الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
[10] من قول الله تعالى: {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي} الآية 79 إلى قوله تعالى: {فَانْظُر ْكَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} الآية 84
تاريخ النشر: ٢٢ / ربيع الآخر / ١٤٢٧
التحميل: 3851
مرات الإستماع: 2303

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى:

وكان قتلهم الناقة يوم الأربعاء، فلما أمسى أولئك التسعة الرهط عزموا على قتل صالح وقالوا: إن كان صادقاً عجلناه قبلنا، وإن كان كاذباً ألحقناه بناقته قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ۝ وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ۝ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ الآية [سورة النمل:49-51] فلما عزموا على ذلك وتواطئوا عليه وجاءوا من الليل ليفتكوا بنبي الله فأرسل الله  -وله العزة ولرسوله- عليهم حجارة فرضختهم سلفاً وتعجيلاً قبل قومهم، وأصبح ثمود يوم الخميس -وهو اليوم الأول من أيام النظرة- ووجوههم مصفرة كما وعدهم صالح وأصبحوا في اليوم الثاني من أيام التأجيل -وهو يوم الجمعة- ووجوههم محمرَّة، وأصبحوا في اليوم الثالث من أيام المتاع -وهو يوم السبت- ووجوههم مسودَّة، فلما أصبحوا من يوم الأحد وقد تحنطوا وقعدوا ينتظرون نقمة الله وعذابه -عياذاً بالله من ذلك- لا يدرون ماذا يُفعل بهم ولا كيف يأتيهم العذاب، وأشرقت الشمس، جاءتهم صيحة من السماء ورجفة شديدة من أسفل منهم ففاضت الأرواح وزهقت النفوس في ساعة واحدة.

فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ [سورة الأعراف:78] أي: صرعى لا أرواح فيهم، ولم يفلت منهم أحد لا صغير ولا كبير، لا ذكر ولا أنثى، قالوا: إلا جارية كانت مقعدة واسمها كلبة بن السِّلْق، ويقال لها: الزُّرَيْقة، وكانت كافرة شديدة العداوة لصالح ، فلما رأت ما رأت من العذاب أطلقت رجلاها، فقامت تسعى كأسرع شيء، فأتت حياً من الأحياء فأخبرتهم بما رأت وما حلَّ بقومها، ثم استسقتهم من الماء فلما شربت ماتت.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فقوله -رحمه الله: "جاءتهم صيحة من السماء ورجفة شديدة من أسفل منهم" هذا جمع بين ما ورد في كتاب الله مما يُذكر فيه عقوبتهم، فقد ذكر الله -تبارك وتعالى- أنهم أخذتهم الرجفة، والرجفة: هي الزلزلة، أي اضطربت بهم الأرض واهتزت بهم.

وبعضهم يقول: أي الصيحة الشديدة، كما قال الله في سورة هود: وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ [سورة هود:67] وأحسن ما يقال في هذا -والله تعالى أعلم- هو ما ذكره الحافظ ابن كثير ومشى عليه جماعة من المحققين، وممن قال به الشيخ محمد الأمين الشنقيطي من المعاصرين، وهو أن الله أخذهم بالرجفة، حيث صاح بهم الملك فاضطربت بهم الأرض ورجفت بهم فصاروا في دارهم جاثمين.

وأصل الجثوم هو اللصوق بالأرض والجُثِيّ على الركب والوجوه، والمقصود أنهم هلكوا وماتوا وفارقت أرواحهم أجسادهم.

يقول: "إلا جارية كانت مقعدة واسمها كلبة بنت السِّلْق ويقال لها: الزريقة" ويقال لها: الزريعة -هكذا ضبطُه في تفسير ابن جرير، وهو الذي رجحه الشيخ محمود شاكر -رحمه الله؛ باعتبار أن العرب تقول للكلاب أولاد زارع.

 والسِّلْق هو الذئب، فهي كلبة بن السلق وأولاد زارع يعني الكلاب، ولذلك يقال لهذه الزريعة، والعرب تقول: بأن الذئب ينزو على الكلبة ويولدها.

قال علماء التفسير: ولم يبقَ من ذرية ثمود أحد سوى صالح ومن تبعه إلا أن رجلا يقال له: أبو رِغال كان لما وقعت النقمة بقومه مقيماً إذ ذاك في الحرم فلم يصبه شيء فلما خرج في بعض الأيام إلى الحل، جاءه حجر من السماء فقتله.

