قوله: مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُباعَ لم يقل: مثنى، أو ثلاثَ، أو رباع، وإنما جاء بالواو، بعضهم يقول: إنه جاء بالواو؛ لئلا يُتَوَهم حصر التخيير بالأعداد المذكورة هنا: مثنى، أو ثلاث، أو رباع، يعني إذا تزوج مثنى ليس له أن يتزوج ثلاث، وإذا تزوج ثلاث ليس له أن يتزوج، ليس هذا هو المراد، واضح وإنما المقصود التوسعة.
وقوله هنا: "مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ: لا ينصرف": يعني أنه ممنوعٌ من الصرف، والممنوع من الصرف لا ينون كما هو معروف، لا ينصرف لماذا؟ قال: "للعدل والوصف" يعني اجتمع فيه علتان، العلل المانعة من الصرف، فهنا قال: اجتمع فيه علتان "لا ينصرف للعدل"، للعدل يعني: أنه معدولٌ به، ثُلاثَ: هذه دلت على التكرير بدلًا من أن يقال: اثنان اثنان، ثلاثة ثلاثة، أربعة أربعة، فعُدِلَ عن التكرير عن اثنين اثنين إلى مثنى، وعن ثلاثة ثلاثة أو ثلاث ثلاث بثلاث، هذا العدل عُدِلَ به كما يُعْدَل في الأسماء أحيانًا مثل: عمر، ونحو ذلك هنا "للعدل".
"والوصف": يعني أن قوله فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ [النساء:3] هذا وصفٌ للنساء، فصار العلة في المنع من الصرف العدل، عُدِلَ به عن اثنين، وثلاثة، والوصف، جيد؟ الوصفية، وهذا التعليل هو الذي قال به الخليل بن أحمد، وسيبويه، وبعضهم يقول غير ذلك، يعني بعض أهل العلم ذكر أربعة أقوال في سبب منعه من الصرف، لكن هذا قول الخليل وسيبويه: العدل والوصف.
قال: "وهي حالٌ من مَا طَابَ" حال يعني انكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ حال كونهن مثنى وثلاث ورباع.
"وقال ابن عطية: بدلٌ" يعني: ليس بحال، يعني انكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ، ما الذي طاب لهم من النساء؟ يعني كأنه قال: وانكحوا، يعني البدل يصح أن يقوم مقام المبدل منه، فلو حذفت مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ، انكحوا مثنى وثلاث ورباع فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً [النساء:3] كأنه قال: انكحوا مثنى وثلاث ورباع فانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [النساء:3] فبدلًا منه، فالبدل منه مثنى وثلاث ورباع، وعلى القول الأول: قول سيبويه والخليل أنه وصف لما قبله.
قال: "وهي عدوله عن أعدادٍ مكررة"، ما معنى "أعدادٌ مكررة؟" يعني: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى [النساء:3] اثنين اثنتين وَثُلاثَ ثلاث وأربع أربع، هذه الأعداد المكررة، يعني بدلًا من أن يقول هذا قال: مثنى، ومعنى التكرار فيها، يعني لماذا لم يقل: انكحوا ما طاب لكم من النساء اثنتين وثلاث وأربع، لماذا اثنتين اثنتين، وثلاثًا ثلاثًا، وأربعًا أربعًا، لماذا يكرر أربعًا أربعًا؟ ما يقول: وأربعًا، وخلاص؟
يقول: "ومعنى التكرار فيها أن الخطاب لجماعة فيجوز لكل واحدٍ منهم أن ينكح ما أراد من تلك الأعداد، فتكررت الأعداد بتكرار الناس، والمعنى: انكحوا اثنتين أو ثلاثًا أو أربعًا"، وذكر صاحب الكشاف: أنه جاء بصيغة التكرير في مثنى وثلاث ورباع التي تعني اثنتين اثنتين، وثلاثًا ثلاثًا، وأربعًا أربعًا؛ لأن الخطاب للجميع، فوجب التكرير، هذا أبسط وأوضح من عبارة ابن جزي، وإلا فهو نفسه، نفس المؤدى والكلام، وهو ينقل عن صاحب الكشاف عمومًا كثيرًا.
يقول صاحب الكشاف: "فوجب التكرير ليصيب كل ناكحٍ يريد الجمع ما أراد من العدد الذي أطلق له، كما يُقَال للجماعة: اقتسموا هذا المال، وهو ألف درهم درهمين درهمين، وثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة، ولو أُفْرِد لم يكن له معنى"[1]، يعني لو قال لهم مثلًا: اقتسموا هذا المال درهمين وثلاثة وأربعة، لم يكن له معنى، لكن لما يقول: درهمين درهمين، يعني على درهمين درهمين كل واحد يأخذ درهمين للخطاب لمجموعة، وثلاثة ثلاثة يعني منكم من يأخذ ثلاثة ثلاثة، ومنكم من يأخذ أربعة أربعة وهكذا تكون القسمة بهذه الطريقة، وهذا عليه مدار أهل اللغة العربية التعبير بهذا.
قال: "وفي ذلك منع لما كان في الجاهلية من تزوج ما زاد على الأربع"، مثنى وثلاث من أي ناحية؟ ما سيقت الآية من أجل ألا يتزوج أكثر من أربعة، لكن يفهم هذا من أنه اقتصر على هذه الأعداد، فدل على أنه ليس له أن يتجاوزها مثنى وثلاث من هذا الوجه فقط.
وقال: "وقال قومٌ لا يعبأ بقولهم: إنه يجوز الجمع بين تسع"؛ لأن مثنى وثلاث ورباع: يجمع من هذا، هذا جهل باللغة؛ لأن اللغة لا تدل على هذا أصلًا، يعني جمعوا بين اثنين، وثلاثة، وأربعة المجموع تسعة، قالوا: يتزوج مثنى، وثلاث، ورباع له أن يجمع بين تسع نسوة، وهذا يذكره بعض أهل العلم على سبيل التندر بالجهل، وأهل الجهل، وما يوقعه الجهل من الأفهام الغريبة العجيبة التي لا تدل عليها اللغة، هذا ذكره مثل الشاطبي -رحمه الله- في الموافقات[2] في بيان الفهوم البعيدة عن لغة العرب.
