الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين، أما بعد:
فاللهم اغفر لنا، ولشيخنا، والحاضرين، والمستمعين، ولجميع المسلمين.
قال المصنف - رحمه الله تعالى - في تفسير قوله تعالى:
"وَاسْتَرْهَبُوهُمْ [الأعراف: 116] أي: خوّفوهم بما أظهروا لهم من أعمال السحر.
قوله تعالى: أَلْقِ عَصاكَ [الأعراف: 117] لما ألقاها صارت ثعبانًا عظيمًا على قدر الجبل، وقيل: إنه طال حتى جاوز النيل".
قوله: وَاسْتَرْهَبُوهُمْ [الأعراف: 116] كأن السين، والتاء هنا للطلب، بمعنى أنهم استدعوا خوفهم، وطلبوا خوفهم، ووقوع الخوف منهم.
والرهبة كم سبق في بعض المناسبات: هي خوفٌ، وزيادة، الخوف الذي يكون معه شيءٍ من تعظيم المخوف منه، ونحو ذلك، فهذا يكون من قبيل الرهبة - والله أعلم -.
وأما ما ذُكِر من أنها على قدر الجبل، أو جاوزت النيل، فهذا كله من أخبار بني إسرائيل، ولا دليل عليه، لكن لا شك أنها تحولت إلى ثعبان عظيم، كما وصف الله ويكفي في بيان عِظمها أنها تلقف ما يأفكون، على كثرة هؤلاء السحرة، وكثرت ما جاؤوا به، فكانت تلقف ذلك جميعًا.
تَلْقَفُ هذه على القراءة التي نقرأ بها، وهي قراءة حفص[1] يقال: لقف بها لشيء يعني تناوله بحذق، سواء كان ذلك بالفم، أو باليد، وقراءة الجمهور بالتشديد[2]: تَلْقَّفُ ما يَأْفِكُونَ [الأعراف: 117] وعرفنا أن زيادة المبنى لزيادة المعنى، وهذا يدل على الكثرة، يعني كثرة ما يقع منها من لقف تلك الحبال، والأشياء التي جاؤوا بها، وخيَّلوا للناس أنها تتحرك.
وعرفنا أيضًا أن الإفك: هو كذبٌ، وزيادة، فهو قلبٌ للحقيقة، وأن أصل المادة (الأفك) يدل على القلب وَالْمُؤْتَفِكَةَ [النجم: 53] يعني ديار قوم لوط، أنها قُلِبت، والإفك: إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ [النور: 11] هو أشد الكذب، وقلبٌ للحقيقة، فأصل المادة يدل على قلب الشيء، وصرفه عن، وجهه، يقال: أَفَكَه.
"ورُوي: أن الثعبان أكل ملء الوادي من حبالهم، وعصيهم، ومدّ موسى يده إليه، فصار عصا، كما كان، فعلم السحرة أن ذلك ليس من السحر، وليس في قدرة البشر، فآمنوا بالله، وبموسى .
الذي جاء عن ابن عباس - ا - بسندٍ ضعيف، عند ابن جرير - رحمه الله -: "أن أول من صلب، وأول من قطع الأيدي من خلاف فرعون[4]" هو توعدهم بالصلب في جذوع النخل، وتقطيع الأيدي، والأرجل من خلاف، يعني يقطع مثلاً اليد اليمنى، والرجل اليسرى، فإذا قُطِع عضو من ناحية، ومن جانب، ضعُف ذلك الجانب، فإذا قُطِع العضو الآخر من الجانب الآخر ضعُف الجانب الآخر، فيضعُف البدن كله.
وعلى هذا الأثر من ابن عباس - ا -: "أول من قطع" معناه: أنه أنفذ، وعيده، لكن هذه الرواية لا تصح.
يعني في سورة المائدة، وحاصله ما ذكرت.
يقال: نقم الشيء، إذا أنكره إما باللسان، وإما بالفعل، والعقوبة، فأصل المادة يدل على إنكار شيءٍ، وعيبه.
"قوله تعالى: لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ [الأعراف: 125] أي: يخربوا ملك فرعون، وقومه، ويخالفوا دينه.
وَيَذَرَكَ [الأعراف: 125] معطوف على لِيُفْسِدُوا أو منصوب بإضمار (أن) بعد الواو".
لِيُفْسِدُوا وَيَذَرَكَ وهذا اختيار الطاهر بن عاشور[5] أو منصوبٌ بإضمار (أن) لأن يفسدوا، فيكون التضمير هكذا: أتذر موسى، وقومه ليفسدوا في الأرض، وأن يذرك، وآلهتك - والله أعلم -.
هذا سؤال على جواب مقدَّر؛ وذلك أن فرعون كان يقول: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [النازعات: 24] وكان يقول: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص: 38] فكيف قال له الملأ: وَيَذَرَكَ وآلِهَتَكَ [الأعراف: 125] فإذا كان هو الإله الأعلى، وما علِم لهم من إله سواه، فما هذه الآلهة التي خوَّفوا فرعون من ترك موسى لعبادتها؟
فهذا هو السؤال الذي قد يرد في هذا الموضع، وقد أجاب العلماء على ذلك بأجوبةٍ معروفة، من ذلك ما ذكره الطاهر بن عاشور - رحمه الله -: أن القبط كانوا يعبدون آلهةً متنوعة، من الكواكب، والعناصر، وصوَّروا صورًا لهذه المعبودات ..، وكان أعظم الأصنام هو الذي ينتسب فرعون إلى بنوته، وخدمته[9] وكان فرعون معدودًا عندهم أنه ابن الآلهة، وأن الإلاهية قد حلَّت فيه، فيعبدونه بهذا الاعتبار، أي باعتبار أنه مظهر لهذه الآلهة، فكان عندهم آلهة، فهذا التفصيل ذكره ابن عاشور، والذي يذكره كثير من أهل العلم أنهم كان عندهم معبودات أخرى يعبدونها من دون الله، كما دلَّت عليه هذه الآية.