قال عبد الرزاق عن معمر أخبرني إسماعيل بن أمية أن النبي ﷺ مرَّ بقبر أبي رغال فقال: أتدرون من هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: هذا قبر أبي رِغال رجل من ثمود كان في حرم الله فمنعه حرمُ الله عذابَ الله، فلما خرج أصابه ما أصاب قومه فدفن هاهنا ودفن معه غصن من ذهب فنزل القوم فابتدروه بأسيافهم فبحثوا عنه فاستخرجوا الغصن وقال عبد الرزاق قال معمر قال الزهري: أبو رغال أبو ثقيف[1].

هذه الرواية عن معمر عن إسماعيل بن أمية عن النبي ﷺ فهي واضحة أنها من المرسل، ولذلك ضعفها أهل العلم، فالله أعلم.

فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ [سورة الأعراف:79] هذا تقريع من صالح لقومه، لما أهلكهم الله لمخالفتهم إياه، وتمرُّدهم على الله وإبائهم عن قبول الحق، وإعراضهم عن الهدى إلى العمى، قال لهم صالح ذلك بعد هلاكهم تقريعاً وتوبيخاً وهم يسمعون ذلك، كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله ﷺ لما ظهر على أهل بدر أقام هناك ثلاثاً، ثم أمر براحلته فشدت بعد ثلاث من آخر الليل فركبها ثم سار حتى وقف على القليب -قليب بدر- فجعل يقول: يا أبا جهل بن هشام يا عتبة بن ربيعة يا شيبة بن ربيعة ويا فلان بن فلان هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً فإني وجدت ما وعدني ربي حقاً؟ فقال له عمر: يا رسول الله، ما تكلم من أقوام قد جيفوا؟ فقال: والذي نفسي بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكن لا يجيبون[2].

وهكذا صالح قال لقومه: لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ [سورة الأعراف:79] أي: فلم تنتفعوا بذلك لأنكم لا تحبون الحق، ولا تتبعون ناصحاً، ولهذا قال: وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ [سورة الأعراف:79].

الأقرب -والله تعالى أعلم- أنه قال لهم ذلك بعد أن أهلكم الله -تبارك وتعالى؛ لأنه ذكره بعد إهلاكهم، والآية تحتمل أيضاً أن يكون قال ذلك لهم حينما عقروا الناقة واستوجبوا العذاب فقال لهم ذلك وفارقهم قبل أن ينزل بهم عذاب الله  ونقمته، وهذا قال به طائفة من السلف، لكن الأقرب هو ما ذكره ابن كثير -رحمه الله- ويدل عليه ظاهر القرآن، أي أنه قال ذلك بعد نزول العقوبة بهم، وكونه يوجه لهم هذا الخطاب بعد ما هلكوا ليس ذلك بمشكل للحديث الذي سبق عن رسول الله ﷺ.

وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ ۝ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ [سورة الأعراف:80-81].

يقول: ولقد أرسلنا لوطاً، أو تقديره، واذكر لوطاً إذ قال لقومه.

ولوط هو ابن هاران بن آزر، وهو ابن أخي إبراهيم الخليل -عليهما السلام- وكان قد آمن مع إبراهيم وهاجر معه إلى أرض الشام فبعثه الله إلى أهل سَدُوم وما حولها من القرى يدعوهم إلى الله ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عما كانوا يرتكبونه من المآثم والمحارم والفواحش التي اخترعوها لم يسبقهم بها أحد من بني آدم ولا غيرهم، وهو إتيان الذكور دون الإناث، وهذا شيء لم يكن بنو آدم تعهده ولا تألفه ولا يخطر ببالهم حتى صنع ذلك أهل سَدُوم -عليهم لعائن الله.

في قوله: وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ [سورة الأعراف:80] ذكر الحافظ ابن كثير -رحمه الله- وجهين لنصب لوط -عليه الصلاة والسلام- الأول: واذكر لوطاً، أو يكون التقدير: لقد أرسلنا لوطاً، والحاصل أن لوطاً -عليه الصلاة والسلام- قال لقومه: أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ [سورة الأعراف:80] قال ذلك على سبيل الاستنكار، وعبر عنها بالفاحشة وأدخل عليها "أل"، وكأن ذلك -والله تعالى أعلم- يشعر بأنها قد استحقت الوصف الكامل في الفحش، فهي في غاية الفحش، وذكر الله فيها ما لم يذكره في الزنا، فقال هنا: أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ [سورة الأعراف:80]، وقال: بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ [سورة الأعراف:81] وذكر قرية هؤلاء وقال: الَّتِي كَانَت تَّعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ [سورة الأنبياء:74] فهو وصف القرية ويعني أهلها أنهم كانوا يعملون الخبائث ووصفهم بالفسق.

