الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
أسأل الله -تبارك وتعالى- أن يبارك لنا ولكم فيما نسمع، وأن يجعلنا وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، لمّا أمر الله -تبارك وتعالى- بالإحسان إلى الوالدين، وأكّد على حالة الضعف -حالة الكِبر- ونهى عن التأفيف، وعن زجرهما ونهرهما، وأمر أن يقال لهما القول الكريم.
ذكر بعد ذلك ما يتعلق بالمعاشرة فقال: وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ [سورة الإسراء:24]، اخفض لهما جناح الذل، بمعنى: اخفض لهما جناحك الذليل، وجناح الإنسان يقال ليده، فإن الإنسان إذا أراد أن يبطش رفع يده، ويقال ذلك بمعنى لين الجانب والتواضع. الطائر إذا أراد أن يضرب ضرب بجناحه، رفع جناحه وضرب به، وإذا جاء عند صغاره فإنه يخفض جناحه ويرفرف على هؤلاء الصغار، فخفض الجناح يعني التواضع واللين في التعامل والمخالطة والمعاشرة.
اخفض لهما جناح الذل، بمعنى: اخفض لهما جناحك الذليل، وجناح الإنسان يقال ليده، فإن الإنسان إذا أراد أن يبطش رفع يده، ويقال ذلك بمعنى لين الجانب والتواضع، الطائر إذا أراد أن يضرب ضرب بجناحه، رفع جناحه وضرب به، وإذا جاء عند صغاره فإنه يخفض جناحه ويرفرف على هؤلاء الصغار، فخفض الجناح يعني التواضع واللين في التعامل والمخالطة والمعاشرة.
وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ، قراءة الجمهور هكذا: جَنَاحَ الذُّلِّ من ذل ذُلًّا الذِلة، تقول: فلان ذالٌّ وذليلٌ، فالذُّل هو اللين، وفي قراءة عاصم في رواية: واخفض لهما جناح الذِّل بالكسر، من قولهم: دابة ذَلول، يعني: سهلة منقادة لا تستعصي على قائدها وصاحبها.
فهنا اخفض لهما جناحك الذليل، تواضع وليكن جانبك ليناً مع أبويك، هذا الخفض، هذا التعامل اللين، هذا التواضع للأبوين ينبغي أن يكون صادراً من الرحمة، تكون "مِن" هذه ابتدائية، ويحتمل أن تكون لبيان الجنس، يعني: أن الذل يكون ناشئاً عن الرحمة لا عن أمر آخر، أمر آخر مثل ماذا؟ قد يتواضع هذا الولد ويتذلل خوفاً من الوالد أو الوالدة، وقد يكون هذا الأب قاسياً شديداً بتعامله مع الأولاد فيتعاملون معه بشيء من التذلل خوفاً، وقد يكون هذا التصرف صادراً عن الولد بسبب الرياء.
وتجد أحياناً بعض الأولاد إذا كان في المجلس أمام الآخرين يتعامل مع أبيه بتذلل ولين ولطف وفي غاية التواضع، ولكن تعامله معه إذا غاب عن هؤلاء وعن أنظارهم في غاية الصَّلف والشدة والتعنيف، فهذا قد يفعله رياءً أمام الآخرين، يقال: فلان ما شاء الله بار، فلان حفي بأبويه، وقد يفعل ذلك لمصلحة، فهذا الولد أحياناً قد يريد من أبيه أن يحقق له رغبة من زواج أو سيارة يشتريها أو غير ذلك، قد يكون هذا الولد يطلب من أبيه أن يشتري له جهازاً، فيتعامل في غاية التلطف والتذلل، قبل أن يحصل على هذه السيارة: ماذا تريدون؟ فإذا حصل له هذا بعد ذلك لربما لا يحتمل ولا يطيق أبداً أن يُطلب منه أدنى الأشياء.