وفي قراءة لأُبي: ليفسدوا في الأرض، وقد تركوك أن يعبدوك[10] وهذا يتفق مع القراءة الأخرى، التي أشار لها المؤلف - رحمه الله - هنا، وهي غير متواترة، قال: "وقرأ عليّ، وابن مسعود، وابن عباس" وكذلك قرأ به بعض التابعين: كالضحَّاك[11]: ويَذَرَكَ، وإلاهتك، يعني يذرك، وعبادتك، فعلى هذه القراءة لا يرد السؤال السابق؛ لأنه كان يقول: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [النازعات: 24] مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص: 38] فيكون ذلك من قبيل التخويف له من ترك موسى لعبادته.
لكن القراءة المتواترة وَيَذَرَكَ وآلِهَتَكَ [الأعراف: 125] لا تُفسِّرها هذه القراءة غير المتواترة؛ لأن المعنى مختلف تمامًا، فقد كانت لهم آلهة، وهذا صريح، لكن وجه الجمع من بين ذلك، وبين ما سبق يمكن أن يتأتى على ما ذكره الطاهر بن عاشور - رحمه الله - وما ذكره غيره مما هو قريب من هذا المعنى - والله أعلم -.
يعني أن وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ [الأعراف: 129] هذا الموضع قوله - تبارك، وتعالى - حكاية عن قيل موسى : إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ [الأعراف: 128] يحتمل أن يكون المقصود بذلك الأرض المعهودة، وتكون (أل) عهدية، يعني أرض مصر، ويحتمل أن يكون على سبيل العموم، فالأرض لله يورثها من يشاء، ويدخل في ذلك أرض فرعون - والله أعلم -.
ليبتليهم بذلك بالاستخلاف، كما قال: الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ [لحج: 41] الآية.
"قوله تعالى: بِالسِّنِينَ [الأعراف: 130] أي: الجدب، والقحوط".
السنين: جمع سنة، وأكثر ما تُستعمل في الحول الذي فيه جدب، وقحط، يُقال: سنة جدب، وقحط؛ فالمراد هنا بالسنين كما ذكر المؤلف: القحوط، ووجه الجمع يمكن أن يكون باعتبار كثرة مواقعها، يعني أصابهم الجدب في جميع النواحي، نسأل الله العافية.
يعني هذا كما قال الله : وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ [النساء: 78] فهذا من قول المنافقين في حق النبي ﷺ وهكذا قالت الأقوام، والأمم لأنبيائهم - عليهم الصلاة، والسلام - كما قال صالح لنبيهم: قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وبِمَن مَّعَكَ [النمل: 47] فتشاءموا به، وهكذا قال أصحاب القرية: إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ [يس: 18] فكان هؤلاء إذا جاءهم الخصب، والرخاء، وكثرة الأموال قالوا: هذه لنا، وأضافوا ذلك إلى أنفسهم، وإذا وقع لهم المكروه، قالوا: هذا بشؤمكم، يعني: نبيهم، وأتباعهم، وأنتم سبب هذه الأزمات، والمصائب، والكوارث، والوقائع السيئة، هكذا هو قول هؤلاء أعداء الرسل - عليهم الصلاة، والسلام - لأنبيائهم، يتطيرون بخيارهم، وصالحيهم.
"فإن قيل: لم قال: فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ [الأعراف: 131] بـ(إذا)، وتعريف الحسنة وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ [الأعراف: 131] بـ(إن)، وتنكير السيئة؟
فالجواب: أن الحسنة، وقوعها كثير، والسيئة، وقوعها نادر، فعرَّف الكثير الوقوع باللام التي للعهد، وذكره بـ(إذا) لأنها تقتضي التحقيق، وذكر السيئة بـ(إن) لأنها تقتضي الشك، ونكَّرها للتقليل".
هذه من الملاحظ البلاغية التي لا يُجزم بها، ولا يُقطع بها، وهي خارجة عن أصل التفسير، ومجيئ الحسنة هنا التعبير بـ(إذا)، وفي السيئة (إن) كما يقولون (إذا) تكون فيما يكثر، وقوعه، تقول مثلاً: إذا جاء المصلون المسجد أُقيمت الصلاة، أو نحو هذا، وأما (إن) ففيما يقل، وقوعه، فلما كان الخير، والسعة، والنعم، وما إلى ذلك هي الأكثر، وقوعًا عُبِّر بـ(إذا) فقال: فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ ولما كان الضر هو الأقل، وأيام العافية أكثر، عُبِّر معه بـ(إن) فقال: وَإِنْ تُصِبْهُمْ - والله أعلم -.
"أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ [الأعراف: 131] أي: إنما حظهم، ونصيبهم الذي قُدِّر لهم من الخير، والشر عند الله، وهو مأخوذ من زجر الطير، ثم سمي به ما يصيب الإنسان، ومقصود الآية الرد عليهم فيما نسبوا إلى موسى من الشؤم".
أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ [الأعراف: 131] قال: أي إنما حظهم، ونصيبهم الذي قُدِّر لهم من الخير، والشر عند الله - تبارك، وتعالى - وهذه رواية عن ابن عباس - ا -[12] وبه قال الضحَّاك[13] وهو اختيار أبي جعفر ابن جرير - رحمه الله -[14] ووافقه على ذلك جمعٌ من المفسرين، كالبغوي[15]، وغيره.
