بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فيقول الله :
قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ [سورة الأعراف:24-25].
قال الحافظ ابن كثير –رحمه الله: "قيل: المراد بالخطاب في اهْبِطُواْ آدم وحواء وإبليس والحية، ومنهم من لم يذكر الحية، والله أعلم، والعمدة في العداوة آدم وإبليس، ولهذا قال تعالى في سورة طه: قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا الآية [سورة طـه:123]، وحواء تبع لآدم، والحية إن كان ذكرها صحيحاً فهي تبع لإبليس..".
الأمر بالهبوط جاء مفرداً كما في قوله في الآية السابقة: قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا [سورة الأعراف:13] وهذا لا شك أن المراد به إبليس، وجاء بالتثنية فقال تعالى: اهْبِطَا مِنْهَا فهذا يحتمل أن المراد به آدم وحواء، ويحتمل أن يكون المراد به آدم وإبليس، وتكون حواء تبعاً لآدم، وأما بصيغة الجمع قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً [سورة البقرة:38] فآدم وحواء وإبليس.
وأما ذكر الحية هنا التي أشار إليها فبناء على ما ورد في بعض المنقولات والمرويات، ولا أعلم شيئاً في ذلك يصح عن رسول الله ﷺ، لكن يقولون: إن إبليس حينما وسوس لآدم كان ذلك عن طريق التشكل والتصور بصورة الحية، وهذا الكلام لا دليل عليه، ومثل هذه المنقولات الإسرائيلية -كما هو معلوم- ثلاثة أقسام: ما وافق ما عندنا قُبل، وما خالفه رُد، وما لم يوافق أو يخالف فإنه يُتوقف فيه.
يقول –رحمه الله:
هذا أيضاً من الأمور التي لا طائل تحتها، أين نزل آدم ﷺ، وأين نزلت حواء وأين كان التقاؤهما وتعارفهما كل ذلك لا فائدة فيه، ولو كان فيه فائدة لذكره الله -، فالعبرة إنما هي بمعرفة أثر المعصية التي وقعت من آدم والكبر الذي وقع من إبليس، وأن نعرف عداوة إبليس.
وقد يرد سؤال في مثل هذه الآيات -وقد سبق الكلام عن كثير مما يتعلق بها في سورة البقرة- وهو أن آدم ﷺ كان في الجنة، فكيف استطاع إبليس أن يوسوس له، وهو طريد لعين؟ فمثل هذا نقول: إذا أراد الله شيئاً كان، فهو إما أن يكون دخل عن طريق مخلوق آخر -كما يزعمون أن ذلك كان عن طريق الحية- وقد يسلطه الله عليه بالوسوسة وإن لم يكن داخل الجنة، وقد يكون بأي طريق أراده الله -تبارك وتعالى- فمثل هذا ليس محل إشكال، والله تعالى أعلم.
يقول:
ولو كان في تعيين تلك البقاع فائدة تعود على المكلفين في أمر دينهم أو دنياهم لذكرها الله تعالى في كتابه أو رسوله ﷺ.
وقوله: وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ [سورة الأعراف:24] أي: قرار وأعمار مضروبة إلى آجال معلومة، قد جرى بها القلم، وأحصاها القدر وسطرت في الكتاب الأول.
قوله: وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ [سورة الأعراف:24] يعني قرار.
وقوله: وَمَتَاعٌ يعني حيث تتمتعون إلى الآجال التي أجلها الله لكم.
وقوله: قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ [سورة الأعراف:25] كقوله تعالى: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى [سورة طـه:55] يخبر تعالى أنه جعل الأرض داراً لبني آدم مدة الحياة الدنيا فيها محياهم وفيها مماتهم وقبورهم ومنها نشورهم ليوم القيامة الذي يجمع الله فيه الأولين والآخرين ويجازي كلاً بعمله.
يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ [سورة الأعراف:26] يمتن تعالى على عباده بما جعل لهم من اللباس والريش، فاللباس المذكور هنا لستر العورات، وهي السوءات، والرياش والريش ما يتجمل به ظاهراً، فالأول من الضروريات، والريش من التكميلات والزيادات، قال ابن جرير: الرياش في كلام العرب الأثاث وما ظهر من الثياب.
ما ذكره الله هنا من اللباس والرياش، هذا أحد الأوجه المعروفة في تفسيره أي أن اللباس ما يحصل به ستر العورات وليس بزائد عن القدر المحتاج إليه، وأما الرياش فهو ما يتجمل به، يعني أن العمامة بهذا الاعتبار تكون من الرياش، فاللباس الزائد عن قدر الحاجة الضرورية يكون من الرياش بهذا الاعتبار.
