الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
(011) من قوله تعالى (والذين كذبوا بآياتنا سَنَسْتَدْرِجُهُم من حيث لا يعلمون..) الآية 182– إلى نهاية سورة الأعراف
تاريخ النشر: ١٨ / شعبان / ١٤٣٩
التحميل: 434
مرات الإستماع: 474

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه، وسلم تسليما كثيرًا إلى يوم الدين، أما بعد:

فاللهم اغفر لنا، ولشيخنا، وللحاضرين، والمستمعين، ولجميع المسلمين. 

قال الحافظ ابن جزي - رحمه الله - في تفسير قوله تعالى: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ [الأعراف: 182] الاستدراج استفعال من الدرجة، أي: نسوقهم إلى الهلاك شيئًا بعد شيء، وهم لا يشعرون، والإملاء هو الإمهال مع إرادة العقوبة.

الحمد لله، والصلاة، والسلام على رسول الله، أما بعد:

قوله - تبارك، وتعالى -: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ يقول: الاستدراج استفعال من الدرجة أي: نسوقهم إلى الهلاك شيئا بعد شيء، وهم لا يشعرون، وذكر ابن جرير - رحمه الله -[1] أن أصل الاستدراج هو اغترار المستدرج باللطف من حيث يرى هذا المستدرج أن المستدرج إليه محسن حتى يورطه مكروها حتى يوقعه في مكروه هذا الاستدراج، يدرجه درجة بعد درجة حتى يوقعه في المكروه، وهذا كقوله - تبارك، وتعالى -: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً [الأنعام: 44].

وكذلك قول الله - تبارك، وتعالى -: أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وبَنِينَ ۝ ​​​​​ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ [المؤمنون: 55 - 56] يقول: والإملاء هو الإمهال مع إرادة العقوبة كما في الحديث: إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ثم قرأ: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود: 102][2].

قوله تعالى: إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [الأعراف: 183] سمى فعله بهم كيدا لأنه شبيه بالكيد في أن ظاهره إحسان، وباطنه خذلان.

وهذا الكلام من المؤلف - رحمه الله - يقول: سماه كيدًا؛ لأنه شبيه بالكيد يعني معنى كلامه أنه ليس بكيد حقيقة، وهذا غير صحيح بل هو كيد على الحقيقة يليق بجلال الله، وعظمته، فالكيد لا يقال: إنه من أوصاف الكمال بإطلاق، وإنما يكون كمالا إذا كان بمن يستحق ذلك، وهكذا أيضًا المكر.

وقوله - تبارك، وتعالى -: إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [الأعراف: 183] أي: شديد قوي.

والكيد إِنَّ كَيْدِي أي: مكري، فالكيد في أصله ضرب من الاحتيال فقد يكون مذمومًا، وقد يكون محمودًا، وهو يقال في المذموم أكثر، يعني أكثر ما يطلق ذلك أعني الكيد على المعنى المذموم، لكنه في صفات الله هو محمود على كل حال.

قوله تعالى: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ [الأعراف: 184] يعني: بصاحبهم النبي ﷺ فنفى عنه ما نسب له المشركون من الجنون.

ويحتمل أن يكون قوله: مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ معمولا لقوله، أو لم يتفكروا فيوصل به، والمعنى: أو لم يتفكروا فيعلموا أن ما بصاحبكم من جنة.

ويحتمل أن يكون الكلام قد تم في قوله: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا [الأعراف: 185] ثم ابتدأ إخبارا مستأنفًا، لقوله: مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ والأوّل أحسن.

قوله: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ هذا كقوله - تبارك، وتعالى -: قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ [سبأ: 46] وكقوله - تبارك، وتعالى -: فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ ولَا مَجْنُونٍ [الطور: 29] ونظير ذلك.

والنبي ﷺ لا شك أنه أكمل الناس عقلاً، وأسلمهم من هذه الآفات.

وقوله هنا: ويحتمل أن يكون الكلام قد تم في قوله: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ثم ابتدأ إخبارا مستأنفًا بقوله: مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ وعلى هذا تكون "ما" نافية يقول: والأول أحسن، وهو كذلك.

قوله تعالى: أَوَلَمْ يَنْظُرُوا [الأعراف: 185] يعني: نظر استدلال ما خَلَقَ اللَّهُ عطف على الملكوت، ويعني بقوله: مِنْ شَيْءٍ [الأعراف: 185] جميع المخلوقات إذ جميعها دليل على، وحدانية خالقها وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ "أن" الأول مخففة من الثقيلة، وهي عطف على الملكوت، و"أن" الثانية مصدرية في موضع رفع بــ "عسى" وأَجَلُهُمْ يعني: موتهم، والمعنى لعلهم يموتون عن قريب، ينبغي لهم أن يسارعوا إلى النظر فيما يخلصهم عند الله قبل حلول الأجل.

قوله: وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ و"أن" الأولى مخففة من الثقيلة، وهي عطف على الملكوت، والأصل، وأنه عسى، والمعنى أولم ينظروا في أن الشأن، والحديث عسى أن يكون قد اقترب أجلهم، ولعلهم يموتون عما قريب، هذا ما ذهب إليه صاحب الكشاف[3] وناقشه في هذا المعنى أبو حيان، ويرى أبو حيان - رحمه الله - أن العطف على قوله: وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وليس على الملكوت[4] يعني: على ما ذكره المؤلف من أنه عطف على الملكوت يعني ينظر في الملكوت، وفي أيضًا اقتراب الأجل هذا حاصله، وعلى كلام أبي حيان أن النظر يكون فيما خلق الله من شيء تفكر، وكذلك أيضًا اقتراب الأجل.

قوله تعالى: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ [الأعراف: 185] الضمير للقرآن.

كما قال الله - تبارك، وتعالى -: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ [الجاثية: 6] وكون الضمير هنا للقرآن هذا ظاهر، وهو اختيار أبي جعفر ابن جرير - رحمه الله -[5] والحافظ ابن كثير[6] ومن المعاصرين الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله -[7] كذلك الشيخ عبد الرحمن السعدي[8] رحم الله الجميع - .

وبعضهم يقول: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ أن الضمير يرجع إلى النبي ﷺ.

وبعضهم يقول: على الأجل، وبعضهم يقول: على ما ذكر قبل من التفكر، لكن كون الضمير يعود إلى القرآن هذا هو الأقرب -  والله أعلم - .

وعود الضمير إلى غير مذكور كونه يفهم من السياق هذا أمر معلوم، كقوله - تبارك، وتعالى -: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر: 1] الضمير يرجع إلى القرآن، ولم يذكر قبل ذلك هذا كثير، لكن هؤلاء الذين قالوا بغير ذلك يعني كالذين قالوا مثلاً: إنه النبي ﷺ لكونه قد ذكر قبله: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ وهكذا من قال: بأن ذلك يعود إلى التفكر؛ لأنه ذكره أولاً: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا أَوَلَمْ يَنْظُرُوا يعني المتفكرين النظر بمعنى التفكر.

قوله تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ [الأعراف: 187] السائلون اليهود، أو قريش، وسميت القيامة ساعة لسرعة حسابها كقوله: وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ [النحل: 77].

يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ [الأعراف: 187] السائلون اليهود، أو قريش، وهذا الأخير هو الذي اختاره الحافظ ابن كثير[9] - رحمه الله - باعتبار أن سورة الأعراف مكية، فلم يكن ذلك بهذا الاعتبار من سؤال اليهود فالكفار كانوا يسألون أعني المشركين كما يذكر الحافظ ابن كثير يحتج لهذا الاختيار كانوا يسألون عن، وقتها استبعادا لوقوعها، وتكذيبا بوجودها كما هو معروف وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [يونس: 48] يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا [الشورى: 18] هذا ما ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله - وهذا كقوله تعالى: يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ [الأحزاب: 63] يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ [الذاريات: 12] يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ [القيامة: 6] إلى غير ذلك.

وجوز الشيخ محمد الأمين الشنقيطي[10] - رحمه الله - أن يكون ذلك من سؤال هؤلاء، وهؤلاء؛ أن المشركين سألوا، وأن اليهود سألوه لكن ما ذكره ابن كثير - رحمه الله - من كون السورة، والآية مكية يقوي القول بأن هذا كان من سؤال المشركين، ومن قال من سؤال قريش فالمعنى واحد.

وجاء في حديث طارق بن شهاب أن النبي ﷺ كان لا يزال يذكر من شأن الساعة حتى نزلت: يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا [الأعراف: 187][11] فهذا يحتمل أن يكون حكاية عما كان في مكة، ويحتمل أيضًا أن يكون فيما كان أيضا في المدينة، لكن على هذا يعني أن ذلك من السؤال أيضًا في المدينة فيكون ذلك بأحد اعتبارين إما أن الآية نزلت في المدينة فتكون مستثناة، أو أنها نزلت مرتين مرة بمكة بسبب سؤال المشركين، ومرة بسبب سؤال الله اليهود مثلاً، وهذا خلاف الأصل -  والله أعلم - .

وقوله تبارك، وتعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ [الأعراف: 187] الساعة يعني القيامة، وسبب التسمية هنا قال: لسرعة حسابها هذا يحتمل، ويحتمل أن يكون لكونها تقع بغتة -  والله أعلم - ويحتمل غير ذلك أيضًا.

