الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
(001) من أول السورة – إلى قوله تعالى (الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون..) الآية 13
تاريخ النشر: ٠٥ / ربيع الأوّل / ١٤٣٩
التحميل: 785
مرات الإستماع: 867

قال كعبٌ: أول الأنعام هو أول التوراة[1]، قوله تعالى: وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [الأنعام:1] جعل هنا بمعنى: خلق، والظلمات: الليل، والنور: النهار، والضوء الذي في الشمس والقمر وغيرهما، وإنما أفرد النور؛ لأنه أراد الجنس، وفي الآية رد على المجوس في عبادتهم للنار وغيرها من الأنوار، وقولهم: إن الخير من النور والشر من الظلمة، فإن المخلوق لا يكون إلهًا ولا فاعلاً لشيءٍ من الحوادث.

سورة الأنعام جاء عن ابن عباس -ا- بأنه قال: "إذا سرك أن تعلم جهل العرب؛ فاقرأ ما فوق الثلاثين ومائة من سورة الأنعام:قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ -إلى قوله- قَدْ ضَلُّوا [الأنعام:140]"[2].

وسُميت بالأنعام باعتبار أن ذلك قد تكرر فيها: وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ [الأنعام:138]، وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا [الأنعام:142]، وكذلك أيضًا: وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا [الأنعام:138].

وهذه السورة بالاتفاق نازلة في مكة، وصحَّ فيها الحديث أنها نزلت جملة واحدة، كما جاء عن ابن عباس -ا-[3].

وجاء في زيادة: "حولها سبعون ألف ملك يجهرون حولها بالتسبيح"[4]، هذا حسنه الحافظ، وصححه الشيخ أحمد شاكر، وهذه الزيادة ضعَّفها بعض أهل العلم، لكن كونها نازلة في مكة جملةً هذا نقل عليه الإجماع بعض أهل العلم، كابن عبد البر[5]، واستثنى قوله: قُلْ تَعَالَوْا [الأنعام:151]؛ الآيات الثلاثة الوصايا المحكمات.

وبعضهم يقول: ست، يعني مستثناة، والأصل أن السورة النازلة بمكة، أن جميع الآيات فيها نازلة في مكة، والسورة النازلة في المدينة، جميع الآيات نازلة في المدينة، إلا لدليل، وما قد يلوح من المعنى عند بعض المفسرين، فلا يصح أن يُقال معه بأن ذلك مستثنى لمجرد المعنى، فقد تنزل الآية قبل تقرير الحكم، وقد تنزل بعده بمدة، مثل: آية المائدة التي سبقت آية التيمم؛ فذُكر فيها الوضوء، مع أن الوضوء فيما يظهر، قد شرع قبل ذلك بكثير في مكة، حينما فرضت الصلاة.

وجعل في قوله: وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [الأنعام:1] بمعنى: خلق، الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [الأنعام:1]؛ فيعني خلق السماوات والأرض، وخلق الظلمات والنور؛ فيكون على هذا التفريق، هو تفريق لفظي فقط، وإلا المعنى واحد، جعل بمعنى خلق، فيكون ذلك أكمل في البلاغة؛ فبدلاً من أن يقال: الذي خلق السماوات والأرض وخلق الظلمات والنور؛ قال: وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [الأنعام:1]؛ والمؤدى واحد، ومما يدل على هذا، وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا [النساء:1]؛ وفي الموضع الآخر قال: وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا [الأعراف:189]؛ يعني استعمل هذا مكان هذا، خلق وجعل.

وبعضهم يفرق، يقول: الخلق هو إنشاء، إنشاء لذات المخلوق وأصله؛ فعُبر به عن السماوات والأرض، بخلاف الظلمات والنور، فهي ليست ذاتًا؛ وإنما أوصاف للمخلوق، يعني أنها ليست بمجسوسة محسوسة، وإنما يظهران في غيرهما، يعني أعراض، وليست بذوات، وقال: وجعل، لكن هذا الأول أوضح منه، والله أعلم، الأول أوضح من هذا، ويقول هنا: وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ [الأنعام:1]؛ الظلمات: الليل، والنور: النهار، يعني باعتبار الظلمات المشاهدة، والنور المشاهد، هذا على قول الجمهور وهو اختيار ابن جرير[6]، ويكون عند أرباب المجاز، أن ذلك من قبيل حمل اللفظ على حقيقته، يعني يقابله المجاز أن الظلمات ظلمات الجهل والكفر، والنور الذي هو الإيمان والهدى؛ فقد يأتي الهدى والإيمان معبرًا عنه بالنور، كما يأتي الجهل والكفر والضلال معبرًا عنه بالظلام، كما قال الله : اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ [البقرة:257]؛ فهذا يراد به ظلمات الكفر والجهل بلا شك، ونور الإيمان في النور المذكور، هذا لا إشكال فيه، ومن يمنعون من المجاز كشيخ الإسلام -رحمه الله- يقول: "المتبادر مع القرائن، والسياق والسباق واللحاق، هو الحقيقة"[7]، فهذا هو المتبادر، وليس هناك وضع أول ووضع ثاني، وعلى فرض القول بالمجاز، فإن اللفظ إذا كان يحتمل الحقيقة والمجاز، فالحقيقة مقدمة على المجاز، هذه قاعدة من قواعد الترجيح، لكن مثل هذا على القول بالمجاز، لا يتأتى في كل موضع، يعني مثلاً: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:257]، هنا يمكن أن نقول: بأن ذلك لا يحتمل الحقيقة، يخرجهم من الظلام الحسي أو المشاهد إلى النور الحسي، لم يقل بهذا أحد؛ وليس هو المراد، وإنما الهدى والضلال، فهذا عند الاحتمال، عند الاحتمال يحمل اللفظ على الحقيقة؛ لأنها الأصل، ولا تحتاج إلى نقل، المجاز يحتاج إلى نقل، وضع أول ووضع ثاني، وينقل من هذا إلى هذا، ولا تحتاج إلى قرينة، والحقيقة هي الأكثر في الاستعمال، كل هذه مرجحات للحقيقة.