فالمقصود أن هذا التذلل، هذا التواضع ينبغي أن يكون صادراً من الرحمة، لا خوفاً، ولا رياءً، ولا لمصلحة، ومن هنا يقول عروة بن الزبير -رحمه الله-: "ما بر والده من شد الطرْف إليه"[1]، فالذي يشد الطرف إليه يُعد عند عروة من قبيل الخروج عن البر، فكيف لو أنه تعامل معه بشيء من الاستعلاء والاستنكاف والاستكبار، أو الإشاحة، كالذي لا يعتد بهما، لا يعتد برأيهما، والذي لربما يستحي أن يرى الناس أباه لشيخوخته، لضعفه، لمهنته، لهيئته، ولربما لو سُئل من هذا الذي كان معك؟ لربما أجاب بإجابة مموهة، أو لربما أنكر أن يكون أباً له، ويقول: هذا واحد من الجيران، واحد عندنا في الحي، واحد أعرفه، لقيته في المسجد.
هذا الذي يستنكف من أن ينتسب إلى أبيه أين هو من التذلل والرحمة؟ فهذا في غاية العقوق، تسفيه رأي الأب أو الأم، قد يقول الولد بالصوت العالي لأبيه أو لأمه حينما يأمرانه بشيء: فما يدريك؟ وما أعلمك بهذا؟ وما شأنك؟ وهذا الأب يقترح عليه مثلاً أن يدرس في تخصص معين أو نحو ذلك، قد يكون الأب لا يُحسن هذا لكن يمكن أن توصل هذه المعلومة بطريقة لا تجرح مشاعر هذا الوالد، ممكن أن يتكلم معه مَن يقبل منه، يقول: هذا التخصص مثلاً غير مناسب، هذا غير مناسب لهذا الولد، أو نحو ذلك، لكن أن يكون الرد بهذه الطريقة وبهذا الصَّلف: أنت ما أدراك؟ هذا غير لائق، هذا من العقوق.
وهكذا أيضاً ذاك الذي يذم أباه، أو التي تذم أمها عند الناس، أو إثارة المشكلات أمام الوالدين، مشكلات مع إخوانه، جدل عقيم، إزعاج للأبوين بكثرة الخصومات بين الأولاد، هذا خلاف البر، هذا من العقوق، العقوق أنواع وصور ودرجات لا يتفطن لها الكثيرون.
وليس ذلك فحسب بل لابد من الدعاء لهما، وانظر إلى صيغة هذا الدعاء، وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا، هو يفعل جميع أنواع البر القولي والفعلي والشعوري، ومع ذلك يُتبعه بالدعاء؛ لأنه لا يدرك ولا يستطيع أن يوفي، وإنما يسأل ربه -تبارك وتعالى- لهذين الوالدين أن يرحمهما، وهذا يدل على تجذر البر في نفس الولد، يعني: قد يقول: إن هذه الأشياء التي أعملها هي واجبات أؤديها، أتعامل معه بإحسان وبلطف وأذهب به وأجيء وأعالجه ونحو ذلك وأتحمل، وليس لي فضل، نقول: لا يكفي، بل لابد من الدعاء، فهذا الذي يدعو يدل فعله هذا على أن البر عميق في نفسه، وأن نفسه رضية بهذا الفعل، بهذا البر الذي يزاوله مع أبويه.
وانظر إلى صيغة هذا الدعاء أيضاً ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا، لاحظ التذكير بهذا المعنى، خص التربية بالذكر؛ ليتذكر العبد شفقة الأبوين، ليتذكر تعب الوالدين في التربية، كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا، الكاف هذه يمكن أن تكون للتعليل، ارحمهما رحمة تكافئ ما ربياني صغيرًا، أي: لأجل أنهما ربياني في حال الصغر، وتحتمل أن تكون هذه الكاف لتأكيد الوجود، كأنه يقول: ربي ارحمهما رحمة محققة لا ريب فيها، يعني: كتحقق تربيتهما لي في حال الصغر، كقوله تعالى: مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ [سورة الذاريات:23]، ارحمهما رحمة ثابتة محققة، كما أن تربيتهما لي في حال الصغر كانت ثابتة محققة، فهنا حينما يدعو هو يتذكر سوالف الإفضال من الأبوين والتربية والإحسان.
