الجمعة 27 / جمادى الأولى / 1446 - 29 / نوفمبر 2024
من قوله تعالى: تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت
تاريخ النشر: ١٤ / محرّم / ١٤٣٣
التحميل: 6029
مرات الإستماع: 8329

فهو من شدة الخوف لا يستطيع أن يلتفت؛ لأنه يخشى في هذه الالتفاتة أن يؤتى من الجهة الأخرى، فهو جامد في مكانه، والإنسان إذا كان في غاية الخوف ويترقب من أي جهة يؤتى فإنه يحرك العينين بطريقة بطيئة، والقرآن يصور بدقة حتى حركة العين للمنافق، تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ [سورة الأحزاب:19]، وهذا يدل على أن القضية كأنهم سُلبوا الأرواح، يعني: أن قواهم قد انتهت وخارت، في غاية الهوان والضعف، كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ، ينظرون إلى النبي ﷺ ماذا سيصدر منه؟ وكيف سيتصرف في هذا الموقف؟، وما هي القرارات التي ستصدر الآن؟ فلعله يسالم هؤلاء، ولعله يستسلم، ولعله يفعل شيئاً من شأنه أن يسكن هذه الحرب، وتنتهي، يَنظُرُونَ إِلَيْكَ [سورة محمد:20]، تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ تتقلب أعينهم من شدة الهلع، فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ، سلقوكم: السلق هو الصوت القوي والصياح، يرفع صوته ويخاصم، ولا يتكلم بهدوء فيسمع، يقول ابن عاشور: رفعوا أصواتهم بالملامة على التعرض لخطر العدو الشديد، وعدم الانصياع إلى إشارتهم على المسلمين بمسالمة المشركين، يعني: إذا بدأ الخوف بدءوا بالملامة والسلق، ألسنة حداد، أنتم الذين تسببتم بهذه الكارثة، أنتم اللذين فعلتم كذا، أنتم الذين تحرشتم بهذا العدو حتى جاء بساحتنا، أنتم الذين فعلتم وتركتم، بدأت الألسن الحداد، ويمكن أن يكون هذا المراد، فهم يسلقونهم، ولم يحدد الله سلقوهم في ماذا، سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ، إن طالبوا بالغنيمة سلقوكم بألسنة حداد، فهم يسلقونكم بالأذى في الكلام، وهذا من لازم ما سبق، يسلقونكم بالأذى، ويتكلمون بصوت مرتفع، وبقول يجرح، لا يراعون لأحد حرمة، ولا يتأدبون في خطاب إذا ذهب الخوف، سواء كانوا يطالبون بالغنيمة، أو يلومون المسلمين حيث يرون أنهم تسببوا لهم بهذه المعركة، كل ذلك واقع، وخلافاً لمن قال: سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ يعني: نفاقاً يعطونكم من الكلام المعسول؛ من أجل أن يمحوا الصورة السابقة ومواقف الرعب والهلع، والمواقف المشينة.

أفي السلم أعْياراً جفاءً وغلظةً وفي الحرب أمثالَ النساءِ العَواركِ.

ثم قال: أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ، يعني: خاصموكم ولاموكم، وسلقوكم بهذه الألسن الحداد في حال كونهم أشحة على ما فيه الخير للمسلمين، فخصامهم حينما يخاصمونكم ويعاتبونكم ليس من باب الشفقة عليكم؛ لئلا تتعرضوا للأخطار، وإنما هو نوع تنفيس من نفوسهم المليئة بالضغائن والأحقاد، فيصدر منهم هذا القول الذي يسلقونكم به، ويحتمل أن يكون المراد أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أي: المال، كما قال الله وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [سورة العاديات:8]، في غاية الحرص إن كان هناك غنيمة.

قال: أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا، فبين حقيقتهم، ثم رتب على هذا حكماً فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ بمعنى: أبطلها، فكل من لم يكن مؤمناً أو كان مؤمناً فحصل له نفاق أكبر فإن ذلك يكون سبباً لحبوط الأعمال، والله يقول: وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [سورة الأنعام:88]، وقال: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [سورة الزمر:65]، فالشرك محبط للأعمال، ثم قال: وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا [سورة الأحزاب:30]، هذا خبر من الله يراد به تحقيرهم، وهو أنه لما أخرجهم من حظيرة الإسلام فأحبط أعمالهم لم يعبأ بهم، ولا عد ذلك ثُلْمَة في جماعة المسلمين، فلا شأن لهم، كالأوباش، فئة تتربص بأهل الإيمان فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا، لا شأن لهم ولا قدر لهم، ولا منزلة لهم عند الله .

