستُعمل في كل ما أطاع الله به، ما يُطيع العبدُ به ربَّه، عند ابن جرير يرجع إلى معنى الطَّاعة في كل الاستعمالات، فمَن فسّره بالدعاء فهذه طاعة، والدّعاء مشروعٌ في الصلاة، وهكذا السكوت في الصلاة طاعةٌ لله -تبارك وتعالى-.

وشيخ الإسلام -رحمه الله- له رسالة في القنوت؛ تتبّع ذلك في القرآن، وفي كلام العرب أيضًا، وأرجعه أيضًا إلى دوام الطَّاعة[9]، فالمصلي إذا طال قيامه، أو ركوعه، أو سجوده؛ فهو قانتٌ في ذلك كلّه لربِّه -تبارك وتعالى-، كما قال الله : أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ [الزمر:9]، فجعله قانتًا في هذه الأحوال: السجود، والقيام، كما سمّى إطالة القيام في الصَّلاة بالقنوت: أفضل الصَّلاة طول القنوت[10]، يعني: طول القيام؛ لأنَّه يُطيل فيها الطَّاعة، ولو صلَّى قاعدًا لقنت وهو قاعد، وكذلك إذا صلَّى على جنبٍ، فالقيام الذي يكون قبل الركوع يُقال له: قنوت.

ونقل شيخُ الإسلام عن ابن قتيبة أيضًا أنَّه يرى أنَّ أصل القنوت يرجع إلى الطَّاعة، باعتبار أنَّ جميع الخلال من الصلاة، والقيام فيها، والدُّعاء، وغير ذلك يكون كلّ ذلك من قبيل الامتثال لأمر الله .

ونقل أيضًا عن غيره كالزَّجاج أنَّه يرى أنَّ ذلك يرجع إلى معنيين: القيام، والطَّاعة، وأنَّ المشهور في اللغة والاستعمال أنَّ القنوت الدُّعاء في القيام، كالقانت القائم بأمر الله، ويجوز أن يقع في جميع الطَّاعات؛ لأنَّه حتى في وقت ركوعه، أو سجوده، أو جلوسه بين السَّجدتين، أو نحو ذلك إن لم يكن في حال قيامٍ على الرجلين يقول: فهو قيامٌ بالنية. هكذا نقل عن الزَّجاج، ثم نقل بعد ذلك تضعيفه، وأنَّه لا يُقال لمجرد القيام: قنوت، والرجل يقوم ماشيًا وقائمًا في أمورٍ، لا يُسمّى: قانتًا، ولكنه في الصَّلاة يكون قانتًا؛ لكونه مُطيعًا، عابدًا لربِّه -تبارك وتعالى-.

والله -تبارك وتعالى- يقول: وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ، فهذا يقول: إنما هو صفة في القيام، يكون بها القائمُ قانتًا، وهذه الصِّفة تكون في السُّجود أيضًا، كما في قوله: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا.

ورد شيخُ الإسلام -رحمه الله- على مَن قيَّده بالدعاء، قال: إنما أخذ هذا من كون هذا المعنى شاع في اصطلاح الفقهاء، يعني: القنوت الذي يكون في الصَّلاة: إمَّا قبل الركوع، أو بعد الركوع بالدُّعاء: "اللهم اهدنا فيمَن هديتَ"، ونحو ذلك، فالفقهاء إذا تكلَّموا في القنوت في الصَّلاة إنما يُريدون هذا المعنى، فهذا عُرفٌ خاصٌّ.

إلى غير ذلك مما ذكره شيخُ الإسلام مما يدور حول هذا المعنى، فيُراجع كلامه[11]، وحاصله: أنَّه يرى أنَّ ذلك يرجع إلى معنى الطاعة؛ دوام الطَّاعة، يُقال: قنت بمعنى: ذلَّ وخضع، خضع له، وأطاعه، وأطال الطَّاعة والعبادة. والمرأة إذا قنتت لزوجها بمعنى: أنها تكون دائمة الطَّاعة.

