بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:
وَهُوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ وَهُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [سورة الأنعام:98-99].
يقول تعالى: وَهُوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ [سورة الأنعام:98] يعني آدم كما قال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء [سورة النساء:1].
وقوله: فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ [سورة الأنعام:98] قال ابن مسعود وابن عباس وأبو عبد الرحمن السلمي وقيس بن أبي حازم ومجاهد وعطاء وإبراهيم النخعي والضحاك وقتادة والسُّدِّي وعطاء الخرساني وغيرهم: فَمُسْتَقَرٌّ أي: في الأرحام، قالوا أو أكثرهم: وَمُسْتَوْدَعٌ أي: في الأصلاب.
وعن ابن مسعود وطائفة عكسه، وعن ابن مسعود أيضاً وطائفة: فمستقر في الدنيا ومستودع حيث يموت.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله -تبارك وتعالى: فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ [سورة الأنعام:98] ذكر القول الأول وهو أن المستقر أي في الأرحام وأن المستودع أي في الأصلاب، وهذا عزاه القرطبي -رحمه الله- إلى أكثر المفسرين، أي أن عامة المفسرين من السلف ومن بعدهم يقولون بذلك، والتقدير: فلكم مستقر، أي: على ظهر الأرض، ولكم مستودع أي: في الأصلاب، أو فلكم مستقر على ظهرها ومنكم مستودع في الرحم، يعني منكم من لم يخرج إلى الآن على وجه البسيطة بل هو لا يزال في الأرحام، أو فَمُسْتَقَرٌّ يعني على ظهر الأرض وَمُسْتَوْدَعٌ أي: منكم مستودع في بطنها قد ضمته بعد أن فارق الحياة، أو فمستقر على ظهرها، ومستودع في الأصلاب لم يخرج بعد إلى الحياة.
وبعضهم يقول: المستقر في الأرحام والمستودع في الأرض، وبعضهم يقول: المستقر في القبر، وبعضهم يقول: المستقر من خُلِق والمستودع من لم يخلق، إلى غير ذلك من المعاني التي ذكروها، وليس عندنا دليل يحدد واحداً من هذه المعاني، والذي عليه عامة أهل التفسير هو ما ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله، أي: مستقر في الأرحام ومستودع في الأصلاب.
وابن جرير -رحمه الله- حمل الآية على أعم معانيها فقال: هذه الأقوال التي ذكرت كلها جائز أن يكون مراداً بهذه الآية.
قوله: فَمُسْتَقَرٌّ هذه اللفظة فيها قراءة أخرى متواترة وهي قراءة أبي عمرو بن العلاء -بكسر القاف- أي: (فمستقِرٌّ) وفسرت بمعنى أن منكم مستقِرٌّ يعني على ظهر الأرض، والله أعلم.
وقوله تعالى: قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ [سورة الأنعام:98] أي: يفهمون ويعون كلام الله ومعناه.
وقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء [سورة الأنعام:99] أي: بقدر مباركاً ورزقاً للعباد وإحياء وغياثاً للخلائق رحمة من الله بخلقه.
فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ [سورة الأنعام:99] كقوله: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [سورة الأنبياء:30] فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا [سورة الأنعام:99] أي: زرعاً وشجراً أخضر.
يقول تعالى: قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ [سورة الأنعام:98] وحينما ذكر إخراج النبات وإنزال المطر قال: إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [سورة الأنعام:99] وقبل هذه الآية قال: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [سورة الأنعام:97] ثم قال: قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [سورة الأنعام:97] فنوع في أواخر هذه الآيات حيث ذكر العلم ثم ذكر الفقه ثم ذكر الإيمان، ومعلوم أن الفقه أخص من مطلق العلم، فالفقه علم خاص يحتاج إلى دقة واستنباط، فليس كل علم يكون فقهاً ولذلك تقول: علمت بنزول المطر ولا تقول: فقهت ذلك، وتقول: علمت أن الارتواء يحصل بالماء ولا تقل: فقهت ذلك.