وكلام ابن جرير -رحمه الله- في تفسير الرياش أوسع من هذا، أي أنه لا يختص بالثياب فقط وإنما في الأمور التكميلية، والأمر التكميلي من اللباس هو ما كان خارجاً عن الضروري مما يتزين به الإنسان، ومن غير اللباس أيضاً كالأشياء التي يتخذها الإنسان لراحته في تقلباته المختلفة من فراش وما يعد للجلوس من الأرائك ونحوها، كل ذلك من الرياش.
وبعضهم يفسر الرياش أيضاً باللباس، لكنه بهذا الاعتبار سيكون تكراراً، وهذا بعيد.
وبعضهم يفسره بمعنى أعم مما ذكره ابن جرير فيقول: إن الرياش يدخل فيه ما يحصل به السعة لهم من الخصب في أرضهم والرفاهية والرغد في العيش، وما إلى ذلك، فلا يختص بالثياب، وهذا المعنى الذي ذكره هؤلاء -أعني المعنى الأخير- معنى معروف عند العرب، وقد اشتهر عند كثير من أهل اللغة أي أن الرياش يقال للثياب التي يستتر بها الإنسان، ويقال لما زاد على ذلك، وما يحصل به التوسع للإنسان في أمور معيشته.
وبعضهم يفسر الرياش بالمال، وهذا مقارب للذي قبله؛ لأن التوسعة إنما تحصل بالمال، ومثل هذا المعنى لا زال مستعملاً إلى اليوم، فيقال: فلان رائش، يعني أنه يعيش في رغد ورفاهية ومال، والله تعالى أعلم.
قال ابن جرير: "الرياش في كلام العرب الأثاث وما ظهر من الثياب" كلام ابن جرير –رحمه الله- أكثر من هذا، هنا قال: الأثاث وما ظهر من الثياب مما يلبس أو يحشى من فراش أو دثار، ويقول: والريش هو المتاع والأموال عندهم، وربما استعملوه في الثياب والكسوة دون سائر المال، يعني أن الرياش بإطلاقه الأعم هو كل ما يحصل به التوسع في أمور المعيشة ولا يختص باللباس، ويطلق بإطلاق أخص وهو ما يتعلق بالثياب، مما يلبسه الإنسان.
قال:
وهذا باعتبار أن ستر العورات من التقوى، فهو لباس التقوى بهذا الاعتبار يعني يكون الإنسان على حال مرضية وطاعة وقبول عن الله وإذعان وتسليم إذا كان ساتراًً للعورات، وذلك أن إبداء العورات من عمل الشيطان، مما يزينه لابن آدم، كما سيأتي في قوله -تبارك وتعالى: وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا [سورة الأعراف:28] وذلك ما كان يحصل منهم من كشف العورات والتجرد من اللباس عند الطواف كما في صحيح مسلم، حيث كانت المرأة تقول وهي تطوف عريانة: اليوم يبدو بعضه أو كلُّه وما بدا منه فلا أحله[1] فهذا من تزيين الشيطان، والله ينهى عنه ولا يأمر به، وهم يضيفون ذلك إلى الله، فلباس التقوى على هذا المعنى الذي ذكره عن زيد بن أسلم هو ستر العورات، يعني أن ذلك من التقوى.
ولفظة "لباس" قرئت بالنصب أيضاً: وَلِبَاسَ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ [سورة الأعراف:26] وقرئت بالرفع وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ فبالنصب على أنها معطوفة على "لباساً" الأولى هكذا قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسَ التَّقْوَىَ [سورة الأعراف:26] فتكون عائدة إلى "لباساً" الأولى على أنها مفعول به، وعلى قراءة الرفع يكون "لباسُ" من قوله: وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ [سورة الأعراف:26] مبتدأً، وهو مضاف والتقوى مضاف إليه.
ولباس التقوى عبارات السلف فيه متقاربة، فبعضهم يقول: لباس الخشية، ومنهم من يقول: لباس الحياء، ومنهم من يقول: العمل الصالح.
