بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المفسر -رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذه الآية دلت على أن الكافر لا ينفعه الإيمان إذا طلعت الشمس من مغربها وأن المؤمن إذا كان مفرطاً مضيعاً تاركاً للعمل ثم تاب إلى الله بعد رؤيته لهذه الآية العظيمة فإنه لا ينفعه ذلك ولا يقبل منه هذا العمل، وإنما الذي ينفعه العمل هو الذي يكون مؤمناً قبل طلوع الشمس من مغربها ويكون قد كسب في إيمانه خيراً، أما إذا طلعت الشمس من المغرب فتوبة الكافر من الكفر لا تنفعه وتوبة المضيع لحدود الله كذلك لا تنفعه التوبة؛ لأن باب التوبة يغلق يومئذٍ، وهذا هو معنى قوله تعالى: أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا [سورة الأنعام:158] -والله تعالى أعلم.
فمن تحقق فيه الشرطان -الإيمان والعمل الصالح- قبل طلوع الشمس من مغربها فإن أعماله الصالحة بعد ذلك تنفعه وتقبل منه، وبعبارة أخرى لا بد من شرطين قبل طلوع الشمس من مغربها هما الإيمان والعمل الصالح، والمقصود بالإيمان الانقياد والتصديق والإقرار، وعليه فالكافر لا تنفعه توبته من الكفر إذا طلعت الشمس من مغربها، والمؤمن لا تقبل توبته من المعاصي والذنوب -إذا طلعت الشمس من مغربها- أما بقية الأعمال الصالحة لمن كان مؤمناً قد كسب في إيمانه خيراً فإنه يستمر على عمله الصالح ويقبل ذلك منه العمل الصالح، أما من كان مؤمناً لا يعمل صالحاً فإنه لا تقبل منه التوبة بالعودة إلى الأعمال الصالحة وكذا التوبة من الأعمال السيئة إذا تاب بعد طلوع الشمس من مغربها؛ لأن باب التوبة يغلق للآية والأحاديث التي دلت على ذلك.
في الأشراط جمع شرط وهي العلامات، وعلامات الساعة التي ظهرت هي العلامات الصغرى، ومن ذلك بعث النبي ﷺ.
إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ [سورة الأنعام:159] قال مجاهد وقتادة والضحاك والسدي: نزلت هذه الآية في اليهود والنصارى.
وقال العوفي عن ابن عباس -ا- في قوله: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا [سورة الأنعام:159] وذلك أن اليهود والنصارى اختلفوا قبل مبعث محمد ﷺ فتفرقوا فلما بعث محمد ﷺ أنزل الله عليه: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ الآية [سورة الأنعام:159].
يقول تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا هذه قراءة الجهور، وفي قراءة حمزة والكسائي: (إن الذين فارقوا دينهم) يعني تركوه، وأما قراءة: فَرَّقُواْ دِينَهُمْ فإنه يوضحه ما بعده من قوله: وَكَانُواْ شِيَعًا والمقصود بالشيَع: جمع شيعة وهي الطائفة التي ينصر بعضها بعضاً ويقوي بعضها بعضاً ويتشيَّع بعضها لبعض، فقوله: فَرَّقُواْ دِينَهُمْ يعني أنهم صاروا متفرقين في دينهم مختلفين على طوائف ونحل لم يجتمعوا في أمر الدين وإنما أحدثوا ما أحدثوا وبدلوا ما بدلوا فصاروا منقسمين إلى طوائف متناحرة.
ومن أهل العلم من يقول: إن قوله: فَرَّقُواْ دِينَهُمْ يعني أنهم آمنوا ببعض وكفروا ببعض، وهذا الصنيع -إذا كان يؤمن ببعض ويكفر ببعض- فلا شك أن هذا يؤدي إلى الانقسام والتفرق، وقد قيل: من وافق عقده عقدك وافق قلبه قلبك ومن خالف عقده عقدك خالف قلبه قلبك، فالناس أسرى لمعتقداتهم، فلا بد أن يحصل بنيهم الافتراق والانقسام بناء على هذا الاختلاف، فهذا أمرٌ لا بد من وقوعه، وعلى كل حال فإن قوله: فَرَّقُواْ دِينَهُمْ يدخل فيه ما أحدثوا فيه حيث كفروا ببعض وآمنوا ببعض، فصاروا بهذا الاعتبار على طوائف، ويدخل فيه أيضاً، ما اختلفوا فيه من الدين الاختلاف المذموم الذي حولهم إلى نحل وطوائف ومذاهب شتى يضلل بعضها بعضاً.