فلما كان هذا المذكور هنا هو الإنشاء من نفس واحدة واحتاج قوله: فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ [سورة الأنعام:98] إلى شيء من دقة النظر ولطافته لخفاء ذلك عُبَّر عنه بالفقه، وأما ما ذُكر قبله وبعده فإنه لا يحتاج إلى دقة في النظر ولذلك عبر بالتعبير المناسب، أعني في قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [سورة الأنعام:97] فهذا أمر يعلمه كل أحد، وهكذا الأمر في قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [سورة الأنعام:99] فهذا أيضاً يدركه أهل الإيمان ويقرُّون أن الله هو الخالق المدبر المحيي المميت الذي ينزل الغيث ويحيي الأرض بعد موتها.
قوله -تبارك وتعالى: وَهُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ [سورة الأنعام:99] يقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله: "كقوله: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [سورة الأنبياء:30] وقال: "أي بقدر مباركاً ورزقاً للعباد وإحياء وغياثاً للخلائق" تفسيره لهذه الآية بقوله: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [سورة الأنبياء:30] يكون باعتبار أن المعنى في قوله: فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ [سورة الأنعام:99] أي أنه ينبت منه كل شيء، فتنتب منه أجسام الآدميين، وتنبت منه أيضاً الدواب بجميع أنواعها، وينبت منه النبات بجميع أنواعه، أي أن قوله: فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ [سورة الأنعام:99] يعني ينبت منه كل شيء من الأجسام وسائر الكائنات الحية، وليس المقصود البناتات والزروع فقط، وهذا التفسير هو الذي اختاره كبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله- أيضاً، لكن من أهل العلم أيضاً من فسره بالنبات المعروف، أي: سائر أنواع النباتات المختلفة من الثمار والزروع فكل ذلك يخرجه الله بالماء الذي أنزله من السماء.
قوله: فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا [سورة الأنعام:99] أي: أخرجنا من هذا الماء الذي أنزلناه؛ لأن المُحدَّث عنه هو الماء وليس الإخراج من النبات وذلك أن إخراج الخضر ليس من النبات وإنما يكون من الماء الذي يُسقى منه.
قوله: فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا [سورة الأنعام:99] قال: "أي زرعاً وشجراً أخضر" ففسر الخضر بالأخضر، وبعضهم يقول: الخضر هو الرطب من البقول، وهو ما يتشعب من الأغصان الخارجة من الحبة، وبعضهم يقول: المراد بالخضر سائر أنواع الحبوب كالبر والشعير والذرة وما أشبه ذلك، والله تعالى أعلم.
فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا [سورة الأنعام:99] أي زرعاً وشجراً أخضر، ثم بعد ذلك نخلق فيه الحب والثمر، ولهذا قال تعالى: نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا [سورة الأنعام:99] أي: يركب بعضه بعضاً كالسنابل ونحوها.
وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ [سورة الأنعام:99] أي: جمع قنو وهي عذوق الرطب، دَانِيَةٌ [سورة الأنعام:99] أي قريبة من المتناول كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس -ا: قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ يعني بالقنوان الدانية قصار النخل اللاصقة عذوقها بالأرض [رواه ابن جرير].
قوله: نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا [سورة الأنعام:99] أي كما نرى في السنبلة فإن الحبة فيها بهذه الصفة التي ذكرها الله .
قال: وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ [سورة الأنعام:99] الطلع فُسِّر بالكُفُرى وهو الذي يسميه العامة "الكافور"، وهو الغلاف الذي يحوي الإغريض، وذلك أنه أول ما تطلع النخلة فإنه يخرج منها الكُفُّرى الذي نسميه الكافور؛ وهذه التسمية من الكَفر حيث يستر ما بداخله من الإغريض، والإغريض هو الشيء الأبيض في أوله الذي يؤبَّر ثم بعد ذلك يخضر، ثم بعد ذلك تبدأ تنعقد منه أصول البُسر، وهو ما يسمى بعد ذلك بالقنو أو العذق، أي عذق النخيل وهو بمنزلة عنقود العنب فإذا تطاول عليه الزمن وذهب ما فيه من البسر أو الرطب قيل له: العرجون.