وجاء عن ابن عباس - ا -: أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ [الأعراف: 131] يعني: مصائبهم عند الله[16] أي: أن هذه الأمور، والمكاره التي تقع لهم هي عند الله - تبارك، وتعالى - .
وبعضهم يقول: المراد من قوله: أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ [الأعراف: 131] أي: سبب خيرهم، وشرهم هو من عند الله - تبارك، وتعالى - وهذا كأنه يرجع إلى المعنى الذي ذكره المؤلف - رحمه الله - وكل هذه الأقوال متقاربة، حتى الرواية الأخرى التي تدل على أن المراد: أن مصائبهم عند الله، لا شك أن الخير الذي ينالهم من الله - تبارك، وتعالى - لكن لما تتطيَّروا، وتشاءموا بموسى، ومن معه في المصائب التي تقع، قيل: إن هذه المصائب من عند الله، أو إن ذلك مقدَّرٌ لهم عند الله - تبارك، وتعالى - أو أن سبب ذلك عند الله، كل هذا يرجع إلى شيء واحد يعني أن هذه الأمور إنما هي مُقدَّرة عند الله، فليست بسبب هؤلاء الرسل، وأهل الإيمان الذين كانوا بين أظهرهم، ودعوهم إلى توحيد الله .
قال في قوله: أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ [الأعراف: 131]: حظهم، ونصيبهم، وبعضهم يقول: شؤمهم، وهذه رواية عن ابن عباس - ا - شؤمهم[17] وهذا اختاره جماعة: كالواحدي[18] ومن المعاصرين الشيخ عبد الرحمن السعدي[19] والشنقيطي[20] وابن عاشور[21] فالمعنى الأول أعم من هذا، لكن كأن هؤلاء نظروا إلى أن السياق إنما هو في ذكر تطيُّرهم بأنبيائهم - عليهم الصلاة، والسلام - أو بنبيهم موسى هنا في هذا الموضع، وأن التطيُّر غالبًا ما يُقال في المكروه، والشر، وقد قال النبي ﷺ : الطيرة شرك[22] فهي تقال في المعنين، يعني في الخير، والشر، والتفاؤل، والتشاؤم، ولكنها غالبًا تقال في التشاؤم، فنظر هؤلاء إلى هذا، وإلى السياق فقالوا: المراد بذلك هو شؤمهم، وأن شؤمهم عند الله - تبارك، وتعالى - أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ [الأعراف: 125] أي: إن شؤم هؤلاء عند الله - - وتوجيه كونه من عند الله: بمعنى أنه مُقدَّر، أو أن أسباب ذلك عند الله، كما سبق من أقوال المفسرين.
وشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - يقول: فسَّروا الطائر بالأعمال، وجزائها[23] يعني من قال: بأن سبب ذلك عند الله، ما هو السبب؟ هو كفرهم، والجزاء: ما يقع لهم من شر جزاءً على كفرهم، ومحادتهم لله، ورسله - عليهم الصلاة، والسلام - .
يقول شيخ الإسلام: لأنهم كانوا يقولون: إنما أصابنا ما أصابنا من المصائب بذنوب الرسل، وأتباعهم، فبيَّن الله سبحانه أن طائرهم، وهو الأعمال، وجزاؤها هو عند الله، وهو معهم، وهذا القول فيه جمع بين الأقوال كلها، يقول: فهو معهم لأن أعمالهم ما قُدِّر من جزائها معهم، كما قال تعالى: وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ [الإسراء: 13] وهو من الله؛ لأن الله تعالى قدَّر تلك المصائب بأعمالهم، فمن عنده تتنزل عليهم المصائب جزاءً على أعمالهم، لا بسبب الرسل، وأتباعهم، هذا الكلام في غاية الدقة، فهو يجمع هذه الأقوال التي قالها السلف .
وذكر الحافظ ابن القيم - رحمه الله - في نسبة السيئة إلى النفس، والحسنة إلى الله: مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ومَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ [النساء: 79] وفي موضع أخر: كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ [النساء: 78] على سبيل الرد على الذين أضافوا ذلك على النبي ﷺ لكن في مقام بيان ما يقع للعبد قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران: 165] فتكون تلك المصائب التي تقع للعبد إنما هي بسبب جناياته.
وفي مقام الرد على الذي يضيفون ذلك إلى الرسول ﷺ وأهل الإيمان، يُقال: كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ [النساء: 78] هذا كله قدَّره الله - تبارك، وتعالى - .
الحافظ ابن القيم يذكر في نسبة السيئة إلى نفس العبد، ونسبة الحسنة، والسيئة إلى أنهما من عند الله يقول: فتأمل اتفاق القرآن، وتصديق بعضه بعضًا، فحيث جعل الطائر معهم، والسيئة من نفس العبد، فهو على، وجهة السبب، والموجب، يعني الذي أوجب، وقوع هذا المكروه، أي: الشر، والشؤم الذي أصابكم هو منكم، ومعكم، فإن أسبابه قائمةٌ بكم، كما تقول: شرَّك منك، وشؤمك فيك، يُراد به العمل، وطائرك معك، وحيث جعل ذلك كله من عنده، فهو لأنه الخالق له المجازي به عدلاً، وحكمة.
فالطائر يُراد به العمل، وجزاؤه، فالمضاف إلى العبد العمل، والمضاف إلى الرب الجزاء، فطائركم معكم - طائر العمل - وطائركم عند الله: الجزاء، فما جاءت به الرسل ليس سببًا لشيء من المصائب، ولا تكون طاعة الله، ورسوله سببًا لمصيبةٍ قط، بل طاعة الله، ورسوله لا توجب إلا خيرًا في الدنيا، والآخرة، ولكن قد يصيب المؤمنين بالله، ورسوله مصائب بسبب ذنوبهم، وتقصيرهم في طاعة الله، ورسوله.