قوله تعالى: أَيَّانَ مُرْساها معنى أيّان: متى، ومرساها: وقوعها، وحدوثها، وهي من الإرساء بمعنى الثبوت.

أَيَّانَ بمعنى متى هذه يسأل بها عن الزمان المستقبل متى تقع الساعة؟ ومرساها قال: وقوعها، وحدثوها، وجاء عن ابن عباس - رضي الله تعالى -: "منتهاها"[12] ويعني متى محطها؟ وأيان آخر مدة الدنيا الذي هو أول وقت الساعة.

وقوله: وهي من الإرساء بمعنى الثبوت، هذا أصل المادة إرساء، ورسى يرجع إلى معنى الثبوت، متى، وقوعها؟ متى حصولها؟ وهذه المعاني مع ما ذكره ابن عباس - ا -: "منتهاها" يعني متى محط الساعة، هذا كله - والله أعلم - يرجع إلى معنى واحد.

 قوله تعالى: قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي أي: استأثر الله بعلم، وقوعها، ولم يطلع عليه أحد.

كقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ [لقمان: 34] إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ [فصلت: 47].

 قوله تعالى: لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ معنى يجليها يظهرها، فهو من الجلاء ضدّ الخفاء.

وأصل المادة جلو يدل على انكشاف الشيء، وبروزه، يعني لا يظهرها، ولا يوجدها في، وقتها الذي قدر أنها تقوم فيه إلا الله، كما قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: "هو الذي يعلم جلية أمرها، ومتى يكون على التحديد"[13] هذا كله يمكن أن يصاغ منه معنى لا يجليها.

واللام في لوقتها ظرفية، أي: عند، وقتها، والمعنى لا يظهر الساعة عند مجيء، وقتها إلا الله.

قوله تعالى: ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ والْأَرْضِ في معناه ثلاثة أقوال:

الأوّل: ثقلت على أهل السماوات، والأرض لهيبتها عندهم، وخوفهم منها.

والثاني: ثقلت على أهل السماوات، والأرض أنفسها لتفطر السماء فيها، وتبديل الأرض.

والثالث: معنى ثقلت، أي: ثقل علمها، أي: خفي.

هذا المعنى الأول أنها ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ والْأَرْضِ [الأعراف: 187] أي: على أهلهما أهل السماوات، والأرض لخوف منها، وهذا المعنى مروي عن جماعة من السلف كالحسن[14] واختاره من المعاصرين الشيخ محمد الأمين الشنقيطي[15] والطاهر بن عاشور[16] وهذا كقوله - تبارك، وتعالى -: إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ [الحج: 1] فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا [المزمل: 17] لكن القول الآخر أنها ثقلت على السماوات، والأرض أنفسها السماء مُنْفَطِرٌ بِهِ [المزمل: 18] فهو يقول هنا: لتفطر السماء فيها، وتبديل الأرض هذا أخذًا بظاهر اللفظ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ [الأعراف: 187].

ولغة العرب فيها اتساع، وقد يعبر بمثل هذا في السماوات، يعني على أهلها.

يقول: والثالث: معنى ثقلت، أي ثقل علمها، أي: خفي، باعتبار أن الشيء إذا خفي ثقل، وهذا كقول الله - تبارك، وتعالى - في سورة الكهف في قصة موسى، والخضر قال له: سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا [الكهف: 78] فلما نبأه قال: ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا [الكهف: 82] وزيادة المبنى لزيادة المعنى، وأن هذا باعتبار - والله أعلم - كما ذكر بعض أهل العلم أن الشيء إذا خفي علمه ثقل، فقال: سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ فلما أعلمه خف عليه ذلك فنقص حرفًا، وهذا توجيه، والعلم عند الله .

قوله هنا: ثقل علمها هذا مروي عن قتادة، والسدي[17] هذا اختاره ابن جرير - رحمه الله -[18] وممن أيضا قال به من المفسرين الحافظ ابن كثير[19] يعني هو اختيار ابن جرير، وابن كثير ثقل علمها، كذلك شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -[20] ويمكن، أو لا يبعد الجمع بين هذه الأقوال الشيخ عبد الرحمن السعدي - رحمه الله -[21] جمع بين الثالث، والأول، وابن كثير - رحمه الله - قال بعد القول الثالث: "ولا ينفي ذلك ثقل مجيئها على أهل السماوات، والأرض"[22] يعني يكون هذا، وهذا.

وأيضًا لا يبعد أن يكون أيضًا أنها ثقلت على نفس السماوات، والأرض، فهي ثقيلة على أهلهما، وعليهما، وثقل أيضا علمها، فالله - تبارك، وتعالى - أطلق ذلك ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ والْأَرْضِ [الأعراف: 187] وهذه المعاني تحتمل، فيمكن أن تكون مرادة جميعًا، وأن ذلك متحقق في ذلك كله -  والله أعلم - .

قوله تعالى: يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا [الأعراف: 187] الحفيّ بالشيء هو المهتم به، المعتني به، والمعنى: يسألونك عنها كأنك حفيّ بعلمها.

وقيل: المعنى يسألونك عنها كأنك حفيّ بهم لقرابتك منهم، فـ عَنْهَا على هذين القولين يتعلق بـ يَسْأَلُونَكَ وقيل: المعنى يسألونك كأنك حفي بالسؤال عنها.

المعنى الأول: يسألونك عنها كأنك حفي بعلمها يعني ملح في طلب علمها، كأنك مستقص السؤال عنها، كما يقال: أحفى في المسألة إذا ألح فيها، وبالغ، فأصل هذه المادة يدل على الاستقصاء في السؤال يسألونك عنها كأنك حفي بها، وذكر ابن فارس: أن الحفي هو العالم بالشيء، والحفي المستقصي بالسؤال[23].

وجاء عن مجاهد: "استحفيت عنها السؤال حتى علمت، وقتها"[24] يعني يقال مثل هذا فهذا يؤيد القول بأن ذلك بالسؤال عنها، كأنك حفي بها يعني بالسؤال.

ولا يبعد أن يكون المراد المعنى الأول الذي ذكره يسألونك عنها كأنك حفي بعلمها، فإن الذي يستقصي في السؤال عن الشيء فإن ذلك؛ لكونه حفيًا بعلمه -  والله أعلم - .

قوله تعالى: وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ براءة من علم الغيب، واستدلال على عدم علمه.

هذا المعنى الذي ذكره كأنه ظاهر براءة من علم الغيب، واستدلال على عدم علمي يعني هو يستدل على عدمه؛ لأنه لو علم لاستكثر من الخير فهذا ظاهر الآية بلا شك، لكن هذا الخير المراد لاستكثرت من الخير هذا الخير ما هو ما المراد به؟

 فسره الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - بالمال[25] باعتبار أنه هكذا يرد في القرآن، وإنه لحب الخير لشديد يعني المال أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ [الأحزاب: 19] يعني المال في صفة المنافقين، وكقوله تعالى: إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ [البقرة: 180] هو المال قطعًا.

وبعضهم يقول: لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ [الأعراف: 188] يعني العمل الصالح هذا جاء عن مجاهد[26] وغيره باعتبار أن النبي ﷺ لم يكن حريصًا على المال، ولكن من فسره بالمال اعترض على هذا القول الآخر، يعني أن المقصود العمل الصالح لاستكثرت من العمل الصالح، قالوا: كان النبي ﷺ مستكثرا من العمل الصالح، لم يكن ﷺ مفرطًا، ولا مسوفًا.

قوله تعالى: وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ [الأعراف: 188] عطف على لاستكثرت من الخير، أي: لو علمت الغيب لاستكثرت من الخير، واحترست من السوء، ولكن لا أعلمه فيصيبني ما قدر لي من الخير، والشر.

وقيل: إن قوله: وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ استئناف إخبار، والسوء على هذا هو الجنون، واتصاله بما قبله أحسن.

لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ يجوز أن يتعلق ببشير، ونذير معا، أي: أبشر المؤمنين، وأنذرهم.

كما قال الله : فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وعِيدِ [ق: 45] إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وأَقَامُوا الصَّلَاةَ [فاطر: 18] إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ [يس: 11] فقد يخص بالإنذار من يخاف الوعيد باعتبار أنه المنتفع به، وإلا فالنبي ﷺ هو منذر للجميع، فهنا خصه بالمؤمنين لكونهم من ينتفع بذلك، وإلا فالنذارة للجميع كما هو معلوم لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ ومَنْ بَلَغَ [الأنعام: 19] نَذِيرٌ وبَشِيرٌ [الأعراف: 188] وقال: أي: أبشر المؤمنين، وأنذرهم.

وخص بهم البشارة، والنذارة؛ لأنهم هم الذين ينتفعون بها، ويجوز أن يتعلق بالبشارة، وحدها، ويكون المتعلق بنذير محذوف، أي: نذير للكافرين، والأوّل أحسن.

باعتبار أنه ينذر من عصى، ويبشر من أطاع، وهذا يكون لأهل الإيمان، ولا إشكال، وكذلك أيضًا هو منذر للكافرين يقول: والأول أحسن، وهذا الذي اختاره الواحدي[27] ومن المعاصرين الشيخ محمد الأمين الشنقيطي[28] والطاهر بن عاشور[29].

لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف: 203] يقول: يجوز أن يتعلق بنذير، وبشير يعني نذير، وبشير لقوم يؤمنون؛ فيكون الإنذار، والبشارة للمؤمنين باعتبار أنهم المنتفع، وإلا فهو نذير، وبشير لكل أحد.