فهذه المعاني التي ذكرها ابنُ جُزي: العبادة، والطَّاعة، والقيام، والصَّلاة، والدعاء، والسُّكوت، إلى آخره، هذا تشقيق لهذا المعنى، وهذا تفريعٌ عليه، يعني: الأصل هو الطَّاعة، فيكون ذلك بطول القيام في الصلاة، أو طول الصلاة، أو الدّعاء فيها، أو نحو ذلك، وكذلك السُّكوت في الصلاة؛ لأنَّه مأمورٌ به، السَّكوت المقصود به لا عن الذكر، وإنما السُّكوت عن الكلام الخارج عنها، كانوا يتكلمون في الصَّلاة، فلمَّا نزلت: وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ سكتوا، منعوا من الكلام.

والله -تبارك وتعالى- يقول: بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ [البقرة:116] يعني: في حالٍ من دوام الطَّاعة والخضوع لله -تبارك وتعالى-.

وكذلك في قوله –تعالى-: يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [آل عمران:43] يعني: اقنتي لربك دوام الطاعة والعبادة: اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ يعني: في جملة المصلّين.

كثيرٌ من أهل العلم يحتجّون بقوله -تبارك وتعالى-: وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ [البقرة:43] على وجوب صلاة الجماعة، ولا يظهر هذا كلّ الظهور، مما يدلّ على أنَّ ذلك ليس بلازمٍ، أقصد من هذا الدليل: أنَّه ليس بصريحٍ في ذلك، أنَّ الله قال لمريم -رحمها الله-: وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ، فهل هي مأمورة بالصَّلاة مع الجماعة؟

الجواب: لا، وإنما في جملة الراكعين، يعني: تكون في جملة المصلين، فعُبّر عن الصلاة بركنٍ منها، بجزءٍ، وهو ركنٌ، والتَّعبير عن العبادة بجزءٍ منها يدلّ على أنَّه رُكنٌ فيها، كما قال الله : وَقُرْآنَ الْفَجْرِ [الإسراء:78]، المقصود به القراءة في صلاة الفريضة؛ صلاة الفجر، ولا شكَّ أنَّ قراءة سورة الفاتحة ركنٌ فيها.

فهذا -على كل حالٍ- المعنى في كل الاستعمالات.

إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ [النحل:120]، قَانِتًا لِلَّهِ يعني: خاضعًا، مُداومًا على طاعته وعبادته، فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ [النساء:34] يعني: مُطيعات، مُديمات الطاعة لله ولأزواجهنَّ، فهي مُديمة الطَّاعة.

وكذلك أيضًا قانتات، يُطلن الصَّلاة مثلًا، يُطلن القيام في الصَّلاة؛ كما فسَّره بعضُ أهل العلم، فهو ليس بخارجٍ عنه.

وهكذا في قوله: وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ [الأحزاب:31] يعني: تُواظب على الطَّاعة، وتُداوم عليها، وتخضع لله .

وكذلك في قوله: عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ [التحريم:5] يعني: مُديمات الطَّاعة لله ولرسوله -عليه الصلاة والسلام-، والله أعلم.

قال:

"قضاء، له سبعة معانٍ: الحكم، والأمر، والقدر السَّابق، وفعل الشَّيء، والفراغ منه، والموت، والإعلام بالشَّيء، ومنه قوله –تعالى-: وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ [الحجر:66]".

هذه المادة أرجعها ابنُ فارس إلى أصلٍ صحيحٍ يدلّ على إحكام أمرٍ وإتقانه وإنفاذه لجهته[12].

القضاء: الحكم، سُمّي القاضي بذلك لأنَّه يُحكم الأحكام ويُنفذها، وسُمّيت المنية: قضاء؛ لأنَّه أمرٌ ينفذ في ابن آدم وغيره من الخلق، هي أمرٌ نافذٌ، ويُقال: قضى الأمر، بمعنى: عمله، أو أدَّاه كاملًا. قضى الأجل: فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ [القصص:29]، أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ [القصص:28]، قضى اللهُ الأمر، أو الشيء: أتمّ خلقه، وتعلّقت به إرادته وقدرته.

إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران:47]، هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ [الأنعام:2] يعني: قدر لكل إنسانٍ مُدةً في بقائه وحياته.

يُقال: قضى بين المتخاصمين، يعني: حكم بينهما وفصل. ويقال أيضًا: قضى الشيء، أو قضى به، يعني: أوجبه، وأمر به. قضى إليه الأمر: أنهاه إليه، أو أنبأه به: وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ [الإسراء:4] قيل: أعلمنا. وقيل: معناه: حكمنا.

وكذلك يُقال: قضى وطره، قضى حاجته، بمعنى: أدركه، أو ناله: فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا [الأحزاب:37]، إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا [يوسف:68] يعني: أدركها وحققها. يُقال: قضى عليه بمعنى: قتله، فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ [القصص:15].

فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ [الأحزاب:23] فُسّر بمعانٍ، قضاء النَّحب فُسّر يعني: بالموت، مات على الصّدق والوفاء، على خلافٍ في تفسير النَّحب، بعضهم قال: قضى نحبَه، يعني: النَّحب يأتي لمعانٍ: كالنذر، والوفاء به، إلى غير ذلك، النَّحب، قضى نحبَه: مات على الصّدق والوفاء، هذا كأنَّه أقرب ما يُفسّر به والله -تبارك وتعالى أعلم-.

وانظر في سائر الاستعمال: فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ [الزمر:42] يعني: حكم به، أو قدَّره عليها. لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا [الأحزاب:37] يعني: أدرك حاجته وأربه، أو وطره منها. ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65] يعني: مما حكمتَ به. فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ [البقرة:200] يعني هنا: الفراغ منها، أداء هذه المناسك، إكمال هذه الأعمال. فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ [سبأ:14] يمكن أن يكون المعنى: حكمنا وقدّرنا.

قول السَّحرة -سابقًا- لفرعون لما توعدهم: إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا [طه:72] يعني: تعمل ما تهواه في هذه الحياة، تحكم به، وذلك مقصورٌ على هذه الفانية.

وقوله: وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ [الزخرف:77] هنا المقصود به: قضاء الموت، الهلاك، يعني: ليحكم علينا بالموت.

كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ [عبس:23] فُسّر قيل: لم يُؤدّه كاملًا.

وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:23]، قضى هنا فُسّر بمعنى: وصّى، والوصية هي الأمر، أو النَّهي المؤكّد. وفُسّر قضى بمعنى: أمر، أو أوجب عليكم. وهذه مُتقاربة، هذه المعاني مُتقاربة.

وكذلك في قوله -تبارك وتعالى-: فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ [فصلت:12] فُسّر (قضاهنَّ) يعني: خلقهنَّ. وقيل غير ذلك.

كذلك في قوله -تبارك وتعالى-: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ [غافر:20]، قيل: لا يحكمون، وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا [الأنفال:42]، قيل: ليُنجزه، أو ليُقدّر وجوده، إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ [يونس:93] يعني: يحكم، ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ [يونس:71] قيل: يعني: هذا أمرٌ لهم بالفراغ لمخاصمته مع عدم إمهاله، وكذلك أيضًا: وَقُضِيَ الأَمْرُ [البقرة:210] أُنجز، وفُرِغَ منه، وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ [يونس:19] يعني: حُكم، وفُصّل.

فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ [الجمعة:10] يعني: فُرغ منها، وهكذا: وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ [طه:114] يعني: استكمال الإيحاء إليك، وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ [الحجر:66] يعني: أنبأناه به، أعلمناه بذلك.

على كل حالٍ، عند التَّأمل يمكن أن يُرجع هذا جميعًا إلى ما ذكره ابنُ فارس: أنَّ ذلك يكون على سبيل الإحكام، ويكون إنفاذًا لذلك المقضي بأي لونٍ كان، بحسب المقام والسياق، والله أعلم.