وإذا كانت هذه الآية في أهل الكتاب إلا أنه يدخل في هذا الذم كل من وقع في هذه الصفة؛ لأن هذا الذم متوجه إلى وصف مذموم فمن تلبس به من أهل البدع والأهواء من هذه الأمة فإن ذلك يشمله وذلك أن الانقسام والافتراق والاختلاف على نوعين كما هو معلوم، فالصحابة اختلفوا في أمور من مسائل الدين والأحكام، واختلفوا في بعض المسائل العلمية، ولم يؤدِّ ذلك إلى التقاطع والتدابر، ولم يتحولوا إلى فرق، وإن كان اختلافهم في بعض القضايا أدى بهم إلى الاقتتال إلا أنهم مع ذلك لم يتحولوا إلى فرق كالعلوية والمعاوية، أو الشامية والعراقية أو البيتية أو غير هذا، لم يحصل هذا إطلاقاًَ، بل كانوا يترضون عن بعضهم ويدعو بعضهم لبعض وقلوبهم بقيت سليمة لإخوانهم، حتى إن عائشة -ا- لما جاءت في جيش أهل الشام قال عنها عمار وعلي -ا: والله إنها لزوجة نبيكم في الدنيا وفي الآخرة ولكن ابتليتم بها" فما أدى ذلك بهم إلى تكفيرهم وتضليلهم لبعض، ولهذا فإن ضابط الاختلاف المذموم الذي ذكره كثير من أهل العلم هو أن يصاحبه هوى يؤدي إلى التدابر والتقاطع، وهكذا يُذم خلاف الجهلة الذين يجعلون من الخلاف في بعض المسائل خلافاً يؤدي إلى التفرق.
ومنه أيضاً ما يعرف بخلاف التنوع الذي لا يذم أصلاً لكنه إن خالفه الهوى وحصل بسببه التدابر والتقاطع فإنه يدخل في هذا، ومعنى اختلاف التنوع أن يكون هذا له اهتمام بالعلم، وهذا له اهتمام بالفقراء والمحتاجين، وهذا له اهتمام بالدعوة، وهذا له اهتمام بالجهاد ونحو ذلك، فإذا أدى هذا الاختلاف إلى تقاطع وتدابر بحيث يقرب كل فريق من وافقه على عمله أو عمل بعمله ويجفو على من لم يشتغل بهذا العمل، فهذا من الاختلاف المذموم، وهو داخل في عموم هذه الآية إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا [سورة الأنعام:159] فهي وإن كانت في أهل الكتاب إلا أن ذلك يشمل كل من تلبس بهذا الوصف القبيح، والله المستعان.
حمل الآية على العموم وأن أهل البدع يدخلون فيها، هذا هو الذي مشى عليه ابن كثير -رحمه الله- وهو الذي اختاره ابن جرير أيضاً، وبه قال طائفة من السلف، بل صرح بعض السلف أنها في أهل البدع أي أنها وإن كانت في أهل الكتاب لكن أهل البدع يدخلون في هذا المعنى، والله أعلم.
في قوله: لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ [سورة الأنعام:159] يقول ابن كثير: "فإن الله برأ رسوله ﷺ مما هم فيه" وبعضهم يقول: معناها لست من تفرقهم في شيء، وبعضهم يقول: يعني لست من السؤال عنهم في شيء بل الله هو الذي يتولى حسابهم أما أنت فعليك البيان والبلاغ وليس لك من شأن هؤلاء شيء، ولا يلزمك من ذلك شيء فلا تسأل عنهم وعن سبب تفرقهم، وبعضهم يقول: أي لست من عقابهم في شيء فعقابهم على الله لكن الأقرب -والله تعالى أعلم- أن ذلك من تبرئته ﷺ منهم حيث جرت عادة العرب أنهم يتبرؤون ممن أساء بالقول: لست مني في شيء، أو أنا بريء من عملك، أو أنا لست من عملك هذا في شيء، والله تعالى أعلم.
وفي الحديث: نحن معاشر الأنبياء أولاد علات ديننا واحد[1] فهذا هو الصراط المستقيم، وهو ما جاءت به الرسل من عبادة الله وحده لا شريك له، والتمسك بشريعة الرسول المتأخر، وما خالف ذلك فضلالات وجهالات وآراء وأهواء، والرسل برآء منها كما قال الله تعالى: لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ [سورة الأنعام:159].
وقوله تعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ [سورة الأنعام:159] كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الآية [سورة الحـج:17].
قوله: إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ [سورة الأنعام:159] يعني ليس عليك من حسابهم من شيء فالله هو الذي يتولى عقابهم.