قوله تعالى: مِنْ نَفْسٍ، واحِدَةٍ يعني آدم زَوْجَها يعني حوّاء.

بعضهم يقول: أي: من جنسها من نفس واحدة وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا [الأعراف: 189] يعني من جنسها.

وبعضهم يقول: من هيئة واحدة وشكل واحد وليس ذلك آدم خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ [الأعراف: 189] يعني هيئة واحدة لكن هذا بعيد، وكأن هؤلاء أرادوا أن يخرجوا من الإشكال الذي قد يستشكلونه في قوله: فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ [الأعراف: 190] أن ذلك ليس في آدم وهذا القول أعني المعنى من هيئة واحدة وشكل واحد وأنه ليس بآدم هذا غير صحيح، هذا بعيد، وهو خلاف ظاهر القرآن، وما تدل عليه الأدلة الأخرى فالنفس الواحدة هي آدم، والزوج حواء يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا [النساء: 1] فحواء خلقت من آدم، وجعل منها زوجها كما قال تعالى: جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا [النحل: 72] يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وأُنْثَى [الحجرات: 13] آدم، وحواء.

قوله تعالى: لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا [الأعراف: 189] يميل إليها، ويستأنس بها.

يعني يأوي إليها فأصل سكن يدل على خلاف الاضطراب، والحركة وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا [الروم: 21] فما ذكره المؤلف من أنه يميل إليها، ويأنس بها داخل في هذا المعنى، فتسكن نفسه إلى هذه، لا يستوحش لو كانت من غير جنسه لما ألفها، وسكن إليها.

 قوله تعالى: تَغَشَّاها كناية عن الجماع.

أصل المادة يدل على تغطية شيء بشيء فكأن الرجل حينما يعلو المرأة يكون بهذه المثابة.

 قوله تعالى: حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا أي: خف عليها، ولم تلق منه ما يلقى بعض الحوامل من حملهنّ من الأذى، والكرب.

يعني هذا باعتبار أن الحمل كان خفيفًا لم تلق منه شدة، والمقصود بذلك أول الحمل؛ لأنه قال بعده: فَلَمَّا أَثْقَلَتْ [الأعراف: 189] وكأن المؤلف هنا يعني أول الحمل لكن بعض النساء في أول الحمل تلقى شدة يعني من مثل الوحم، ونحو هذا.

وقيل: الحمل الخفيف في فرجها، والحمل عمومًا في أوله يكون خفيفًا؛ لكونه في مرحلة النطفة، ومرحلة العلقة، ومرحلة المضغة، ثم يثقل بعد ذلك.

وقيل: الحمل الخفيف المني في فرجها.

قوله تعالى: فَمَرَّتْ بِهِ قيل: معناه استمرّت به إلى حين ميلاده، وقيل: معناه قامت، وقعدت. 

فَمَرَّتْ بِهِ قيل: استمرت به، وهذا قرأ بها ابن عباس - ا - وهي قراءة غير متواترة مرت أي استمرت، والقراءة متواترة تفسر بالقراءة الأحادية إذا صح سندها مرت أي استمرت بحمله، وهذا مروي عن جماعة من السلف كمجاهد، والحسن، وإبراهيم النخعي، والسدي فَمَرَّتْ بِهِ أي: استمرت بحمله[30].

وهكذا قامت، وقعدت، ولم يثقلها الحمل إلى حين ميلاده، وجاء عن ميمون بن مهران - رحمه الله -: "فَمَرَّتْ بِهِ أي: استخفته"[31].

وجاء عن قتادة: "استبان حملها"[32] وعبارة ابن جرير - رحمه الله -: "استمرت بالماء قامت به، وقعدت"[33].

وفي قراءة شاذة (فمارت به) من المور، وهو المجيئ، والذهاب، هذا معنى الذي قال بأنها قامت، وقعدت، ونحو ذلك.

وهذه القراءة (مارت) مروية عن ابن عمر - ا - وقرئ أيضًا في بعض القراءات (فمرَت) بالتخفيف به، وفسر بمعنى جزعت لذلك، وهذه مروية عن ابن عباس - ا - وعن يحيى بن يعمر مرت فتفسير ذلك فمرت به يعني استمرت هذا معنى صحيح، وتفسره القراءة الأخرى، أو تؤيده القراءة الأخرى.

وهكذا قول من قال: قامت، وقعدت، ولم يثقلها الحمل، فهذا قامت، وقعدت هذا قد يفسره أيضًا القراءة الأخرى (فمارت به).

ويمكن أن يقال: فمرت به أي استمرت، وقامت، وقعدت، ولم يثقلها حملها، وهذا يقتضي المعنى الآخر المروي عن ميمون يعني استخفته، إذا كانت قامت، وقعدت، وذهبت، وجاءت إلى آخره مع وصفه بالخفيف فَمَرَّتْ بِهِ أي استخفته، وأقرب هذه المعاني استمرت به، وبعض هذه المعاني قد لا يتنافى معه، والعلم عند الله .

قوله تعالى: فَلَمَّا أَثْقَلَتْ أي: ثقل حملها، وصارت به ثقيلة.

وقوله تعالى: لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحًا أي: ولدًا صالحًا سالما في بدنه.

صالحًا سالما في بدنه، يعني ليس به عاهة، ونحو ذلك، وفي الإسرائيليات روايات أن الشيطان جاءها، وقال لها: إنه سيكون له قرن أيل، وأنه سيشق بطنك، وما أشبه ذلك، والمقصود أنه ليس فيه شيء من ذلك، لكن على كل حال، ولدًا صالحًا سالمًا في بدنه لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحًا وهذا مروي عن جماعة من السلف كابن عباس، وأبي صالح، وسعيد بن جبير، والسدي، ومجاهد[34] وهو الذي اختاره الحافظ ابن كثير[35] ومن المعاصرين الشيخ عبد الرحمن السعدي[36] والشيخ محمد الأمين الشنقيطي[37] أبو جعفر ابن جرير - رحمه الله -[38] عمم المعنى ليشمل صلاح الدين، والعقل، والخلقة، باعتبار أنه أطلق الصلاح فيصدق على هذه الجهات الثلاث الصلاح في الدين، وكذلك أيضًا في العقل، وفي البدن.

قوله تعالى: فَلَمَّا آتاهُما صالِحًا جَعَلا لَهُ شِرَكًا فِيما آتاهُما أي: لما آتاهما، ولدًا صالحًا كما طلبا جعل أولادهما له شركاء، فالكلام على حذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه، وكذلك فِيما آتاهُما أي: فيما آتى أولادهما، وذريتهما.

وقيل: إن حواء لما حملت جاءها إبليس، وقال لها: إن أطعتيني، وسميت ما في بطنك عبد الحارث، فسأخلصه لك، وكان اسم إبليس الحارث، وإن عصيتني في ذلك قتلته، فأخبرت بذلك آدم، فقال لها إنه عدوّنا الذي أخرجنا من الجنة، فلما، ولدت مات الولد، ثم حملت مرة أخرى فقال لها إبليس مثل ذلك، فعصته فمات الولد، ثم حملت مرة ثالثة فسمياه عبد الحارث طمعا في حياته، فقوله: جعلا له شِركًا فيما آتاهما أي: في التسمية لا غير، لا في عبادة غير الله، والقول الأول أصح؛ لثلاثة أوجه:

أحدها: أنه يقتضي براءة آدم، وزوجه من قليل الشرك، وكثيره، وذلك هو حال الأنبياء - عليهم الصلاة، والسلام - .

والثاني: أنه يدل على أن الذين أشركوا هم أولاد آدم، وذريته؛ لقوله تعالى: فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ بضمير الجمع.

والثالث: أن ما ذكروا من قصة آدم، وتسمية الولد عبد الحارث يفتقر إلى نقل بسند صحيح، وهو غير موجود في تلك القصة.

وقيل: من نفس واحدة قصي بن كلاب، وزوجته، وجعلا له شركاء أي: سموا أولادهما عبد العزى، وعبد الدار، وعبد مناف، وهذا القول بعيد لوجهين:

أحدهما: أن الخطاب على هذا خاص بذرية قصي من قريش، والظاهر أن الخطاب عام لبني آدم.

والآخر: أن قوله: وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا [الأعراف: 189] فإن هذا يصح في حواء لأنها خلقت من ضلع آدم، ولا يصح في زوجة قصي.