قال الله -تبارك وتعالى: وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ [سورة الأنعام:99] يعني يخرج من طلعها قنوان، والقنوان جمع قنو، وهو العذق، وقد فسره بعضهم بهذا الكفرى أي الغلاف، وفسره بعضهم بنفس الإغريض، وكل هذا يقال له: طلع في اللغة، فهذا الغلاف في الواقع يخرج منه الإغريض، ويخرج من هذا الإغريض -الذي في أوله ومبدئه بالهيئة المعروفة- حبات صغيرة جداً تتحول بعد ذلك إلى الرطب والتمر الذي تكون في غاية الحلاوة.
قال تعالى: وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ [سورة الأنعام:99] أي: قريبة من المتناول، وفي سورة "ق" قال: وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ [سورة ق:10] والباسقات هي الطوال، والثمر الأجود في النخل الطوال لا القصار؛ والسبب هو وصول الماء والغذاء بسهولة فكلما ارتفعت الشجرة إلى الأعلى كلما كان وصول الغذاء إلى أعلاها أصعب، ولذلك نجد أهل الزراعة يقومون بتسميد النباتات بالنجاسات، ويقولون: إن ذلك يكون للشجر الطوال ولا يكون للزروع؛ لأن الزروع تتشرب ذلك وتتشبع به، ولذلك إذا نظرنا إلى زروع تسقى من هذه النجاسات كالكراث وأنواع البقول والنعناع، وما أشبه ذلك لرأيناها في غاية النظارة، أي تكون مترعرعة جيدة في مظهرها تستهوي الناظر، وذلك أنه يؤثر فيها تأثيراً سريعاً مباشراً بخلاف الأشجار الطويلة.
ومما يذكر هنا أن الله في سورة "ق" قال: وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ [سورة ق:10] أي طويلة وهنا قال: وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ [سورة الأنعام:99] أي قريبة لمن أراد أن يتناولها، ولهذا التفاوت في الوصف وجه، فعلى قول بعضهم –كالزجاج- أن هذا من باب الاكتفاء فقال سورة الأنعام: وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ [سورة الأنعام:99] أي: وبعيدة، فاكتفى بأشرف النوعين ليدل به على الآخر.
ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى [سورة الأعلى:9] على قول الفراء: أي: وإن لم تنفع فذكر، فاكتفى بأشرف القسمين ليدلل به على الآخر، ومن ذلك قوله تعالى: سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [سورة النحل:81] أي: والبرد، وهكذا، وهذا لا إشكال فيه.
لكن إذا قيل: إن دانية مقصود بالذكر فيكون هذا من باب الامتنان، ويكون قوله في سورة "ق": وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ [سورة ق:10] من باب ذكر مظاهر العظمة والقدرة على الخلق، ومظاهر العظمة والقدرة على الخلق يكون في النخل الطوال وفي الامتنان يكون بذكر النخل القصار التي تكون قنوانها في متناول اليد بحيث لا يحتاج مريدها إلى كلفة وصعود وتعب، ولذلك فالمشاهد عند أهل النخيل أنهم ربما تركوا فيه الثمر؛ لأن مؤونة إخراج هذا الثمر وقطافه أكثر من الانتفاع به عند بيعه والتصرف فيه حيث يكلفهم أكثر من قيمته فيتركونه ثم يصرمونه بعد ذلك للدواب في آخر الوقت، فهذا مشاهد، والخلاصة أن المنة تكون بالقصار أكثر من المنة في الطوال، والعظمة تظهر في الطوال أجلى من ظهورها في القصار، والله أعلم.
وفي قوله: قِنْوَانٌ [سورة الأنعام:99] القنوان هي العذق -وهذا هو المشهور- وبعضهم فسروا القنوان بالجُمَّار، وهذا بعيد، والجمار هو الذي نسميه قلب النخلة، وهو مادة بيضاء تؤكل توجد في مكمن الحياة في قلب النخلة الذي يخرج منه الفروع الجديدة أو العسب الجديدة فإذا مات هذا انتهت النخلة، والمقصود أن تفسير القنوان بهذا بعيد، والله أعلم.
قوله تعالى: وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ [سورة الأنعام:99] في قراءة عاصم بالرفع (وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ) [سورة الأنعام:99] والتقدير ولهم جنات من أعناب، وهذه القراءة –بالجر- يكون على العطف.