يقول: "وهذا خطأٌ؛ لأن المراد التخيير بين تلك الأعداد لا الجمع، ولو أراد الجمع لقال تسعٌ، ولم يعدل عن ذلك إلى ما هو أطول منه وأقل بيانًا"، وأجهل من هذا الذي قال: يجوز الجمع بين ثمان عشرة امرأة، بأي اعتبار؟ باعتبار التثنية في العدد، مثنى وثلاث وباع، فهذه تسع، ففي التثنية التكرير اثنتين اثنتين، ثلاث ثلاث، وأربع أربع المجموع تسعة وتسعة ثمانية عشر، يجوز له أن يتزوج تسعة عشر امرأة، وهذا جهل كبير.
"وأيضًا قد انعقد الإجماع على تحريم ما زاد على الرابعة" هذا لا إشكال، والذين أسلموا، وقد تزوج أكثر من أربع، خيره النبي ﷺ يختار أربعًا منهن، أمره أن يختار أربعًا منهن، ويفارق ما زاد، يعني أسلم وعنده عشر نسوة، مع أن الدفع أسهل من الرفع، قاعدة فقهية، يعني كون هذا يكون قبل أن يتزوج الإنسان يُقَال له: لا تتزوج أكثر من أربع، هذا أسهل من أن يُرْفَع زواج ونكاح واقع، ويقال: اختر أربعًا، وطلق الباقي، "الدفع أسهل من الرفع"، فإذا حصل الرفع لنكاحٍ واقع، وقيل له: اقتصر على أربعة وفارق الباقي، فمن باب أولى في ذلك النكاح الذي لم يقع، يريد أن يتزوج، فيُقَال له: لا تتجاوز الأربعة، الدفع أسهل من الرفع من هذا الوجه، يعني: يُسْتَدل به من هذه الحيثية.
فَواحِدَةً: يعني فاقتصروا على واحدة إذا خشيتم ألا تعدلوا.
قال: "أو على ما ملكت أيمانكمط، يعني: إن تقتصر على واحدة مع ملك اليمن هكذا فهمه كثيرٌ من أهل العلم، إنك تتزوج واحدة مع ملك اليمين، تتسرى بما شئت منهن، فإنه لا يجب العدل معهن مع أنه مستحب، فلا يلحق الإنسان حرج، لكن ابن جرير -رحمه الله- حمله على معنىً آخر، قال: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:3] يعني: إذا خفت أيضًا في الواحدة ألا تؤدي حقها فتلجأ إلى ملك اليمين[3]، يعني: ليس المقصود التزوج بأمة؛ لأن هذا منهي عنه إلا في حال الضرورة إذا خشي الزنا.
قال: وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ [النساء:25] لماذا؟ لأنه إذا تزوجها بالعقد فإن الأولاد يكونون أرقاء لمالك الأمة، أولاده يكونون أرقاء لمالك الأمة، أو رجل تزوج بأمة، ذهب إلى إنسان عنده أمة، وقال: زوجنيها، فزوجه الأولاد لمالك الأمة، لسيدها، وهم أرقاء، ولهذا فإن الله -تبارك وتعالى- جعل ذلك في حال الاضطرار، يعني التزوج بالإماء كما سيأتي وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ [النساء:25]، وقيد هذا قال: ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ، خَشِيَ الْعَنَتَ، يعني: الزنا.
فهنا في قول ابن جرير -رحمه الله- على قول، أو حتى على قول الجمهور، الجمهور يقولون: أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:3]، يعني تتزوج واحدة، تقتصر على واحدة مع ما شئت من ملك اليمين؛ لأنه لا يجب العدل معهن على أنها ملك يمين، ليست زوجة، الزوجة حرة، على قول ابن جرير أنك حتى الواحدة إذا خشيت ألا تُؤدِيَ حقها فملك اليمين، ليس المقصود أن يتزوجها، وإنما المقصود أن يتسرى بها؛ لأنه لا يجب عليه نحوها ما يجب على الحرة، فهي من جملة ما يملك، فهو حتى لو شاء ألا يجامعها أصلًا فله ذلك، لكن الزوجة ليس له ذلك، فهذا قول ابن جرير -رحمه الله- خلافًا لقول الجمهور، والحافظ ابن كثير[4] -رحمه الله- على قول الجمهور أنه إن خاف ألا يعدل في العدد، حال التعدد فواحدة مع ما شاء من ملك اليمين.
قال: "وانتصاب واحدةٍ بفعل مضمر تقديره: فانكحوا واحدةً" أو فالزموا واحدةً، هناك قراءة على الرفع فَوَاحِدَةٌ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ بعضهم يقول: فواحدةٌ تقنع مثلًا، أو فالمقنع واحدةٌ، أو كافية، واحدةٌ كافيةٌ ونحو هذا.
تميلوا هذا هو قول الجمهور، تميلوا، يعني خلاف العدل يحصل منكم الجور، فهذا الذي رُوِيَ عن عامة السلف فمن بعدهم عائشة ابن عباس، مجاهد، عكرمة، الحسن، وعن أبي مالك، وأبي رزين، النخعي، والشعبي، والضحاك، وعطاء الخراساني، وقتادة، والسدي، ومقاتل بن حيان[5]، كل هؤلاء وغير هؤلاء، أكثر أهل العلم المتقدمين والمتأخرين يقولون: ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا: يعني ألا تميلوا، يحصل منكم الجور، ونقل عليه الواحدي الإجماع[6]، إجماع المفسرين، فالعول الميل إلى الجور في الحكم.
أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى [النساء:3] يعني: أقرب ألا يحصل منكم الجور "أن لا تعولوا، وقيل: يكثر عيالكم"، ذلك أدنى ألا تعولوا هذا قاله الشافعي[7]، وهو إمام في اللغة كما هو معلوم "أن لا تعولوا"، يعني: يكثر عيالكم، يعني: تكثر المؤونة عليكم والتبعة والنفقات والتربية، ومتطلبات الأولاد، ونحو ذلك، "أن لا تعولوا ذَلِكَ أَدْنَى" يعني: أقرب، أَلَّا تَعُولُوا يعني: ألا يكثر عيالكم، لكن الجمهور على خلاف هذا، والأقرب -والله أعلم- ما قاله الجمهور، "أن لا تعولوا" ألا تجوروا؛ لأنه السياق كله في الجور، والعدل، والإقساط، وليس في كثرة العيال، ومتطلبات ذلك من المتطلبات ونحوها، ليس هذا هو المراد ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا [النساء:3].
ولا يُفْهَم من الآية يعني كما يقول بعضهم بأن الأصل التعدد؛ لأنه قال: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ [النساء:3] قال: ذلك ابتداءً، وحالة الاقتصار على الواحدة استثناء فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً [النساء:3] هذا إذا خاف ألا يعدل، ليس هذا بحروفه يُفهم، يعني لا نفهم هذا حرفيًا، بهذه الطريقة، إنما نفهم ذلك من السياق، والسياق في اليتامى، والإقساط مع اليتامى، فهو يقول: في هذه الحال إذا كنت تخشى ألا تعدل مع اليتيم فالأمر فيه سعة، تزوج اثنتين، ثلاث، أربع، إلا إذا خفت ألا تعدل، لم يكن هذا النص قد سيق ابتداءً في بيان حكم التعدد، أو في تشريع التعدد أو نحو ذلك، لو كانت الآية سيقت ابتداءً لتشريع التعدد، وهو أمرٌ مشروع بلا شك بنص القرآن بهذه الآية، لكان ذلك يدل على هل يمكن أن يُقَال: بأنه يدل على أن التعدد هو الأصل، لو كانت الآية هكذا مستقلة عن الأمر بالعدل مع اليتامى، لكان قيل بأن ذلك يدل على أن التعدد هو الأصل إلا إذا خاف ألا يعدل، لكن لا نبتر الآية من سياقها، السياق يتحدث عن العدل مع اليتيمة، فإذا خاف ألا يعدل معها، فالأمر فيه سعة، يتزوج اثنتين، ثلاث، أربع، إلا في حال خوفه ألا يعدل، فإنه يقتصر على واحدة.
وهذا كثير ما يردد، يُقَال: والله الأصل التعدد؛ لأن الله قال: مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ [النساء:3] جعل ذلك -اقتصار على واحدة- استثناء، هذا ليس كما فهموا، والله تعالى أعلم، والبعض لا يعجبه هذا الكلام، نعرف ولكن هكذا السياق يدل على هذا، ولطالما ردده الرجال، واحتجوا به ممنين أنفسهم بما قد لا يتوصلون إليه بعملهم، وتحصيلهم، وكسبهم، فيتشفون بهذا لمن يخالفهم، لكن يكفي دلالة السياق، الكلام في العدل هذا يُقَال لكثرة العيال، وهؤلاء يمكن أن يوجه القول بأنه إذا كَثُر عيالهم فيحتاج إلى الأخذ من مال اليتيم، ليدرك النفقة، يعني هؤلاء الأئمة الكبار حينما يقولون مثلًا هذا القول لسنا بأفهم منهم، ولا أفقه في اللغة، ولا في مدلولات الكلام، وهم يعرفون السياق معرفة كبيرة لكن ما مقصوده حينما نوجه قول الشافعي -رحمه الله- هذا القول ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا [النساء:3] يقول: ألا تكثر عيالكم، ما علاقة هذا بالعدل مع اليتيمة والأيتام، والإقساط مع اليتامى؟
قال: إذا كَثُر عيالكم فإن ذلك يمثل ضغطًا عليه فيأخذ من مال اليتيم أو اليتيمة ليواسي عياله؛ لأنه قد لا يتمكن من النفقة عليهم[8]، فاقتصر على واحدة، لكن حينما تنظر قبله من الأمر بالعدل، والإقساط مع اليتامى، وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [النساء:3]، طيب هل معنى ذلك فانكح مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [النساء:3]، انكح واحدة إن كنت تخشى ألا تعدل.
قال: "أن ذلك أدنى أن لا تعولوا"، ألا "تكثر عيالكم" إذا اقتصرت على الواحدة، فتتمكن من النفقة على هؤلاء الأولاد من واحدة، بخلاف إن تزوجت من أربعة نسوة مثلًا، وعندك يتيمة، فهذه اليتيمة ما تزوجتها تورعًا، لكن لما كثر العيال، فقد يلجئوه ذلك إلى الأخذ من مال اليتيم، هذا معنى قول الشافعي، يعني حتى لو واحدة ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا، اترك اليتيمة لا تتزوجها، لكن امرأة واحدة أخرى تتزوجها غير اليتيمة، الأولاد لا يكثرون بحيث أنك لا تضطر إلى الأخذ من مال اليتيم.
لكن يبقى قول الله : نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ [الأنعام:151]، كل ولد من هؤلاء يأتي رزقه معه، فليس الأب هو يرزقهم.
وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ [النساء:5]، الصدقات؛ يعني المهور واحدها صدُقَة، وليس صدَقَة؛ لأن الذي يعطيها ليس بصدقة، وإنما هو فرض، وهو حقٌ لها، ويقول: "خطابٌ للأزواج، وَآتُوا النِّسًاءَ صَدُقاتِهِنَّ: خطابٌ للأزواج"، هذا الذي اختاره ابن جرير[9]، وهو أقرب وأرجح من جهة القاعدة أيضًا المعروفة بأن توحيد مرجع الضمائر أولى من تفريقها، وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقاتِهِنَّ "خطابٌ للأزواج"، فالسياق في الآيات التي قبله وَإِنْ خِفْتُمْ [النساء:3] الأزواج، ألا تعدلوا في اليتامى فَانكِحُوا مَا طَابَ [النساء:3]، فانكحوا أيها الأزواج مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ [النساء:3]، فإن خفتم أيها الأزواج ألا تعدلوا مع الثنتين، والثلاث، والأربع، فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى [النساء:3] ألا أقرب أَلَّا تَعُولُوا [النساء:3] أيها الأزواج، كل الضمائر في الأزواج.