هذا مثل كلام شيخ الإسلام الذي ذكرته آنفًا، وهو جمعٌ بين هذه الأقوال، وهو في غاية الدقة، والتحقيق، فلا يُحتاج إلى ترجيح بين الأقوال السابقة - والله تعالى أعلم -.
يقول: "وهو مأخوذ من زجر الطير، ثم سُمي به ما يصيب الإنسان" يعني أنهم في الأصل كانوا يتطيَّرون، ويتشاءمون، بالطير، أو نحو ذلك، سواءً كان نوع الطير، أو صوت الطير، أو، وجهة الطير، فمثلا ًيتشاءمون بالبوم، والغراب، إذا رأوه، أو وقع على دارٍ، أو نحو ذلك.
وكذلك يتشاءمون إذا سمعوا صوته، ولو لم يروه، وذكرت في بعض المناسبات إنكار ابن عباس - ا - على من سمعه يقول حينما سمع صوت غراب: يقول: خير خير، يقول: وأي خير عند هذا[24] يعني هذا الرجل وقع في نفسه شيء فبادر، فقال: خير خير؛ لأنه صوت الغراب أوقع في نفسه شيئًا من التشاؤم، فكره ذلك، فقال: خير خير، فقال ابن عباس: وأي خير عند هذا، يعني هذا لا يأتي بخير، ولا بشر، وهو مخلوق ضعيف، طائر لا يملك شيئًا، ولا يعلم من غيب الله شيئًا.
والمقصود أنهم كانوا يتطيرون، ويتشاءمون بهذه الطيور من البوم، والغراب، إما برؤيتها، أو بأصواتها، ولو لم يروها، أو باتجاهها، يعني إذا خرج لحاجة، أو سفر، أو أراد أن ينكح، أو نحو ذلك، فإذا رأى شيئًا منها ذهب ناحية اليمين أقبل، وقويت نفسه، وعزيمته، ومضى في سبيله، وإذا رآها ذهبت ناحية الشمال، وربما قاموا هم بإثارتها من أجل أن يروا حظهم بزعمهم، فإذا اتجهت يمينًا مضى، وإن اتجهت شمالاً أحجم، وإن مضت في، وجهةٍ بين ذلك، فإنه يعيد مثل هذا، أو يتوقف حتى يستبين.
"قوله تعالى: مَهْمَا [الأعراف: 132] هي (ما) الشرطية ضمت إليها (ما) الزائدة نحو (أينما)، ثم قلبت الألف هاء.
وقيل: هي اسم بسيط غير مركب، والضمير في (به) يعود على (مهما)، وإنما قالوا: مِنْ آيَةٍ [الأعراف: 132] على تسمية موسى لها آية، أو على وجه التهكم".
باعتبار أنها (ما) الشرطية، (ما) الأولى، والألف قُلِبت إلى هاء، و(ما) الثانية زائدة، يعني كأنهم يقولون: ما تأتنا به من آية فلن نؤمن بها، كأن تقول مثلاً: ما تفعل، وتبذل فلن أقبل ذلك منك مثلاً، هذا مراده بقوله بأن (ما) هذه شرطية، والثانية زائدة، والهاء مقلوبة من الألف، مه ما، يعني يكون ما تأتنا به فلن نقبل، هذا اختلاف أهل اللغة في أصل (مهما).
"وقيل: هي اسم بسيط غير مركب" يعني: ليست مركبة من (ما) الشرطية، وزيد إليها (ما) أخرى، وإنما أصل الكلمة بسيطة هكذا، وليست مركبة من (ما) الشرطية، وزيد إليها، وقُلِبت ألفها هاء، وهذا هو الأصل - والله أعلم -.
هنا في قوله: "وإنما قالوا: من آية" يعني كيف سمُّوها آية، وهم ينكرون، ويقولون: هذا ساحر؟ فهذا سؤال مقدَّر ذكر جوابه، فقال: "على تسمية موسى لها آية" أي: أنهم عبَّروا عن ذلك من باب التنزُّل، وهذا له نظائر في القرآن؛ وذلك أن يأتي التعبير مراعًا فيه اعتقاد المخاطب، وإن كان هذا على أنواع، لكن في هذا الموضع، وإن كان المتكلم، أو القائل لا يعتقده، فهنا سموها آية، وهم لا يعتقدون أنها آية، فهذا هو السؤال، وهذا جوابه.
يقول: "فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ [الأعراف: 133] روي: أنه كان مطرًا شديدًا دائمًا" هذا مروي عن ابن عباس - ا -[25].
قال: "مع فيض النيل" وذهب أبو جعفر ابن جرير - رحمه الله - إلى أنه أمرٌ من الله، طاف بهم[26] فالطوفان مما يطوف بالناس، وجوَّز أن يكون ذلك بمعنى: المطر الشديد، أو الموت الذريع، وهما روايتان عن ابن عباس - ا -[27] وجمع بينهما مجاهد، فقال: إنه الماء الكثير، وأيضًا الموت الكثير[28].
وعلى كل حال فالطوفان يُطلَق على كل حادثةٍ محيطة بالإنسان، لكن صار متعارفًا في عُرف الاستعمال الغالب: بالماء الكثير، كما وقع لقومِ نوح .