وهنا سؤال مقدر هو لماذا اقتصر الله على ذكر هذين النوعين من الثمار –النخيل والأعناب- مع أنه توجد ثمار أخرى؟ فالجواب هو قول الحافظ –رحمه الله: "وهذان النوعان هما أشرف الثمار عند أهل الحجاز"؛ أي لأن هذان النوعان هما الذي يعرفه العرب وهو أفضل وأنفع ما عندهم من الثمار، فالله يمتن على المخاطبين بما يعرفونه وقد جرت عادة القرآن أنه يخاطب العرب بمعهودهم، ولذلك لما ذكر ثمار الجنة أيضاً لم يذكر لهم ألوان الثمار الأخرى الموجودة في الدنيا مما قد يكون أجود طعماً من التمر والعنب وإنما خاطبهم بمعهودهم، وكذلك لما ذكر لهم عجائب الخلق في الحيوان ذكر لهم الجمل ولم يذكر لهم الفيل ولا وحيد القرن ولا الزرافة، ولم يذكر لهم أيضاً بعض الحيوانات البحرية الضخمة كبعض الحيتان ونحو ذلك؛ لأنهم ربما ما رأوا ذلك ولا عرفوه فخاطبهم بما يعرفون.
هذا بناء على تفسير السكر بالمسكِر -مع أن ذلك أباه جمع من أهل العلم، وقالوا: المقصود بالسكر يعني العصير الحلو المستلذ- ومعلوم أنهم كانوا ينتبذون في الأسقية بأن يلقون التمر أو الرطب في جرة ماء أو نحوها فيتحول لون الماء أو طمعه إلى لون من الشراب يقال له: النبيذ حيث يكون حلو الطعم، وربما ألقوا العنب ونحوه بدل التمر فيصير حلواً، فإذا مضى عليه مدة ربما اشتد وألقى بالزبد وصار مسكراً.
يعني أن أشكالها في الظاهر ربما تتشابه، لكن الطعوم تتخلف، فالزيتون أنواع كثيرة جداً، والرمان كذلك، وهكذا سائر الثمار، والآن تقام معارض لبعض الثمار كما هو معروف ونجدها تتشابه بالشكل وتختلف في الطعم، وكل نوع له خصائصه، فالتمر متشابه في الظاهر ولكنه مختلف في أنواعه وطعومه وخصائصه وتركيبه، وهكذا يشتبه شجره في ورقه وأغصانه وفروعه ولكن ثماره تكون مختلفة، فهذه شجرة عنب وهذه شجرة عنب، وهذه نخلة وهذه نخلة، إلا أن هذه يخرج منها لون من الثمر وهذه يخرج منها لون آخر، تختلف ألوانه من أحمر إلى أصفر، وتختلف أيضاً طعومه وأنواعه.
قوله تعالى: صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ [سورة الرعد:4] يعني تجد النخلة أحياناً تشترك في أصل واحد ثم يخرج من جوانبها نخيل وأحياناً تجد كل نخلة مستقلة عن الأخرى.
ولهذا قال هاهنا: إِنَّ فِي ذَلِكُمْ أيها الناس لآيَاتٍ أي: دلالات على كمال قدرة خالق هذه الأشياء وحكمته ورحمته لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ أي: يصدقون به ويتبعون رسله.
وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ [سورة الأنعام:100] هذا رد على المشركين الذين عبدوا مع الله غيره وأشركوا في عبادته أن عبدوا الجن فجعلوهم شركاء له في العبادة، تعالى الله عن شركهم وكفرهم.
فإن قيل: فكيف عُبدت الجن مع أنهم إنما كانوا يعبدون الأصنام؟ فالجواب: أنهم ما عبدوها إلا عن طاعة الجن وأمرهم إياهم بذلك، كقوله: إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثًا وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَانًا مَّرِيدًا لَّعَنَهُ اللّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا [سورة النساء:117-120] وكقوله تعالى: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي الآية [سورة الكهف:50].