وقال لوط ﷺ: رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ [سورة العنكبوت:30] فوصفهم بالإفساد، ووصفهم أيضاً بالظلم في قوله: إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ [سورة العنكبوت:31] وذلك لما جاءت الملائكة لإبراهيم ﷺ وبشروه بهلاكهم.

فهذه الأوصاف جميعاً ذكرها الله لهؤلاء الذين يقارفون هذا المنكر الشنيع فهو في غاية البشاعة والمنافاة للفطَر، وقد قال بعض خلفاء بني أمية: لولا أن الله ذكر ذلك في القرآن لما صدقت أن أحداً يقارف ذلك، أي أنه لا يتصور أن يقع هذا من أحد لولا أن الله ذكره في كتابه.

وهذه الفاحشة مع منافاتها للفطرة فإن فيها أيضاً ألواناً من القبائح والرذائل والرزايا، وقد ذكر الحافظ ابن القيم -رحمه الله- أن من وقع عليه ذلك فإن ماء الرجل يدخل في كل عصب ومفصل فيفسد فطرته ويحصل له بسبب ذلك من المسخ والانتكاس ما لا يقادر قدره.

يقول: "وهذا شيء لم يكن بنو آدم تعهده ولا تألفه ولا يخطر ببالهم حتى صنع ذلك أهل سَدوم" وقال: "وهاجر معه إلى أرض الشام فبعثه الله إلى أهل سدُوم وما حولها من القرى" وسدوم هذه مجموعة من القرى كما قال الله تعالى: وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى [سورة النجم:53] وكما قال: وَالْمُؤْتَفِكَاتِ [سورة التوبة:70] فالمؤتفكة جنس يشمل جميع القرى، يعني القرى المؤتفكة، والمؤتفكات باعتبار أنها قرى وليست قرية واحدة، فسدوم يقولون عنها: إنها الأم، يعني هي عاصمة تلك البلاد، ويذكر بعضهم أنها من أعمال حلب، وأما القول بأنها في البحر الميت فلا أعلم عليه دليلاً، والله ما ذكر أنها تحولت إلى بحر، وإنما أخبر أنه قلبها وأنه جعل عاليها سافلها، وقال: وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى [سورة النجم:53] يعني المنقلبة، أي أنه رفعها ثم قلبها ثم أتبع ذلك بالحجارة، والعلم عند الله .

قال عمرو بن دينار في قوله: مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ [سورة الأعراف:80] قال: ما نزا ذكر على ذكر حتى كان قوم لوط، ولهذا قال لهم لوط : أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ ۝ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء [سورة الأعراف:80-81].

قوله: إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ هذا على قراءة نافع وحفص، ويكون ذلك على سبيل الإخبار، وقرأه الباقون بهمزتين أَئِنَّكُمْ فيكون ذلك على سبيل الاستفهام الذي يراد به التوبيخ، فهو يوبخهم على هذا الفعل.

أي عدلتم عن النساء وما خلق لكم ربكم منهن إلى الرجال وهذا إسراف منكم وجهل؛ لأنه وضع الشيء في غير محله.

في قوله: إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً يدل على أن الفطَر منتكسة، يعني أنهم لا يأتون ذلك لأمر أو لمعنى آخر، وإنما شهوة، والشهوة لا تتوجه إلى مثل هذا، ثم أيضاً يفعلون ذلك قضاء لوطرٍ ناشئ عن فطرة منكوسة وشذوذ.

وهذا الذي فعلوه وأخبر الله  أنهم فعلوه شهوة من غير اعتبار ولا نظر للمعاني التي جعلها الله في المحل النظيف، وهو مقتضى الفطرة، حيث أودع الله  في فطر الرجال الميل الطبيعي للنساء، وذلك يجده الرجال في نفوسهم فيحصل بسبب هذا النكاح، ويحصل بسببه المودة والرحمة التي تنسى معها المرأة أباها وأمها وأخاها وقومها وعشيرتها، قال تعالى: وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً [سورة الروم:21] وهذا المعنى لا يتصوره الإنسان إلا إذا تزوج، فهناك معانٍ لا يعرفها الإنسان إلا إذا جربها، مثل: شعور الآباء نحو الأبناء هذا لا يعرفه إلا من له ولد، وهذا مثلما لو تحدثت عن حلاوة الإيمان لمن لم يتذوق حلاوة الإيمان فإن ذلك الحديث لا ينفعه. 