يقول: "فدخل بيوتهم، وأتلف زروعهم" وبهذا المعنى الأخير قال جماعة: كقتادة، وسعيد بن جبير، والسُدِّي[29] واختاره من المعاصرين: الطاهر بن عاشور[30] والشيخ عبد الرحمن السعدي[31] والشيخ محمد الأمين الشنقيطي[32] ونسبه إلى الجمهور من المفسرين، يعني أرسل الله عليهم الطوفان، يعني الماء الكثير، سواء كان بمطرٍ كثير متتابع، مع فيض النيل مثلاً؛ وذلك باعتبار أنه المتبادِر عند الإطلاق، وإلا فالطوفان ما يطوف بالإنسان، أو ما يطوف بالناس، سواء كان من قبيل الماء الكثير المتناهي في الكثرة، الذي يُغرِق، ويُتلِف، أو كان ذلك باعتبار الطواعين، أو الأوبئة العامة، ونحو ذلك، لكن هذا هو المتبادر، وهو الذي جاء في القرآن، والقرآن يُفسِّر بعضه بعضًا، وقد جاء في ذكر خبر قوم نوح: فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ [العنكبوت: 14] ولا شك أن الذي وقع لقوم نوح هو الماء الكثير، فكان الماء منهمرًا من السماء، وتفجرت الأرض عيونًا، فالتقى الماء النازل من السماء، مع النابع من الأرض، فأغرق من عليها، ولم يبق إلا من في السفينة.
ومعروف أن الجراد يأكل كل شيء، بلا استثناء، كل شيء، لا يُبقي، ولا يذر.
يقول: "وَالْقُمَّلَ [الأعراف: 133] قيل: هي صغار الجراد" يعني الذي لا أجنحة له، وهذا مروي عن جماعة من السلف: كابن عباس - ا -[33]، والسدِّي، وقتادة، ومجاهد، وسعيد بن جبير في رواية، وعطاء الخراساني[34]: أنه صغار الجراد الذي لا أجنحة له، ويسميه العامة: خيفان، وهذا الجراد الذي لا أجنحة له أعظم ضررًا، وأكثر نقمةً من الجراد الكبير، الذي له أجنحة؛ وذلك أنهم كانوا إذا وقع الجراد قام الجميع، ونهضوا، يضربون بالطبول، من أجل تنفير الجراد عن زروعهم، وأرضهم، فيقرعون بالمقارع، ونحو ذلك، ويتحرك الجميع الصغار، والكبار لهذا الشأن.
لكن هذا الجراد الصغير الذي لا أجنحة له، لا يطير، يسمونه الدبى، فهو يلتهم كل شيء، ولا ينتقل، وهو من الكثرة بحيث إذا نزل يحجب الشمس من كثرته، فينزل على الأشجار، ونحو ذلك، فإذا نزل مثلاً في الليل أصبحوا، وجدوا النخيل على سبيل المثال هذه التي لا يتحات، ورقها يجدونها عُسبًا بلا جريد، فهكذا يفعل الجراد، فهو يلتهم كل شيء، ويفتك بكل شيء، فيُنفِّرونه مباشرةً إذا علموا به، لكن يبقى هذا الدبى لا يطير، فهو يمشي، ويأكل طول الوقت، والجراد لا يتوقف عن الأكل، فهذا القول الأول: وهو أن القُمَّل: صغار الجراد.
"وقيل: البراغيث" وهذا مروي عن ابن زيد[35] والبراغيث معلوم أنها تُؤذي، وتكون سببًا لنقل بعض الأمراض.
"وقيل: السوس" يعني الذي يقع في الحنطة مثلاً، وهو رواية عن ابن عباس - ا -[36] وهذا كأنه بمعنى قول من قال: دواب سود صغار مثل السوس، وهو الذي يقع في الحنطة، والأرز، ويسميه العامة الآن: قُمِّيلة، فتفتت هذه الحبوب، وأهل البادية كانوا لا يعرفون الأرز في هذه الأرض سابقًا، بينما هو في الشرق في الهند، وما، وراءه من البلاد الشرقية، فأول ما جاء الأرز، وكان الناس يأكلون الحنطة، فكان أهل البادية يأنفون منه، ويُسمونه قملان، ويقصدون بذلك أنه فيه هذه الدواب الصغيرة السوداء، يعني هي أصغر من الذر.
فبعضهم يقول: هي دواب سود صغار، كما جاء في رواية عن سعيد بن جبير[37] وجاء ذلك عن الحسن[38] فهذا مثل قول من قال: بأنه السوس، الذي يقع في الحنطة نفسه، لكن هذا وصفها بأنها دواب سود صغار، فهو نفس المعنى، وليسا بقولينِ، فهذا من اختلاف التنوع.
لكن هذا يختلف عن قول من قال: إنها الدبى، أو أنها البراغيث.
وبعضهم يقول: هي القُراد، فالقردان معروفة، وهي نوع من الحشرات تشبه البراغيث، تكون في الأرض، فتكون الأرض أحيانًا كثيرة القراد، والذي جاء في قصيدة كعب بن مالك :
يَـمْشي الـقُرادُ عَـليْها ثُـمَّ يُزْلِقُهُ | مِـنْـها لِـبانٌ وأقْـرابٌ زَهـالِيلُ[39]. |
فالقراد يكون في الدواب - البهائم - ويكون غالبًا في مراقها، يعني في مسافط البهيمة، وناحية ملتقى اليد مع الجنب، يعني ناحية الإبط، والفخذ مع البطن، وأيضًا في باطن الإلية، في هذه المواضع الرقيقة، التي لا تستطيع أيضًا البهيمة أن تتوصل إليها، البهيمة تحك جسمها، لكن لا تستطيع أن تصل إلى هذه الأماكن، فتعيش فيها هذه على دمها، كما هو معروف، حتى الطيور، توجد فيها حشرات صغيرة قد تُرى بالعين، وقد لا تُرى بالعين المجردة أحيانًا حسب حجم الطائر، وحسب الحشرات التي فيه، حتى الدجاج، وغيره، لكن في الدجاج، وفي الطيور عمومًا تقع عند المنقار، في هذه الأماكن، بحيث لا يستطيع الطائر أن يصل إليها، وقد تتكاثر في جسمه كله.