وقال إبراهيم لأبيه: يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا [سورة مريم:44] وكقوله: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ [سورة يــس:60-61] وتقول الملائكة -عليهم السلام- يوم القيامة: سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ [سورة سبأ:41].
هذا التوجيه الذي ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- لعبادتهم للجن أحسن من تفسير من فسر الآية بأن المقصود بالجن الملائكة لاجتنانهم بمعنى أنهم لا يراهم الناس وإنما يجتنُّون بمعنى أنهم مستترون عنهم.
ومن العرب -وليس كل العرب- من عبدت الملائكة كما هو معلوم، وادعى طائفة منهم أن الملائكة بنات الله، وعلى كل حال فهذا التفسير والله تعالى أعلم الذي ذكره الحافظ لعله من أفضل ما يقال في معنى الآية، ويدخل في ذلك أيضاً صرف أنواع من العبادة مباشرة للجن، مثل الذبح للجن الذي كان موجوداً عندهم، ومن ذلك الاستعاذة بالجن حيث كان يقول قائلهم: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه، ويدخل أيضاً ما أشبه ذلك من العبادات المباشرة التي يصرفونها للجن كما هو معروف، هذا كله داخل في قوله: وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ [سورة الأنعام:100].
والجن يحتمل هنا أن يكون بدلاً من شركاء أي: وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء ثم فسره بقوله: الْجِنَّ أي أن المقصود بهؤلاء الشركاء هم الجن، والله أعلم.
على هذا يكون قوله: وَخَلَقَهُمْ [سورة الأنعام:100] جملة حالية، يعني والحال أنه خلقهم، أو الحال أنهم علموا أنه خلقهم، أو وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ [سورة الأنعام:100] والحال أنهم قد علموا أنه خلقهم.
وقوله تعالى: وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ [سورة الأنعام:100] ينبه به تعالى عن ضلال من ضل في وصفه تعالى بأن له ولداً، كما يزعم من قاله من اليهود في عزيرٍ ومن قاله من النصارى في عيسى ومن قال من مشركي العرب في الملائكة -عليهم السلام: إنها بنات الله، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
ومعنى وَخَرَقُواْ أي: اختلقوا وائتفكوا وتخرصوا وكذبوا كما قاله علماء السلف، ولهذا قال: سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ [سورة الأنعام:100] أي: تقدس وتنزه وتعاظم عما يصفه هؤلاء الجهلة الضالون من الأولاد والأنداد والنظراء والشركاء.
بعض هذه المعاني التي ذكرها السلف والتي ذكرها الحافظ ابن كثير -رحمه الله- أيضاً ترجع إلى شيء واحد، ولذلك ما احتاج إلى أن يرجح شيئاً منها، بل سرد جملة منها وقال: هذا كله داخل في معنى هذا الآية، أي أن قوله: وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ [سورة الأنعام:100] يعني اختلقوا واخترعوا، وما أشبه ذلك.
وقوله: وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ [سورة الأنعام:100] قرأه نافع بالتشديد هكذا: (وخرَّقوا له) ومعلوم أن زيادة المبنى لزيادة المعنى، فقوله: (وخرّقوا) يدل على التكثير، أي لكثرة ما وقع من ذلك حيث زعم اليهود ما زعموا وزعم النصارى ما زعموا، وهكذا العرب حينما قال بعضهم: الملائكة بنات الله، والله تعالى أعلم.
وفي قوله: وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وقوله: وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ [سورة الأنعام:100] بيان أن هذه من مخازيهم وفضائعهم وجناياتهم العظيمة.
وبعضهم فسر قوله: وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّْ [سورة الأنعام:100] بأن المراد بذلك الزنادقة الذين قالوا: إن الله والشيطان هما إلهان يختص كل واحد منهما بشيء من المخلوقات، فالله هو الذي خلق الخير، والشيطان هو الذي خلق الثعابين والعقارب والهوام والدواب الضارة، والحشرات الضارة والنار وما أشبه ذلك، هذا قول الزنادقة، وهو يشبه قول بعض الزنادقة المعاصرين الذين يقولون: إن الله هو الشيطان وجهان لعملة واحدة -قبحهم الله.