وكذلك عندما تتحدث عن إعجاز القرآن لفاسد السليطة فإنه لا يتذوق الإعجاز وإن ردد مع الناس كلمة الإعجاز لكنه لا يتذوق هذا إطلاقاً، فهناك جملة من المعاني لا يتصورها الإنسان إلا إذا تحقق أمر زائد على مجرد السماع أو التصور، فيدرك عندئذ هذا المعنى، فالله -تبارك وتعالى- جعل في فطر الرجال الميل إلى النساء، وجعل من مقتضى النكاح المودة والرحمة، بل إن الوطء يكون سبباً لمزيد من الإلف والمودة والرحمة وهو شيء معلوم، وقد ذكره جمع من أهل العلم، ولا يحتاج مثل هذا أن ينبه عليه، وهو أيضاً سبب للولد، وبقاء النسل الآدمي، ويخرج منه الأنبياء والصلحاء والمجاهدون في سبيل الله، والعلماء، كل ذلك بسبب هذا النكاح، ويحصل فيه قضاء الوطر أيضاً، وأما هذه الفاحشة والشناعة فلا يحصل منها شيء من ذلك إطلاقاً، ثم إن هذا الممسوخ الذي يقع عليه ذلك هو لا يلتذ به ولكنه فساد الفطَر.

ولهذا قال لهم في الآية الأخرى: هَؤُلاء بَنَاتِي إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ [سورة الحجر:71] فأرشدهم إلى نسائهم فاعتذروا إليه بأنهم لا يشتهونهن.

قال: "فأرشدهم إلى نسائهم" مع أنه قال: بَنَاتِي وهذا كما يقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله- باعتبار أن النبي بمنزلة الأب لقومه، فبهذا الاعتبار يكون أبناءُ قومه أبناءه وبناتُهم بناتَه، والله -تبارك وتعالى- قال: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ [سورة الأحزاب:6] وفي القراءة الأخرى: (وهو أب لهم وأزواجه أمهاتهم) وهي قراءة أحادية معروفة -قراءة أبيّ وقراءة ابن عباس- وهذه الأبوة هي أبوة تربية، ورجحها بعض أهل العلم على أبوة النسب؛ لأن أبوة النسب يخرج فيها الإنسان إلى الحياة الدنيا، وأما هذه الأبوة فيخرج بها الإنسان من الظلمات إلى النور وإلى الحياة الحقيقية الكاملة التي يسعد بها في الدنيا ويسعد بها في الآخرة، فقوله: هَؤُلاء بَنَاتِي [سورة هود:78] يعني بنات القبيلة، أو بنات قومه، فهو يقول لهم: تزوجوا هؤلاء النساء، وبعضهم يقول: إنه عرض بناته عليهم ليتزوجوهن، فأبوا ذلك عليه.

قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ [سورة هود:79] أي: لقد علمت أنه لا أرَب لنا في النساء ولا إرادة، وإنك لتعلم مرادنا من أضيافك.

وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ [سورة الأعراف:82] أي: ما أجابوا لوطاً إلا أن همُّوا بإخراجه ونفيه ومن معه من بين أظهرهم، فأخرجه الله تعالى سالماً، وأهلكهم في أرضهم صاغرين مهانين.

وقوله تعالى: إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ قال قتادة: عابوهم بغير عيب، وقال مجاهد: إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ من أدبار الرجال وأدبار النساء، وروي مثله عن ابن عباس -ا- أيضاً.

قولهم: إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ يحتمل أنهم قالوا ذلك على سبيل التهكم والسخرية، ويحتمل أنهم قالوا ذلك على سبيل الحقيقة، ومن قال: إنهم قالوا هذا على سبيل السخرية فعلى أنهم لا يرون أن هذا من التطهر والتنزه، وذلك أنهم لما فسدت فطرهم صاروا يرون أن هذا هو عين الذوق والكمال، فزُين لهم سوء عملهم، كما هو مشاهد الآن في بلاد لا تعرف الله  حيث تجد أنه يُقر للمرأة في الكنيسة أن تعاشر المرأة، وللرجل أن يتزوج الرجل، وهذا في غاية القبح والمسخ، وفي البلاد التي لا يعترف لهم بذلك بصورة رسمية يخرجون بالملايين بمظاهرات حاشدة يطالبون بحقوقهم كما يزعمون، بل قد تجد بعض رؤساء الدول الكبار في أيام الانتخابات يزورون هؤلاء في مقارهم ويعدونهم بأن يعترفوا بحقوقهم وما أشبه ذلك، وهذا يدل على أن هؤلاء يمثلون وزناً وثقلاً في المجتمع، وأنهم أعداد كبيرة هائلة لا يستهان بها.