يقول: "وإنما أفرد النور؛ لأنه أراد الجنس"؛ أفرد النور ويشمل جميع أنواع النور، أفرد النور؛ لأنه جنس، وأفرد النور في قوله: وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [الأنعام:1] بعضهم يقول: لكثرة أسباب الظلمات، ومحالها عند الناس، ومشاهدتهم لها على التفصيل، لكن إذا حُمل الكفر على الظلمات؛ فهذا يكون باعتبار ما جرى عليه العادة في القرآن، أنه يُفرد سبيل الحق، ويجمع سبل الباطل، وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ [الأنعام:153]؛ فالظلمات الكفر بطرائقه وصوره الكثيرة، فهي سبل للشيطان فتجمع، أما النور فهو الحق وهو واحد بهذا الاعتبار.

يقول: وحد النور؛ لأنه أشرف، قوله: عن اليمين والشمائل، وذكر ابن القيم[8] أن أصل النور واحد بخلاف الظلمات فهي متعددة؛ لتعدد الحجب المقتضية لها وهي كثيرة، ولكل حجاب ظلمة خاصة وهي راجعة إلى مفعولاته بخلاف النور فهو يرجع إلى اسمه وصفته، والله أعلم.

ويمكن أن يقال: بأن النور جنس يصدق على الواحد والكثير، مثل ما يقال: خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ [الأنعام:1]؛ الأرض توحد والسماوات تجمع؛ فالأرض جنس يصدق على الواحد والعدد.

يقول: "وفي الآية رد على المجوس.." الخ.

يقول تعالى:

ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الأنعام:1]، أي يسوون ويمثلون من قولك: عدلت فلانا بفلان، إذا جعلته نظيره وقرينه، ودخلت ثم لتدل على استبعاد أن يعدلوا بربهم بعد وضوح آياته في خلق السماوات والأرض، والظلمات والنور، وكذلك قوله: ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ [الأنعام:2] استبعاد؛ لأن يمتروا فيه بعد ما ثبت أنه أحياهم وأماتهم، وفي ضمن ذلك تعجيب من فعلهم وتوبيخ لهم.

قوله -تبارك وتعالى-: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الأنعام:1]؛ ثم هذه تدل على الاستبعاد؛ يعني ومع هذا كله كفر به من كفر، ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الأنعام:1]؛ بعضهم هنا يقول: "يسوون ويمثلون، من قولك: عدلت فلانًا بفلان" إذا جعلته نظيرًا له وقرينًا.

بعضهم يقول: يعدلون بأفعالهم عنه وينسبونها إلى غيره، وهذا خلاف الظاهر المتبادر.

وبعضهم يقول: يعدلون بعبادتهم عنه، وهذا كالذي قبله، يعدلون: أي: يسوون ويمثلون، وهذا هو الأقرب، -والله أعلم-، ويمكن أن تكون هذه المعاني الأخرى تابعةً له، أن تكون تابعة لا أن تكون هي المعنى المفسر به.

 يقول: "وكذلك قوله: ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ [الأنعام:2]" يعني: تشكون أو ترددون.

يقول: "وفي ضمن ذلك تعجيب من فعلهم وتوبيخ لهم" يعني: أن "ثم" هذه ليست للتراخي والمهلة الزمنية، ثم مثل ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا [البلد:17]؛ فالإيمان أولاً فهي في الرتبة، فهنا أيضًا هي للتراخي الرتبي، يعني الذي يدل على أن ما بعدها يتضمن معنى من نوع ما قبلها، وهو أهم في بابه؛ وذلك أن عدولهم عن عبادته، مع علمهم بأنه هو الخالق لجميع الخلق أعجب من علمهم بذلك، -والله أعلم-.

قوله: الَّذِينَ كَفَرُوا [الأنعام:1]؛ هنا عامٌ في كل مشرك، وقد يختص بالمجوس بدليل الظلمات والنور، وبعبدة الأصنام.

هذا بناءً على أن هذا من قبيل التعريض بالمجوس، وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [الأنعام:1]؛ هذه التي يعبدونها، ولكن هذا لا دليل عليه، ولا حاجة للتخصيص بهذا المعنى، وإنما الذين كفروا عمومًا.