"قدر، له خمسة معانٍ: من القُدرة، ومن التَّقدير، ومن المقدار، ومن القدر والقضاء، وبمعنى: التَّضييق، نحو قوله تعالى: فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ [الفجر:16].

وقد يُشدد الفعل، ويُخفف.

والقدر -بفتح الدال وإسكانها- القضاء، والمقدار، وبالفتح لا غير من القضاء".

هذه المادة أرجعها ابنُ فارس إلى أصلٍ واحدٍ يدلّ على مبلغ الشيء، وكُنهه، ونهايته. والقَدَر أو القَدْر: مبلغ كل شيء، يُقال: قدره كذا، أي: مبلغه. وكذلك القدر، وقدرت الشيء أُقدّره، وأُقدره من التَّقدير، والقدر: قضاء الله -تبارك وتعالى- الأشياء على مبالغها ونهايتها التي أرادها الله -تبارك وتعالى-، وهو القدر أيضًا، القَدْر، والقَدَر[13]، وبذلك فُسّر قوله -تبارك وتعالى- على أحد الأقوال بقوله: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر:1]، وسيأتي مزيد إيضاحٍ لهذا -إن شاء الله-.

وقوله -تبارك وتعالى-: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الأنعام:91] قال المفسّرون: ما عظَّموا الله حقَّ عظمته.

ابنُ فارس يُصحح هذا المعنى، ويُرجعه إلى ما ذكر، يعني: أنَّهم لم يصفوه بصفته التي تنبغي له.

وهكذا في قوله: وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ [الطلاق:7]، فمعناه: قُتر، وذلك أنَّه أُعطي ذلك بقدرٍ يسيرٍ.

فهو يُرجع هذا إلى أنَّه بمعنى يدلّ على مبلغ الشَّيء، وكُنهه، ونهايته. فهذه المعاني التي ذكرها ابنُ جُزي عند ابن فارس ترجع جميعًا إلى هذا المعنى.

ويُقال: قدر الله الرزق بقدره، قدر الله –تبارك وتعالى- ذلك يقدُره، ويقدِره، يعني: جعله محدودًا، ضيقًا: فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ يعني: ضيّقه. وهكذا يُقال: قدّر الله الأمر يُقدّره، بمعنى: دبّره، أو أراد وقوعه بحسب تدبيره، فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ [المرسلات:23] يعني: فُسِّر قيل: معناها: دبّرنا وأوقعنا ذلك بحسب تدبيرنا. وهكذا: فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ [القمر:12].

ويُقال: قدر المؤمن ربّه يقدره قدرًا، يعني: عظَّمه. وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ما عظَّموه حقَّ تعظيمه.

ويُقال: قدر على الشَّيء، بمعنى: قوي، إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ [المائدة:34] بمعنى: تتغلبوا عليهم، وتتمكّنوا منهم.

أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ [البلد:5] يعني: يقوى عليه. ويُقال: قدّر الشّيء يُقدّره: حدّد مقداره، أو زمانه، أو مكانه، فهو قادر، وهم قادرون، وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا [فصلت:10]، جعلها بحدود ما يحصل به غناؤهم وكفايتهم.

وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ [يس:39] قيل: حددنا سيره فيها. وقيل: قضينا بأن يكون سيرُه بهذه المنازل.