ثم ذكر صورة أخرى تبين الحالة التي يعيشها هؤلاء المنافقون من الخوف والهلع والرعب، كما جاء وصفهم في سورة "المنافقون" في قول الله -تبارك وتعالى: يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ [سورة المنافقون:4]، وهنا قال: يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا [سورة الأحزاب:20]، وقد يفهم من هذا أن الأحزاب ذهبوا على حين غفلة من المنافقين؛ لأن المنافقين انسحبوا من الصف، فهم في بيوتهم، فالأحزاب ذهبوا وولوا وجاءت الريح وزلزلت وشاهد ذلك أهل الإيمان، يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا، وهؤلاء لا زالوا على ظنهم أن الأحزاب مرابطون ومحاصرون للمدينة، فلا زالوا يتوهمون ويعتقدون هذا، وأن القضية لم تنته بعد وسيدخلون المدينة ويقتلون النبي ﷺ ومن معه، ولذلك سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍٍ حِدَادٍ، لا زالت الألسن على أشدها، يظنون الأحزاب لا زالوا، وسيدخلون المدينة ولن يكون هناك انتقام من هؤلاء المنافقين، فهم لا زالوا يلومون المسلمين أن تعرضوا لعدو كثير العدد، ويحتمل أن يكون هذا -ولعله أقرب- استئنافاً، فيه ذكر صفات أخرى لهؤلاء المنافقين، فهو يعدد أوصافهم، وعلى كل حال بعضهم يقول: إنهم كانوا يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا، ولذلك كانوا يعتزون على المسلمين ويتطاولون عليهم؛ لأن هؤلاء يعتزون بالأحزاب، وذلك أن الأحزاب حلفاء لقريظة، وكان المنافقون أخلاء لليهود، فهم منتفشون متطاولون من أجل أن هناك ذراعاً ستحميهم، وما علموا أن الأحزاب قد ذهبوا، فلا زالوا في غاية التوجس والخوف والهلع، ولا زالوا يظنون أن الأحزاب باقون في حصار المدينة.

ثم قال الله وَإِن يَأْتِ الْأَحْزَابُ يعني: في مرة أخرى في غزو آخر، يَوَدُّوا يعني: المنافقين يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ، يعني: لا تحصل لهم هذه الورطة ولا تتكرر داخل المدينة، فيتوجسوا أي لحظة أن يدخلها الأحزاب، وإنما يكونون بعيداً أَنَّهُم بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ، بادون أي في البادية: أنهم مقيمون في البادية، يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُم مَّا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا، يسألون عن أنبائكم من بعيد، ما فعل محمد وأصحابه؟، وهم في مأمن وفي منأى عن هذه الأخطار، هذه حال المنافقين، وختم الآية بقوله: وَلَوْ كَانُوا فِيكُم مَّا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا، كما ذكر الله حالهم الواقعة حينما جاء الأحزاب، هذه جملة من أحوال المنافقين يصفها الله بدقة حتى حركة العيون.

نسأل الله  أن يبارك لنا ولكم في القرآن العظيم، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وأن ينصر إخواننا المجاهدين في غزة، وأن يثبت أقدامهم وأن يربط على قلوبهم، وأن يجمع كلمتهم على الحق، وأن يتقبل قتلاهم، ويشفي مرضاهم ويداوي جرحاهم، وأن يغنيهم من فضله العظيم، ولا يحوجهم لأحد من خلقه، اللهم أغنهم عن خلقك أجمعين، اللهم عليك باليهود، اللهم شتت شملهم، وفرق جمعهم، واجعل الدائرة عليهم، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك، اللهم حول عافيتهم إلى بلاء، وقوتهم إلى ضعف، وجمعهم إلى شتات، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ۝ وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا ۝ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ۝ لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا [سورة الأحزاب:21-24].