وهذه التربية من الأبوين تشمل أنواع التربية، ربياه في حال الصغر بإطعامه، بسقيه، بما يحتاج إليه في شئونه كلها، بتعليمه، من الذي علمه وعرفه بربه -تبارك وتعالى؟ وعلمه كيف يصلي؟ وماذا يقرأ؟ وكيف يذكر ربه؟ فأبواه يهودانه أو يُنصرانه أو يُمجسانه[2]، فأول بيئةٍ يحتك بها هي بيئة الأبوين، فإذا بقي على فطرته، وفي بيئةٍ نظيفة من أبوين مسلمين فإن هذه الفطرة تزكو فيصادف ذلك ما يتلقفه من الأبوين مما يؤكدها وينميها، فيكون ذلك بمنزلة نور العين مع ضوء الشمس، فيتحقق الإبصار الكامل التام، فيتخرج هذا الولد مسلماً عبداً لربه وخالقه .
وهذه الآية: رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا، هذا الجزء مقيد بقوله: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى [سورة التوبة:113]، فيكون ذلك يُستثنى منه هذا الجزء فقط يُستثنى الوالد إذا كان على غير دين الإسلام.
ثم قال الله بعد هذا: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا [سورة الإسراء:25]، ما معنى هذه الآية؟ هذه الآية تتعلق بما سبق، تتعلق ببر الوالدين، يعني: بعض أهل العلم يقول: المعنى رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ، مما تقصدون من البر وتنعقد عليه قلوبكم، ما تقصدون من الإحسان إلى الوالدين والحنو عليهما أو غير ذلك من العقوق، الله يعلم ما في نفسك، يعلم المشاعر الداخلية التي تدور في النفس تجاه هذين الأبوين، بعض الأولاد لربما تكون في نفسه مشاعر سلبية، لربما يستثقل وجود هذا الوالد أو الوالدة -نسأل الله العافية-، الله يعلم ما في النفس.
إذن لابد أن تكون النفس نظيفة فأنت تتعامل مع الله، وهل يكون من كان بهذه المثابة بارًّا؟! مشاعره سيئة تجاه أبيه أو تجاه أمه، لربما كان يتمنى لو أن هذا الوالد أو الوالدة فارقا هذه الحياة، قد لا يبدي هذا فالله أعلم بما في نفسه، فإذن ينبغي أن يكون الشعور وما في داخل النفوس في غاية النقاء تجاه الوالدين، ويحتمل أن يكون ذلك، وهذا كله لا إشكال.
ويمكن أن يجتمع تحت معنى الآية، أن يكون ذلك من جهة المقاصد، أن هذا الذي تفعله هل تريد به ما عند الله، هل أنت صادق بهذا البر أو أنه رياء أو مصلحة أو خوف أو نحو ذلك؟رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ، والله أعلم بما يعتلج في داخل النفس.
وكذلك أيضاً من المعاني الداخلة تحته -والله تعالى أعلم-، رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ، يعني: حينما يريد البر ولكنه لا يوفق إليه فتبدر منه البادرة ونيته طيبة، يعني: كما قال الشافعي -رحمه الله-:
رام نفعاً فضرَّ من غير قصد | ومن البر ما يكون عقوقا[3] |
الولد أحياناً تكون نيته سليمة، لكن العبارة غير موفقة، قصد بها معنى طيباً، ولكن الوالد حملها على محمل آخر، أو لأنها تحتمل فهم منها شيئاً آخر، رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ، فتكون غير مؤاخذ، أولاد يجتمعون ويتفقون على أن يفاجئوا هذا الوالد في يوم العيد بهدية سيارة، لكن يفاجئون أن هذا الوالد قرأ اللوحة التي لم يتفطنوا لحروفها وإذا هي تحمل معنى غير جيد، فلربما جزع هذا الوالد، أو سخط، أو رفض هذه الهدية، أو نحو ذلك، فهذا الولد غير مؤاخذ، قد يذهب به إلى طبيب ثم بعد ذلك يتسبب هذا الذهاب عن آثار سلبية تحصل لهذا الوالد، فيلوم هذا الولد، ويُحمِّله التبعة، فهذا ينبغي أن لا يلام عليه هذا الولد، وهو غير مؤاخذ شرعاً، كلمات ربما يشتط الولد حينما يعبر بها من مشاعر جياشة تجاه الوالد، لكن العبارات تنفلت فتكون بعض هذه العبارات غير موزونة، أخطأ من شدة الفرح، فيغضب هذا الوالد، والولد لم يقصد الإساءة.