ومن أهل العلم من قال: إن المراد بقوله: وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ [سورة الأنعام:100] أي مثل أولئك المجوس والمانوية اللذين قالوا: إن للخالق إلهين فهذا خلق النور وهذا خلق الظلام، وعلى كل حال ما ذكره الحافظ ابن كثير يكفي في بيان المراد، والله تعالى أعلم.
بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [سورة الأنعام:101].
بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [سورة الأنعام:101] أي: مبدعهما وخالقهما ومنشئهما ومحدثهما على غير مثال سبق، كما قال مجاهد والسدي: ومنه سميت البدعة بدعة؛ لأنه لا نظير لها فيما سلف.
أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ [سورة الأنعام:101] أي: كيف يكون له ولد ولم تكن له صاحبة، أي: والولد إنما يكون متولداً بين شيئين متناسبين والله تعالى لا يناسبه ولا يشابهه شيء من خلقه؛ لأنه خالق كل شيء فلا صاحبة له ولا ولد، كما قال تعالى: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا [سورة مريم:88-89] إلى قوله: وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا [سورة مريم:95].
وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [سورة الأنعام:101] فبيّن تعالى أنه الذي خلق كل شيء وأنه بكل شيء عليم، فكيف يكون له صاحبة من خلقه تناسبه وهو الذي لا نظير، فأنى يكون له ولد، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [سورة الأنعام:102-103].
يقول تعالى: ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ أي: الذي خلق كل شيء ولا ولد له ولا صاحبة لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ [سورة الأنعام:102] أي: فاعبدوه وحده لا شريك له، وأقروا له بالوحدانية وأنه لا إله إلا هو، وأنه لا ولد له ولا والد، ولا صاحبة له ولا نظير ولا عديل.
وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [سورة الأنعام:102] أي: حفيظ ورقيب يدبر كل ما سواه ويرزقهم ويكلؤهم بالليل والنهار.
وقوله: لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [سورة الأنعام:103] أي: لا تدركه في الدنيا وإن كانت تراه في الآخرة كما تواترت به الأخبار عن رسول الله ﷺ من غير ما طريق ثابت في الصحاح والمسانيد والسنن، كما قال مسروق عن عائشة -ا- أنها قالت: "من زعم أن محمداً أبصر ربه فقد كذب"[1] وفي رواية: "على الله، فإن الله تعالى قال: لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ [سورة الأنعام:103]"[2].
وثبت في الصحيح من حديث أبي موسى الأشعري مرفوعاًَ: إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يُرفع إليه عمل النهار قبل الليل وعمل الليل قبل النهار، حجابه النور أو النار، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه[3].
وفي الكتب المتقدمة إن الله تعالى قال لموسى لما سأل الرؤية: يا موسى إنه لا يراني حي إلا مات ولا يابس إلا تدهده، أي تدعثر.
وقال تعالى: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ [سورة الأعراف:143] ونفي هذا الأثر الإدراك الخاص لا ينفي الرؤية يوم القيامة لعبادة المؤمنين كما يشاء، فأما جلاله وعظمته على ما هو عليه، تعالى وتقدس وتنزه فلا تدركه الأبصار.
يقول تعالى: لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [سورة الأنعام:103] الإدراك غير الرؤية؛ فالإدراك يعني الإحاطة، فنحن نرى السماء لكننا لا ندركها، والله قال لموسى ﷺ ووعده صدق وحق لا يتخلف- قال له: لَّا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى [سورة طـه:77] يعني أن فرعون لن يدركك، قال تعالى: فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَّا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى [سورة طـه:77] ومع ذلك قال الله عن قول قوم موسى: فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ [سورة الشعراء:61] يعني كل طائفة نظرت إلى الأخرى قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلَّا [سورة الشعراء:61-62] لاحظ، فنفى الإدراك، أما الرؤية فتحققت مع أن الله وعده بقوله: لَّا تَخَافُ دَرَكًا [سورة طـه:77] فرؤية الفراعنة لموسى ومن معه ليست من الإدراك؛ لأن الله وعده بأن لا يقع الإدراك، وبهذا نعرف الفرق بين الإدراك وبين الرؤية، فالله قال: لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [سورة الأنعام:103] أي: لا تحيط به وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ [سورة الأنعام:103] أي: يحيط بها، فنظر الناظرين إليه كما قال : وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ [سورة القيامة:22] يعني من النضرة والحسن إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [سورة القيامة:23] يعني تنظر إلى الله .