وبعض العلماء يقولون: هذه الآية منسوخة بآية السيف، وقد عرفنا مراراً أن آية السيف لم تنسخ هذا القدر من الآيات التي تدل على الإعراض والعفو والصفح عن هؤلاء المسيئين وما أشبه ذلك، فقوله -تبارك وتعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ برأ نبيه ﷺ ثم أخبر أن أمرهم إليه وأنه هو الذي يتولى حسابهم، وهذا لا ينفي أن الله أمر نبيه ﷺ بالجهاد، فلا منافاة بين هذا وهذا، فالنبي ﷺ مأمور بالجهاد لمن لم يؤمن بالله ورسوله ﷺ كما قال الله : قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [سورة التوبة:29] فإذا دفع هؤلاء الذين تتحدث الآية الجزية تُركوا، ويبقى أن الله هو الذي يتولى حسابهم بعد ذلك.
قوله: ولا يهلك على الله إلا هالك كما قيل: ويل لمن غلبت آحاده عشراته، فالحسنة بعشر أمثالها، وفي الآية الأخرى قال عن الإنفاق: مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء [سورة البقرة:261] وأخبر عن الصبر فقال: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ [سورة الزمر:10] وفي الصيام يقول النبي ﷺ فيما يرويه عن ربه –جل وعلا: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به[3] وهو من الصبر، ولذلك يقول هنا: ولا يهلك على الله إلا هالك لأن السيئة بواحدة والحسنة بعشر إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة فكيف به وما معنى أن يأتي وسيئاته أكثر من حسناته في الميزان لا سيما وأن الحسنة تعظم والصدقة يربيها الله ؟!
وروى أحمد أيضاً عن أبي ذر قال: قال رسول الله ﷺ: يقول الله من عمل حسنة فله عشر أمثالها وأزيد، ومن عمل سيئة فجزاؤها مثلها أو أغفر، ومن عمل قُراب الأرض خطيئة ثم ليقيني لا يشرك بي شيئاً جعلت له مثلها مغفرة، ومن اقترب إليَّ شبراً اقتربت إليه ذراعاً ومن اقترب إلي ذراعاً اقتربت إليه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة ورواه مسلم[4].
واعلم أن تارك السيئة الذي لا يعملها على ثلاثة أقسام: تارة يتركها لله، فهذا تكتب له حسنة على كفِّه عنها لله تعالى، وهذا عمل ونية، ولهذا جاء أنه يكتب له حسنة، كما جاء في بعض ألفاظ الصحيح: فإنما تركها من جراي[5] أي: من أجلي، وتارة يتركها نسياناً وذهولاً عنها، فهذا لا له ولا عليه؛ لأنه لم ينوِ خيراً ولا فعل شراً، وتارة يتركها عجزاً وكسلاً عنها بعد السعي في أسبابها والتلبس بما يقرب منها فهذا بمنزلة فاعلها كما جاء في الحديث الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار قالوا: يا رسول الله، هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه[6].
هذا التقسيم الذي ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في مسألة ترك السيئات تقسيم جيد، ويمكن أن يزاد عليه، فالإنسان في تركه للسيئة من حيث الأجر والثواب أو العقاب أو أن لا تكون له ولا عليه على أنواع، النوع الأول: هو النوع الذي يثاب عليه، وذلك أن يكون هم بسيئة، والهم قد يكون بمعنى ما يخطر في البال، -حديث النفس كما قال الله في هم يوسف ﷺ: وَهَمَّ بِهَا [سورة يوسف:24] فهو من باب الخطرات، لكن الأكثر في الاستعمال لمادة "همَّ" هو انبعاث النفس إلى الفعل دون أن يصل ذلك إلى حد العزم المصمم، أما الخطرات فإن الغالب أن الهم لا يطلق عليها في عرف الاستعمال، فالحاصل أن الخطرات لا يحاسب عليها.
يقول عليه الصلاة والسلام: ومن هم بسيئة فلم يعملها خوفاً من الله فإنه يثاب تكتب له حسنة، لأنه كما قال: فإنه تركها من جراي أي خوفاً من الله.
أما إذا همَّ بالسيئة ولكنه تركها ذهولاً أو نسياناً، أو تركها حياء أو حياء من الناس أو لعدم تمكنه منها أو لم يجد الطريق إليها ففي هذه الحالة لا يكتب له حسنة ولكن لا تكتب عليه أيضاً سيئة؛ لأنها مجرد همّ، أما العزم المصمم فهو بمنزلة الفعل كما قال –عليه الصلاة والسلام: القاتل والمقتول في النار فلو أنه ذهب إلى المعصية وفي الطريق إليها وقع فانكسر أو صدم، ومن صور ذلك أن يواعد امرأة في مكان فذهب ولم يجدها فهذا تكتب عليه سيئة؛ لأنه عزم مصمم، ومثله من عزم على أن يسرق مالاً فلما ذهب لم يجده، فهذا تكتب عليه سيئة.