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا، رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [سورة البقرة:286]، في الحديث القدسي: قال الله: قد فعلت[4] الخطأ مرفوع عن هذه الأمة، غفر الله لها خطأها.
قد يكون هذا الولد لربما يضغط على هذا الوالد في تناول دواء، أو في أكلٍ أو شربٍ أو نحو ذلك شفقة، فيصير إلى حالٍ من الإضجار، فيتضايق الأب أو الأم، فهنا الولد قصد النفع والإحسان، وبأحسن عبارة، وألطف أسلوب، لكن هذا أضجر الوالد، فهل هو مؤاخذ؟ مع أننا نقول: ينبغي أن لا يُفضي ذلك إلى حد الإضجار، فضلاً عن أن يعبر بعبارات غير لائق.
أحياناً يشتط هذا الولد وينفعل ويقول لأبيه عبارة قاسية، حينما يرفض هذا الأب الذهاب إلى الطبيب وحاله تستدعي هذا، أو أنه يرفض تناول هذا الدواء ويقول: أنا لا أحتاج إليه، أو أنا أعرف بنفسي، أو أن هذا يؤذيني، يضرني، يتعبني، خلاص حاول أن تقنعه، حاول أن تتلطف به، لكن ليس لك أن تصير معه إلى حالٍ تفضي إلى هذا الإضجار، هنا يمكن أن يقال: من الناس من يجتهد في البر لكن الأب يعد ذلك من قبيل الإساءة، فهنا لا يؤاخذ الولد، لكن ينبغي عليه أن يتنبه ولا يتمادى، لا يتمادى.
وهكذا المزاح أحياناً يريد أن يُدخل السرور، لكن يكون هذا المزاح بصورةٍ فيها لربما جرأة على الوالد أو الوالدة، وهو يقصد الإحسان وإضحاك هذا الأب أو هذه الأم، فالأب أو الأم يعد ذلك نوعاً من التجنِّي على كرامته، والجرأة على هيبته ومنزلته ومرتبته وأبوته فيغضب ويضجر، ولربما حمل في نفسه على هذا الولد، وهذا الولد إنما قصد الإحسان ويظن أنه يفعل هذا تحبيباً لنفس والده، ربما يناديه باسمه، ويمزح معه أو يُصغر اسمه، هذا لا يليق، لكن هذا اجتهاد هذا الولد، وهذا عقله، وهذا منتهى ما عنده من المدارك يظن أنه يُسعد الوالد بهذا.
والآخر لربما كان مفتول العضلات فيحمل أمه ويدور بها ويصعد بها وينزل، وهي تولول وتستغيث من غير جدوى، ويقول: أنا أغير الجو في البيت، وأُدخل عليها السرور، وهي تشعر أنك جرحت كرامتها, وأهنتها وآذيتها، مثل هذا وغير ذلك من التصرفات والكلمات التي قد تُقال بقصد الإحسان، ولكن الإنسان قد لا يوفق فيها، أو لا تقابل محلا قابلاً في نفس الأب أو الأم.
إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا [سورة الإسراء:25]، للأوابين، يعني: للتائبين، للرجّاعين إلى الله ، هذا هو أشهر المعاني التي قيلت في تفسيره، وهو اختيار كبير المفسرين أبو جعفر بن جرير -رحمه الله-، فالإنسان إذا حصل منه الخطأ، حصل منه التقصير رجع مباشرة وتاب واستغفر وأناب، لا يستمر على العقوق على الخطأ، على الجناية، على التقصير.