وقد يقال: اللباس هو ما يشتمل عليه الإنسان أو ما يتحلى به أو هو ما يزاوله الإنسان كما قال القائل:
إذا المرء لم يلبس ثياباً من التقى | تقلب عرياناً وإن كان كاسياً |
وكما قال بعضهم:
تغطَّ بأثواب السخاء فإنني | أرى كل عيب والسخاء غطاؤه |
يعني إذا كان الإنسان يجود ويعطي ويبذل فإن هذا يغطي عيوبه الأخرى، حتى لو كان اسمه قبيحاً فإنه يكون جميلاً وجيّداً إذا كان الإنسان سخياً، فضلاً عن الأشياء التي قد تكون منقصة في نظر الناس من ضعة في النسب أو دمامة في الوجه أو نحو هذا، كل ذلك يرتفع ويزول إذا بذل الإنسان المال، أي أن ذلك يغطي عيوبه، والمقصود أن الله -تبارك وتعالى- قال: وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ [سورة الأعراف:26] أي يكون الإنسان متحلياً بتقوى الله -تبارك وتعالى، وإذا كان الإنسان متقياً فإنه يحفظ الرأس وما وعى والبطن وما حوى ويكون مستحياً من الله حق الحياء فلا يتجرد من اللباس كما كانوا يفعلون في الجاهلية، فإن ذلك خلاف الحياء والخشية والورع والتقوى والخوف من الله فكل هذه المعاني من التقوى، فالتقوى معنى يشمل ذلك جميعاً، فهي العمل بطاعة الله وترك مخالفته.
والله هنا جمع بين اللباس الظاهر وبين المعنى الباطن من تقوى الله والإيمان وما أشبه ذلك، وقد قال تعالى في الآية الأخرى في سورة المدثر: وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ [سورة المدثر:4] والمقصود أن تطهر النفس والقلب من الأدناس والأرجاس ومن الشرك بالله -تبارك وتعالى- والغل والحسد والذنوب والتعلق بغير الله ويدخل في ذلك تطهير الثياب الظاهرة التي يلبسها الإنسان.
وابن القيم له كلام جيد في هذا المعنى، وفي هذه الآية أيضاً أشار إلى الجمع بين المعنيين، ولابن جرير -رحمه الله- كلام جيد في هذا المعنى أيضا.
يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ [سورة الأعراف:27].
يحذر تعالى بني آدم من إبليس وقبيله، مبيناًَ لهم عداوته القديمة لأبي البشر آدم في سعيه في إخراجه من الجنة التي هي دار النعيم إلى دار التعب والعناء، والتسبب في هتك عورته بعدما كانت مستورة عنه وما هذا إلا عن عداوة أكيدة، وهذا كقوله تعالى: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا [سورة الكهف:50].
يقول تعالى: لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ أصل الفتْن هو الاختبار والامتحان، ويطلق أيضاً على الصرف والصد عن صراط الله المستقيم، تقول: فلان مفتون وفلان يفتن الناس، والله يقول: رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا [سورة الممتحنة:5] على المعنيين في المصدر لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً أي: لا تجعلنا فاتنين بأن تسلط عدوناً علينا فيكون ذلك سبباً لفتن الناس عن الإسلام، يعني يكرهون الإسلام ويقولون: لو كان هذا حقاً ما كانوا بهذا الضعف والعجز والمهانة.
والمعنى الثاني: رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً [سورة الممتحنة:5] أن يكون المصدر بمعنى المفعول، أي لا تجعلنا مفتونين بأن تسلط عدونا علينا فيقهرنا ويصرفنا عن ديننا، وعلى كل واحد من المعنيين يصير الفتن بمعنى الصد والصرف عن الحق.
قوله: يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا [سورة الأعراف:27] أي أنه متسبب بهذا.
وقوله: إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ [سورة الأعراف:27] فُسِّر قبيله بأعوانه وجنوده، والأقرب -والله تعالى أعلم- أن ذلك لا يختص بهم بل يدخل فيه نظيره وما كان من جنسه وهم الجن، فإبليس من الجن، والجن يرون الإنس من حيث لا يراهم الإنس، وليس في الآية ما يدل على أنه لا يمكن رؤية الجن، ولكن قال: إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ [سورة الأعراف:27] فهم يرون الناس والناس لا يرونهم كما هو معلوم، لكن قد يراهم الناس في بعض الحالات العارضة وليس ذلك عادة مطردة بل هو خلاف الأصل.