وأما من ترك السيئات من غير هم ولا خطرٍ في البال وإنما هو ذاهل عنها مشتغل بما هو بصدده فمثل هذا لا تكتب له حسنات على تركه ذلك، ولذا لا يقال: إن الناس المشغولين بأعمالهم من البيع والشراء وغيره، والنائمين وغيرهم تكتب لهم الحسنات؛ لأنهم لم يذهبوا إلى المراقص والخمارات ونحوها من أماكن الفساد؛ لأن ترك الذنوب والسيئات على أنواع كم سبق.
وروى الحافظ أبو القاسم الطبراني عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول ﷺ: الجمعة كفارة لما بينها وبين الجمعة التي تليها وزيادة ثلاثة أيام؛ وذلك لأن الله تعالى قال: مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا [سورة الأنعام:160].
وعن أبي ذر قال: قال رسول الله ﷺ: من صام ثلاثة أيام من كل شهر فقد صام الدهر كله رواه الإمام أحمد وهذا لفظه، والنسائي وابن ماجه والترمذي وزاد: فأنزل الله تصديق ذلك في كتابه: مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا [سورة الأنعام:160] اليوم بعشرة أيام، ثم قال: هذا حديث حسن[7].
والأحاديث والآثار في هذا كثيرة جداً، وفيما ذكر كفاية إن شاء الله وبه الثقة.
قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [سورة الأنعام:161-163].
يقول تعالى آمراً نبيه ﷺ سيد المرسلين أن يخبر بما أنعم به عليه من الهداية إلى صراطه المستقيم الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف.
دِينًا قِيَمًا أي: قائماً ثابتاً.
قوله تعالى: دِينًا قِيَمًا -بالتخفيف- هذه قراءة الكوفيين وابن عامر، وعلى قراءة بقية السبعة بالتشديد (ديناً قيّماً) والمعنى في القراءتين واحد بمعنى أنه دين مستقيم لا اعوجاج فيه كما قال: هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ وكقوله تعالى: ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ [سورة الروم:30] يعني الدين المستقيم، وكقوله تعالى: وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [سورة البينة:5] فقِيَماً وقيِّماً بمعنى الدين المستقيم، ثم بيّنه ووضحه بقوله بعد: مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يعني هداني ربي إلى صراط مستقيم ديناً مستقيماً ملة أبي إبراهيم -عليه الصلاة والسلام.
هذا جواب على سؤال مقدر هو أن النبي ﷺ إذا كان له في إبراهيم أسوة وقدوة وهو مأمور باتباع ملة إبراهيم ﷺ فإن المتبوع أكمل من التابع، فهو يقتدي به ويتأسى به ليحصل الكمال، فهل هذا يعني أن إبراهيم ﷺ أكمل وأفضل من نبينا محمد -عليه الصلاة والسلام؟
فالجواب: لا، وقد ذكر أهل العلم هذا الإشكال والجواب عنه، وخلاصة ذلك أشار إليه الحافظ ابن كثير، ويمكن أن يوضح بعبارة أبين من هذا وهو أن يقال: إن اقتداء النبي ﷺ بإبراهيم -عليه الصلاة والسلام- ليكون بذلك محصلاً للكمال الذي حصله فيزيد عليه النبي ﷺ بما حباه الله به من الفضائل والكمالات فوق ذلك.
وهذه المسألة ذُكرت عند الكلام على الصلاة على النبي ﷺ في التشهد -اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم- حيث إن بعض أهل العلم ذكر الكلام على هذه المسألة هناك.
ولهذا كان خاتم الأنبياء وسيد آدم على الإطلاق وصاحب المقام المحمود الذي يرغب إليه الخلق حتى الخليل -.
وروى الإمام أحمد عن ابن عباس -ا- أنه قال: قيل لرسول الله ﷺ: أي الأديان أحب إلى الله تعالى؟ قال: الحنيفية السمحة[8].
وقوله تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [سورة الأنعام:162] يأمره تعلى أن يخبر المشركين الذين يعبدون غير الله ويذبحون لغير اسمه أنه مخالف لهم في ذلك فإن صلاته لله ونسكه على اسمه وحده لا شريك له، وهذا كقوله تعالى: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [سورة الكوثر:2] أي: أخلص له صلاتك وذبحك فإن المشركين كانوا يعبدون الأصنام ويذبحون لها فأمره الله تعالى بمخالفتهم والانحراف عما هم فيه والإقبال بالقصد والنية والعزم على الإخلاص لله تعالى.
قال مجاهد في قوله: إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي [سورة الأنعام:162] النسك: الذبح في الحج والعمرة.