وأما الذين يتعاطون هذا الأمر في تلك المجتمعات فحدث ولا حرج حيث يقعون على كل شيء ويقع عليهم كل شيء، حتى الكلاب وغير الكلاب، ويقع الرجل على ابنته، وهكذا هي الفطَر الممسوخة، نسأل الله العافية.

قامت مظاهرة في إحدى الولايات الأمريكية التي تنتشر فيها المخدرات، وهذه الولاية عُرف أهلها بالشر والشراسة والفساد حيث حكى ذلك رجل من المسلمين حضر إلى تلك الولاية ونزل في فندق وهو في غاية التوجس والخوف، فسمع جلبة بعد يوم، فأطل وإذا بمظاهرة عارمة كبيرة لمجموعة من الشواذ تحمل أعلام جميع الدول وتحمل لافتات، ثم سمع جلبة في ناحية أخرى وإذا هم بعض من يحملون الأعلام، فحمله الفضول على النزول، فلما وصل إذا بأناس من المسلمين ينازعونهم علم "لا إله إلا الله" ويقولون: لا تحملونه، وهم يقولون: بل نحمله، وهم يحتجون في هذه المظاهرة على جميع الدول لماذا لا تقر هذا الأمر رسمياً، فالله المستعان.

فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ۝ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ [سورة الأعراف:83-84].

يقول تعالى: فأنجينا لوطاً وأهله، ولم يؤمن به أحد منهم سوى أهل بيته فقط، كما قال تعالى: فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ۝ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ [سورة الذاريات:35-36].

وهذا مما يستدل به على أن لوطاً ﷺ خاطبهم بالتوحيد وأن جميع الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- دعوا إلى التوحيد، فالله -تبارك وتعالى- ما أرسل من رسول إلا أوحى إليه: أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [سورة الأنبياء:25] فهذه دعوة جميع الرسل، وقوم لوط ممن لم يكونوا على التوحيد، فهاجر لوط ﷺ إلى تلك الناحية ودعا الناس إلى الله -تبارك وتعالى- فكونه لم يذكر في دعوته أنه دعاهم إلى التوحيد لا يعني أنه لم يوجه ذلك إليهم أو أنهم كانوا موحدين، وإنما ذُكروا بهذه الشناعة التي لم يسبقوا إليها.

هذا هو الجواب على قول من قال من أهل العلم: إنهم قد يكونون ممن لم يقع لهم شرك، فهذا القول فيه نظر؛ وإلا فمن أين تعلموا التوحيد؟

إلا امرأته فإنها لم تؤمن به بل كانت على دين قومها تمالئُهم عليه وتُعْلمهم بمن يقدم عليه من ضيفانه بإشارات بينها وبينهم.

هذه هي خيانة امرأة لوط، فالله قال: فَخَانَتَاهُمَا [سورة التحريم:10] يعني امرأة نوح وامرأة لوط، فالخيانة المقصود بها أنها كانت تدل على أضيافه، ولا يجوز بحال من الأحوال أن تحمل الخيانة على الفجور والفاحشة وذلك أنه ما خانت امرأة نبي قط، فالله يحفظ عرض أنبيائه ويصونه؛ لأن ذلك لو وقع فإنه يرجع إلى النبي فيدنس عرضه بهذا، فهذا لا يجوز بحال من الأحوال.

ولهذا لما أُمر لوط ليسري بأهله أُمر ألا يعلمها ولا يخرجها من البلد، ومنهم من يقول: بل اتبعتهم فلما جاء العذاب التفتت هي فأصابها ما أصابهم، والأظهر أنها لم تخرج من البلد ولا أعلمها لوط بل بقيت معهم، ولهذا قال هاهنا: إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ [سورة الأعراف:83] أي: الباقين، وقيل: من الهالكين، وهو تفسير باللازم.