يقول تعالى: إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ [سورة الأعراف:27] الإنسان إما أن يكون وليّاً للشيطان أو وليّاً لله فالعامل بطاعة الله يكون من أوليائه، والمتبع سبيل الشيطان يكون ولياً له ويكون من حزبه كما قال تعالى: أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ [سورة المجادلة:19] وهم طائفته وأتباعه الذين يعملون بما يزينه لهم ويمليه لهم، فالناس إما هذا وإما هذا، وكل إنسان بحسب ما غلب عليه، فالذي يدعو للشر ويزين الشر للناس ويكون عاملاً به لا شك أنه من أولياء الشيطان، والكفار بجميع أنواعهم هم من أولياء الشيطان وحزبه، قال تعالى: اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ [سورة المجادلة:19] والمنافقون من أوليائه، وكل عامل بطاعة الشيطان فهو ولي له.
يقول ابن جرير –رحمه الله: "فإذا كان ذلك كذلك فتأويل الكلام -إذا رفع لباسُ التقوى- ولباس التقوى ذلك الذي قد علمتموه خير لكم يا بني آدم من لباس الثياب التي تواري سوءاتكم، ومن الرياش التي أنزلناها إليكم، هكذا فالبسوه، وأما تأويل مَنْ قرأه نصبًا، فإنه: يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسَ التَّقْوَىَ هذا الذي أنزلنا عليكم من اللباس الذي يواري سوءاتكم والريش ولباس التقوى خير لكم من التعري والتجرد من الثياب في طوافكم في البيت، فاتقوا الله والبسوا ما رزقكم الله من الرياش ولا تطيعوا الشيطان بالتجرد والتعري من الثياب فإن ذلك سخرية منه بكم وخدعة كما فعل بأبويكم آدم وحواء فخدعهما حتى جردهما من لباس الله الذي كان ألبسهما بطاعتهما له في أكل ما كان الله نهاهما عن أكله من ثمر الشجرة التي عصياه بأكلها.
قال أبو جعفر: وهذه القراءة أولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب -يقصد قراءة النصب- لصحة معناه في التأويل على ما بينت وأن الله إنما ابتدأ الخبر عن إنزاله اللباس الذي يواري سوءاتنا والرياش توبيخاًً للمشركين الذين كانوا يتجردون في حال طوافهم بالبيت، ويأمرهم بأخذ ثيابهم والاستتار بها في كل حال مع الإيمان به واتباع طاعته، ويعلمهم أن كل ذلك خير من كل ما هم عليه مقيمون من كفرهم بالله وتعريهم إلا أنه أعلمهم أن بعض ما أنزل إليهم خير من بعض.
ومما يدل على صحة ما قلنا في ذلك الآيات التي بعد هذه الآية، وذلك قوله: يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا [سورة الأعراف:27] وما بعد ذلك من الآيات إلى قوله: وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [سورة الأعراف:33] فإنه -جل ثناؤه- يأمر في كل ذلك بأخذ الزينة من الثياب واستعمال اللباس وترك التجرد والتعري، وبالإيمان به واتباع أمره والعمل بطاعته وينهى عن الشرك به واتباع أمر الشيطان مؤكداً في كل ذلك ما قد أجمله في قوله: يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسَ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ [سورة الأعراف:26].
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصحة في تأويل قوله: وَلِبَاسَ التَّقْوَىَ استشعار النفوس تقوى الله في الانتهاء عما نهى الله عنه من معاصيه، والعمل بما أمر به من طاعته وذلك يجمع الإيمان والعمل الصالح والحياء وخشية الله والسمت الحسن؛ لأن من اتقى الله كان به مؤمناً، وبما أمره به عاملاً ومنه خائفاً وله مراقباً، ومن أن يُرى عند ما يكرهه من عباده مستحيياً، ومن كان كذلك ظهرت آثار الخير فيه فحسن سمته وهديه، ورؤيت عليه بهجة الإيمان ونوره، وإنما قلنا: عنى بلباس التقوى استشعار النفوس والقلب ذلك لأن اللباس إنما هو ادِّراع ما يلبس واجتياب ما يكتسى أو تغطية بدنه أو بعضه به، فكل من ادَّرع شيئاً واجتابه حتى يرى عينه أو أثره عليه فهو لابس له، ولذلك جعل -جل ثناؤه- الرجال للنساء لباساً وهن لهم لباساً، وجعل الليل لعباده لباساً"[2].
هذا كلام جيد جمع فيه ابن جرير بين العبارات التي قالها السلف، فالثياب لما كانت تدَّرع وتلبس قيل لها لباس، وكذلك ما اشتمل عليه الإنسان من محاسن الأعمال ومكارم الأخلاق فإن ذلك كالثوب الذي يُلبس.