قوله - تبارك، وتعالى -: فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا [الأعراف: 190] يقول: لما آتاهما، ولدا صالحا كما طلبا جعلا أولادهما له شركاء يعني أن ذلك في الذرية، يعني الذين جعلوا الشركاء، وأما أول الآية فهو في آدم، وحواء، ومع أن ظاهر اللفظ ظاهر الكلام، وأن ذلك يرجع إلى ما ذكر أولا فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ [الأعراف: 190] فالأصل أن الضمير يرجع اتحاد مرجع الضمائر، وأن توحيد مرجع الضمائر أولى من تفريقها، لكن على هذا يكون المعنى مشكلاً؛ لأن الأنبياء - عليهم السلام - معصومون من الإشراك، والمرويات الإسرائيلية الكثيرة في هذا المعنى ينزه عنها آدم - عليه الصلاة، والسلام - أخرجه إبليس من الجنة، وغرر به، وخدعه، وكذب مع قسمه له، ثم يأتيه مرة ثانية، ويوقعه في أعظم مما أوقعه به أولاً، يعني أول في الجنة أكل من الشجرة، لكن الثاني هنا الإشراك، وإن قالوا بأنه من قبيل الشرك في التسمية تسميته بعبد الحارث، وهذا لا يجوز، ولا يكون من الأنبياء - عليهم الصلاة، والسلام - وهذا لو أنه قيل: لأحد المؤمنين لآحادهم، يعني من أهل الصلاح لكن الموت مقدمًا على مثل هذا، فكيف بنبي يقع في الإشراك من أجل سلامة الولد، ومعلوم حتى في مقتضى مراعاة المصالح، والضرورات، وترتيب ذلك على الطريقة التي تعرفون فالضروريات الخمس أعلاها الدين، ثم النفس فإذا تعارض هذا، وهذا قدم حفظ الدين على حفظ النفس.

والأنبياء أعلم الناس بهذا، وهذه الضرورات الخمس مما أجمعت عليها الشرائع، فهذا لا شك أنه لا يخلو من إشكال كبير، وعلى كثرة من قال به، ولكن على هذا المعنى الذي ذكره المؤلف - والله تعالى أعلم - يعني أن ذلك في الذرية، وهو كقوله: فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا [الأعراف: 190] يعني الذرية هي التي، وقع فيها الشرك، وأول الكلام في آدم، وحواء.

يقول فالكلام على حذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه، وكذلك فِيما آتاهُما أي: فيما آتى أولادهما، وذريتهما، والتثنية فِيما آتاهُما كان الحديث عن آدم، وحواء، وهنا الحديث أيضًا قال: فِيما آتاهُما يعني باعتبار أن الذرية ذكر، وأنثى فمرة عبر عنهما بلفظ التثنية؛ لكونهما صنفين، ومرة بلفظ الجمع: فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [الأعراف: 190].

يقول: وقيل: إن حواء لما حملت إلى آخره هذا القول فيه الإشكال الذي أشرت إليه، وهو مروي عن جماعة من السلف فهو مروي عن سمرة بن جندب، وابن عباس، وأبي بن كعب، وقتادة، ومجاهد، وسعيد بن جبير، والسدي[39] واختاره كبير المفسرين أبو جعفر ابن جرير[40] والواحدي[41] والسمعاني[42] وأضافه ابن الجوزي[43] إلى الجمهور هذا القول الذي ذكره بعده أنهما سمياه عبد الحارث؛ طمعًا في حياته، وهذا فيه إشكال كبير، ويقولون: هذا من باب الشرك في التسمية لا غير، وهذا الشرك في التسمية أيضا من الأمور السهلة، وهل يليق هذا بنبي؟ هذا لا يكون من الأنبياء - عليهم الصلاة، والسلام - فهم منزهون عن هذا؛ ومبنى هذا القول على مرويات إسرائيلية لا يبنى عليها مثل هذا التفسير -  والله أعلم - .

يقول: والقول الأول أصح لثلاثة أوجه، إلى آخر ما ذكر هذا القول الذي قال به هؤلاء من السلف فمن بعدهم كما ترون، واختاره ابن جرير أن المراد آدم، وحواء، بهذا الاعتبار علق عليه ابن كثير - رحمه الله - بقوله: "وقد تلقى هذا الأثر عن ابن عباس جماعة من أصحابه، وذكر طائفة ممن ذكرت، وأن القائلين بذلك ممن بعدهم لا يحصون كثرة يقول، وكأنه -  والله أعلم - أصله مأخوذ من أهل الكتاب فإن ابن عباس رواه عن أبي بن كعب كما رواه أبي حاتم[44].

وهذه الآثار يظهر عليها -  والله أعلم - أنها من آثار أهل الكتاب، وقد صح الحديث عن رسول الله ﷺ أنه قال: إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم، ولا تكذبوهم"[45]

هذا كلام الحافظ ابن كثير يعني هو يشير إلى أن ذلك لا يبنى عليه مثل هذا المعنى، وحكم صاحب "التفسير الكبير"[46] على هذا القول بأنه أيضًا فاسد من، وجوه:

الأول: أن الله قال: فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [الأعراف: 190].

يقول فهذا يدل على أن الذين جاؤوا بذلك جماعة، وليسوا باثنين.

الثاني: أنه قال بعده: أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وهُمْ يُخْلَقُونَ [الأعراف: 191] وهذا يدل على أن المقصود من هذه الآية الرد على من جعل الأصنام شركاء لله - تبارك، وتعالى - وما جرى لإبليس في هذه الآية ذاك أصلا ما ذكر.

الثالث: يقول: لو كان المراد إبليس لقال: أيشركون من لا يخلق شيئًا، يعني الذين قالوا: إن المقصود بالإشراك هنا هو طاعة الشيطان بتسميته عبد الحارث، فهنا يرد عليهم يقول: بأنه قال: أَيُشْرِكُونَ مَا لَا فـ"ما" تستعمل لغير العاقل.

والذين قالوا بالقول الآخر أيضًا لا يعجزون عن الرد على ما ذكر.

يقول: والقول الأول أصح لثلاثة أوجه القول الأول هو الذي اختاره المؤلف أن ذلك في الذرية، وهذا مروي عن الحسن[47] ورجحه جماعة من المفسرين كصاحب الكشاف[48] والقرطبي[49] والحافظ ابن القيم[50] والحافظ ابن كثير[51] وصاحب التفسير الكبير[52] وكذلك أيضًا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي[53] من المعاصرين، والسعدي[54] وغيرهم، مع أن مقتضى الصناعة كما هو معلوم، والقواعد أنه إذا اختلف المفسرون في معنى الآية يعني كأن أحد الأقوال قال به صحابي، أو جماعة من الصحابة، والقول الآخر ليس كذلك فيقدم قول الصحابي، إذا تعارض قول الصحابي مع غيره فالمقدم قول الصحابي، وإن كان ظاهر السياق لا يساعد عليه، هذه القاعدة فلو أعملناها هنا لكان القول بأنه في آدم، وحواء، لكن كما ذكرت أنه مشكل، والقواعد أغلبية، ولها استثناءات، لكن الاستثناء أيضا مشكل يعني يترك القول المروي عن الصحابة، ويعدل عنه إلى قول لغيرهم لمن بعدهم هذا مشكل، لكن يبقى النظر هل ثبت هذا عن هؤلاء الصحابة أصلاً، أو لا؛ لأنه كما تعلمون الأسانيد في التفسير الغالب عليها الضعف؛ ولهذا اختلفت الأقوال في تفسير هذه الآية حتى بين السلف حتى جاء عن الحسن البصري: "بأن هذا في بعض أهل الملل"[55] يعني ليس في آدم، وحواء من أولها، لكن هذا بعيد؛ لأن الله يقول: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا [الأعراف: 189].

وجاء في رواية عن الحسن: "أنه عنى به ذرية آدم، ومن أشرك منهم بعده"[56] وفي رواية أيضًا: "هم اليهود، والنصارى رزقهم الله أولادًا، فهودوا، ونصروا[57] وذكر الحافظ ابن كثير أن هذه الأسانيد صحيحة عن الحسن يقول: "وهو من أحسن التفاسير، وأولى ما حملت الآية عليه"[58].

فابن كثير - رحمه الله - يرى أن قوله: فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا [الأعراف: 190] كالاستطراد من ذكر الشخص إلى الجنس، يعني في البداية كان الحديث عن آدم، وحواء، ثم استطرد فذكر الجنس الذي هو جنس الآدميين، أو الذرية، فكان الواقع من الذرية هو هذا الإشراك، وليس الإشراك في التسمية فقط بل الإشراك مع الله في العبادة، والأنبياء - عليهم الصلاة، والسلام - جاءوا للدعوة إلى التوحيد، ومحاربة الشرك حتى إن النبي ﷺ كان يغير الأسماء، فكيف يقع منهم مثل هذا؟!، وكيف يخدع آدم مرتين؟!، والنبي ﷺ يقول: لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين[59] الإنسان يقدر لآحاد المؤمنين أنه لو جاءه الشيطان، وقال له مثل هذا لأعرض عنه غاية الإعراض، ونفر غاية النفرة، وفضل الموت على ذلك، وذكر، وجوه الترجيح القول أن ذلك في الذرية، وكلامه، وما أجاب به من على قول من قال بأنه قصي بن كلاب لا شك أن هذا في غاية البعد، ولا يستحق أيضًا أن يذكر، وذكر، وجوه استبعاد ذلك.

قوله تعالى: أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وهُمْ يُخْلَقُونَ [الأعراف: 191] هذه الآية ردّ على المشركين من بني آدم، والمراد بقوله: مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا الأصنام، وغيرها مما عبد من دون الله، والمعنى: أنها مخلوقة غير خالقة، والله تعالى خالق غير مخلوق فهو الإله، وحده.

هذا كقوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ [الحج: 73] وهذا المعنى الذي ذكره المؤلف هو اختيار ابن جرير - رحمه الله -[60] أن هذا من قبيل الرد على المشركين أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وهُمْ يُخْلَقُونَ [الأعراف: 191] يقول: المعنى أنها مخلوقة غير خالقة يعني الذي يستحق العبادة هو من خلق كما في قوله - تبارك، وتعالى -: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ [البقرة: 21] فمن خلق هو المستحق للعبادة.