لفظة "غبَر" هي من الأضداد، فتأتي بمعنى ذهب وتأتي بمعنى بقي، فقوله تعالى: إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ [سورة الأعراف:83]، يقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله: أي الباقين، وهذا هو المعنى المشهور -أي أن معنى الغابرين: الباقين- فالذين فسروه بالباقين منهم من قال: أي من المعمرين، كما قاله أبو عبيدة معمر بن المثنى، وذكره كبير المفسرين ابن جرير لكنه لم يرجحه وإنما قال: قيل من الباقين، أي أنها بقيت زماناً طويلاً قبل نزول العذاب، والله قال: إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ [سورة الشعراء:171] فهي عاشت مدة طويلة، ثم جاء العذاب فهلكت، هكذا قال بعضهم، وأحسن من هذا -والله تعالى أعلم- أن يقال: إن المراد بقوله: إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ [سورة الأعراف:83] أي: كانت من الباقين في العذاب فلم تنجُ منه، وعلى المعنى الآخر يقال: كانت من الذاهبين أي: من الهالكين.

قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله: "وهو تفسير باللازم" وذلك أن معنى ذهب هو أحد المعنيين للفظة "غبر"، وهذا من المشترك الذي يحمل المعاني المتضادة، والحاصل أن المشترك يجوز حمله على معنييه أو معانيه ما لم يوجد مانع يمنع من هذا، وهذا الذي ذكره الشافعي -رحمه الله- في "الرسالة" وذكره جماعة من أهل العلم وهو الراجح من أقوال الأصوليين، أي أنه يجوز حمل المشترك على معنييه، وفي هذا الموضع يمكن حمل المشترك على معنييه فيقال: مِنَ الْغَابِرِينَ [سورة الأعراف:83] أي من الباقين في العذاب الذين ذهبوا وهلكوا من الهالكين.

فقول ابن كثير -رحمه الله: إن هذا من التفسير باللازم معناه أنها بقيت في العذاب ويلزم من ذلك أنها هلكت، وبهذا الاعتبار لا حاجة إلى الترجيح بين هذين المعنيين، والله أعلم.

وقوله: وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا [سورة الأعراف:84] مفسر بقوله: وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ ۝ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ [سورة هود:82-83].

وهذا السجِّيل المنضود مفسر أيضاً بقوله -تبارك وتعالى: حِجَارَةً مِّن طِينٍ [سورة الذاريات:33] فالسجيل هو الطين.

ولهذا قال: فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ [سورة الأعراف:84] أي: انظر يا محمد كيف كان عاقبة من يجترئ على معاصي الله ويكذب رسله.

وروى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن ابن عباس -ا- قال: قال رسول الله ﷺ: من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به[3].

العلماء اختلفوا في عقوبة من فعل ذلك، فبعضهم قال: يلقى من أعلى بناء ثم يتبع بالحجارة، كما فعل الله  بهم حيث رفعهم ثم قلب عليهم القرى ثم أتبعهم بالحجارة، وقال بعضهم غير ذلك، والراجح هو ما ورد في هذا الحديث، أي يقتل الفاعل بهذه الطريقة، والمفعول به إذا كان راضياً فإنه يقتل بالسيف، ولا يفرق في هذا الأمر بين بكر ولا ثيب، وقد جاء في الحديث الآخر عن ابن عباس –ا- أيضاً أن من وقع على بهيمة قتل وقتلت البهيمة، وقد ذكر بعض أهل العلم أن الحكمة من قتل البهيمة مع أنه لا ذنب لها أنها تُذكّر بهذا الفعل القبيح، فمن رآها تذكر هذه الفاحشة، والله تعالى أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.

  1. أخرجه أبو داود في كتاب الخراج - باب نبش القبور العادية يكون فيها المال (3090) (ج 3 / ص 148) والطبراني في الأوسط (2788) (ج 3 / ص 158) وعبد الرزاق في مصنفه (20989) (ج 11 / ص 454) وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة برقم (4736).
  2. أخرجه البخاري في كتاب المغازي – باب قتل أبي جهل (3757) (ج 4 / ص 1461) ومسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها - باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه وإثبات عذاب القبر والتعوذ منه (2873) (ج 4 / ص 2202).
  3. أخرجه أبو داود في كتاب الحدود - باب فيمن عمِِِل عمَل قوم لوط (4464) (ج 4 / ص 269) والترمذي في كتاب الحدود – باب حد اللوطي (1456) (ج 4 / ص 57) وابن ماجه في كتاب الحدود – باب من عمِل عمَل قوم لوط (2561) (ج 2 / ص 856) وأحمد (2732) (ج 1 / ص 300) وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم (2422).

مواد ذات صلة