وبعبدة الأصنام -وفي جميع النسخ- أو بعبدة الأصنام.

يقول: "وقد يختص بالمجوس بدليل الظلمات والنور، أو بعبدة الأصنام" هنا لأنه قال: يختص، فيكون أو بعبدة الأصنام، فهذا عمومًا يُحمل على الكفر بجميع أنواعه.

قال: أو بعبدة الأصنام؛ لأنهم المجاورون للنبي ﷺ، وعليهم يقع الردّ في أكثر القرآن.

يعني للرد على عبدة الأصنام، لا بد من أو هنا؛ ليستقيم المعنى، فهم المجاورون يعني في مكة ومن حولها.

قوله تعالى: خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ [الأنعام:2]؛ أي: خلق أباكم آدم من طين ثُمَّ قَضى أَجَلاً.

وبعضهم يقول: خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ [الأنعام:2]؛ يعني: الجميع، باعتبار أن النطفة ترجع إلى الطين، لكن الذي يظهر أنه لو قيل: بأن ذلك في أبيهم آدم فهذا أقرب، -والله أعلم-، فهو الذي خلقه الله من طين، فهذا يكون باعتبار الأصل.

قوله: ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ [الأنعام:2]؛ الأجل الأوّل الموت، والثاني يوم القيامة، وجعله عنده؛ لأنه استأثر بعلمه، وقيل: الأوّل النوم، والثاني: الموت، ودخلت "ثم" هنا لترتيب الأخبار، لا لترتيب الوقوع، لأن القضاء متقدم على الخلق.

هنا قوله: ثُمَّ قَضَى أَجَلاً [الأنعام:2]؛ القضى، القضاء سبق في الغريب، بأنه يدل على إحكام أمر، وعلى إتقانه وإنفاذه لجهته، ويأتي بمعان أخر كما هو معلوم، مثل: الفراغ من الشيء، أو قضى بمعنى  فصل وحكم أو نحو ذلك، سواء كان قولاً أو فعلاً، فصل الأمر، ونحو هذا، والفراغ من الشيء، مثل: فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُم [البقرة:200]؛ والأجل يقال: للمدة المضروبة، وغاية الوقت، ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ [الأنعام:2]؛ الأجل الثاني غير الأجل الأول؛ لأن القاعدة: أن النكرة بعد نكرة، النكرة إذا أعيدت بعد نكرة؛ فذلك يدل على أن الثانية غير الأولى، وهذا يدل على اختلاف الأجلين، ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ [الأنعام:2]؛ الأجل الأول يقول: "الموت، والثاني: يوم القيامة، وجعله عنده؛ لأنه استأثر بعلمه" وهذا كأنه أقرب الأقوال، -والله تعالى أعلم-.

يقول: "وقيل: الأوّل النوم، والثاني: الموت" باعتبار أن النوم موتة صغرى، ودخلت ثم لترتيب الأخبار، لا لترتيب الوقوع، لأن القضاء متقدم على الخلق.

ما ذكره ابن جزي -رحمه الله- هنا في الأجل الأول والثاني، هو قول أكثر أهل العلم سلفًا وخلفًا، وهو مروي عن ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، والحسن، وقتادة، والضحاك، وزيد بن أسلم، وعطية، والسدي، ومقاتل[9]، واختاره أبو جعفر ابن جرير -رحمه الله-[10].

وجاء عن بعض السلف رواية عن ابن عباس[11]، وقال مجاهد[12] أيضًا: ثُمَّ قَضَى أَجَلاً [الأنعام:2]؛ يعني مدة الدنيا، والأجل المسمى عنده: عمر الإنسان إلى حين موته.

وبعضهم يقول: الأول ما بين أن يخلق إلى أن يموت، يعني عكس ما جاء في القول قبله، والثاني: ما بين أن يموت إلى أن يبعث، يعني: مدة البرزخ.

وبعضهم يقول: الأول: قبض الأرواح في النوم، قبض الأرواح، والثاني: القبض عند الموت.

وبعضهم يقول: الأول ما يُعرف من أوقات الأهلة والبروج، والثاني: أجل الموت.

وبعضهم يقول: الأول مضى والثاني: لمن بقى ومن سيأتي، قضى أجلاً لمن مضوا.

وبعضهم يقول: الأول الأجل المحتوم، والثاني: الزيادة في العمر، يعني: ما يزاد في صحف الملائكة، يعني: يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [الرعد:39]؛ على هذا التفسير، لكن القول الأول هو الأقرب، -والله أعلم-.

قوله تعالى: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ [الأنعام:3]؛ يتعلق في السماوات بمعنى اسم الله، المعنى كقوله: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ [الزخرف:84]، كما يقال: أمير المؤمنين الخليفة في المشرق والمغرب.

وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ [الأنعام:3]؛ يعني: المألوه المعبود في السماوات وفي الأرض، يقول: "يتعلق في السماوات بمعنى اسم الله" بمعنى اسم الله، فالمعنى كقوله: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ [الزخرف:84]؛ يعني كأنه قيل: وهو المعبود فيهما، يعني معنى اسم الله هو المعروف بالإلهية أو المتوحد بالإلهية فيهما، أو هو الذي يقال له: الله في السماوات والأرض، أو في السماوات، على أحد المحامل، لا يشرك به في هذا الاسم.

والزجاج فسر هذا بأنه متعلق بما تضمنه اسمه -تبارك وتعالى- من المعاني يعني: كأنه قال: وهو الخالق الرازق المحيي المميت، ها؟ المحيط في السماوات وفي الأرض، يتعلق بمعنى اسم الله، الذي تضمنه هذا الاسم، هذا الاسم كما هو معلوم يتضمن جميع معاني الأسماء الحسنى، كل الأسماء الحسنى ترجع إلى هذا الاسم الكريم، الله لفظًا ومعنى، لفظًا: أنها تعطف عليه ولا يعطف على شيءٍ منها في الذكر، فتقول: هو الله الخالق البارئ... إلى آخره، لا تقول: الخالق البارئ الله لفظًا، وترجع إليه معنى؛ بمعنى: أن جميع معاني الأسماء الحسنى مضمنة في هذا الاسم الكريم؛ لأنها من معاني الإلهية؛ فهو أوسع الأسماء، ولهذا ذهب كثير من أهل العلم إلى أنه الاسم الأعظم، ومن وجوه الاستدلال على ذلك من جهة النظر أن جميع الأسماء الحسنى ترجع إليه لفظًا ومعنى، وهذا القول الذي ذكره هنا، وهو أصلاً قول الزجاج، استحسنه ابن عطية[13].

"وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ [الأنعام:3]؛ قال: يتعلق في السماوات بمعنى اسم الله، المعنى كقوله: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ [الزخرف:84] كما يقال: أمير المؤمنين الخليفة في المشرق والمغرب" وابن كثير -رحمه الله- يقول: "هو المدعو الله في السماوات وفي الأرض"[14]، يعني: يعبده ويوحده ويقر له بالإلهية من فيهما، ويسمونه الله، إلا من كفر، كقوله: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ [الزخرف: 84]؛ يعني: هو إله من في السماء وإله من في الأرض، وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ [الأنعام:3]؛ يعني: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ [الأنعام:3].

وبعضهم يقول: وهو الله يعلم سركم وجهركم في السماوات، وهذا اختاره النحاس[15].

وقال ابن جرير: "وهو الله في السماوات، ويعلم سركم وجهركم في الأرض"[16]، وهذا ضعفه الحافظ ابن القيم -رحمه الله-[17].

وكأن بعضهم يستشكل وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ [الأنعام:3]؛ فيجعل الوقف على قوله: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ [الأنعام:3]؛ باعتبار أن الله فوق السماوات على العرش وليس في الأرض، قالوا: فيكون ذلك استئنافًا وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ [الأنعام:3]؛ يعني: وهو في علوه يعلم ما أنتم عليه، ولا ضرورة لهذا، لأنك إذا قلت: بأنه الله في السماوات وفي الأرض، يعني المألوه يألهه أهل السماوات وأهل الأرض، فهذا لا إشكال فيه، وهو الله، أي المألوه يألهه أهل السماوات وأهل الأرض.

وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ [الأنعام:3]؛ فيكون الوقف على قوله: وَفِي الأَرْضِ [الأنعام:3]؛ يكون المعنى قد تم، ثم قال: يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ [الأنعام:3]، فلا يكون قوله: يَعْلَمُ سِرَّكُمْ [الأنعام:3]؛ متعلقًا بقوله: وَفِي الأَرْضِ [الأنعام:3]؛ وعلى الذي قبله: وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ [الأنعام:3]؛ يعني: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ [الأنعام:3]؛ وتقف وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ [الأنعام:3]؛ وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ [الأنعام:3]؛ فالبعض يستشكل وفي الأرض مع أنه في العلو، ولكن لا إشكال بهذا، وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ [الأنعام:3]؛ يعني: المألوه في السماوات وفي الأرض، يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ [الأنعام:3].

يقول: "كما يقال: أمير المؤمنين الخليفة في المشرق والمغرب" يعني: أنه الآمر الناهي، الذي يولي ويعزل ونحو ذلك، مثل ما قال على كلام الزجاج[18]، يعني: أن الله وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ [الأنعام:3]؛ يرجع إلى معنى اسم الله، يعني وهو الخالق الرازق المحيي المميت المدبر في السماوات وفي الأرض، لكن مثل هذا لا يكون بمعنى المألوه، وهذا الاسم الكريم يدل على الإلهية، فتفسيره بالمألوه كأنه أقرب، -والله تعالى أعلم-.

هنا في قوله: "وقيل" المعنى: أنه في السماوات والأرض بعلمه، كقوله: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الحديد:4]؛ هذا فيه إشكال، المعنى: أنه في السماوات والأرض، هذا كأنه بناءً على نفي صفة العلو لله -تبارك وتعالى- يعني: في السماوات بعلمه، هم لا يثبتون أن الله فوق العرش، فوق العالم، فوق سماواته، فيقولون: بعلمه، وهذا ليس المراد، فيكون ذلك من قبيل التأويل، لكنه هو ذكره على سبيل التضعيف، فهذا لا يضاف لابن جزي، لكن كان ينبغي أن لا يذكر هذا القول، فأقوال أهل البدع لا تذكر.