ثم قال: وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ الأزواج، هو في اليتيمة قد يزوجها، ولا يعطيها مهر مثيلتها.
وهنا وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ خطابٌ للأزواج، وقيل: للأولياء، لأن بعضهم كان يأكل صداق وليته، وقيل: هو نهيٌ عن الشغار". فهذه ثلاثة أقوال، قول الجمهور: أنه خطابٌ لأزواج وَآتُوا النِّسَاءَ [النساء:4]، والقاعدة تؤيدهم، اتحاد مرجع الضمائر، لكن طيب لو قيل: للأولياء، أنه خطابٌ للأولياء باعتبار أن أحدهم يأخذ مال موليته، وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ [النساء:4]، هذا يمكن أيضًا، هذا يقال: هذا خطابٌ للعموم بإيتاء النساء للمهور، سواءٌ كان ذلك من جهة الزوج، فيجب عليه دفع المهر، لا يتزوج امرأة من غير مهر، وكذلك أيضًا من جهة الأولياء، فإن الزوج يسلم المهر للولي، فلا يحل الولي أن يأخذ هذا المهر لنفسه، وإنما يعطيه للمرأة؛ لأنه ملك لها، وهو عوض عن بضعها.
"وقيل: هو نهيٌ عن الشغار"، أم النهي عن الشغار، فيمكن أن يكون ذلك بطريق اللزوم، ولا يكون ذلك قولًا ثالثًا، بطريق اللزوم، يعني: إذا كان سيعطيها المهر، فهذا يقتضي ألا يكون الزواج مجرد مبادلة، هذا يزوج هذا أخته، وهذا يزوج هذا الطرف الآخر أخته، فتكون تبادل، فهذا لا يجوز هذا الشغار، فإذا قيل: يعطى المهور للنساء، فهذا يقتضي منع الشغار، مع ما ورد في الشغار بخصوصه، في سنة رسول الله ﷺ حيث نهى عن نكاح الشغار[10].
النحلة قال: "نِحْلَةً أي: عطية منكم لهن، أو عطية من الله"، أصل النحل، نحله كذا، النحل هو العطية على سبيل التبرع، وهي أخص من الهبة، لكن المراد هنا، وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ يعني: المهور نحلة، يعني فريضة، أو هبة عن طيب نفسٍ من غير منةٍ، ولا مطالبة، هذا حق لها تعطيها من غير نية رجوع، ولا مطالبة، ولا أذى، ولا امتنان، ولا منة، ولهذا فسرت بأنها عطية واجبة، وفريضة لازمة، يعني هذا الذي يقول: "عطية منكم" عطية غير مسترجعة، ولا ممتن بها، وليست من قبيل الصدقة، أو الإحسان، وإنما حقٌ واجب، "أو عطية من الله، وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً"، من يقول: "عطية من اللهط، يعني: واجبة، وفريضة فرضها الله وجاء نحوه أيضًا عن عائشة -ا- ومقاتل[11]، وقتادة، وابن جرير[12]، وزاد ابن جريج مسماة[13]، يعني يحدد، يحدد ذلك وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً.
ولذلك فإن بعض العامة، وهذا يقع كثيرًا، إذا جاء وقت عقد النكاح، قال لمن يتولى العقد يعني المأذون: كم من مهر؟ قال: ريال، هذا يكذب، الله أعلم لماذا يفعلون هذا؟ بعضهم من باب دفع الفضول للناس، لئلا يعرفوا حقيقة الحال، أو بعضهم لدفع الحسد، أو بعضهم؛ لأنه أخذ مهرًا كثيرًا، فلا يحب أن يصرح بذلك، فيقول: بريال، والواقع أنها 500 ألف، أو 100 ألف، أو 50 ألف، أو نحو هذا، ويقول: بريال، طبعًا هذا ما يدرك العواقب، ولا يعرف مآلات الأمور، في المحاكم تقع مشاكل بسبب هذا لما يحصل بعد ذلك مشكلة بين الزوجين، وتطلب المرأة الطلاق، وترفع إلى المحكمة، ثم بعد ذلك تقول له: أريد الخلع، يقول: ردي عليا المهر، تقول: تفضل المهر ريال، تفضل ريال، يقول: أنا أعطيتها 300 ألف، هذا الذي بينا وبينك، هذا العقد مكتوب فيه المهر ريال، أثبت أنك أعطيتني 100 ألف، أو 300 ألف، أو 500 ألف، ما عندك إثبات، فماذا يستطيع أن يقول القاضي، ليس عنده شهود، وعنده هذا مكتوب في العقد، وسيعتمد المكتوب في العقد، المهر ريال، فهذا يفعله بعض الناس، ولا يجوز من جهة أنه كذب أولًا، ثانيًا: أنه تضيع للحق.
"وقيل: معنى نحلة أي شرعة وديانة"، يعني أن الله شرع ذلك، ابن جرير -رحمه الله- جمع بين هذه المعاني، أعطوا النساء صدقاتهن، أعطوهن المهور نحلة، عطية، غير مسترجعة، ولا ممتن بها، وهي فريضة من الله -تبارك وتعالى- فرضها، وشريعةٌ شرعها[14]، كل هذا صحيح.