قوله تعالى: وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا ولَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ [الأعراف: 192] يعني أن الأصنام لا ينصرون من عبدهم، ولا ينصرون أنفسهم، فهم في غاية العجز، والذلة، فكيف يكونون آلهة؟!.

وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ ۝ ​​​​​مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ [الشعراء: 92 - 93].

قوله تعالى: وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ يعني: أن الأصنام لا تجيب إذا دعيت إلى أن تهدى، أو إلى أن تهدي، لأنها جمادات.

كقوله: وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا [الأعراف: 198].

قوله تعالى: سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ تأكيد، وبيان لما قبلها، فإن قيل: لم قال: أم أنتم صامتون فوضع الجملة الإسمية موضع الجملة الفعلية، وهلا قال: أو صمتم؟

فالجواب: إن صمتم عن دعاء الأصنام كانت حالة مستمرة، فعبر هنا بجملة اسمية لتقتضي الاستمرار على ذلك.

قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ [الأعراف: 194] رد على المشركين بأن آلهتهم عباد فكيف يعبد العبد مع ربه فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا أمر على جهة التعجيز أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا [الأعراف: 195] وما بعده: معناه أن الأصنام جمادات عادمة للحس، والجوارح، والحياة، والقدرة، ومن كان كذلك: لا يكون إلها، فإن من وصف الإله الإدراك، والحياة، والقدرة، وإنما جاء هذا البرهان بلفظ الاستفهام؛ لأن المشركين مقرّون أن أصنامهم لا تمشي، ولا تبطش، ولا تبصر، ولا تسمع، فلزمتهم الحجة، والهمزة في قوله: أَلَهُمْ للاستفهام مع التوبيخ، و"أم" في المواضع الثلاثة تضمنت معنى الهمزة، ومعنى بل، وليست عاطفة.

قوله تعالى: قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ [الأعراف: 195] المعنى: استنجدوا أصنامكم لمضرتي، والكيد عليّ، ولا تؤخروني، فإنكم، وأصنامكم لا تقدرون على مضرتي، ومقصود الآية الردّ عليهم ببيان عجز أصنامهم، وعدم قدرتها على المضرة، وفيها إشارة إلى التوكل على الله، والاعتصام به، وحده، وأن غيره لا يقدر على شيء، ثم أفصح بذلك في قوله: إِنَّ ولِيِّيَ اللَّهُ [الأعراف: 196] الآية، أي: هو حافظي، وناصري منكم فلا تضرونني، ولو حرصتم أنتم، وآلهتكم على مضرتي.

ث وصف الله بأنه: الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ [الأعراف: 196] وبأنه يتولى الصالحين، وفي هذين الوصفين استدلال على صدق النبي ﷺ بإنزال الكتاب عليه، وبأن الله تولى حفظه، ومن تولى حفظه فهو من الصالحين، والصالح لا بد أن يكون صادقًا في قوله، ولا سيما فيما يقوله عن الله.

ثم قال الله: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ [الأعراف: 197] الآية: ردّ على المشركين، وقد تقدّم معناه.

قوله تعالى: وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا [الأعراف: 198] يحتمل أن يريد الأصنام فيكون تحقيرا لهم، وردّا على من عبدها، فإنها جمادات لا تسمع شيئا، فيكون المعنى كالذي تقدّم، أو يريد الكفار، ووصفهم بأنهم لا يسمعون، يعني سماعا ينتفعون به، لإفراط نفورهم، أو لأن الله طبع على قلوبهم.

والأول أقرب - والله أعلم - أنها الأصنام؛ لأنه يبين حالها، وهذا الاستعمال يعني التعبير بصيغ يعبر عنها عن العقلاء وَإِنْ تَدْعُوهُمْ ما قال: وإن تدعوها لأنهم ما نزلوها فقط منزلة العقلاء بل جعلوها آلهة تعبد من دون الله  فغير العاقل إذا نزل منزلة العاقل عبر عنه بصيغ العقلاء وَالشَّمْسَ والْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ [يوسف: 4] ما قال: رأيتها، فهذا يعبر به عن العقلاء رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ [يوسف: 4] ما قال: ساجدة، لغير العاقل يقال: ساجدة مثلاً لكن لما كان السجود من أفعال العقلاء عبر عنها بصيغ للعقلاء، وهذا كثير، وهو يتخرج على أصل، وقاعدة معروفة يتفرع منها فروع هذا واحد منها، أنه قد يعبر بحسب اعتقاد المخاطب، ولو كان المتكلم لا يعتقده، يعني لا يعتقد صحة ذلك، فالله - تبارك، وتعالى - يعلم أن هذه آلهة باطلة، ويقرر هذا في هذه السورة، وفي غيرها، لكن عوملت معاملة العقلاء مراعاة لحال عابديها مثلاً على هذا الوجه؛ لكونهم نزولها مثلا منزلة العقلاء، بل جعلوها آلهة، وهكذا.

قوله تعالى: وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وهُمْ لَا يُبْصِرُونَ [الأعراف: 198] إن كان هذا من وصف الأصنام، فقوله: يَنْظُرُونَ مجاز، وقوله: لَا يُبْصِرُونَ حقيقة؛ لأن لهم صورة الأعين، وهم لا يرون بها شيئا.

يعني هو كما هو مشاهد فهي تقابلك بعيون مصورة كأنها تنظر إليك، وهي لا تبصر أحيانا ترى بعض التماثيل المنحوتة بعناية إذا نظرت إليه كأنه ينظر إليك، بل لربما إذا اتجهت إلى ناحية أخرى كأنه ينظر إليك، والواقع أنه لا يبصر.

 
وإن كان من وصف الكفار فينظرون حقيقة، ولا يبصرون مجازا على وجه المبالغة كما وصفهم بأنهم لا يسمعون.

قوله تعالى: خُذِ الْعَفْوَ [الأعراف: 199] فيه قولان:

أحدهما: أن المعنى خذ من الناس في أخلاقهم، وأقوالهم، ومعاشرتهم ما تيسر لا ما يشق عليهم؛ لئلا ينفروا، فالعفو على هذا بمعنى السهل، والصفح عنهم، وهو ضد الجهل، والتكليف كقول الشاعر:

خذي العفو منّي تستديمي مودتي[61].    

هذا المعنى الذي اختاره ابن جرير - رحمه الله -[62] يعني ما تسمح من أخلاق الناس من غير استقصاء، يعني ما يؤدونه إليك طواعية من غير أن تشق عليهم، من غير مشقة فهذا معنى صحيح، وجاء في الصحيح عن ابن الزبير قال: "أمر الله نبيه ﷺ أن يأخذ العفو من أخلاق الناس"[63] يعني بهذا المعنى الذي ذكره ابن جزي أولاً.

وجاء نحو ذلك عن ابن عمر، ومجاهد، وعروة[64] وقد تحدثت عن هذا المعنى في مناسبة بحديث مستقل يعني في درس مستقل خُذِ الْعَفْوَ وأْمُرْ بِالْعُرْفِ وأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف: 199] فهذه الآية جامعة للأخلاق كلها، فيكون هذا المعنى الأول يعني ما تسهل، وتسمح من غير أن تشق عليهم، لا تستقصي في التعامل معهم، وأن تطالبهم بكل حق يؤدونه إليك، ولو ثقل، وشق ذلك عليهم، يعني هذا في الأخلاق سواء مع الزوجة، أو مع الأولاد، أو مع الجيران، أو مع المعارف، أو الأقارب، أو غير ذلك لا تستقص، ولا تطالبهم، ولا تكلفهم أن يؤدوا إليك من الحقوق ما قد يشق عليهم، فما أتوا به طواعية فاقبل، وإلا تغض الطرف، ولا يكون الإنسان بهذا الاعتبار ثقيلاً عليهم يؤدون إليه الحقوق تكرهًا على تثاقل، وتبرم، يعرفون أنهم إذا ما أتوه في هذه المناسبة فإنه يغضب، أو يتحامل عليهم، ونحو ذلك فيأتون، وهم في حال من الكراهية، والتثاقل؛ لئلا يغضب، أو نحو هذا فهذا لا يحسن، ولا يجمل أبدًا، أن يزار الإنسان، ويعاد إذا مرض، أو يعزى، أو غير ذلك من أجل ألا يتحامل على هؤلاء، أو نحو هذا إذا عرف هذا من طبعه، لكن إذا عرف فيه السماحة أنه لا ينتظر من أحد شيئًا، ولا يرى لنفسه حقًا على أحد أصلاً فما جاء من الناس بمحبة، ورغبة قبله، وما لم يأت فهو لا يقف عنده، ولا يسأل عنه -  والله المستعان - .

والآخر أن المعنى من الصدقات ما سهل على الناس في أموالهم، أو ما فضل لهم، وذلك قبل فرض الزكاة، فالعفو على هذا بمعنى السهل، أو بمعنى الكثرة.

المعنى أن يكون هذا في أول الأمر قبل فرض الزكاة خذ العفو يعني ما زاد عن حاجة الإنسان في نفقته على نفسه، وأهله فكان يجب عليه أن يخرجه خُذِ الْعَفْوَ يعني في الأموال، ثم نسخ ذلك بالزكاة، لكن المعنى الأول أقرب - والله أعلم - لأنه قرنه قال: خُذِ الْعَفْوَ وأْمُرْ بِالْعُرْفِ وأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ فالآية في الأخلاق.