قال: ويحتمل أن يكون المجرور في موضع الخبر: فيتعلق باسم فاعل محذوف، والمعنى على هذا قريب من الأوّل، وقيل: المعنى أنه في السماوات والأرض بعلمه كقوله: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ [الحديد:4]، والأول أرجح وأفصح؛ لأنّ اسم الله جامع للصفات كلها من العلم والقدرة والحكمة، وغير ذلك، فقد جمعها مع الإيجاز. [في جميع النسخ: فقصد جمعها مع الإيجاز].

يصح هذا، ولا إشكال فيه.

ويترجح الثاني بأن سياق الكلام في اطلاع الله تعالى وعلمه، لقوله بعدها: يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ.

هذا مشكل، هذا الذي يقول بأنه بعلمه.

وقيل: يتعلق بمحذوف تقديره: المعبود في السماوات وفي الأرض وهذا المحذوف صفة لله، واسم الله على هذا القول، وعلى الأول هو خبر المبتدأ، وأما إذا كان المجرور الخبر فاسم الله بدل من الضمير.

قوله تعالى: وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ من الأولى زائدة، والثانية للتبعيض، أو لبيان الجنس.

من الأولى هي التي تأتي قبل النكرة في سياق النفي، فيكون ذلك للتنصيص في العموم، يعني: هي تنقل اللفظ من الظهور في العموم إلى التنصيص الصريح في العموم، يسمونها زائدة يعني: إعرابًا وإلا من جهة المعنى فهي للتنصيص الصريح في العموم وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ؛ والأصل: وما تأتيهم آيةٌ، فهي نكرة في سياق النفي، فإذا دخلت عليها من فذلك أقوى في العموم، والثانية للتبعيض مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ؛ أو لبيان الجنس.

قوله: بِالْحَقِّ؛ يعني: ما جاء به محمد ﷺ، فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ الآية، وعيد بالعذاب والعقاب على استهزائهم.

قوله تعالى: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا؛ حضٌ للكفار على الاعتبار بغيرهم، والقرن مائة سنة، وقيل: سبعون، وقيل: أربعون.

وقيل غير هذا، وبعضهم قيل: ستون، وقيل: ثمانون، والقرن يقال للقوم والأمة من الناس، الذين اقترنوا في زمن متحد، اجتمعوا في وقت أو زمن واحد، ولهذا يطلق على الزمان وأهله.

بعضهم يقول: المدة التي أو الزمن أو الأمة التي كان فيها نبي يقال لها، وهو من بعض إطلاقاته، يعني أهل مدة كان فيها نبي، وكذلك يقال للطبقة من أهل العلم، قلت السنوات أو كثرت، ولا يقل عن ثلاثين سنة، لكن هو ليس موعد اتفاق من ناحية تحديد المدة، لكنه لا يُقال: قرن لسنة، أو لسنتين أو لخمس سنوات إنما لجيل، الجيل والأمة سواء كان فيها نبي أو لم يكن فيها نبي، طبقة من الناس، جيل من الناس، أمة من الناس، كل هذا يقال له قرن من اقترنوا في زمن واحد، ولهذا من حدده بالأربعين، قالوا: يذهب الجيل في هذه المدة، يعني: الذين كانوا في مدة البلوغ ونحو هذا، يعني بلغوا مبلغ الرجال في أربعين سنة يذهب جيل ويأتي جيل آخر، وقد مضى شيء من هذا في الكلام على قوله: قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً [المائدة:26]؛ قالوا: ليذهب هذا الجيل، ويأتي جيل جديد، هو الذي يكون على يده النصر والفتح، وقد يطلق على مدة أطول من هذا.

 قوله: مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ؛ الضمير عائد على القرن، لأنه في معنى الجماعة.

مكناهم يعني وطأنا لهم، وهيأنا لهم الأسباب، للتمكين وملكناهم مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ.

قوله: ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ [الأنعام:6]، الخطاب لجميع أهل ذلك العصر من المؤمنين والكافرين وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْرارًا [الأنعام:6]، السماء هنا المطر والسحاب أو السماء حقيقة، ومدرارا: بناء مبالغة وتكثير.

يعني السماء يقال للعلو، فهنا يدل على أن المراد السحاب -والله أعلم- من خلال السياق، يعني المدرار الكثير المتتابع.

ومدرارًا: بناء مبالغة وتكثير، من قولك: درّ المطر إذا غزر، فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِم [الأنعام:6]، التقدير: فكفروا وعصوا فأهلكناهم، وهذا تهديد للكفار أن يصيبهم مثل ما أصاب هؤلاء على حال قوتهم وتمكينهم.