ولما فرغ من الكلام على الأبوين، على الوالدين وأمر بالبر لهما، انتقل إلى الدائرة التي بعدهما، أحق الناس بعد الوالدين من هم؟ القرابات، وهذه القرابات إنما حصلت، وهذه الوشائج إنما وجدت من طريق الأبوين، كيف تكون له قرابة؟ فهذا أخوه، وهذا عمه، وهذا خاله، كل ذلك، وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ [سورة الإسراء:26]، حقه: مَن هؤلاء القرابة؟ هم قرابتك من قِبل أبيك وأمك أمر الله بصلتهما، فما هو الحق؟
الصلة، أن تصل ذا القرابة، وتُحسن إليهم، خلافاً لمن قال بأن المراد بذلك قرابة النبي ﷺ فيعطون سهمهم من بيت المال، فيكون الخطاب للولاة، هذا قول ضعيف؛ لأن الله ذكر حقه ثم حق الوالدين ثم ذكر القرابات، قرابات الإنسان صلة القرابة، فهنا هذا التشريع بصلة القرابات فيه شد الآصرة بين القرابات، ومن ثَمّ المجتمع، فيكون المجتمع مترابطاً متماسكاً غير متفكك، لكن تصور لو كانت القطيعة هي سِيما ذلك المجتمع، فالأخ يقاطع آخاه، والعم يقاطع أبناء أخيه، والخال يقاطع أبناء أخته، والوالد يقطع ولده، هذا مجتمع مفكك.
الذي لا خير فيه لأهله الأدنَيْن لا خير فيه للأبعدِين، ولا تثق بحال من الأحوال بابتسامة رجل أو ابتسامة امرأة مع النساء إذا كانت تتعامل مع أبويها تعاملاً جافّاً سيئاً، أو تقطع القرابات، أقرب الناس يُساء إليهم ويُقطعون إذاً كيف نثق بالإحسان والصلة للأبعدين؟!وللأسف نرى من هذا أشياء وأشياء.
وهؤلاء القرابات هم على مراتب، هناك دائرة أولى، الأصول والفروع، الإخوة والأخوات، هؤلاء الحواشي، دائرة بعدها الأعمام والأخوال، دائرة بعدها أبناء الأعمام وأبناء الأخوال، كلما كانت القرابة أقرب كانت الصلة آكد، وهذه القضية تختلف بحسب أعراف الناس ومعهودهم في زمانهم، والبلد التي يعيشون فيها، قد تكون البلد مترامية الأطراف فليست كالقرية الصغيرة التي يرى الناس بعضهم فيها صباح مساء، وهكذا أنواع الصلة والبر تختلف من عصرٍ إلى عصر.
وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ، إذن هذه الصلة للقرابات ليست بتفضل من عند أنفسنا، ليست بتبرع نبديه لهؤلاء الناس متفضلين عليهم به، لا، هي حق ثابت، هذه الصلة قد تتحقق بالاتصال، قد تتحقق بالزيارة، هذه الصلة قد تتحقق بالصلة المالية إن كانوا يحتاجون، بالوقوف معهم في المُلمات، بأنواع الإحسان إليهم، واليوم قد تهيأ من الأسباب ما لم يكن قبل هذا العصر، تستطيع أنت جعل أرقام هؤلاء القرابات في مجموعة عبر هذه الوسائل والوسائط الحديثة في الواتس آب مثلاً، وتبقى على تواصل معهم، تطمئن على أحوالهم، تدعوهم إلى الله، تعلمهم ما ينفعهم، هذه صلة، فتعرف أحوالهم وأخبارهم أولاً بأول، وقل مثل ذلك في وسائل أخرى لا تخفى على أمثالكم.