يقول: "وانتصاب المصدر من معنى آتوهن، وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً"، ما قال: انحلوهن نحلة، فيكون المصدر من اللفظ، لفظ الفعل، انحلوهن نحلة، لكن هنا جاء بالفعل آتوا، ما قال: آتوا النساء صدقاتهن إيتاءً، فيكون المصدر من الفعل آتوا، لكن هنا نحلة مصدرٌ من معنى الفعل آتوا، من معنى الفعل وآتوهن، والعامل فيه نحلة، والمنصوب هنا على المصدر، العامل فيه هو الفعل قبله آتوا بمعنى: انحلوا، مثل ما تقول: قعدت جلوسًا، تقول: قعدت قعودًا، جلست جلوسًا، فيكون المصدر من الفعل اللفظي، لكن قعدت جلوسًا، وقفت قيامًا، فصار المصدر من غير لفظ الفعل، لكنه من معناه، يقول: من معنى آتوهن، هذا معنى كلامه، أو على الحال من ضمير المخاطبين، من ضمير المخاطبين يعني من واو الجماعة في وآتوا، أي: وآتوهن.
ويقول هنا: "على الحال من ضمير المخاطبين"، يعني وآتوهن ناحلين، أو من النساء وَآتُوا النِّسَاءَ: يعني منحولات، حال من النساء، آتوا النساء منحولات، أو من الضمير في آتوا ضمير المخاطبين، وآتوا ناحلين، وابن زيد يقول: النحلة في كلام العرب الواجب، يعني: لا تنكحها إلا بشيءٍ واجبٍ لها، وليس لأحدٍ بعد النبي ﷺ أن ينكح امرأةٍ إلا بصداقٍ واجب، ولا يجب أن تكون تسمية الصداق كذبًا بغير حق[15]، هذا كلام ابن زيد -كذبًا بغير حق-.
كذلك لا تزوج المرأة بغير مهر، يعني: الواهبة الهبة وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [الأحزاب:50]، يعني: لا يجوز لأحدٍ زواج الهبة، الهبة: أن تأتي المرأة إلى الرجل تقول: وهبتك نفسي، فالنبي ﷺ خاصةً هو الذي يجوز له أن يتزوج من غير مهر من وهبت نفسها له، لكن لو جاءت لغير النبي ﷺ امرأة، وقالت: وهبتك نفسي، فلا يجوز أن يتزوجها إلا بمهر.
يقول: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ إن طبن لكم "إباحةٌ للأزواج والأولياء" باعتبار ما تقدم أن هذا الخطاب للأولياء، أو الأزواج، وإن قلنا: أنه يشمل هؤلاء، وهؤلاء، فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ، فإن طابت نفسها لوليها من أبٍ، أو أخ، أو غير ذلك أن يأخذ هذا المهر -قل أو كثر- فلا إشكال بطيب نفس من غير ضغوط، وكذلك الزوج، بعض النساء لربما تكون عاقلة، قنوعة، ترفق بزوجها، فيعيطها مهرًا قد يكون كثيرًا، لكنه قد يلحقه بسبب ذلك حرج، وديون، وإلى آخره، وبحاجة إلى أن يهيأ لها ما تحتاج إليه، فبعض النساء تأخذ من هذا المال قدرًا، يعني أعطاها مثلًا 50 ألف، تأخذ 1000، وتعطيه الباقي، وتقول: استعن به، هذا يحصل، يفعله بعض النساء العاقلات، ففي هذه الحال يجوز له أن يأخذ، حيث طابت نفسها بذلك يجوز.
فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا، بمعنى أن ليس فيه أدنى شائبة أو حرج، وأما أن يكون ذلك نتيجة ضغوط يمارسها عليها، يعطيها المهر، ثم بعد ذلك يبدأ يلوي ذراعها، ويهددها بالطلاق، والويل، والثبور إن لم تعطيه المهر، والذهب؛ لأن عليه ديون، والتزامات كما نقول، ويصبحها ويمسيها بهذا الكلام، فتضطر بأن تعطيه ما بيدها من مهر، وذهب، وغير ذلك، فهذا دنيء، وهو يأكل سحتًا، لا يحل له أن يأخذه، وقل: مثل ذلك في غير المهر، فهذا كذلك، فهو يعلم أنها ذات مال، تعمل أو ورثت مال، أو غير ذلك، ثم بعد ذلك هو تزوجها، قد يكون تزوجها أصلًا لهذا الغرض، وهذا ما يكون غالبًا في الزوجة الثانية للأسف.
فيأتي بعد ذلك يصبحها، ويمسيها، ويتظاهر أنه مغمومٌ مهمومٌ، قد طرحه الهم، وغلبه الغم، فيأتي متثاقلًا، ولا يؤدي حقوقها، فلا يكون في حالة من البؤس، وهي الضعيفة، المسكينة تقول له: ما بك؟
تريد أن تواسيه، يقول لها: أنا علىَّ من الديون، وأرهقني، فتعطيه من مالها، ولربما أعطته مئات الألوف، فإذا استنفذ ما عندها لربما طالبها أن تقترض؛ لأنها موظفة تقترض، اقترضي لي 250 ألف من البنك، ثم تقترض له، ثم تفاجأ أنه تزوج عليها، هذه ليست أفعال أسوياء، وإنما أفعال مرضى، وسفهاء، ودناءة، ولؤم، وقد تبتلى المرأة بلونٍ من هؤلاء أشباه الرجال، وهذا لا يحل له أن يأخذ منها شيئًا بهذه الطريقة بالضغط عليها، وتزوجها، واشترطت عليه أن تعمل، لماذا تقبل؟ قل لها: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ [الأحزاب:33]، تريدين وإلا البيوت مليئة بالنساء وانتهى، أما أن يقول: نعم لا إشكال في هذا، أنا أريد أصلًا تعمل عشان تقضي وقتها، وفراغها بالعمل، ثم بعد ذلك كل ما جاء من مدرستها، أو كذا، أنا ما أتحمل، أنا هذا الوضع ما أستطيع الاستمرار، الاستمرار هنا تلويح بالطلاق، لا أستطيع الاستمرار، طب لماذا استطعت في البداية، ووافقت، وذكرت كلامًا جميلًا؟ ثم بعد ذلك تقول، كل ما جابها من المدرسة ووداها تأفف، أنا ما أستطيع الاستمرار، والبعض يطالب بضريبة لهذا، أن تنفق على البيت، أن تتولى النفقة؛ لأن على حسابه صارت تذهب، وتعمل نصف النهار، أو إلى نصف النهار، وهو الذي يذهب بها أو يأتي، فهذا لا يكون من غير مقابل.