قوله تعالى: وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتابًا فِي قِرْطاسٍ [الأنعام:7] الآية: إخبار أنهم لا يؤمنون ولو جاءتهم أوضح الآيات، والمراد بقوله: فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ [الأنعام:7] أي: لو بالغوا في تمييزه وتقليبه ليرتفع الشك لعاندوا بذلك، يشبه أن يكون سبب هذه الآية قول بعضهم للنبي ﷺ: لا أومن بك حتى تأتي بكتاب من السماء يأمرني بتصديقك، وما أُراني مع هذا أصدقك.

قوله -تبارك وتعالى-: وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ [الأنعام:7]؛ ذهب ابن جرير إلى أن المقصود بذلك القرآن[19]، يعني هذا القرآن لو نزل في قرطاس، والقرطاس معروف أنه ما يكتب فيه من صحيفة ورق ونحو ذلك، وما ذكره هنا من سبب النزول، أن بعضهم قال للنبي ﷺ: "لا أؤمن بك.. الخ" هذا جاء عن الكلبي[20]، أن مشركي مكة قالوا: يا محمد، والله لا نؤمن لك، حتى تأتينا بكتاب من عند الله، ومعه أربعة من الملائكة يشهدون أنه من عند الله، وأنك رسوله، فنزلت الآية هذه، وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ [الأنعام:7]؛ لكن هذا لا يصح بحال.

في قوله: فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ [الأنعام:7] لو بالغه في تمييزه؛ في جميع النسخ: [في ميزه].

لا إشكال.

قال: وفي قوله: لعاندوا بذلك في جميع النسخ: [لعاندوا بعد ذلك].

أحسن بعد ذلك، ويصح لعاندوا بذلك، لكن بعد ذلك أوضح.

والكلمة التي بعدها: يشبه أن يكون بإضافة الواو [ويشبه أن يكون سبب هذه الآية].

ويشبه أن يكون سبب بالواو.

وأيضًا في قوله: لا أومن بك قال: [لا أؤمن لك] في جميع النسخ.

يقول في الرواية: "والله لا نؤمن لك"، فتُعدل هذه.

حتى تأتي، [حتى تأتيني].

في الرواية "حتى تأتينا".

قوله تعالى:

وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ [الأنعام:8] حكاية عن طلب بعض العرب، وروي أن العاص بن وائل، والنضر بن الحارث، وزمعة بن الأسود، والأسود بن عبد يغوث قالوا للنبي ﷺ: "يا محمد، لو كان معك ملك"[21].

هذه الرواية لا تصح من جهة الإسناد، يقولون: "لو كان معك ملك يا محمد يحدث عنك، ويُرى معك، فأنزل الله في ذلك: وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ [الأنعام:8]؛ هذا عن محمد بن إسحاق، ومثل هذا في أسباب النزول، يكون من قبيل المعضل، وعند بعضهم أنه من قبيل المرسل.

قوله تعالى: وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ [الأنعام:9]، قال ابن عباس: المعنى لو أنزلنا ملكا فكفروا بعد ذلك لعُجل لهم العذاب، ففي الكلام على هذا حذف.

يعني كما قال الله : مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ [الحجر:8]؛ يعني: يأتيهم العذاب لو نزل، وهكذا في قوله: يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ [الفرقان:22].

وقضي الأمر -وفي جميع النسخ- [وقضاء الأمر] على هذا: تعجيل أخذهم.

وقيل: المعنى لو أنزلنا ملكا لماتوا من هول رؤيته، فقضي الأمر على هذا: موتهم، وفي جميع النسخ [فقضاء الأمر على هذا موتهم].

الأول أقرب، -والله أعلم-، أن المقصود أنهم يعاجلون بالعقوبة إن لم يؤمنوا.

قوله تعالى: وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكًا لَجَعَلْناهُ رَجُلاً [الأنعام:9] أي: لو جعلنا الرسول ملكا لكان في صورة رجل، لأنهم لا طاقة لهم على رؤية الملك في صورته، وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ [الأنعام:9] أي: لخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم وعلى ضعفائهم، فإنهم إذا رأوا الملك في صورة إنسان قالوا: هذا إنسان وليس بملك.

قوله تعالى: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ [الأنعام:10] الآية: إخبار قصد به تسلية النبي ﷺ عما كان يلقى من قومه فَحاقَ أي أحاط بهم، وفي هذا الإخبار تهديد للكفار.

يعني: نزل بهم وأصابهم ما كانوا به يستهزئون.

قوله تعالى: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ [الأنعام:11] الآية: حض على الاعتبار بغيرهم إذا رأوا منازل الكفار الذين هلكوا قبلهم، ثُمَّ انْظُرُوا [الأنعام:11] قال الزمخشري[22]: إن قلت: أي فرق بين قوله: فَانْظُرُوا وبين قوله: ثُمَّ انْظُرُوا؟ قلت: جعل النظر سببًا عن السير في قوله: فَانْظُرُوا. قال في جميع النسخ: [مُسَببًا عن السير في قوله: فَانْظُرُوا]، كأنه قال: سيروا لأجل النظر.

وأما قوله: قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا [الأنعام:11] فمعناه إباحة السير للتجارة وغيرها من المنافع، وإيجاب النظر في الهالكين رتّبه على ذلك بـــ"ثم"، لتباعد ما بين الواجب والمباح.