الحافظ ابن كثير -رحمه الله- مشى هنا على أساس أن النسك بمعنى الذبح، والنسك يطلق على الذبح وهو عبادة من أجلِّ العبادات فيقال للهدي والأضحية: هذه نسيكة ولهذا عبر بعض السلف عن هذا بالأضحية، وبعضهم قال: ما يذبح في الحج من الهدايا، وبعضهم فسره بما هو أعم من هذا قال: هو الحج، فالحج يقال له نسك، ولهذا يقال: أحكام المناسك، وبعضهم فسره بأعم من ذلك كله فقالوا: المراد بالنسك العبادة، يقال: فلان ناسك، وفلان يتنسك يعني يتعبد، فكل ذلك يقال له: نسك، فإذا فسر قوله: قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي [سورة الأنعام:162] بهذا المعنى العام يكون هذا من باب عطف العام على الخاص، يعني صلاتي وعبادتي، وإذا فسر ببعض معناه كأن يقال: إن صلاتي وحجي أو إن صلاتي وذبحي لله -سواء كانت أضحية أو الهدي الذي في الحج- فهذا يكون من عطف المتغايرات أي عطف الأنواع بعضها على بعض، ومن قال: إن النسك يعني الأضحية أو أنه الهدي فهذا من باب المثال، والذبيحة تشمل ذلك جميعاً، والله تعالى أعلم.
وقوله: وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي [سورة الأنعام:162] قال بعضهم: ومحياي أي: ما أعمله في حال الحياة من ألوان البر والعمل الصالح، ومماتي أي: ما أتسبب في وقوعه بعد الموت كالوصية التي تنفذ بعد موته من صدقة ونحو ذلك.
وبعضهم قال: ومحياي ومماتي أن المراد بذلك الحياة والموت، أي أنه قد وجه وجهه لله رب العالمين، وحده أفرده بالعبادة فهو لا يتوجه إلى أحد سواه في صلاته وفي ذبحه وعبادته، وحياتُه كلها لله ومماتُه كله لله لا يتوجه إلى أحد سواه، وهذا الذي فسرها به كبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله، والقول بأن المراد بذلك ما يعمله في الحياة وبعد الموت لا يبعد عن هذا؛ لأنه إذا كانت حياة الإنسان لله أصلاً، فمعنى ذلك أنه مشتغل بطاعته وتوحيده والتقرب إليه التوجه إليه، لا يشغله عن ذلك انصراف إلى معبود سواه ولا يشغله عن ذلك اشتغال بهوى؛ فالهوى أيضاً سماه الله إلهاً، قال تعالى: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ [سورة الفرقان:43] فتكون حياته لغير الله ، فهو يحيا لشهواته ونزوات نفسه ويكون مضيعاً لأمر الله -تبارك وتعالى- تاركاً له.
هذا هو المعنى المتعيّن في قوله: وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [سورة الأنعام:163] أي هو مسبوق إلى الإسلام، لكن لا بد هنا من تقدير وأنا أول المسلمين من هذه الأمة، وهكذا يقدر في جميع المواضع في القرآن حتى قول الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- مما ورد على لسانهم مما حكاه الله عنهم، فالمراد أول المسلمين من أمته وإلا فهم مسبوقون بآدم ﷺ وكان على الإسلام، ولذلك لا حاجة لقول من قال: إن المراد بقوله: وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [سورة الأنعام:163] أي أن هذه الأمة وإن كانت متأخرة إلا أنها تكون متقدمة على سائر الأمم حيث إنها تحاسب قبلها وتدخل الجنة قبلها، فليس هذا هو المراد وإنما المراد وأنا أول الداخلين في الإسلام من هذه الأمة، والله أعلم.
وأصله عبادة الله وحده لا شريك له، كما قال: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [سورة الأنبياء:25].
وقد أخبرنا تعالى عن نوح أنه قال لقومه: فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [سورة يونس:72] وقال تعالى: وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [سورة البقرة:130-132].
وقال يوسف : رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [سورة يوسف:101].
وقال موسى : يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ فَقَالُواْ عَلَى اللّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [سورة يونس:84-86].
وقال تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ الآية [سورة المائدة:44] وقال تعالى: وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ [سورة المائدة:111].
فأخبر تعالى أنه بعث رسله بالإسلام ولكنهم متفاوتون فيه بحسب شرائعهم الخاصة التي ينسخ بعضها بعضاً إلى أن نسخت بشريعة محمد ﷺ التي لا تنسخ أبد الآبدين ولا تزال قائمة منصورة وأعلامها منشورة إلى قيام الساعة، ولهذا قال : نحن معاشر الأنبياء أولاد علات ديننا واحد[10] فإن أولاد العلات هم الأخوة من أب واحد وأمهات شتى، فالدين واحد وهو عبادة الله وحده لا شريك له وإن تنوعت الشرائع التي هي بمنزلة الأمهات، كما أن أخوة الأخياف عكس هذا بنو الأم الواحدة من آباء شتى، والأخوة الأعيان الأشقاء من أب واحد وأم واحدة، والله أعلم.