المقصود أن القردان هذه معروفة في البهائم، وفي الغنم، والكبير يكون في الإبل، ويسمونه الحلمة، على هيئة الهيل، يميل إلى اللون الأخضر، هذه الحلمة تكون بقدر البنان من الخنصر، تقريبًا، أو أصغر قليلاً، يعني أكبر من الهيل، ومنتفخة، ومليئة بالدم، وتميل للون الأخضر، وهذه تكون في الإبل.
فهذا قول من قال: بأنها القردان، وجوَّز بعض أهل العلم كالنحَّاس أن تكون جميعًا أرسلت إليهم؛ لأن هذه كلها يقال لها: قُمَّل، فيمكن أن تكون أرسلت جميعًا عليهم.
ويمكن أن يُقَال: بأن كل ذلك جائز، بمعنى أنه يمكن أن يكون المراد به السوس، أو الدبى، أو البراغيث، أو غير ذلك مما يصدق عليه هذا اللفظ؛ لأنه ليس عندنا دليل على تحديد واحد منها، فإذا كان ذلك يُقَال له: قمل، وهؤلاء الذين فسروا، هم عصر الاحتجاج من العلماء من الصحابة، والتابعين فيمكن أن يكون المراد هذا، أو هذا، المقصود أن الله أرسل عليهم شيئًا من الدواب، ممن يتأذون به، وبعضهم يقول: صغار الذباب، وهو أكثر أذى من الكبار، يكاد يعلق به الإنسان.
وهنا يقول: "وقرئ القَمل، بفتح القاف، والتخفيف" هذا مروي عن الحسن البصري، لكنها قراءة غير متواترة.
يقول: "فهي على هذا القمل المعروف، وكانت تتعلق بلحومهم، وشعورهم" وهذا قال به عطاء - رحمه الله -[40].
وهذا، ولا شك أنه إذا كثر يُؤذي، كما قال النبي ﷺ لكعب بن عجرة عند ما رأى القمل يتناثر على، وجهه: ما كنت أرى الوجع بلغ بك ما أرى - أو ما كنت أرى الجهد بلغ بك ما أرى - تجد شاة؟[41]... إلخ.
"قوله تعالى: وَالضَّفادِعَ [الأعراف: 133] هي المعروفة، كثرت عندهم حتى امتلأت بها فرشهم، وأوانيهم، وإذا تكلم أحدهم، وثب الضفدع إلى فمه.
قوله تعالى: وَالدَّمَ [الأعراف: 133] صارت مياههم دمًا، فكان يستقي من البئر القبطي، والإسرائيلي في إناء واحد فيخرج ما يلي القبطي دمًا، وما يلي الإسرائيلي ماءً".
هذا قول الجمهور: أن المقصود بالدم أن مياههم تحولت إلى دم، فإذا أراد أن يستقي، أو يشرب أحد من القبط صار دمًا، حتى ذكروا مرويات، وأخبار إسرائيلية، فقالوا: إنهم لم يجدوا ماء، فأصابهم عطش شديد، حتى أنه إذا استقى القبطي، والإسرائيلي يكون مما يلي القبطي الدم، وما يلي الإسرائيلي الماء، حتى زعموا أن المرأة، أو الرجل ربما أراد أن يشرب فلا يجد شيئًا، ولربما طلب من الإسرائيلي أن يمج الماء في فيه، ولا شك أنه إذا تحول الماء إلى دم، فهذا سيورثهم عطشًا، وشدة.
وجاء عن ابن زيد أن المقصود بالدم هنا الرُعاف[42] فصار يكثر ذلك فيهم، لكن المشهور أن مياههم تحولت إلى دم، والله على كل شيءٍ قدير.
الرجز يُطلَق على العذاب، والعذاب بالأشياء المذكورة التي سبقت، وهذا اختيار ابن زيد[43] وبه قال جماعة من المفسرين: كالواحدي[44] والطاهر بن عاشور[45] والشنقيطي[46].
وبعضهم يقول: المقصود بالرجز هنا عذاب آخر، وهو الطاعون، وهذا مروي عن ابن عباس - ا -[47] وسعيد ابن جبير[48] وأبو جعفر ابن جرير جوَّز أن يكون ذلك جميعًا[49] من غير تحديد، باعتبار أنه عذاب حل بهم، قد يكون من قبيل الطاعون، وقد يكون الأمور المذكورة قبله، وبهذا قال مجاهد، وقتادة[50].
فسره ابن جرير[51] والواحدي[52]: بما أوصاك أن تدعوه به، وهذا بمعنى قول المؤلف: بزمامك إليه، ووسائلك، ما هي الوسائل؟ يعني ما علَّمه أن يدعو به، فيستجاب له.
وقال القرطبي: بما استودعك من العلم، وبما اختصك به، فنبأك،[53] وقال الطاهر بن عاشور: أي بما عرَّفك، وأودع عندك من الأسرار[54] أي: أدعه بما علمك ربك من، وسائل إجابة دعائك عند ربك، وهذا يرجع إلى ما سبق من قول ابن جرير.
إذًا بما عهد عندك، يعني من العلم، والدعاء الذي هو مظنة الإجابة، والوسائل التي تتوصل بها إلى رفعِ ذلك عنا.
الباء تحتمل أن تكون للقسم، بما عهد عندك، لكن هذا بعيد، فهل يصح أن يُقسَم بهذا؟ إلا أن يُقَال: إنهم كانوا أصلاً من المشركين، ولا فقه لهم في هذا الباب، فطلبوا ذلك، لكن ليس هذا هو المتبادر، يقول: "أو تتعلق بـادْعُ لَنَا" أي: توسل إليه بما عهد عندك، وهذا هو المتبادر - والله أعلم -.