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فالله -تبارك وتعالى- بعدما ذكر أحوال المنافقين ووبخهم وجه الخطاب إلى أهل الإيمان فقال: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا، يحتمل أن يكون هذا من قبيل الخبر، يخبر الله عن أصحاب رسول الله ﷺ الصادقين حيث كان لهم أسوة برسول الله ﷺ، ويحتمل أن يكون ذلك من باب الحث، يحثهم فيه -تبارك وتعالى- على الاقتداء برسولهم ﷺ، وهذه الآية كما قال الله في سورة المُقَشْقِشة المبعثرة الفاضحة سورة براءة التي فضحت المنافقين وبعثرت ما في نفوسهم وأحرجتهم وهتكتهم وفضحتهم، يقول الله -تبارك وتعالى- فيها عن المنافقين، وقد تحدث فيها طويلاً عنهم: رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ [سورة التوبة:87]، والقلب إذا طُبع عليه فهو يعيش في غيّه وضلاله وباطله لا يتجاوب مع ما تدعوه إليه، ولا يشعر بما تشعر به، وتوجه له الآيات والنصوص وكأنك تنفخ في رماد أو تصوت في وادٍ، فهو في عالمه لا يشعر بشعور أهل الإيمان، رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ ۝ لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ [سورة التوبة:87-88]، وهنا يقول: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ، الإسوة لغة وبها قرأ الجمهور، لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ إسْوَةٌ حَسَنَةٌ، وفي قراءتنا التي نقرأ بها وهي قراءة عاصم لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ، أُسوة، والأسوة اسم لما يؤتسى به، أي يقتدى به، ويعمل مثل عمله، تقول: فلان قدوة، يعني: أن الناس يقتدون به، ينظرون إليه في مقاله وفعاله، فيحتذون حذوه، وإنما تكون الأسوة والقدوة والاتباع بالكامل من الناس، والشخصيات الكاملة، الكاملة في إيمانها في شخصيتها في شجاعتها في صبرها، في ثباتها، في جهادها، في دعوتها، في إخلاصها لمبادئها، كل هذه الأمور، وهذا الذي يؤتسى به ويقتدى به، وينظر إلى فعاله، ويحتذى حذوه، هنا جعل متعلق الائتساء، لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ، فجعل ذات النبي ﷺ، ولم يذكر وصفاً خاصاً؛ وذلك من أجل تحقيق العموم فيؤتسى به ﷺ في كل شيء في أقواله، وأفعاله، وشجاعته، وصبره، وثباته، وشخصيته، وسمته، وهديه، وكل هذه الأمور، فهو الشخصية الكاملة، فمن أراد الكمال فليقرّب أكثر من رسول الله ﷺ، والشباب الذين يقتدون أحياناً بفلان وفلان من المهرجين، أو من شياطين الإنس والجن في مشرق الأرض أو في مغربها أخطئوا الطريق؛ لأن هؤلاء الذين يقتدى بهم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر، ولا يحملون قيماً، ولا كمالات، فلا يستحقون أن يكون الواحد منهم قدوة، فهو مجرد مهرج أو مغنٍّ أو راقص، والفتاة لربما تقتدي بعارضة أزياء أو ممثلة، أو مغنية أو غير ذلك، فتلبس لبسها، وتظهر بمظهرها، وتسرح شعرها على طريقتها، وما يزيدهم ذلك إلا نقصاً، وهم يتوهمون أنهم يحصّلون الكمالات، والاقتداء إنما يكون بالكامل من الناس، ورسول الله ﷺ أكمل شخصية، ولكن هذا الائتساء به  ﷺ منه ما يكون واجباً، ومنه ما يكون مستحباً، ومنه ما لا يطلب من المكلفين أن يحاكوه به؛ لأنه من الأمور التي يسميها الأصوليون بالعادية، يعني: أمور العادات المحضة، لكن من فعل ذلك فإنه يؤجر على قصد الاقتداء والائتساء والمحبة، مع ملاحظة أن لا يكون ذلك من قبيل مظاهر الشهرة إذا تغير الزمان، فلا يطلب من الإنسان الآن أن يلبس الإزار أو العمامة أو الخاتم على خلاف في بعض هذه الأمثلة، فهذه من أمور العادات، وهي من أفعاله ﷺ الجبلية، وابن عمر كان يقضي حاجته في المكان الذي قضى به النبي ﷺ حاجته في الطريق نفسه، فهذا اتباع دقيق، لكن الشارع لم يطلب ذلك، فمن فعله فإنه يؤجر على هذا، لكن ذلك لا يطلب، ولهذا لم يفعله عامة الصحابة ، وهناك أشياء عُلم أن النبي ﷺ كان يحبها، كالقميص من الثياب، والدباء من الطعام مثلاً ويتتبعه، وكان يحب ﷺ الحلوى -الحلو البارد، وكان يحب الطيب ﷺ، فمن أحب هذه الأشياء وتتبعها فهذا ليس كالأول، وأما الأمور التي فعلها ﷺ على سبيل القربة فهذا هو المشروع الذي طولب المكلفون به إما على سبيل الوجوب وإما على سبيل الاستحباب، وهذه خلاصة لتفاصيل طويلة في كلام أهل العلم من الأصوليين، فعلق الإئتساء بشخصه ﷺ ليكون عاماً، ولم يقل: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ في ثباته مثلاً، وإنما أطلق، فيشمل ذلك الائتساء بأقواله وأفعاله، بامتثال أوامره واجتناب ما ينهى عنه، والائتساء بشخصيته ﷺ وصبره وثباته وشجاعته وجوعه كما نقل ذلك عن بعض السلف، فكان ﷺ في غزوة الخندق يربط على بطنه الحجر، وحديث جابر لما رأى ذلك فرجع إلى امرأته وأخبرها أنه رأى أمراً لا صبر له عليه، من شدة الجوع كان يربط الحجر، ويحفر مع أصحابه الخندق، ويرابط معهم على الخندق، فهو ﷺ أسوة كاملة في هذا كله، وفي خوفه من الله، ورجائه وحسن ظنه بربه، وتوكله عليه، كل هذه الأمور، فالنبي ﷺ في يوم الأحزاب لم يهتز ولم يتضعضع، ولم يحصل له تردد، حاشاه من ذلك، بل كان في غاية الثقة والثبات بخلاف الذين اضطربت مواقفهم وزلت أقدامهم من المنافقين، وقد أعلنوها صريحة مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا [سورة الأحزاب:12]، لم يتمالكوا فظهرت مخبآت نفوسهم.