وقد روى الإمام أحمد عن علي أن رسول الله ﷺ كان إذا كبر استفتح ثم قال: وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي ذنوبي جميعاً، لا يغفر الذنوب إلى أنت، واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت، تبارك وتعاليت أستغفرك وأتوب إليك، ثم ذكر تمام الحديث فيما يقوله في الركوع والسجود والتشهد، وقد رواه مسلم في صحيحه[11].
هذا الاستفتاح كان يقوله ﷺ في صلاة الليل، وذكرنا في شرح العمدة أن ما ورد مقيداً من الأذكار في صلاة الليل من أدعية الاستفتاح وأدعية الركوع والسجود فإنه يقال في صلاة الليل، ومن ذلك قوله ﷺ في دعاء استفتاح الصلاة: الله أكبر –ثلاثاً- ذو الملكوت والجبروت والكبرياء والعظمة [12]فإنه يقال في صلاة الليل.
قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [سورة الأنعام:164].
يقول تعالى: قل يا محمد لهؤلاء المشركين بالله في إخلاص العبادة له والتوكل عليه أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِي رَبًّا [سورة الأنعام:164] أي: أطلب رباً سواه وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ [سورة الأنعام:164] يربيني ويحفظني ويكلؤني ويدبر أمري، أي: لا أتوكل إلا عليه ولا أنيب إلا إليه؛ لأنه رب كل شيء ومليكه وله الخلق والأمر، ففي هذه الآية الأمر بإخلاص التوكل كما تضمنت التي قبلها إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، وهذا المعنى يقرن بالآخر كثيراً في القرآن كقوله تعالى مرشداً لعباده أن يقولوا له: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5] وقوله: فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ [سورة هود:123] وقوله: قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا [سورة الملك:29] وقوله: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا [سورة المزمل:9] وأشباه ذلك من الآيات.
وقوله تعالى: وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ [سورة الأنعام:164] إخبار عن الواقع يوم القيامة في جزاء الله تعالى وحكمه وعدله أن النفوس إنما تجازى بأعمالها إن خيراً فخير وإن شراً فشر، وأنه لا يحمل من خطيئة أحد على أحد وهذا من عدله تعالى كما قال: وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى [سورة فاطر:18] وقوله تعالى: فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا [سورة طـه:112] قال علماء التفسير: أي: فلا يظلم بأن يحمل عليه سيئات غيره ولا يهضم بأن ينقص من حسناته، وقال تعالى: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ [سورة المدثر:38-39] معناه كل نفس مرتهنة بعلمها السيئ إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ [سورة المدثر:39] فإنه قد يعود بركة أعمالهم الصالحة على ذرياتهم وقرابتهم كما قال في سورة الطور: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ [سورة الطور:21] أي: ألحقنا بهم ذريتهم في المنزلة الرفيعة في الجنة وإن لم يكونوا قد شاركوهم في الأعمال بل في أصل الإيمان.
وَمَا أَلَتْنَاهُم أي: أنقصنا أولئك السادة الرفعاء من أعمالهم شيئاً حتى ساويناهم وهؤلاء الذين هم أنقص منهم منزلة بل رفعهم تعالى إلى منزلة الآباء ببركة أعمالهم بفضلة ومنته، ثم قال: كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ [سورة الطور:21] أي: من شر.
قوله -تبارك وتعالى: وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [سورة الأنعام:164] لا ينافي قوله -تبارك وتعالى: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ [سورة العنكبوت:13] وما ورد من مضاعفة العذاب للأئمة المضلين فإن ذلك مما تسبب عن عملهم ونتج عنه، فإنهم يحملون أوزار من أضلوهم، والنبي ﷺ أخبر أن من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها[13] ولذلك فإن قوله: وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى أي: أن الإنسان لا يحمل جريرة عمل غيره وإنما يتحمل عمله فقط، فإن تسبب في إضلال أحد من الناس فإن ذلك من عمله ويجازى عليه ويضاعف له بذلك الأوزار والعذاب، فمن ابتدع بدعة اتبع عليها فإنه يحمل أوزار من عمل بذلك العمل ولا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً، فالآيات متوافقة، فهذه الآية تدل فقط على أن الإنسان لا يظلم ولا يؤخذ وزر إنسان آخر ويوضع عليه كما قال تعالى: وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ [سورة الإسراء:13] يعني عمله في عنقه، فيجازى على أعماله فقط ولا يجازى على أعمال الآخرين، إلا إن كان متسبباً.
وقوله: ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [سورة الأنعام:164] أي: اعملوا على مكانتكم إنا عاملون على ما نحن عليه فستعرضون ونعرض عليه، وينبئنا وإياكم بأعمالنا وأعمالكم، وما كنا نختلف فيه في الدار الدنيا كقوله: قُل لَّا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ [سورة سبأ:25-26].