ويُقال أيضًا: قدر الشّيء: حدد مقداره، أو امتداده، وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ [المزمل:20] قيل: يُحدد امتدادهما. وكما في قوله -تبارك وتعالى-: وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ [سبأ:18] يعني: جعل هذه المسافات من اليمن -أرض سبأ- إلى الأرض التي بارك الله فيها، وهي الشَّام على قول بعض المفسّرين، أو بعض الشَّام على قول آخرين؛ أنها جُعلت مسافات محددة، ومُقدّرة، بعضُهم يقول: بين القرية والقرية ميل. وبعضهم يقول: محددة، مُقدّرة، فهم حينما يخرجون في أول النَّهار فإنَّهم يكونون عند مُنتصفه في القرية الأخرى، وحينما يخرجون في مُنتصف النَّهار يكونون في آخره في القرية التي بعدها، ويكون السيرُ مُقدَّرًا، لا يحتاجون إلى المشي الأيام والليالي في المفاوز، ويقطعون شُقّةً بعيدةً حتى يصلوا إلى قريةٍ، وإنما يكونون في مأمنٍ، ويستغنون معه من حمل الأزواد معهم.

وهكذا في قوله -تبارك وتعالى-: قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا [الإنسان:16] يعني: بمقادير هذه الكأس التي يشربونها.

وكذلك أيضًا في هذه المادة يُقال: قدر الله الأمر: قضى به، حكم بأن يكون؛ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ [الحجر:60] يعني: حكمنا، قضينا، نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ [الواقعة:60] يعني: حكمنا به، قضينا به.

وهكذا يُقال: قدر الله الشّيء، يُقال ذلك أحيانًا بحيث ينهج منهجًا صالحًا، كما يُعبّر بعضُ أهل العلم: وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى [الأعلى:3]، وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [الفرقان:2] على أحد الأقوال في تفسيرها، يعني: جعله على حالٍ من الاهتداء لمصالحه، وما تقوم به منافعه ومعايشه، ونحو ذلك. وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى هدى كل مخلوقٍ إلى ما تقوم به معايشه، وما تصلح به أحواله، فهذا الحيوان البهيم يخرج من بطن أمِّه، ويلتقم الثدي.

وهذا النَّحل لو نظرتَ إليه في أرجاء المعمورة؛ فهو يعمل هذه البيوت بطريقةٍ سُداسيةٍ مُحكمةٍ على نهجٍ مُتَّحدٍ، فالله -تبارك وتعالى- ألهمها ذلك، كما قال الله ذلك أيضًا: وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ [النحل:68] يعني: أوحى لها: ألهمها ذلك. فهذا معنى ذكره بعضُ أهل العلم، ليس الإلهام، ولكن بحيث جعله ينهج نهجًا لائقًا صالحًا لمثله.

وهكذا أيضًا من المعاني التي تُذكر في هذا: يُقال: قدر في الأمر، بمعنى: تمهل، وتروّى في إنجازه: إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ [المدثر:18] قيل: يعني: تمهل وتروّى ليتبين ما يقوله في القرآن. يعني: هل هو شعر، أو سحر، أو بحسب زعمه؟ وبعضهم يقول: قرر في نفسه ما سيقوله فيه.

وهكذا في قوله: وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ [سبأ:11] بحيث يكون ذلك بطريقةٍ مُتَّسقةٍ، مُلائمةٍ، لا يكون ذلك الموضع أوسع من المسمار فيضطرب، ولا يكون ذلك ضيقًا فينكسر، وهكذا أيضًا في القدر، (قدر الشَّيء) تُقال لكميته الـمُقدّرة له، (قدر الشَّخص) يُقال أيضًا لمنزلته ومكانته.

وبعضهم يقول: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الأنعام:91] يعني: ما راعوا حقَّه وعظمته كما سبق، والقدر يُقال للعظمة والشَّرف، وهو أحد المعاني التي فُسّر بها قوله -تبارك وتعالى-: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر:1]، قيل: ليلة الشَّرف. وقيل: ليلة القدر، يعني: الليلة التي يحصل بها التَّقدير للأشياء، وهو ما يُعرف بالتَّقدير الحولي؛ لأنَّ التقدير منه ما يكون أزليًّا: قدر الله مقادير الخلق قبل أن يخلق السَّماوات والأرض بخمسين ألف سنة. فهذا التقدير الأزلي.

وهناك تقدير عُمري -كما هو معروفٌ- كما يدلّ عليه حديث الصَّادق المصدوق: يُبعث إليه الملك[14].