قوله: ذَلِكَ خَيْرٌ [سورة الأعراف:26] يعني ستر العورات خير من التجرد، والتحلي بتقوى الله خير من التعري من التقوى ومفارقتها، والله أعلم.
وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ [سورة الأعراف:28-30].
قال مجاهد: كان المشركون يطوفون بالبيت عراة، يقولون: نطوف كما ولدتنا أمهاتنا فتضع المرأة على فرجها النسعة أو الشيء، وتقول: اليوم يبدو بعضُه أو كلُّه وما بدا منه فلا أحله.
يعني تضع مثل السيور من الجلد تغطي به فرجها -كما جاء عن ابن عباس -ا- أي ربما ربطت على وسطها خيطاً يتدلى منه بعض الخيوط أو السيور كتلك التي توضع على وجه الحمار من أجل أن تطرد الذباب عنه إذا تحرك، فهي لا تلبس شيئاً يستر العورة وإنما هو شيء من الخيوط التي لا تواري.
الفاحشة هي الذنب العظيم، وتطلق في عرف الاستعمال كثيراً على الزنا وما في معناه، وفي قوله: وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا إما أن يكون المقصود أنهم إذا فعلوا ذنباً عظيماً –مطلقاً- أو أن المقصود إذا فعلوا نوعاً من الذنوب وهو التجرد من الثياب قالوا: وجدنا عليه آباءناً وأضافوه إلى الله -تبارك وتعالى- وهذا الأخير هو الذي عليه كثير من المحققين من أهل العلم وهو الذي اختاره كبير المفسرين ابن جرير الطبري -رحمه الله- وقد يدل عليه سبب النزول، أي أن ذلك مختص بالتجرد من الثياب الذي كانوا يفعلونه حال الإحرام، والله تعالى أعلم.
سموا بالحُمس؛ لأنهم يتحمسون لدينهم، فقريش تعتبر قبيلة متدينة فهم أهل الحرم ومعلوم أنهم لم يكونوا يخرجون إلى عرفة في الحج، ويقولون: نحن أهل الحرم لا نخرج منه ولذلك كانوا يقفون عند حدود الحرم، وكانت طقوس معينة، وغير الحمس إذا وصلوا إلى حدود الحرم ومعهم طعام أو شراب ألقوه ولا يدخلون به الحرم؛ لأن الحمس هم الذين يقدمون للناس الطعام والشراب مجاناً؛ ولهذا إذا دخلت أشهر الحج -كما هو معروف في أخبار العرب- كان الحمس لا يسلَئون ولا يأقِطون، بمعنى أنهم يبذلون اللبن أو الحليب للناس ولا يستخرجون منه قليلاً ولا كثيراً من السمن والزبد ولا غير ذلك من المشتقات التي تستخرج منه بل يسقونه الحجيج، وكانوا يسقونهم النبيذ أيضاً ويطعمونهم، ويقومون بكل أمر يحتاجون إليه، ويرون أن ذلك من مفاخرهم وأنهم يقومون بذلك ديانة وكرماً من غير منَّة على أحد، ولا يجوز لأحد من غير الحمس أن يقوم بهذه الأمور أو يدخل ومعه طعام أو شراب ومن فعل ذلك فهو منتهك للإحرام، وإذا جاء للطواف وهو محرم فلا يطوف بثياب عصى الله فيها بزعمهم بل لابد أن يطوف بثياب جديدة، وإذا انتهى من الطواف ألقى ذلك الثوب في الطواف، وكانوا يسمون تلك الثياب بالَّلقى، تدوسها أقدام الطائفين حتى تتلف، ولذلك فإن في أشعار العرب يصور أحياناً الإنسان نفسه بأنه كأنه لقى، ويقصد ذلك الثوب المطروح تحت أقدام الطائفين.
وإذا كان الطائف يعرف أحداً من الحُمس أعاره ثوباً يطوف به؛ لأن ثيابهم لها مزية بزعمهم، والله المستعان.
ومن أعاره أحمسي ثوباً طاف فيه، ومن معه ثوب جديد طاف فيه، ثم يلقيه فلا يتملكه أحد، ومن لم يجد ثوباً جديداً ولا أعاره أحمسي ثوباً طاف عرياناً، وربما كانت امرأة فتطوف عريانة فتجعل على فرجها شيئاً ليستره بعض الستر، فتقول: اليوم يبدو بعضه أو كله وما بدا منه فلا أحله.