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ [سورة الأنعام:165].
يقول تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ أي: جعلكم تعمرونها جيلاً بعد جيل وقرناً بعد قرن وخلفاً بعد سلف -قاله ابن زيد وغيره- كقوله تعالى: وَلَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَا مِنكُم مَّلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ [سورة الزخرف:60] وكقوله تعالى: وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ [سورة النمل:62] وقوله: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً [سورة البقرة:30] وقوله: عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [سورة الأعراف:129].
وقوله: وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ [سورة الأنعام:165] أي: فاوت بينكم في الأرزاق والأخلاق والمحاسن والمساوئ والمناظر والأشكال والألوان وله الحكمة في ذلك.
قوله: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ يقول ابن كثير: جعلكم تعمرونها جيلاً بعد جيل وقرناً بعد قرن وخلفاً بعد سلف" وخلائف الأرض أي يخلف بعضكم بعضاً.
وابن جرير -رحمه الله- قال: أي أن الله جعلكم خالفين للأمم التي أهلكها قبلكم، يعني استخلفكم بعدهم، وهذا المعنى لا يخرج عن المعنى الذي ذكره ابن كثير –رحم الله الجميع.
وفي قوله -تبارك وتعالى: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً [سورة البقرة:30] يقول بعضهم: خليفة من الجن الذين كانوا في الأرض قبل بني آدم وأنهم أفسدوا فيها ثم قاتلتهم الملائكة فجعل الآدميين خلائف من الجن -وهذا كله مبني على الإسرائيليات- وبعضهم يقول: يعني أنه يخلف بعضهم بعضاً، وعلى كل حال ليس المراد بأي آية من هذه الآيات أن الإنسان خليفة الله في الأرض –كما قال بعضهم- فالله أعظم وأجل من ذلك، فهذا المعنى وإن قال به بعض أهل العلم إلا أنه خلاف التحقيق فلا يصح أن يقال إطلاقاً.
قوله: وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ [سورة الأنعام:165] يعني في العقول والقوة والعلم والغنى والشرف والمرتبة.
وقوله: لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ [سورة الأنعام:165] هذه هي الحكمة من هذا التفاوت، فحساب الذكي ليس كحساب الغبي، وحساب الغني ليس كحساب الفقير، وحساب القوي ليس كحساب الضعيف، فالناس يتفاوتون بحسب ما أعطاهم الله من القُدر والإمكانات.
وفي بعض المواضع بيّن الله أن هذا التفاوت من أجل أن يتخذ بعضهم بعضاً سخرياً، ليُسخَّر بعضهم لبعض؛ لأنهم لو كانوا صبة واحدة لا تفاوت بينهم في العقول والإمكانات والغنى وما أشبه ذلك لما وجدت أحداً يعمل لأحد، ولاستغنى الناس بعضهم عن بعض، بمعنى أنك لن تجد من يقُمُّ الطريق، وما وجدت من يبني، ولا من يحمل المتاع ولا من يصلح السيارة، ولا من يزاول المهن أو الخدمة ولا غير ذلك، لكن لما كان هذا يحتاج إلى المال وهذا عنده مهنة يكتسب بها، وهذا فقير وهذا غني صار بعضهم يحتاج إلى بعض، فهذا ميزه الله بالعلم في هذا الجانب فيحتاج الناس إليه، وهو يحتاج إليهم في علم آخر أو احتاج إلى من لهم مهن يزاولونها، وهكذا يكمل الناس بعضهم بعضاً وتقوم الحياة بهذه الطريقة.
قوله تعالى: لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ [سورة الأنعام:165] أي: ليختبركم في الذي أنعم به عليكم وامتحنكم به؛ ليختبر الغني في غناه، ويسأله عن شكره، والفقير في فقره ويسأله عن صبره.
وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله ﷺ: إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فناظر ماذا تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء[14].
وقوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ [سورة الأنعام:165] ترهيب وترغيب أن حسابه وعقابه سريع في من عصاه وخالف رسله، وإنه لغفور رحيم لمن والاه واتبع رسله فيما جاؤوا به من خبر وطلب، وكثيراً ما يقرن الله تعالى في القرآن بين هاتين الصفتين كقوله: وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ [سورة الرعد:6].
وقوله: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ [سورة الحجر:49-50] إلى غير ذلك من الآيات المشتملة على الترغيب والترهيب، فتارة يدعو عباده إليه بالرغبة وصفة الجنة والترغيب فيما لديه، وتارة يدعوهم إليه بالرهبة وذكر النار وأنكالها وعذابها والقيامة وأهوالها، وتارة بهما لينجع في كلٍ بحسبه.