قوله تعالى: وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ أي: بالمعروف، وهو فعل الخير، وقيل: العفو الجاري بين الناس من العوائد، واحتج المالكية بذلك على الحكم بالعوائد.

يعني يقولون كما هي القاعدة: "العادة محكمة" فالعرف معتبر، فالعرف يفسر بالمعروف الذي يقره الشرع من كل قول، وفعل تعرف حسنه، ونفعه العقول، والفطر السليمة، تطمئن إليه النفوس المستقيمة، هذا هو العرف فلهذا يقولون ما عرف حسنه عقلاً، أو نقلاً، وهذا بمعنى قول من قال من عرف حسنه شرعًا؛ لأن الشرع يتضمن العقل الصحيح، والنقل.

وقال تعالى: وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ أي: لا تكافي السفهاء بمثل قولهم، أو فعلهم، واحلم عنهم، ولما نزلت هذه الآية سأل رسول الله ﷺ جبريل عنها، فقال: لا أدري حتى أسأل، ثم رجع فقال: يا محمد إن ربك يأمرك أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك.

هذا جاء من حديث جابر[65] وأيضًا قيس بن سعد - ا -[66]  لكنه لا يصح، الحديث ضعيف.

وعن جعفر الصادق: أمر الله نبيه ﷺ فيها بمكارم الأخلاق، وهي على هذا ثابتة الحكم، وهو الصحيح.

وقيل: كانت مداراة للكفار، ثم نسخت بالقتال.

وهذا لا يصح.

قوله تعالى: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ [الأعراف: 200] نزغ الشيطان، وسوسته بالتشكيك في الحق، والأمر بالمعاصي، أو تحريك الغضب.

النزع كما يقول ابن عطية: "حركة فيها فساد، وقل ما تستعمل إلا في فعل الشيطان؛ لأن حركاته مسرعة مفسدة نزغ"[67].

فأمر الله بالاستعاذة منه عند ذلك، كما، ورد في الحديث: أن رجلا اشتد غضبه فقال رسول الله ﷺ: إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما به: نعوذ بالله من الشيطان الرجيم[68].

قوله تعالى: طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ معناه لمة منه، كما جاء: إنّ للشيطان لمة، وللملك لمة[69].

يعني هي فسرت بمعنى الدنو، والقرب بإخطار الخير، أو الشر، يعني يقترب الملك من القلب بإخطار الخير يلقيه فيه الخواطر الطيبة، والمعاني الطيبة، والشيطان كذلك، يعني إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا [الأعراف: 201] يعني عارض، أو، وسوسة فأصل الطيف يدور على دوران الشيء على الشيء يطوف به من الطواف طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ وفسره ابن جرير - رحمه الله - قال: "إذا ألم بهم لمم من الشيطان من غضب، أو غيره مما يصد عن، واجب حق عليهم تذكروا عقاب الله، وثوابه، ووعده، ووعيده، وأبصروا الحق فعملوا به"[70].

وهذا الحديث الذي ذكره: إن للشيطان لمة حديث صحيح، الشيخ الألباني كان قد ضعفه، ثم تراجع عن ذلك، وصححه، تجدونه في بعض كتبه ضعف الحديث، وفي بعضها صححه، لكنه صححه في المتأخر منها.

ومن قرأ طائف بالألف، فهو اسم فاعل، ومن قرأ طيف بياء ساكنة، فهو مصدر، أو تخفيف من طيف المشدّد، كميّت، وميت.

القراءة الأولى طائف هذه قراءة الجمهور، اسم فاعل، والقراءة الأخرى طيف هذه قراءة أبي عمر، وابن كثير، يقول: فهو مصدر، أو تخفيف لـ (طيّف)، وقيل: هما بمعنى واحد يعني الطائف، والطيف.

وبعضهم يقول: الطيف التخيل، والطائف الشيطان.

وبعضهم يقول: الغضب.

وبعضهم يقول: مس الشيطان بالصرع، ونحوه، لكن ما علاقة هذا مس الشيطان بالصرع بالتذكر؟! هذا أمر لا يرتبط بالصرع؛ لأن الصرع بغير إرادة الإنسان فهو يغلب عليه تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ۝ ​​​​​وإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ [الأعراف: 201 - 202] إنما المقصود بذلك الطائف يعني إذا أوقعه فيما يستكره، أو في معصية، ونحو ذلك، فيتذكر فإذا غضب لا ينفذ غضبه، وإنما يتذكر فيرجع، وهكذا إذا، وقع في المعصية ارعوى، وتاب، ورجع لا يستمر.

وبعضهم يقول: فسره بالهم بالذنب.

وبعضهم فسره بإصابة الذنب.

وبعضهم فسره بالوسوسة؛ لأنها من الشيطان لمة منه كلمة الخيال.

وبعضهم يقول: ما يتخيل بالقلب، أو يرى في النوم، وبعض هذه المعاني قريب، وغير متنافي، فذلك يدخل فيه مسهم طائف من الشيطان المعصية، وكذلك الهم بها، وهكذا أيضًا ما يشبه ذلك مما يقع فيه الإنسان من الغضب فلا ينفذ غضبه مثلاً: إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ - والله أعلم - .

 تَذَكَّرُوا حذف مفعوله ليعم كل ما يذكر من خوف عقاب الله، أو رجاء ثوابه، أو مراقبته، والحياء منه، أو عداوة الشيطان، والاستعاذة منه، والنظر، والاعتبار، وغير ذلك.

هذا باعتبار أنه حذف المتعلق تَذَكَّرُوا ما قال: تذكروا عذابه، أو تذكروا عظمته، أو تذكروا ما ينبغي أن يتذكر، أو النار، أو نحو ذلك، وإنما قال: تَذَكَّرُوا والقاعدة أن: "حذف المتعلق يفيد العموم النسبي" وشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - ذكر أن الشيطان إذا زين المعصية يجعل في القلب ظلمة، ويضعف نور الإيمان، ولهذا سماه طائفًا أي: يطيف بالقلب مثلما يطيف الخيال بالنائم، ويغيب عن القلب حينئذ من أمر الله، ونهيه، ووعده، ووعيده ما يناقض ذلك، فإذا كان العبد متقيًا لله أمده الله - تعالى - بنور الإيمان فذكر ما في الذنب من عذاب الله، وسخطه، وما يفوته به من كرامة الله، وثوابه"[71] وهذا معنى جيد، وتفسير متين لهذا الموضع، وذكر غيره أن قوله: تَذَكَّرُوا يعني أن هذا من عدوهم الشيطان، وإغوائه، وما أمر الله به في هذه الحال من الاستعاذة به، والالتجاء إليه في الحفظ منه.

، وبعضهم يقول: تذكروا أمر الله تعالى، أو ما أمر الله به، وما نهى عنه، أو تذكروا العقاب لمن أطاع الشيطان، وعصى الله تذكروا جزيل الثواب لمن عصاه كما سبق، وتذكروا الوعد، والوعيد.

فهذه الأقوال ترجع إلى معنى واحد فيعمها اللفظ باعتبار حذف المتعلق، تذكروا ما يفوتهم من الخير، تذكروا عداوة الشيطان، تذكروا، وعد الله، ووعيده، كل هذه المعاني ترجع إلى شيء واحد - والله أعلم - .

قوله تعالى: فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ هو من بصيرة القلب.

فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ مبصرون ماذا؟ هنا حذف المتعلق أيضًا مبصرون هدى الله، يبصرون مكائد الشيطان، مبصرون مواطن الزلل فينتهون عن المعصية.

قوله تعالى: وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ الضمير في إخوانهم للشياطين، وأريد بقوله: طائف من الشيطان: الجنس، ولذلك أعيد عليه ضمير الجماعة، وإخوانهم هم الكفار، ومعنى يَمُدُّونَهُمْ يكونون مددا لهم، يعضدونهم، وضمير المفعول في يمدّونهم للكفار، وضمير الفاعل للشيطان.

ويحتمل أن يريد بالإخوان: الشياطين، ويكون الضمير في إخوانهم للكفار، والمعنى على الوجهين: أنّ الكفار يمدّهم الشيطان، وقرئ يمدّونهم بضم الياء، وفتحها، والمعنى واحد وفي الغيّ: يتعلق بــ يَمُدُّونَهُمْ وقيل: يتعلق بإخوانهم، كما تقول: إخوة في الله، أو في الشيطان.

قوله هنا: وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ الغي خلاف الرشد، والانهماك في الباطل، يقول: الضمير في قوله: وَإِخْوانُهُمْ للشيطان، الشياطين هذا لو كان يعني من قبيل المعنى، والتفسير لكن هو يتحدث عن الآية نص الآية: إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف: 201] يعني هو من حيث المعنى، وإخوان الشياطين تمدهم الشياطين في الغي، وإخوانهم الأصل أن الضمير يرجع إلى أقرب مذكور إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ۝ ​​​​​وإِخْوَانُهُمْ [الأعراف: 201 - 202] يعني آخر ما ذكر هنا الشيطان، وأريد بقوله: طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ الجنس يعني الشياطين ليس إبليس مثلا فقط فلذلك أعيد عليه ضمير الجماعة وَإِخْوانُهُمْ وهم الكفار، ومعنى يَمُدُّونَهُمْ أي: يزينون لهم، ويطيلون لهم فيه يعني يمدونهم في الغي، وضمير المفعول في يمدونهم للكفار، يعني يمدون الكفار، وضمير الفاعل من الذي يمد هو الشيطان، وهذا قول الجمهور أن إخوان الشياطين تمدهم الشياطين في الغي فينتج عن ذلك أنهم يستمرون فيه فلا يرعوون، ولا يتوبون، ولا يرجعون، وهذا القول مروي عن جماعة كثير من السلف فمن بعدهم ابن عباس، والسدي، ومجاهد، وقتادة[72] وغير هؤلاء، هو قول الجمهور.