وهناك تقدير أيضًا بالصحف التي بأيدي الملائكة، وهو على الأرجح المراد بقوله -تبارك وتعالى-: يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [الرعد:39] يعني: اللوح المحفوظ، فالمحو يكون لما في صُحف الملائكة.

وهناك التَّقدير الحولي، وهو المذكور في قوله: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ على أحد المعاني.

ويمكن أن تُحمل المعاني على ذلك كلِّه؛ أقصد على التَّقدير، وكذلك الشَّرف؛ لأنَّها ليلة شريفة، فأنزل الله القرآن في وقتٍ شريفٍ، هو أشرف الأوقات.

ولاحظوا بقية أنواع الاستعمال: (القِدر) إناء من النُّحاس، أو نحو ذلك، يُطبخ فيه: وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ [سبأ:13].

لاحظ: في المعنى الذي ذكره ابنُ فارس -رحمه الله- أنَّه يدلّ على مبلغ الشيء، وكُنهه، ونهايته، فكأنَّ القِدر وضع على مقدار مُحدد يكون لما وضع له، يعني: من الطَّعام، ونحو ذلك.

والقادر اسم فاعل من قدر: قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [الأنعام:37]، وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا [يونس:24].

وهكذا القدير: عظيم القُدرة: إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:20]، صيغة مُبالغة.

والتَّقدير: مصدر (قدر)، يُراد به تحديد قيمة الشيء أحيانًا، أو مقداره: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [الفرقان:2]، وقد يُراد به التَّدبير الـمُحكم: ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [الأنعام:96].

والمقدور هو المقضي، أو المحكوم به: وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا [الأحزاب:38].

والمقدار هي كميته المقُررة له، سواء كان ذلك وزنًا، أو مساحةً، أو نحو ذلك: وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ [الرعد:8]، يعني: كذلك أيضًا يأتي الفعلُ (اقتدر) بمعنى: قدر، بمعنى: عظيم القُدرة أيضًا: فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ [القمر:42]، وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا [الكهف:45].

كذلك أيضًا قدر الشَّيء: زمانه، أو مكانه: وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ [القلم:25]، "قادرين" بعضهم فسّره بأنَّ المراد أنَّهم حددوا وقتًا لصرم هذه الثِّمار، وبعضهم فسّره بغير ذلك.

على كل حالٍ، هذه وغيرها من المعاني التي جاءت، أو الاستعمالات التي جاءت بالقرآن ترجع عند ابن فارس إلى هذا المعنى المتَّحد، ولكن السياق يكون أدعى لبيان المراد تحديدًا، والله تعالى أعلم.

  1. انظر: "إعراب القرآن" المنسوب للزجاج (1/197).
  2. انظر: "الأصل الجامع لإيضاح الدرر المنظومة في سلك جمع الجوامع" (1/53).
  3. أخرجه البخاري: كتاب الحج، باب الحلق والتَّقصير عند الإحلال، برقم (1727).
  4. انظر: "الكليات- معجم في المصطلحات والفروق اللغوية" لأبي البقاء (ص720).
  5. انظر: "مقاييس اللغة" لابن فارس (5/76).
  6. انظر: "مقاييس اللغة" لابن فارس (5/79).
  7. انظر: "مقاييس اللغة" لابن فارس (5/31).
  8. انظر: "تفسير ابن كثير" (4/383).
  9. انظر: "رسالة في قنوت الأشياء" لابن تيمية (ص5).
  10. أخرجه مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب أفضل الصلاة طول القنوت، برقم (756).
  11. انظر: "جامع الرسائل" لابن تيمية (1/6-7).
  12. انظر: "مقاييس اللغة" لابن فارس (5/99).
  13. انظر: "مقاييس اللغة" لابن فارس (5/62).
  14. متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب التوحيد، باب قوله تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ} [الصافات:171]، برقم (7454)، ومسلم: كتاب القدر، باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه وكتابة رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته، برقم (2643).

مواد ذات صلة