النبي ﷺأخبرنا عن قول الرحم: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال الله: أما ترضين أن أصل من وصلك وأن أقطع من قطعك؟[5]أخبرنا أنه لا يدخل الجنة قاطع، إذن: قطيعة الرحم من الكبائر، وهي من موانع دخول الجنة، وهي من أسباب قطيعة الله للعبد، فإذا حصلت هذه القطيعة من الرب للعبد ماذا سيجني؟ وماذا ينتظر من التوفيق؟
قطيعة الرحم من الكبائر، وهي من موانع دخول الجنة، وهي من أسباب قطيعة الله للعبد، فإذا حصلت هذه القطيعة من الرب للعبد ماذا سيجني، وماذا ينتظر من التوفيق؟ ومن ثَمّ يعرف الإنسان كيف يتعثر في هذه الحياة، كيف يحصل له الأذى؟ إنما ذلك بسبب جناياتنا وذنوبنا وتقصيرنا.
وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ، المسكين هو الفقير هنا الذي لا يجد كفايته، ما هو حقه؟ حقه الصدقة، وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ [سورة الفجر:18]، أهل النار مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ [سورة المدثر:42-44]، وجعل ذلك من اقتحام العقبة فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ [سورة البلد:11-16]، هؤلاء الذين لا يجدون حاجتهم يُعطَون ما يكفيهم وهو حق لهم.
وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ، فيوصل إليه حقه، ومن حقه الزكاة، وهذا التشريع يحصل به انتظام المجتمع، فلا يكون من بين أفراده من هو في بؤسٍ وتشردٍ وضياعٍ وتشحطٍ وفقر، هذا لا يجد ما يأكل، لا يجد ما فيه بُلغة، وهؤلاء تقتلهم التُّخمة
فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ، ومن أعظم صور المتربة اليوم والمسغبة ما نشاهده مما يقع لإخواننا في بلاد الشام، تصوروا نحن حينما نخرج للتنزه نبيت ليلة في خارج المدينة ومعنا كل ما يمكن من الاحتياطات حتى المدفأة والسخانات، وننظر إلى أولادنا وقد تغيرت ملامحهم من شدة البرد، فنشفق عليهم غاية الشفقة، ونترقب الهواء والنسيم فإذا زاد بادرنا إلى الرجوع، وطوينا المتاع؛ لئلا يتضرر هؤلاء الأولاد، ننظر إليهم بوجل وإشفاق، ونحن ذهبنا إلى نزهةٍ في مكانٍ آمنٍ وعندنا كل ما نحتاج إليه وأضعاف ما نحتاج إليه من الفُرش والطعام ووسائل الترفيه وما إلى ذلك في أمنٍ ودعة، والناس حولك يسرحون ويمرحون بأنواع من اللهو والمُتع ويتقلبون في اللذات، إخواننا هناك لا، لا يوجد شيء من هذا إطلاقاً، خوف، أسرة مكلومة، لا تخلو أسرة من جريح، من مريض، من فقيد، من قتيل، من أسير.
تصور لو أن الناس عندهم مريض ولا يستطيعون أن يعالجوه، عندهم جريح ينخر الدود في لحمه ويتعفن ويتسمم ويئنّ وهم يتفرجون عليه ما عندهم حتى مسكنات، كيف تكون حالهم؟
الصغير هذا لما يجوع ويصيح نبادر مباشرة إلى إشباعه بما يطلب، هناك يصيح حتى ينقطع صوته ولا يجد ما يسد جوعته، آلام، هنا نتذكر فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ، فهذا إن لم يكن في مثل هذا اليوم مما يعيشه إخواننا هناك فلا أدري متى هو، فلا أمن ولا طعام ولا لباس ولا فُرش، وأين؟ في الجليد، ثلج، حينما يكون الجو فيه شيء من الندى أو البرودة مع رطوبة يكون الفراش مبتلا بعض الشيء فإن الإنسان لا يستطيع أن ينام من شدة البرد وهو آمن، هناك لا يجد لا هذا ولا هذا، هل رأيتم الأطفال مُلقين مع الزبائل -أعزكم الله-؟، هل رأيتم طفلاً في يده مزبلة قد جمعها من هنا وهناك ثم سقط ميتاً؟
صور مؤلمة نشاهدها ونراها ولا تبرأ الذمة بهذه الحال، نسأل الله أن يلطف بهم وأن ينصرهم نصراً مؤزرًا، وأن يكبت عدوهم، وأن يداوي جرحاهم ويشفي مرضاهم، وأن يطعم جائعهم، ويغني فقيرهم، وأن يؤمِّن خائفهم، وأن يفك أسراهم، ويرحم موتاهم، وأن يلطف بهم.