جعلنا الله ممن أطاعوا فيما أمر، وترك ما عنه نهى وزجر، وصدقه فيما أخبر، إنه قريب مجيب سميع الدعاء جواد كريم وهاب.
وقد روى الإمام أحمد عن أبي هريرة مرفوعاً أن رسول الله ﷺ قال: لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع بجنته أحد، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط أحد من الجنة، خلق الله مائة رحمة فوضع واحدة بين خلقه يتراحمون بها وعند الله تسعة وتسعون ورواه الترمذي وقال: حديث حسن، ورواه مسلم[15].
وعنه أيضاً قال: قال رسول الله ﷺ: لما خلق الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي تغلب غضبي[16].
آخر تفسير سورة الأنعام، ولله الحمد والمنة..
- أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء - باب قوله تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا [سورة مريم:16] (3259) (ج 3 / ص 1270) ومسلم في كتاب الفضائل - باب فضائل عيسى (2365) (ج 4 / ص 1837).
- أخرجه الدارمي في كتاب الرقاق - باب من هم بحسنة (2786) (ج 2 / ص 413) والنسائي في السسن الكبرى (7670) (ج 4 / ص 396) وهذا لفظهما ورواه البخاري في كتاب الرقاق - باب من هم بحسنة أو بسيئة (6126) (ج 5 / ص 2380) ومسلم في كتاب الإيمان - باب إذا هم العبد بحسنة كتبت وإذا هم بسيئة لم تكتب (131) (ج 1 / ص 118) وأحمد (2519) (ج 1 / ص 279).
- أخرجه البخاري في كتاب اللباس - باب ما يذكر في المسك (5583) (ج 5 / ص 2215) ومسلم في كتاب الصيام - باب فضل الصيام (1151) (ج 2 / ص 806).
- أخرجه مسلم كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار - باب فضل الذكر والدعاء والتقرب إلى الله تعالى (2687) (ج 4 / ص 2068) وأحمد (21398) (ج 5 / ص 153) واللفظ له.
- أخرجه البخاري في كتاب التوحيد – باب قول الله تعالى: يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ [سورة الفتح:15] (7062) (ج 6 / ص 2724) ومسلم في كتاب الإيمان - باب إذا هم العبد بحسنة كتبت وإذا هم بسيئة لم تكتب (129) (ج 1 / ص 117) واللفظ لمسلم.
- أخرجه البخاري في كتاب الديات – باب قول الله تعالى: وَمَنْ أَحْيَاهَا [سورة المائدة:32] (6481) (ج 6 / ص 2520) ومسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة - باب إذا تواجه المسلمان بسيفيهما (2888) (ج 4 / ص2213).
- أخرجه الترمذي في كتاب الصوم - باب ما جاء في صوم ثلاثة أيام من كل شهر (761) (ج 3 / ص 134) والنسائي في كتاب – باب ذكر الاختلاف على أبي عثمان في حديث أبي هريرة في صيام ثلاثة أيام من كل شهر (2409) (ج 4 / ص 219) وأحمد (21339) (ج 5 / ص145) وأبو يعلى (6650) (ج 12 / ص 5) وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (6324).
- أخرجه البخاري في الأدب المفرد (287) (ج 1 / ص 108) وأحمد (2107) (ج 1 / ص 236) والطبراني في الكبير (11597) (ج 11 / ص 227) وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم (160).
- أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها - باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه (771) (ج 1 / ص 534).
- أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء - باب قوله تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا [سورة مريم:16] (3259) (ج 3 / ص 1270) ومسلم في كتاب الفضائل - باب فضائل عيسى (2365) (ج 4 / ص 1837).
- هو في مسلم مختصر –كما سبق- وأخرجه بتمامه أبو داود في كتاب الصلاة - باب ما يستفتح به الصلاة من الدعاء (760) (ج 1 / ص 277).
- أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة - باب ما يقول الرجل في ركوعه وسجوده (874) (ج 1 / ص 325) والنسائي في كتاب صفة الصلاة - باب الدعاء بين السجدتين (1145) (ج 2 / ص 231) وصححه الألباني في المشكاة برقم (1200).
- أخرجه مسلم في كتاب الزكاة - باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة أو كلمة طيبة وأنها حجاب من النار (1017) (ج 2 / ص 704).
- أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار - باب أكثر أهل الجنة الفقراء وأكثر أهل النار النساء وبيان الفتنة بالنساء (2742) (ج 4 / ص 2098).
- أخرجه مسلم في كتاب التوبة - باب في سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه (2755) (ج 4 / ص 2109).
- أخرجه البخاري في كتاب التوحيد - باب قول الله تعالى وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ [سورة آل عمران:28] (6969) (ج 6 / ص 2694).