إذن أنت تتولين النفقة، وإذا تولت النفقة معنى ذلك تلقائيًّا أنها ستتولى القوامة؛ لأن الذي ينفق هو القوام، قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ [النساء:34]، فإذا المرأة تضع أموالها في البيت أنها ستكون ندًا له، ومن هنا تنشأ الخصومات، وتنشأ المشكلات، وتنشأ الشجار، والشقاق، فلها رأي وله رأي، ولها تدبير وله تدبير، وهكذا، وأكثر نزاع الناس بسب هذه الأمور، هذا المال وما يجر من ويلات على كثيرٍ من النساء، وهي مسكينة تذهب مع بزوغ النهار، مع بدو النهار، وترجع منهكة، ومتعبة كل يوم، وفي سنوات تجمع وفي الأخير يأتي مثل هذا، ويستحوذ عليها، وعلى مالها، ولا يقول لها: أقرضيني وليس في نيته الرجعة، تبقى سنين تطالبه، وترتجي أن يعيد لها هذا المال، وهيهات.
طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ يعني: من الصداق، أو من الإيتاء هذا ملازمة؛ لأن الصداق تؤتيه الزوج لا إشكال.
هَنِيئًا مَرِيئًا، يعني "عبارة عن التحليلط، يعني: هذا من جهة المعنى، ما المقصود بقوله: هَنِيئًا مَرِيئًا؟ يعني أنه حلٌ لكم من غير تبعة، ولا حرج، لا يلحقكم حرج في ذلك.
"ومبالغة في الإباحة، وهما صفتان من قولك هنؤ الطعام ومرؤ: إذا كان سائغًا لا تنغيص فيه"، فالهنيء كل ما لا يلحق فيه مشقة، هذا الأصل، ما لا يلحق فيه مشقة، ولا يعقب وخامة، يعني: لا تتعب في تحصيله، ولا يكون له أثر بعد تناوله، وتعاطيه من ضرر للجوف، أو البدن، أو نحو ذلك، الإنسان قد يأكل أكلة، ولكن أثرها قد يكون وخيمًا عليه، سيئة الأثر، ومريئًا: يعني بلا داء كما يقول بعضهم: بلا علة، بلا داء، مريئًا، والمريء يقولون: هو محمود العاقبة.
هَنِيئًا مَرِيئًا، قال: أمرأ الطعام إذا انهضم، وحمدت عاقبته، فهي متقاربة في التفسير، هَنِيئًا مَرِيئًا، وبعضهم يقول: الطيب الذي لا تنغيص فيه، وهذا يرجع إلى ما سبق، لكن بعضهم يقول: لا إثم فيه، ما لا إثم فيه، هَنِيئًا مَرِيئًا، لكن هذا من لازمه؛ لأن هنا في مقام التحليل، فيقول لهم: فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا، يعني: من غير تبعة، ففسره هنا بلازمه، لا إثم فيه، وإلا فالأصل أن كلمة هنيئًا مريئًا تستعمل بما يستساغ، ولا يكون له تبعة من المطعوم، ونحوه، وكل هذا لا إشكال فيه، فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا، يعني حلال لا تبعة فيه، ولا حرج.
يقول: "وهما وصفًا للمصدر: أي أكلًا هنيئًا، فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا" أي: أكلًا هنيئًا مريئًا، وصف للمصدر، "أو حال من ضمير الفاعل" يعني ضمير الفاعل: فكلوه يعني: أنتم، وهو هنيءٌ مريء "حال من ضمير الفاعل"، وقيل: يوقف على فكلوه، يعني: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ [النساء:4]، ثم ابتدأ كلام جديد، قال: هَنِيئًا مَرِيئًا [النساء:4] على سبيل الدعاء، لكن هذا فيه بعد، والأقرب متعلقٌ فيما قبله، فَكُلُوهُ حال كونه مَرِيئًا، أو نحو ذلك، والله أعلم.
وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ هذا نهي، والأصل أنه للتحريم، "قيل: هم أولاد" لاحظ الفرق في المعنى، "قيل: هم أولاد الرجل وامرأته" هذا عن ابن عباس، وابن مسعود، والحكم بن عتيبة، والحسن البصري، والضحك[16]، يعني وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ: يعني من تحت يدك أولاد الرجل وامرأته، باعتبار أن المقصود الأولاد الصغار، أو الذين لا يحسنون التصرف في المال، ليس كل الأولاد بطبيعة الحال، والنساء باعتبار أنهن في الغالب لا يحسن التصرف في المال، فهذا على قول هؤلاء من الصحابة، والتابعين: يعني لا تأتوهم أموالكم، فتكون الأموال حقيقةً على ظاهره المال الذي لكم، فيضيع بسبب سوء تدبيرهم، فلا تمكنهم من هذا المال، لكن أنفق عليهم منه، وتلطف بهم بالكلام، والعبارة، والمخاطبة، لكن لا تضع هذا المال تحت أيديهم فيضيع.