وأكثر ما كان النساء يطفن عراة بالليل، وكان هذا شيئاً قد ابتدعوه من تلقاء أنفسهم واتبعوا فيه آباءهم، ويعتقدون أن فعل آبائهم مستند إلى أمر من الله وشرع، فأنكر الله تعالى عليهم ذلك، فقال: وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا [سورة الأعراف:28].
يلاحظ أنهم ادعوا أمرين، حيث قال تعالى: وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا [سورة الأعراف:28] فجاء الرد على واحدة قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء [سورة الأعراف:28] وقد أشرتُ في بعض المناسبات إلى قاعدة، وهي أنه إذا ذكر الله مقالة أحد في القرآن فإنه يذكر قبلها أو معها أو بعدها ما يدل على بطلانها وإلا كانت تلك المقالة صحيحة غالباً، وهذا كثير في القرآن كقوله تعالى: سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ [سورة الكهف:22] حيث سكت عن قولهم سبعة وثامنهم كلبهم مما يشعر أنه القول الصحيح، وقد تُذكر قضيتان فيعقب على إحداهما ويسكت عن الأخرى؛ مما يدل على أن التي سكت عنها صحيحة كما في قوله تعالى هنا: وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا [سورة الأعراف:28] وصحيح أنهم وجدوا الآباء على هذه الفواحش لكن لما قالوا: وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا [سورة الأعراف:28] رد على هذه فقال: قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء [سورة الأعراف:28] لكن لابد من الأخذ في الحسبان أن هذه القاعدة ليست مطردة بل هي أغلبية ويكفي في القواعد أن تكون أغلبية؛ لأنه يوجد ما يخرج عن هذا، لكنه قليل أو نادر، بل لا أحفظ مثالاً عليه في القرآن إلا في موضع واحد.
فقال تعالى رداً عليهم: قُلْ أي: يا محمد لمن ادعى ذلك إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء [سورة الأعراف:28] أي: هذا الذي تصنعونه فاحشة منكرة، والله لا يأمر بمثل ذلك أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [سورة الأعراف:28] أي: أتسندون إلى الله من الأقوال ما لا تعلمون صحته؟
وقوله تعالى: قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ [سورة الأعراف:29] أي: بالعدل والاستقامة وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أي: أمركم بالاستقامة في عبادته في محالِّها وهي متابعة المرسلين المؤيدين بالمعجزات فيما أخبروا به عن الله وما جاءوا به من الشرائع، وبالإخلاص له في عبادته فإنه تعالى لا يتقبل العمل حتى يجمع هذين الركنين، أن يكون صواباً موافقاً للشريعة وأن يكون خالصاً من الشرك.
قوله تعالى: وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ [سورة الأعراف:29] يحتمل أن يكون المراد به استقبال الكعبة، وقد قال بهذا بعض السلف لكنه لا يخلو من إشكال، وذلك أن هذه السورة مكية وهذا السياق في رد ضلالات المشركين ومخاطبتهم بالإيمان، فهل يقول لهم: استقبلوا القبلة عند كل موضع للصلاة من كنيسة وبيعة وما أشبه ذلك؟ وهل كانوا أصلاً يتعبدون الله في هذه المواضع أو في غيرها حتى يقال: إنهم يستقبلون أو لا يستقبلون؟ ما كانوا كذلك أبداً بل كانوا بمنأى عنه ولذلك فهم مخاطبون بالإيمان، ولهذا يقال: إن المقصود بقوله: وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ [سورة الأعراف:29] توحيد الوجهة لله -تبارك وتعالى- بأن يتوجه القلب إليه وحده، ويوجَّه العمل إلى المعبود فلا يُصرف شيء من ذلك للأنداد والأصنام والمعبودات التي تعبد من دون الله كما قال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا [سورة الروم:30] أي أن المراد بذلك هو التوحيد والإخلاص، وهذا هو الذي ذهب إليه كبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله- واختاره الحافظ ابن القيم، فليس المقصود بقوله: وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ [سورة الأعراف:29] استقبال القبلة، وإنما المراد ألَّا يكون الإنسان عابداً لغير الله -تبارك وتعالى- فلا يصلي لغير الله ولا يذبحُ لغيره ولا يعبدُ غيره –جل وعلا، بل تكون عبادته جميعاً لله وحده لا شريك له.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.
- انظر صحيح مسلم - كتاب التفسير - باب في قوله تعالى: خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ [سورة الأعراف:31] (3028) (ج 4 / ص 2320).
- انظر: كتاب جامع البيان في تأويل القرآن (ج 12 / ص 371).