هذا واضح في المعنى، والفرق بين المعنيين، يعني "فانظروا" تكون الفاء دالة على ترتيب ما بعدها على ما قبلها، سيروا فانظروا، رتبه على السير، رتبه ونبه على ذلك بـ"ثم"؛ للتباعد ما بين الواجب والمباح، يعني السير للتجارة ونحو ذلك هذا مباح، ويكون معه نظر آخر، وهو النظر في منازل الهالكين للاعتبار.

 قوله تعالى: قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّمَواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ [الأنعام:12] القصد بالآية إقامة البرهان على صحة التوحيد وإبطال الشرك، وجاء ذلك بصفة الاستفهام لإقامة الحجة على الكفار. وفي جميع النسخ [وجاء ذلك بصيغة الاستفهام].

يصح هذا وهذا، وصيغة الاستفهام أوضح.

 فسأل أولا، لمن ما في السماوات والأرض؟ ثم أجاب عن السؤال بقوله: قُلْ لِلَّهِ، لأن الكفار يوافقون على ذلك بالضرورة، فيثبت بذلك أن الإله الحق هو الله الذي له ما في السماوات والأرض، وإنما يحسن أن يكون السائل مجيبًا عن سؤاله، إذا علم أن خصمه لا يخالفه في الجواب الذي به يقيم الحجة عليه.

قوله تعالى: كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام:12] أي قضاها، وتفسير ذلك بقول النبي ﷺ: إن الله كتب كتابا قبل أن يخلق السماوات والأرض، وفيه: إن رحمتي سبقت غضبي[23].

وفي رواية: تغلب غضبي[24].

قوله: لَيَجْمَعَنَّكُمْ [الأنعام:12]، مقطوع بما قبله، وهو جواب لقسم محذوف، وقيل: هو تفسير الرحمة المذكورة تقديره: أن يجمعكم، وهذا ضعيف لدخول النون الثقيلة في غير موضعها، فإنها لا تدخل إلا في القسم، أو في غير الواجب.

هذا كما قال ابن كثير -رحمه الله-: بأن اللام موطئة للقسم؛ فأقسم بنفسه ليجمعن عباده إلى ميقات يوم معلوم[25]؛ وهو يوم القيامة الذي لا ريب فيه، لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ [الأنعام:12].

يقول: "قيل: إلى هنا بمعنى في" إلى يوم القيامة يعني: في يوم القيامة، قال: "وهذا ضعيف" باعتبار أن إلى تدل على الغاية فيبقى فيها هذا المعنى.

وبعضهم يقول: بأن المراد: ليجمعنكم في القبور اليوم الذي أنكرتموه لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ [الأنعام:12]؛ يعني: في القبور.

وبعضهم يقول: لَيَجْمَعَنَّكُمْ [الأنعام:12]، هذا بدل من الرحمة، كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام:12]؛ يعني: كتب على نفسه ليجمعنكم، واللام بمعنى: كتب على نفسه ليجمعنكم، بمعنى أن، يعني كتب على نفسه الرحمة أن يجمعنكم.

وبعضهم يقول: أن اللام هذه مسوقة، أو ليجمعنكم وما بعدها، لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ [الأنعام:12]؛ للترهيب بعد الترغيب، يعني: إن أمهلكم برحمته، فهو مجازيكم بجمعكم، ثم معاقبة المسيء.

لَيَجْمَعَنَّكُمْ [الأنعام:12]؛ هنا يقول: "مقطوع مما قبله وهو جواب لقسم كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ [الأنعام:12]" فيكون جوابًا لقسم محذوف، يعني: أقسم ليجمعنكم يوم القيامة، كتب ربكم على نفسه الرحمة أقسم ليجمعنكم، وإذا جعل بدلاً من الرحمة، يكون: كتب ربكم على نفسه ليجمعنكم إلى يوم القيامة، وما ذكره ابن جزي كأنه -والله أعلم- أقرب، وأن "إلى" كما قال ابن جزي: "الصحيح أنها للغاية على بابها" كما ذكر ابن القيم -رحمه الله- بأن الحروف وإن تضمنت معنى حرف آخر، فإنه يبقى فيها من معنى الحرف الأصلي[26]، فـ"إلى" أصل معناها في الغاية إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [الأنعام:12]؛ لأنه لم يأتِ إلى ذلك الأجل.

قوله: إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ [الأنعام:12] قيل: هنا إلى بمعنى في، وهو ضعيف، والصحيح أنها للغاية على بابها.

الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [الأنعام:12] الذين مبتدأ وخبره لا يؤمنون.

هذا قال به الزجاج[27]، واستحسنه ابن عطية[28].

ودخلت الفاء لما في الكلام من معنى الشرط قاله الزجاج وهو حسن.

نعم، لاحظ يعني التقدير إذا كان دخلت الفاء لما في الكلام بمعنى الشرط، التقدير كأنه يقول: من خسر نفسه فهو لا يؤمن، الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [الأنعام:12]؛ لماذا دخلت الفاء على جواب فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [الأنعام:12]؛ لأنه بمعنى الشرط، من خسر نفسه فهو لا يؤمن، هذا التقدير.