يعني حيث وقع اليم في القرآن، في أي موضع، فهو البحر، والمقصود به: الماء الكثير، يُقَال له: بحر، يعني النهر في اللغة يُقَال له: بحر، لكن الغرق الذي حصل لهم لم يكن في النيل، وإنما كان في البحر المعروف، يسمونه بحر القلزم، وهو البحر الأحمر.
مَشارِقَ الْأَرْضِ ومَغارِبَهَا [الأعراف: 137] الشام، ومصر، وهذا القول اختاره: القرطبي[55] والشوكاني[56]، وهم توجهوا إلى الشام، كما هو معروف، وحصل لهم التيه في طريقهم، ووقع ما وقع من تأبيهم دخول الأرض المقدسة، لكن في النهاية دخل بنو إسرائيل الشام، سواء كان ذلك الجيل، أو الجيل الذي بعده، ومصر لا شك أنها صارت أيضًا ميراثًا لهم، وإن ذكر المؤرخون أنهم لم يرجعوا إليها بعد ذلك، لكن معروف في التاريخ أن مصر لمن ملك الشام؛ ولذلك كان يحرص الملوك في مصر على أن يملكوا الشام؛ لأن ما يقع لمصر من احتلال، أو فتوح، أو نحو ذلك كان يأتيهم من قِبَل الشام، فكانوا يعرفون ذلك، وأن من مَلَك الشام مَلَك مصر، فهي الباب.
فأورثهم الله أرض الشام، وأرض مصر بعد ما أهلك فرعون، فلا مانع، وإن لم يرجعوا إليها أن يكون خراج البلاد، ونحو ذلك يصير إليهم، فهذا قال به بعض أهل العلم.
وذهب آخرون كما جاء عن الحسن، وقتادة، وزيد بن أسلم[57]، وسفيان الثوري[58] واختاره ابن جرير[59] والواحدي[60] وابن عطية[61] وشيخ الإسلام[62] وابن عاشور[63] إلى أن المقصود بمشارق الأرض، ومغاربها: الشام، باعتبار القرينة، وهي: الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا [الأعراف: 137] فالأرض المباركة هي الشام سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ [الاسراء: 1] فهي أرضٌ مباركة، وهذا قول الجمهور أنها الشام.
وبعضهم يقول: جملة الأرض، يعني عموم الأرض، وهل وقع هذا لبني إسرائيل؟ قالوا: نعم وقع هذا في بعض الأوقات، في ملكِ داود، وسليمان - عليهما السلام - وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ ومَغَارِبَهَا [الأعراف: 137] يعني صارت كأن الدنيا تحت سلطانهم.
وبعضهم يقول: المقصود بذلك مصر؛ لأن الحديث عن فرعون، وهذا قال به الليث بن سعد[64] ومن المعاصرين اختاره السعدي[65].
وبعضهم يقول: فلسطين، يعني ليست كل الشام، وإنما فلسطين وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ ومَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا [الأعراف: 137] فقرينة: بَارَكْنَا فِيهَا مع ما عُرِف في التاريخ أنهم توجهوا إلى الشام هذا يؤيد قول من قال: بأنها الشام.
والذين قالوا: مصر باعتبار أن الحديث عن فرعون، حيث كان يستضعفهم، فأورثهم الله أرضه.
ومن قال: مصر، والشام فباعتبار السياق هنا في الحديث عن فرعون، وكذلك أيضًا في ذكر القرينة، وهي: بَارَكْنَا فِيهَا وكذلك أيضًا باعتبار أنهم توجهوا إلى الشام - والله أعلم -.
لكن من الناحية الواقعية أن بني إسرائيل ملكوا الشام، وكانت مصر تابعة لهم؛ لأنها خلت من فرعون، وجنده، وإن لم يرجعوا إليها.
"قوله تعالى: بارَكْنا فِيها [الأعراف: 137] أي: بالخصب، وكثرة الأرزاق.
قوله تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ [الأعراف: 137] أي: نفذت لهم، واستقرت، والكلمة هنا ما قُضى لهم في الأزل، وقيل هي قوله: وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ [القصص: 5]".
قوله: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى [الأعراف: 137] يقول: "أي: نفذت لهم، واستقرت" يعني مضت، واستمرت على التمام.
وقال ابن جرير: "وَفِيَ، وعد الله الذي، وعد بني إسرائيل بتمامه على ما، وعدهم من تمكينهم في الأرض"[66] وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ يعني: وعده لهم بالاستخلاف، وأنه جاء أيضًا في قول موسى بصيغة ترجي: عَسَى رَبُّكُمْ أن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ ويَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ [الأعراف: 129] فتمت كلمته - تبارك، وتعالى - سواء كان ذلك مما قضاه في الأزل، أو ما قاله: وَنُرِيدُ أن نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ [القصص: 5] فكل ذلك كلمته، والكلمة هنا مفرد مضاف، وهو بمعنى الجمع، فذلك في الأزل قدَّره الله، وقضاه، ووعدهم به، بمثل قوله: وَنُرِيدُ أن نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ [القصص: 5].
وهكذا فهم بعض أهل العلم من قول موسى : عَسَى رَبُّكُمْ [الأعراف: 129] قالوا: عسى للترجي، لكن حينما تصدر من الكبير العظيم، ونحو ذلك، على طريقة العرب في مناحي كلامها، وخطابها، أنه يُرَادُ بذلك الوعد، فيُخرج مخرج الترجي - والله تعالى أعلم -.