والنظر إذا عُدِّي بـ"إلى" فالمقصود به نظر العين، وإذا عدي بـ"في" فالمقصود به نظر القلب والتفكر، تقول: نظرت في كذا، سأنظر في أمرك، بمعنى التفكر، وهنا قال الله في النظر إلى الله -تبارك وتعالى: إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [سورة القيامة:23] وفي الحديث: إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته[4].
وأحاديث الرؤية متواترة، فعقيدة أهل السنة والجماعة أن أهل الإيمان يرون الله -تبارك وتعالى- في الآخرة، أما في الدنيا فإن هذه الرؤية لا تكون، ولم يره لا النبي ﷺ ولا غير النبي ﷺ ولهذا لما طلب موسى ﷺ الرؤية قال له ربه: لَن تَرَانِي [سورة الأعراف:143] ثم علق هذه الرؤية -أعني إمكانها- على أمر ممكن وليس مستحيلاً فقال: وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا [سورة الأعراف:143] فكون الجبل يبقى وأن الله يقويه على هذا هو أمر ممكن، فلما لم يعلقه بشيء مستحيل دل على أن الرؤية ممكنة ولكنها ممتنعة في الدنيا لضعف قوى الخلق عنها، وأما في الآخرة فإن الله ينشئوهم نشأة أخرى، والله أعلم.
ولهذا كانت أم المؤمنين عائشة -ا- تثبت الرؤية في الدار الآخرة وتنفيها في الدنيا، وتحتج بهذه الآية: لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ [سورة الأنعام:103] فالذي نفته الإدراك الذي هو بمعنى رؤية العظمة والجلال على ما هو عليه فإن ذلك غير ممكن للبشر ولا للملائكة ولا لشيء.
وقوله: وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ [سورة الأنعام:103] أي: يحيط بها ويعلمها على ما هي عليه؛ لأنه خلقها كما قال تعالى: أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [سورة الملك:14] وقد يكون عبَّر بالإبصار عن المبصرين، كما قال السدي في قوله: لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ [سورة الأنعام:103] لا يراه شيء وهو يرى الخلائق.
على هذا يكون معنى الأبصار أي: الناس، ويكون قوله تعالى: لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ [سورة الأنعام:103] أي: لا يدركه الناس وهو يدركهم، لكن هذا القول لا حاجة إليه.
أحد معاني اللطيف أي الرفيق، والمعنى الآخر أي: الذي يعلم دقائق الأشياء، فالخبير هو الذي يعلم بواطن الأشياء، واللطيف هو الذي يعلم دقائقها، فالله تعالى ذكر هنا اللطيف والخبير فقال: لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ [سورة الأنعام:103] أي هو الذي يعلم دقائق الأمور، ويعلم بواطنها، والله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
- أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق - باب إذا قال أحدكم: آمين والملائكة في السماء فوافقت إحداهما الأخرى غفر له ما تقدم من ذنبه (3062) (ج 3 / ص 1181) ومسلم في كتاب الإيمان - باب معنى قول الله : وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى [سورة النجم:13] وهل رأى النبي ﷺ ربه ليلة الإسراء؟ (177) (ج 1 / ص 159) إلا أن لفظ البخاري: "فقد أعظم" بدل قولها: "فقد كذب" ولفظ مسلم: "فقد أعظم على الله الفرية".
- سنن الترمذي في كتاب التفسير – باب تفسير سورة الأنعام (3068) (ج 5 / ص 262) وصححه الألباني.
- أخرجه مسلم في كتاب الإيمان - باب في قوله : إن الله لا ينام وفي قوله: حجابه النور لو كشفه لأحرق سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه (179) (ج 1 / ص 161).
- أخرجه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة - باب فضل صلاة العصر (529) (ج 1 / ص 203) ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة - باب فضل صلاتي الصبح والعصر والمحافظة عليهما (633) (ج 1 / ص 439).