"وقيل: السُّفَهَاءَ: المحجورون"، وهذا مروي عن سعيد بن جبير[17]، وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ، لكن نحن عندنا أصل، وهو أنه إذا ثبت التفسير عن الصحابي، فلا نعدل عنه إلى قول غيره، وإن كان ظاهر السياق لا يدل عليه، هذه قاعدة ثبت تفسيرها عن الصحابي، فإنه لا يعدل عنه إلى غيره، وإن كان ظاهر السياق لا يدل عليه، وهنا السياق وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا [النساء:5]، وَابْتَلُوا الْيَتَامَى [النساء:6] سياق في العدل، وحفظ الحقوق، وما إلى ذلك، فحمل ذلك والله أعلم وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ إن ذلك في اليتامى، قد يقال: سياق الآيات قبله، وبعده، أو في المحجورين، يعني: من تحت وصايتكم، وولايتكم، لا تؤتيه ماله، وقد يكون هذا المحجور عليه من أولادك، وليس بيتيم، كبير، ولكنه ضعيف العقل، فهنا لا تؤتيه المال، لئلا يضيع، فماذا يقال؟
هل يُقَال هنا: "أولاد الرجل وامرأته"؟ أو يقال: بحمل ذلك على المعنيين؟
وكأن هذا والله أعلم لو قال به قائل أقرب، فهو غير مدفوع به قول الصحابة الذين يجب الوقوف عند أقوالهم، وأيضًا يكون قد جمع المعنى، ضم المعنى الآخر إليه، وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ فهذا عام، وهذا التركيب في "لا" الناهية، ودخولها على الفعل هنا المضارع يفيد العموم، وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ، فيدخل فيه إعطاء من تحت يديه من الأولاد، وإذا كانت المرأة لا تحسن التصرف أيضًا، فلا يمكنهم من المال، فيضيع بسبب سوء تدبيرهم، لا يجعل مالهم في أيديهم، أو يعطيهم أكثر مما يحتاجون إليه فيحصل التضييع والتفريط، والعبث بالمال، والتبذير لا شك أنه محرم، والإسراف، ونحو ذلك وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ.
وكذلك أيضًا من كان تحت يده من الأيتام، أو المحجورين، فكذلك لا يعطيهم المال، لكن هنا بأي اعتبار وأموالكم؟ الأول: مال نفسه، والثاني: لا تؤتوهم أموالهم هم، فأضافه إليهم أَمْوَالَكُمُ باعتبار أنه كالنفس الواحدة، كما قال الله : لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [النساء:29] يعني: لا يأكل بعضكم مال بعض، فاقتلوا أنفسكم يعني: ولا يقتل بعضكم بعضًا، وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ [النساء:29] يعني: لا تقتلوا بعضكم بعضًا، فنزل النفوس المختلفة منزلة النفس الواحدة، والأموال أيضًا منزلة المال الواحد الذي هو ماله، فكما تحتاط لمالك، يعني هو في إشارة هنا لهذا المعنى، يعني وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ يعني: أموالهم على هذا المعنى، فكأنه مالك أنت تتصرف فيه بحساب، وحفظ، ومراعاة، واحتياط له، واحتراز، ما تقول: هذا مال غيري، أعطيه هذا المال، ويتصرف فيه كما يشاء، ولا شأن لي به، فلا يصح.
فيمكن أن تكون الآية -والله أعلم- تشمل المعنيين، لا يعطى من لا يحسن التصرف من ولدٍ، وزوجةٍ، ومحجورٍ عليه، سواءً كان المال له، أو كان المال لك، بالنسبة للزوجة، النساء تكلم العلماء، هل لها أن تتصدق، وهل لها أن تنفق، ومن غير إذن زوجها؟ إلى آخره، الراجح أنه يجوز لها أن تتصدق، وأن تنفق، وأن تشتري، وأن تبيع إلى آخره من غير إذنه.
ويدل على هذا قول النبي ﷺ: يا معشر النساء تصدقن[18]، النساء لم يرجعهن النبي ﷺ إلى الأزواج يستأذن، فكان النساء يلقين الحلي في ثوب بلال من غير استئذان لأزواجهن، فدل على أن تصرف المرأة ينفذ، فهي تتمكن من مالها، لكن هل لها أن يعطيها ماله هو، ويقول: تصرفي، إذا كانت لا تحسن التصرف؟ إذا كانت لا تحسن، إذا كانت سفية، والرجل قد يكون سفيهًا، وقد تكون المرأة سفية، لكن سوء التدبير في المرأة في المال أغلب كما هو مشاهد، إذا دخلت ووجدت أواني نسيت نفسها، إذا دخلت سوقًا، نسيت نفسها، لكن قد يكون الرجل سفيهًا، ولذلك بعض النساء تكون هي التي تتولى إدارة المال عن زوجها؛ لأنه لا يحسن التصرف، قد يكون فيه علة في عقله، فصام، أو غير ذلك، فالمرأة هي التي تتولى النفقة، وضبط المال، وكذلك في البلاد الشرقية عندهم عادة.
في بعض البلاد الشرقية، الرجل حينما يأتي بمرتبه يعطيه للمرأة من البداية، كل شهر يعطيه للمرأة، المرأة تقسمه، تقول: هذا لمصاريف البيت، تضعها على جنب، خلاص ما يصرف من هذا، وهذا مثلًا إذا كان عندهم دين، هذا الحصة هذه لقضاء الدين أقساط الدين، وهذا تكون للادخار، وهذه للأجور، مثل: أجرة إذا كان عندهم دار مستأجرة، أو خادم، أو نحو ذلك، تخصص القدر الشهري، الحصة الشهرية، بحيث إذا جاء نهاية العام ما تكون خالي الوفاض ليس عنده شيء، فالغالب هؤلاء النساء هناك يضبطن هذه الأمور، وقد يكون أكثر من الرجال، فيكون تدبير المال عندها، فإذا كانت حصيفة في هذه الطريقة، وتضبط له النفقات، ونحو هذا، فلا إشكال، لكن ذكرت لا تحسن التصرف، عندها رغبة جامحة في الشراء، والتسوق، فهذه إذا وقع بيدها مال لا تبقي، ولا تذر، لاسيما إذا كان عنده زوجة، امرأة أخرى، فهي تشعر دائمًا يصل إليها ما لا يصل إلى نفسها، فهي تحاول أن تعوض، وأن تستقصي، وأن تأخذ منه ما استطاعت، وتعتبر ذلك من المغنم الذي تأخذه، وتستحوذ به؛ لأنه قد فاتها لربما أضعاف ذلك -بزعمها هي- فإذا مكنها من ماله قد تبيد هذا المال -إلا من رحم الله نكايةٍ بتلك- أو بزعمها أنها تنتصف منها، وتأخذ بعض حقها؛ لأنها تعتقد أنه ينفق عليها كثيرًا، فعلى كل حال إذا كان الإنسان لا يحسن التصرف، لا يمكن من المال.