والقول بأنها قوله: وَنُرِيدُ أن نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ [القصص: 5] هذا قول الجمهور، وهو اختيار ابن جرير[67] لكن لا يخالف هذا قول من قال: ما قضاه لهم في الأزل؛ لأن ذلك لا بد أن يكون مما قُضِي لهم في الأزل، فكأنه - والله أعلم - لا منافاة بين القولين.
ووصف هذه الكلمة بالحسنى، يعني المنزهة عن الخُلف، ويحتمل أن يكون المراد بالحسن هنا باعتبار أنها حسنة بالنظر إلى بني إسرائيل، وسيئة بالنظر إلى فرعون، وقومه، فهي، وعد حسن لبني إسرائيل.
وَما كانُوا يَعْرِشُونَ [الأعراف: 137] أي: يبنون، وهذا الذي اختاره ابن جرير[68] وجماعة من المفسرين: كابن الجوزي[69] والواحدي[70] وأبي حيَّان[71] وهو مروي عن جماعةٍ من السلف: كابن عباس، ومجاهد[72].
والعروش تُقال: للبيوت، والسقوف، وبهذا الاعتبار فُسِّر بالبناء.
"وقيل: هي الكروم" يعني الأعناب، وشبهها مما يحتاج إلى عرائش، فتوضع لها أخشاب، وعيدان، فتكون ممتدةً فوقها، وهذا اختاره بعض المعاصرين، كالطاهر بن عاشور[73].
والحافظ ابن كثير جمع بين القولين وَما كانُوا يَعْرِشُونَ [الأعراف: 137] فيدخل فيه ما كانوا يبنون، ويسقفون من بيوت، ونحو ذلك، وكذلك ما يعرشونه للأعناب، ونحوها مما يحتاج إلى ذلك[74].
يقول: "فهو على الأول من العرش، وعلى الثاني من العريش".
يعني كلامهم هذا في بيان المناسبة.
"قوله تعالى: مُتَبَّرٌ [الأعراف: 139] من التبارِ، وهو الهلاك.
قوله تعالى: وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ وما بعده مذكور في البقرة".
كما سبق يعني أنه فضَّلهم على عالم زمانهم؛ لأن هذه الأمة أفضل منهم، أو باعتبار كثرة الأنبياء، والرسل فيهم، ففضَّلهم بذلك على غيرهم، بأنه لا توجد أمة فيها من الأنبياء - عليهم الصلاة، والسلام - كما في بني إسرائيل.
- حجة القراءات (ص: 292).
- حجة القراءات (ص: 292).
- تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (13/34).
- تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (13/34).
- التحرير، والتنوير (9/58).
- تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/441).
- تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/441).
- تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/441).
- التحرير، والتنوير (9/58).
- معاني القرآن للفراء (1/391).
- تفسير القرطبي (7/262).
- تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (13/48).
- الدر المنثور في التفسير بالمأثور (3/519).
- تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (13/48).
- تفسير البغوي - إحياء التراث (2/223).
- تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (13/48).
- التفسير الوسيط للواحدي (2/398).
- التفسير الوسيط للواحدي (2/398).
- تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص: 301).
- أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (2/39).
- التحرير، والتنوير (9/67).
- أخرجه أبو داود في كتاب الطب، باب في الطيرة برقم (3910)، وابن ماجه في كتاب الطب، باب من كان يعجبه الفأل، ويكره الطيرة برقم: (3538)، وأحمد ط الرسالة برقم: (3687)، وصححه الألباني.
- الحسنة، والسيئة (ص: 35).
- تفسير القرطبي (7/266)، وروح البيان (3/218).
- تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (13/61).
- تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (13/52).
- تفسير ابن كثير ت سلامة (3/461).
- تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (13/50)، (13/68).
- تفسير ابن أبي حاتم - محققا (5/1544).
- التحرير، والتنوير (9/69).
- تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص: 301).
- العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير (4/112).
- تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (13/55).
- تفسير ابن أبي حاتم - محققا (5/1546).
- تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (13/55).
- تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (13/54).
- تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (13/55).
- تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (13/55).
- البيت له في تاج العروس (4/10)، ولسان العرب (1/668).
- تفسير القرطبي (7/270).
- أخرجه البخاري في أبواب المحصر، باب الإطعام في الفدية نصف صاع برقم: (1816).
- تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (13/68).
- تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (13/72).
- التفسير الوسيط للواحدي (2/402).
- التحرير، والتنوير (9/71).
- العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير (4/113).
- تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (13/71).
- تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (13/71).
- تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (13/72).
- تفسير ابن أبي حاتم - محققا (5/1597).
- تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (13/72).
- التفسير الوسيط للواحدي (2/402).
- تفسير القرطبي (7/271).
- التحرير، والتنوير (9/72).
- تفسير القرطبي (7/272).
- فتح القدير للشوكاني (2/274).
- فتح القدير للشوكاني (2/275).
- تفسير سفيان الثوري (ص: 113).
- تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (13/76).
- الوجيز للواحدي (ص: 410).
- تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/446).
- مجموع الفتاوى (15/32).
- التحرير، والتنوير (9/76).
- الدر المنثور في التفسير بالمأثور (3/531).
- تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص: 302).
- تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (13/77).
- تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (13/77).
- تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (13/78).
- زاد المسير في علم التفسير (2/150).
- الوجيز للواحدي (ص: 410).
- البحر المحيط في التفسير (5/156).
- تفسير ابن كثير ت سلامة (3/466).
- التحرير، والتنوير (9/78).
- تفسير ابن كثير ت سلامة (3/466).