هنا بعدما ذكر المسكين الذي يكون من جملة أفراد هذا المجتمع الذي تعيش فيه، ذكر الطارئين عليه: ابن السبيل، في هذه الشريعة لا يوجد أحد يُضيَّع، لكن لما أعرضنا وقصرنا ونسينا وغفلنا صارت شعوب بأكملها تُضيَّع، ابن السبيل هذا المسافر الذي حصل له تعثر في هذا السفر، انقطاع، ففقد نفقته، ذهبت نفقته، لم يعد بيده شيء، فهو في حال من الحرج، في غربة، مسافر ولا يجد بُلغة حتى يصل إلى أهله وبلده، فهنا له حق، ما هو حقه؟ الضيافة، حق ثابت ليس بفضل، الزكاة، يُعطَى من بيت المال، ولا يكون ذلك على سبيل القرض، بل على سبيل العطية والهبة ولو كان في بلده غنيًّا.
ابن السبيل هذا نُسب إلى السبيل وهي الطريق لمُلازمته لها، وإذا حصل مثل هذا فإنه يكتمل نظام المجتمع برعاية الوافدين عليه، برعاية من يحتف به من الطارئين على هذه البيئة أو هذه البلدة، أو هذه القرية أو هذا المجتمع، ما يضيع، يجد حقه محفوظاً ثابتاً على كرامة، يُعطَى ما يصلح لمثله شرعاً، إذا كان ممن لا يسافر إلا بالطائرة يُعطَى ما يكفيه، لا يسكن إلا في فنادق بمستوى معين يُعطَى ما يكفيه مما يصلح لمثله، لا يُذل ولا يُهان، هذا إنسان من عادته أنه ما يركب إلا بالدرجة الأولى وإلا ما يسافر، يُعطَى، ما يسكن إلا في فنادق خمس نجوم كما يقال يُسكَّن بلا مِنة، وهذا حقه، هذه حقوق ثابتة، رأيتم هذه الشريعة وعظمة هذه الشريعة، ما يضيع أحد، هذا يكفيه الوحشة التي يجدها بسبب الغربة.
لا تنهرن غريباً حال غربته |
الدهرُ ينهره بالذل والمحنِ |
فكيف إذا كان محتاجًا يذهب يتلفت فقد النفقة، ما يعرف أحدًا في هذا البلد، ما يُضيَّع، قد يحصل له مكروه، قد يحصل لهم حادث وهم في الطريق ويكونون في بلدة لا يعرفون فيها أحدًا، قد يكونون نساء مكلومات مات أبوهم، أُصيب، ما عندهم من يذهب بهم ويجيء حتى إلى المستشفى، أين يجلسون؟ قد يحتاجون إلى البقاء عدة أيام، هذا ابن السبيل، يُسكَّنون بما يليق بمثلهم ولا منة لأحد، هذا حقهم.
ثم بعدما أمر بأداء هذه الحقوق قال: وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا [سورة الإسراء:26]، التبذير التفريق للمال في السرف، كل إنفاق للمال في غير حقه قلَّ ذلك أو كثُر فهو تبذير، فيدخل في ذلك إنفاق المال -ولو قلّ- في الحرام، فهو تبذير ولو بريال واحد، ويدخل في ذلك أيضاً إنفاق المال على سبيل التضييع في غير ما حاجة ولو قلَّ، يدخل في ذلك المبالغة فوق الحاجة، يدخل في ذلك سوء التصرف بالمال والتدبير له، ومن ثَمّ فإن هذا يتفاوت، فقد يكون هذا التصرف من قِبل زيد ليس بتبذير، ومن قِبل عمرو يُعد من التبذير.