هذا على أحد القولين، يعني من قال: بأن ذلك وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ [النساء:5] يعني المحجورين، لكن من قال: إنهم الأولاد آتوهم أموالكم، فهنا لا يقال: إنه "وأضافها إلى المخاطبين؛ لأنهم ناظرون عليها"، بل لأنه ماله يملكه، وحملها ابن جرير على أموال المنهيين[19]، وأموال السفهاء، وهذا جيد، يعني جمع بين القولين الذين ذكرت لكم، قلنا: بأن الآية تحتمل وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ [النساء:5] من الأولاد والنساء، أو من المحجورين من الأيتام، ونحوهم الذين تحت أيديكم، لا تؤتوهم أموالهم، فابن جرير جمع بين المعنيين، أنها تشمل أموال المنهيين في أموالهم التي يملكونها، وأموال السفهاء التي هم أوصياء عليها، وهذا جمع جيد بين القولين.
قيمًا على هذه القراءة الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا [النساء:5]، وهما لغتان المعنى واحد، وأصل المادة: القاف، والواو، والميم، مراعاة الشيء، والحفظ له، والانتصاب، والعزم، هذا أصلها، يعني تقول جمع قيمة، لكن هذا التفسير قيمًا، الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَمًا جمع قيمة، قيم الأشياء على هذا المعنى، هذا معنى آخر تمامًا، وقيل بمعنى قيامًا على أنها لغة أخرى، "أي تقوم بها معايشكم،" والله أعلم.
إذا كان المال للمخاطبين الآن في وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا [النساء:5]، فتكون الإضافة باعتبار أنهم وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ، إذا كان المال للمخاطبين أموالكم، باعتبار أنه المالك لها، وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ، إن كانت لمن تحت أيديهم، فتكون باعتبار أنهم الناظرون عليها، أو اعتبار أنها من جنس أموالهم.
لكن في قوله: الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا [النساء:5] يعني: بعضهم يقول: إنما عبر بذلك، ومعنى المال للمخاطبين على بعض قول بعض أهل العلم، ولكن يعني أموال المحجور عليهم، باعتبار أنه من جنس ما تقوم به معايشكم الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَمًا [النساء:5].
وهذا مروي عن ابن عباس [20].
هذان قولان: وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ، إذا قلنا هناك: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ [النساء:5] بشمل هذا وهذا من تحت يدك من الأولاد، والزوجات، وكذلك من المحجورين من اليتامى، وغيرهم، فهنا وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ، فيدخل فيها نفقة الأولاد، والزوجات، نفقة الزوجات، والأولاد من مالك، ونفقة اليتامى والمحجورين من أموالهم، ولذلك حملها ابن جرير[21]، وابن كثير[22] على معنى أعم من أحد القولين المذكورين، يعني إن يشمل هذا وهذا، وهذا جمع بين الأقوال.
ليست إن شئتم؛ لأنه لو شاء لا يعطى إذا كان محجورًا عليه، وإنما "إن رشدتم دفعنا إليكم أموالكم"، يعني يقول لهم كلام طيب: سأدفعها لكم إن شاء الله تعالى، حينما تكونوا بإذن الله تتصرفون فيها التصرف الموافق، الصحيح، فلا تضيع من أيديكم، كلامًا نحو هذا، يعني لا يقول لهم كلامًا يحرج، فيقول: أنتم سفهاء، والسفيه لا يعطى المال، ولا يمكن منه، ونحو ذلك من العبارات التي تؤذيهم، سواء كان يوجه ذلك إلى زوجته، أو إلى أولاده، أو إلى من تحت يده من المحجور عليهم، فلا يخاطب الناس بما يحصل به الإيحاش، وإنما يكون العبارة لطيفة، ومقبولة لا تؤذي، لا تؤذي السامع، والله يقول: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة:83]، يتكلم بالكلام الذي تقبله النفوس، لا يؤذيهم بعباراتٍ قاسية، والله المستعان.
- تفسير الزمخشري (الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل) (1/468).
- الموافقات (4/227).
- تفسير الطبري (6/367).
- تفسير ابن كثير (2/212).
- تفسير ابن كثير (2/213).
- التفسير الوسيط للواحدي (2/9).
- الأم للشافعي (5/44).
- الأم للشافعي (5/114).
- تفسير الطبري (6/382).
- أخرجه البخاري، كتاب النكاح، باب الشغار، برقم (5112)، ومسلم، كتاب النكاح، باب تحريم نكاح الشغار وبطلانه، برقم (1415).
- تفسير ابن كثير (2/213).
- تفسير الطبري (6/380).
- تفسير ابن كثير (2/213).
- انظر: تفسير الطبري (6/380).
- تفسير ابن كثير (2/213).
- تفسير ابن كثير (2/214).
- تفسير ابن كثير (2/214).
- أخرجه البخاري، كتاب الحيض، باب ترك الحائض الصوم، برقم (304)، وبرقم (1462)، كتاب الزكاة، باب الزكاة على الأقارب، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان نقصان الإيمان بنقص الطاعات، وبيان إطلاق لفظ الكفر على غير الكفر بالله، ككفر النعمة والحقوق، برقم (79).
- تفسير الطبري (6/396).
- انظر: تفسير ابن كثير (2/214).
- تفسير الطبري (6/401).
- تفسير ابن كثير (2/215).