قال: وقال الزمخشري: الَّذِينَ نُصب على الذم أو رفع.

يعني: أريد الذين خسروا أنفسهم، أو أذم الذين خسروا أنفسهم، منصوب على الذم.

أو رفع بخبر ابتداء مضمر.

يعني أنتم الذين خسروا أنفسهم، أو هم الذين خسروا أنفسهم.

 وقيل: هو بدل من الضمير في ليجمعنكم وهو ضعيف.

هذا قول الأخفش[29]، وهذا ضعيف، يعني باعتبار أنه بدل بعض من كل، ليجمعنكم هذا جميع الخلق، إلى يوم القيامة الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ [الأنعام:12]؛ هذا البعض وليس الكل، فإذا كان الذين خسروا بدل من ليجمعنكم، أو بدل من الضمير فيه ليجمعنكم الكاف، فالأول "ليجمعنكم" عام لجميع الخلق، الَّذِينَ خَسِرُوا [الأنعام:12]؛ هذا البعض، بعض الخلق، فيكون بدل بعض من كل وهذا جوزه ابن عطية -رحمه الله-[30]، وضعفه هنا المؤلف وهو مسبوق إلى هذا التضعيف، لكن ابن عطية جوزه باعتبار يعني أنه يتضمن فائدة مرتقبة، الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [الأنعام:12]؛ فيكون بدل بعض من كل، لكن الذي رده مثل المبرد[31]، اعتبره كقولك: "مررت بك زيد"، قال: لا فائدة مرتقبة، وأن البدل من ضمير الخطاب لا يصح، البدل من ضمير الخطاب ليجمعنكم، الكاف هذه للخطاب، هنا لا يصح، مررت بك زيد، لكن ابن عطية ومن وافقه، وكذلك أبو حيان[32]، لم يوافقوا المبرد في هذا، وقالوا: هذا يختلف، في فرق بين المثال الذي ذكره وما نحن فيه، وأنه يصح هنا أن يكون بدل بعض من كل، لكن الإعراب الذي ذكره قبل، كأنه أقرب -والله أعلم-، وأنه ليس من قبيل البدل، يقول: الذين مبتدأ وخبره فهم لا يؤمنون، هذا قول الزجاج، يعني كأنها جملة مستقلة عن الأولى، وليست من قبيل البدل.

وقيل: منادى وهو باطل.

باعتبار أن حرف النداء لا يسقط مع المبهمات الذين، هذا اسم موصول مبهم، فياء النداء لا تسقط مع مثله.

  1. أخرجه الطبري في تفسيره (9/ 147)، بلفظ: "فاتحة التوراة فاتحة الأنعام".
  2. أخرجه البخاري، كتاب المناقب، باب جهل العرب، برقم (3524)، وابن كثير في تفسيره (3/ 347).
  3. انظر: الإتقان في علوم القرآن (1/ 39).
  4. أخرجه الطبراني في المعجم الكبير من طريق حماد بن سلمة عن علي بن زيد، برقم (12930)، وابن كثير في تفسيره (3/ 237)، وعلي بن زيد هو ابن جدعان وهو ضعيف.
  5. انظر: التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (1/ 146).
  6. تفسير الطبري (9/ 144).
  7. انظر: مجموع الفتاوى (7/ 100).
  8. بدائع الفوائد (1/ 120).
  9. تفسير ابن كثير (3/ 239).
  10. تفسير الطبري (9/ 150).
  11. تفسير ابن كثير (3/ 239).
  12. تفسير ابن كثير (3/ 239).
  13. انظر: تفسير ابن عطية (2/ 267).
  14. تفسير ابن كثير (7/ 243).
  15. انظر: تفسير ابن كثير (3/ 240)، وتفسير القرطبي (6/ 390).
  16. تفسير الطبري (9/ 155).
  17. انظر: بدائع الفوائد (1/ 116).
  18. تفسير ابن عطية (2/ 267).
  19. تفسير الطبري (9/ 158).
  20. انظر: تفسير ابن كثير (5/ 119).
  21. [الدر المنثور في التفسير بالمأثور (3/ 251).
  22. تفسير الزمخشري (الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل) (2/ 8).
  23. أخرجه البخاري في مواضع منها في كتاب التوحيد، باب {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ} [هود:7]، {وَهُوَ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ}[التوبة:129]، برقم (7422).
  24. أخرجه البخاري في مواضع منها في كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران: 28]، برقم (7404)، ومسلم، كتاب التوبة، باب في سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه، برقم (2751).
  25. تفسير ابن كثير (2/ 370).
  26. انظر: بدائع الفوائد (2/ 21).
  27. تفسير القرطبي (6/ 396).
  28. تفسير ابن عطية (المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز) (2/ 277).
  29. تفسير القرطبي (6/ 396).
  30. تفسير ابن عطية (2/ 277).
  31. تفسير القرطبي (6/ 396).
  32. انظر: البحر المحيط في التفسير (4/ 462).

مواد ذات صلة