يقول: ويحتمل أن يريد بالإخوان يعني الشياطين؛ ويكون الضمير في وَإِخْوَانُهُمْ للكفار يعني يمدون الشياطين في الغي بإغواء الناس، وهذا اختاره صاحب "التفسير الكبير"[73] لكن الأول أقرب.

قال: والمعنى على الوجهين أن الكفار يمدهم الشيطان.، وقرئ يُمُدونهم هذه قراءة نافع، وهي التي مشى عليها المؤلف في هذا الكتاب، وبالفتح يمدونهم هي قراءة الجمهور، والمعنى واحد.

 قوله تعالى: ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ أي: لا يقصر الشياطين عن إمداد إخوانهم الكفار، أو لا يقصر الكفار عن غيهم.

كما سبق بناء على المعنيين أي: لا يقصر الشياطين، هذا اختاره الشنقيطي - رحمه الله -[74] ثم لا يقصرون يعني الشياطين تستمر في الإمداد لا يقصرون، ولا يسأمون، أو لا يقصر الكفار عن غيهم، الكفار يستمرون في الغي، وجمع بين هذه القولين ابن جرير - رحمه الله -[75] ومن المعاصرين الشيخ عبد الرحمن السعدي[76] وهذا جيد، فلا الشياطين تقصر فهي مستمرة بالإغواء، والإمداد، ولا هؤلاء يرعوون، ويتوبون، ويرجعون عما هم فيه من الغي فالكل مستمر، هؤلاء يمدون، وهؤلاء يستمرون في كفرهم، وباطلهم، وغيهم.

وجاء عن ابن عباس - ا -: "لا الإنس يقصرون عما يعملون، ولا الشياطين تمسك عنهم"[77] وهذا جمع بين القولين، وهذه من النصوص القليلة الجميلة التي تدل على بعض ما يذكر من الأصول في التفسير، والقواعد، يعني لو تتبعت بدقة في آثار السلف، واستخرجت بالمناقيش، لكان ذلك في غاية النفع.

وفي الآية من إدراك البيان لزوم ما لا يلزم بالتزام الصاد قبل الراء في مبصرون، ولا يقصرون.

معنى لزوم ما لا يلزم يعني أن يلتزم بالقافية، أو يعني ما يقوم مقامها في الشعر، أو في النثر قبل الحرف الأخير من الأبيات مثلاً في الشعر، أو السجعات في النثر ما لا يلزمه، كأن يكون الحرفان الأخيران متماثلين في كل القوافي، أو الحروف الثلاثة الأخيرة، أو تكون الكلمات متماثلة في الوزن، وإن اختلفت الحروف، كقوله مثلا: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ ۝ ​​​​​ وأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ [الضحى: 9 - 10] فهنا في الحرفين الأخيرين الهاء، والراء جاءت متماثلة، فهذا يسمونه لزوم ما لا يلزم، مبصرون يقصرون هذه الحروف أربعة التي حصل بها التوافق الأربعة الأخيرة.

قوله تعالى: وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها [الأعراف: 203] الضمير في لم تأتهم للكفار، ولولا هنا عرض، وفي معنى اجتبيتها قولان:

أحدهما: اخترعتها من قبل نفسك، فالآية على هذا من القرآن، وكان النبي ﷺ يتأخر عنه الوحي أحيانا، فيقول الكفار: هلا جئت بقرآن من قولك.

جاء عن ابن عباس - ا -: "لولا تلقيتها"[78] يعني الآية، وفي رواية: "لولا أحدثتها فأنشأتها"[79].

وجاء عن مجاهد: "اقتضيتها قالوا: تخرجها عن نفسك"[80] وجاء نحو هذا عن قتادة، والسدي، وابن زيد[81] واختاره ابن جرير[82] أن هذا في الآية من القرآن، يعني: لولا اختلقتها، وأتيت بها من قبلك قبل نفسك يعني، وهذا كقوله - تبارك، وتعالى -: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ [يونس: 15].

والآخر معناه: طلبتها من الله، وتخيرتها عليه، فالآية على هذا معجزة، أي: يقولون: اطلب المعجزة من الله.

يعني ليست الآية المتلوة، وهذا اختاره ابن كثير - رحمه الله -[83] باعتبار أنهم كانوا يقترحون على النبي ﷺ الآيات، يعني المعجزات، يعني هم كأنهم يقولون على هذا المعنى الثاني ألا تجهد نفسك بطلب هذه الآيات من أجل أن نؤمن.

قوله تعالى: قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي [الأعراف: 203] معناه: لا أخترع القرآن على القول الأول، ولا أطلب آية من الله على القول الثاني.

قوله تعالى: هَذَا بَصَائِرُ [الأعراف: 203] أي: علامات هدى، والإشارة إلى القرآن.

يعني حجج ظاهرة، وبينة.

قوله تعالى: وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وأَنْصِتُوا فيه ثلاثة أقوال:

أحدها: أن الإنصات المأمور به هو لقراءة الإمام في الصلاة.

وهذا نقل عليه الإمام أحمد - رحمه الله - الإجماع أن ذلك في الصلاة[84] وأن الآية نازلة في الصلاة.

 والثاني: أنه الإنصات للخطبة.

الإنصات للخطبة، وهذا المعنى صحيح، وقد اختار ابن جرير - رحمه الله -[85] وشيخ الإسلام ابن تيمية[86] أن الآية في ذلك كله في الصلاة، وفي الخطبة.

والثالث: أنه الإنصات لقراءة القرآن على الإطلاق، وهو الراجح لوجهين.

وهذا صرح به الشيخ عبد الرحمن السعدي - رحمه الله -[87].

وهو الراجح لوجهين:

أحدهما: أن اللفظ عام، ولا دليل على تخصيصه.

والثاني: أن الآية مكية، والخطبة إنما شرعت بالمدينة.

هذا الذي يظهر - والله أعلم - أن الآية عامة، ويدخل في ذلك الصلاة، واحتج به من قال بأنه لا يقرأ الفاتحة مثلاً في القراءة الجهرية لأنه مأمور بالإنصات، ومثل هذا لا يتأتى فيه الاحتياط، فهو إذا قرأ فهو آثم عند من يقول إنه لا يقرأ لأنه مخالف لقوله: فَاسْتَمِعُوا لَهُ وأَنْصِتُوا [الأعراف: 204] ومن قال: بأنه يقرأ، وهي ركن بإطلاق، قالوا: بأن الصلاة لا تصح إلا بها، فيقرأ في سكتات الإمام، والمقصود أنه لا يترك الفاتحة.

قوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ قال بعضهم: الرحمة أقرب شيء إلى مستمع القرآن لهذه الآية.

قوله تعالى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ يحتمل أن يريد الذكر بالقلب دون اللسان.

يعني بالتدبر، والاعتبار، والتفكر هذا عمل القلب، وهذا اختاره أبو حيان[88] ومن المعاصرين الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله -[89] أن الذكر بالقلب وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ يعني بالتفكر، والاعتبار، والتدبر.

أو الذكر باللسان سرا.

هذا اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -[90] ومن المعاصرين الطاهر بن عاشور[91] وغير هؤلاء، بل نسبه ابن عطية[92] إلى الجمهور باعتبار أن الذكر لا يكون في النفس، وأنه لا يراعى إلا بحركة اللسان؛ لأنه لا يكون ذكرا معتبرًا في الشرع وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ إلا إذا كان معه حركة اللسان، وما يتبع ذلك من الشفتين، وإلا فلا يكون ذكرًا معتبرًا في الشرع يعني حتى القراءة إذا كان يقرأ بعينه فقط فإن ذلك لا يكون قراءة معتبرة شرعا، ولا تصح الصلاة بذلك.

وهكذا الأذكار المشروعة لا بد فيها من حركة اللسان، وجاء في الحديث: من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ...[93] فيدل على أن المقصود ذكره في نفسه يعني سرًا بحركة اللسان فقابله بالذكر بالملأ يقول شيخ الإسلام فهذا نظير الآية يعني الحديث نظير الآية إضافة إلى أن الذكر الذي يكون بالغدو، والآصال في الصلاة، وخارجها يكون باللسان مع القلب، يعني مع مواطأة القلب.

ثم ذكر شيخ الإسلام - رحمه الله - أن الذكر قد يكون بالقلب لكن لا يكون كاملاً[94] أكمل ما يكون من الذكر هو ما حصل به مواطأة القلب، واللسان هذا أكمل ما يكون، والذكر باللسان من غير مواطأة القلب كأن يكون يعني بحال من الشرود، أو نحو ذلك هذا ذكر، لكنه دون الأول.

فعلى الأول يكون قوله: ودون الجهر من القول عطف متغاير أي حالة أخرى، وعلى الثاني يكون بيانا، وتفسيرا للأول.