هذا إنسان دخله لا يتجاوز الألفين ويشتري محمولاً بألفين وخمسمائة، هذا يُعد من التبذير وسوء التدبير وسوء التصرف في المال، هذا إنسان دخله لا يتجاوز ثلاثة آلاف ريال ويتابع أحدث الأجهزة الإلكترونية ويشتريها بأغلى الأثمان، وتركبه الديون، مُحمَّل بالديون، هذا مُبذر لا يُحسن التصرف بالمال.
هؤلاء دخلهم لا يتجاوز أربعة آلاف ريال والمرأة تفصل الثوب الواحد بنحو ثلاثة آلاف وتشتري للأطفال الماركات العالمية كما يقال، وألبسة ترهق كواهلهم بالديون، وحياتهم مليئة بالديون، يغرقون في الديون لو بقوا العمر كله ما أمكن قضاؤها، فمثل هذا من التضييع، فهذا الجهاز قد يشتريه إنسان ولا يكون مُبذراً بشرائه، ويشتريه آخر ويكون مُبذراً بهذا الشراء، إذاً: هذه قضية نسبية، إلا في الحرام فإن هذا يكون تبذيراً، وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا.
لما ذكر الله أداء هذه الحقوق وعقبه بقوله: وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا، فهنا هل يقال بأن النفقة في سُبل المعروف يدخلها التبذير؟ النفقة في سبيل الله هل يدخلها التبذير أو لا؟ بعض العلماء يقول: نعم، لا ينفق الإنسان جميع ماله، والأقرب أن ذلك لا يدخله التبذير، ولكن لا يقتضي ذلك أن يُطالَب العبد بإنفاق جميع ما يملك، اللهم إلا أن يكون على مرتبة من الثقة بالله والتوكل عليه.
أبو بكر جاء بجميع ماله، عمر جاء بشطر ماله، بينما قال النبي ﷺ: الثلث، والثلث كثير، في الوصية، وأخبر: إنك إن تدع أولادك أغنياء خير من أن تدعهم فقراء يتكففون الناس[6].
إذن هذا يتفاوت، فمن ضعُف يقينه وتوكله على الله فإذا أنفق كل ما في يده صار يتطلع إلى الآخرين أن يعطوه، أن يمنحوه فهذا يقال له: لا تنفق كل ما تملك، وإذا كان يقينه بمنزلة أبي بكر أو عمر -ا- فلا بأس.
ثم إن الله -تبارك وتعالى- ذكر هذا الأمر وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا، لما ذكر البذل المحمود الذي يكون في سبيله الصحيح من الإحسان إلى الوالدين، إلى القرابات، المساكين، أبناء السبيل، ذكر ضد ذلك وهو بذل المال في غير وجهه، ثم علل هذا النهي وَلا تُبَذِّرْ، لماذا؟ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا [سورة الإسراء:27]، هذا ما سأبينه -إن شاء الله تعالى- في المجلس القادم.
وأسأل الله لي ولكم علماً نافعًا.
- انظر: تفسير سفيان الثوري (ص:171)، ومن قول عائشة -ا- كما في زاد المسير في علم التفسير (1/84).
- أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب إذا أسلم الصبي فمات هل يصلى عليه، وهل يعرض على الصبي الإسلام، برقم (1358)، ومسلم، كتاب القدر، باب معنى كل مولود يولد على الفطرة وحكم موت أطفال الكفار وأطفال المسلمين، برقم (2658).
- منسوب للإمام الشافعي كما في الوافي بالوفيات (2/ 126).
- أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان قوله تعالى: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ [سورة البقرة:284]، برقم (126).
- أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ [سورة محمد:22]، برقم (4830)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب صلة الرحم وتحريم قطيعتها، برقم (2554).
- أخرجه البخاري، كتاب الوصايا، باب أن يترك ورثته أغنياء خير من أن يتكففوا الناس، برقم (2742)، ومسلم، كتاب الوصية، باب الوصية بالثلث، برقم (1628).