قوله تعالى: بِالْغُدُوِّ والْآصَالِ [الأعراف: 205] أي: في الصباح، والعشي، والآصال جمع أصل، والأصل جمع أصيل، قيل: المراد صلاة الصبح، والعصر، وقيل: فرض الخمس، والأظهر الإطلاق.

الغدو ما بين صلاة الصبح إلى طلوع الشمس، هذا معنى مشهور، ثم استعمل في الذهاب، والانطلاق في أي وقت غدو يقال: غدا الأصل أنه ذهب في أول النهار.

وبعضهم: فسر الغدو بما هو أوسع من هذا، يعني أول النهار مطلقًا لا يقيد بطلوع الشمس، ويقال: غدا للذهاب، ولو كان في أي: وقت كان الغدو، وكذلك الرواح الأصل أنه لا يكون إلا بعد الزوال لكن صار يستعمل بإطلاق أوسع الذهاب، والانطلاق عموما، ولو كان قبله قبل الزوال، ولهذا في حديث الجمعة من راح[95] الرواح لا يكون إلا بعد الزوال لهذا جاء عن الإمام مالك - رحمه الله -[96] أنه اختار أن الساعة الأولى تبدأ بعد الزوال، وأن التبكير إلى الجمعة يكون من أول الزوال، وهذا خلاف قول الجمهور، لكنه أخذ ذلك من راح في الساعة الأولى فالرواح يكون بعد الزوال بهذا الاعتبار، لكن إذا عرفت هذا المعنى أن الرواح يتوسع فيه فيقال: للذهاب مطلقًا، ولو كان قبل الزوال، وكذلك الغدو انحل الإشكال.

فهذا الذكر في الغدو، والآصال يعني في أول النهار، وفي آخر النهار، ويدخل فيه الأذكار المشروعة في أول النهار، وآخر النهار بلا شك، ويدخل فيه الصلوات الواقعة في هذه الأوقات صلاة الصبح، والعصر؛ لأن الأصيل يكون بعد العصر يعني بعد دخول وقت العصر، وقد يطلق على معنى أخص، يعني بعد اصفرار الشمس.

قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ [الأعراف: 206] هم الملائكة - عليهم السلام - وفي ذكرهم تحريض للمؤمنين، وتعريض للكفار وَلَهُ يَسْجُدُونَ قدم المجرور لمعنى الحصر، أي: لا يسجدون إلا لله وحده. 
  1. تفسير الطبري (10/601).
  2.  أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود: 102] برقم (4686)، ومسلم، كتاب البر، والصلة، والآداب، باب تحريم الظلم، برقم (2583).
  3.  تفسير الزمخشري (الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل) (2/182).
  4.  البحر المحيط في التفسير (5/235).
  5.  تفسير الطبري (23/614).
  6.  تفسير ابن كثير (8/301).
  7.  أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (8/404).
  8.  تفسير السعدي (ص: 906).
  9.  تفسير ابن كثير (3/518). 
  10.  العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير (4/376).
  11.  أخرجه النسائي في السنن الكبرى، برقم (11581)، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد، ومنبع الفوائد (7/133)، برقم (11466)، وقال: "رواه الطبراني، وفيه من لم أعرفه".
  12.  تفسير الطبري (10/607).
  13.  تفسير ابن كثير (3/518). 
  14.  تفسير ابن كثير (3/518). 
  15.  العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير (4/379). 
  16.  التحرير، والتنوير (9/201). 
  17.  تفسير ابن كثير (3/519).
  18.  تفسير الطبري (10/609). 
  19.  تفسير ابن كثير (5/278). 
  20. مجموع الفتاوى (4/341). 
  21.  تفسير السعدي (ص: 311). 
  22.  تفسير ابن كثير (3/519). 
  23.  تفسير القرطبي (7/336).
  24.  تفسير الطبري (10/613)، وتفسير ابن كثير (3/520). 
  25.  العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير (4/385). 
  26.  انظر: تفسير الطبري (10/616)، وتفسير ابن كثير (3/524). 
  27.  انظر: التفسير الوسيط للواحدي (2/434). 
  28.  العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير (4/386). 
  29.  التحرير، والتنوير (9/209). 
  30.  تفسير ابن كثير (3/525). 
  31.  المصدر السابق. 
  32.  انظر: تفسير الطبري (10/618)، وتفسير ابن كثير (3/525). 
  33.  تفسير الطبري (10/618). 
  34.  تفسير ابن كثير (3/525). 
  35.  المصدر السابق. 
  36.  تفسير السعدي (ص: 312). 
  37.  العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير (4/414).
  38.  تفسير الطبري (10/622). 
  39.  انظر: تفسير الطبري (10/623 - 627)، وتفسير ابن كثير (3/528). 
  40.  تفسير الطبري (10/629 - 630). 
  41. التفسير الوسيط للواحدي (2/435)، والوجيز للواحدي (ص: 426). 
  42.  تفسير السمعاني (2/239). 
  43.  زاد المسير في علم التفسير (2/178). 
  44.  تفسير ابن كثير (3/528). 
  45.  أخرجه أبو داود، كتاب العلم، باب رواية حديث أهل الكتاب، برقم (3644)، وأحمد في المسند، برقم (17225)، وقال محققوه: "إسناده حسن" والسيوطي في الدر المنثور في التفسير بالمأثور (6/469)، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع، برقم (5052).
  46.  انظر: تفسير الرازي (مفاتيح الغيب، أو التفسير الكبير) (15/427). 
  47.  انظر: تفسير الطبري (10/629)، وتفسير ابن كثير (3/526). 
  48.  تفسير الزمخشري (2/188). 
  49.  تفسير القرطبي (7/341). 
  50.  روضة المحبين، ونزهة المشتاقين (ص: 289). 
  51.  تفسير ابن كثير (3/529). 
  52.  تفسير الرازي (15/427). 
  53.  أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (2/47). 
  54.  تفسير السعدي (ص: 312). 
  55.  تفسير الطبري (10/629)، وتفسير ابن كثير (3/526). 
  56.  تفسير الطبري (10/629)، وتفسير ابن كثير (3/526). 
  57.  تفسير الطبري (10/629). 
  58. تفسير ابن كثير (3/527). 
  59.  أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، برقم (6133)، ومسلم، كتاب الزهد، والرقائق، باب لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، برقم (2998). 
  60.  تفسير الطبري (10/630). 
  61.  انظر: تفسير القرطبي (2/254). 
  62. تفسير الطبري (10/639). 
  63.  أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب خُذِ العَفْوَ وأْمُرْ بِالعُرْفِ وأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ [الأعراف: 199] برقم (4644). 
  64.  انظر: تفسير ابن كثير (3/531). 
  65.  الدر المنثور في التفسير بالمأثور (3/628). 
  66.  المصدر السابق. 
  67.  تفسير ابن عطية = (المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز) (2/491). 
  68. أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس، وجنوده، برقم (3282)، وبرقم (6115)، في كتاب الأدب، باب الحذر من الغضب، ومسلم، كتاب البر، والصلة، والآداب، باب فضل من يملك نفسه عند الغضب، وبأي شيء يذهب الغضب، برقم (2610). 
  69.  أخرجه الترمذي، أبواب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ باب، ومن سورة البقرة، برقم (2988)، وقال: "هذا حديث حسن غريب" والنسائي في السنن الكبرى، برقم (10985)، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع، برقم (1963). 
  70.  تفسير الطبري (10/646). 
  71.  انظر: مجموع الفتاوى (17/522). 
  72.  انظر: تفسير ابن كثير (3/535). 
  73.  انظر: تفسير الرازي (مفاتيح الغيب، أو التفسير الكبير) (15/438). 
  74.  العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير (4/447). 
  75.  تفسير الطبري (10/650 - 651). 
  76.  تفسير السعدي (ص: 313). 
  77.  تفسير الطبري (10/651)، وتفسير ابن كثير (3/535). 
  78.  تفسير الطبري (10/655)، وتفسير ابن كثير (3/535). 
  79.  المصدر السابق. 
  80.  تفسير ابن كثير (3/535). 
  81.  المصدر السابق. 
  82.  انظر: تفسير ابن كثير (3/535). 
  83.  تفسير ابن كثير (4/253).
  84.  انظر: تفسير ابن كثير (3/537). 
  85.  تفسير الطبري (10/667).
  86.  مجموع الفتاوى (23/269). 
  87.  تفسير السعدي (ص: 314). 
  88.  البحر المحيط في التفسير (5/262 - 263).
  89.  العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير (4/461). 
  90.  انظر: مجموع الفتاوى (7/135 - 136).
  91.  التحرير، والتنوير (9/241). 
  92.  تفسير ابن عطية = (المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز) (2/494). 
  93.  أخرجه أحمد في المسند، برقم (8650)، وقال محققوه: "حديث صحيح". 
  94.  انظر: مجموع الفتاوى (10/566)، ومختصر الفتاوى المصرية (ص: 43). 
  95.  أخرجه البخاري، كتاب الجمعة، باب فضل الجمعة، برقم (881)، ومسلم، كتاب الجمعة، باب الطيب، والسواك يوم الجمعة، برقم (850). 
  96.  انظر: التمهيد لما في الموطأ من المعاني، والأسانيد (22/22). 

مواد ذات صلة