قال: وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [سورة الأحزاب:21]، وهذا فيه تعريض بالمنافقين، فالمنافقون كما قال الله وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً [سورة النساء:142]، أثقل شيء على المنافق أن يخرج ذكر الله من لسانه، بل إن أعداء الله من الكافرين والمنافقين يثقل عليهم جداً في ميدان المعركة أن يسمعوا ذكر الله والتكبير، هذا أشد عليهم من رمي القاذفات، التكبير، وقد سمعت من هذا أشياء واقعية يقولها بعض من تاب: كيف كان وقع التكبير عليهم، حتى إنهم يقولون: إنهم اصطفوا واجتمعوا من أجل أن يقابلوا التكبير بتكبير ليقووا قلوبهم وما استطاعوا، فكثرة ذكر الله : لم يرد في شيء من هذه المطالب الشرعية من العبادات والأوراد ما قيد بالكثرة إلا الذكر لاسيما في مواطن الشدة، ولما تكلم المنافقون مقفلَ رسول الله ﷺ بغزوة المصطلق -على خلاف- حينما اتهموا عائشة -ا، أنزل الله تلك الآيات في سورة الأحزاب، فحين تكلم المنافقون في عرض رسول الله ﷺ وقفل رسول الله ﷺ من غزوته حصل أنه واصل بهم السير على غير عادته -وكان رءوفاً رحيماً- من أجل أن يشغلهم، وفي سورة الأحزاب في قصة التبني كان النبي ﷺ يتخوف من ألسنة المنافقين، فسيتكلمون في عرضه ويقولون: تزوج امرأة ولده، وهو المتبنَّى يعني زيد بن حارثة، وكان يقال له: زيد بن محمد، فلما أبطل الله التبني أمر رسوله ﷺ أن يتزوج زينب بنت جحش -ا، وكان زيد بن حارثة يشكو للنبي ﷺ ما آل إليه الحال من سوء العشرة، ويريد أن يطلقها، وقد أوحى الله إلى نبيه ﷺ بذلك وأنها ستطلق منه، وأن النبي ﷺ سيتزوج منها، فكان يقول له: اتق الله وأمسك عليك زوجك[1]، قال الله تعالى: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ [سورة الأحزاب:37] يعني: بالعتق، أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ، وفي هذه الآيات في هذا السياق أمر الله بكثرة الذكر، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا ۝ وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [سورة الأحزاب:41-42]، ليشغلهم هذا الذكر عن الخوض وعن الاشتغال بما يشتغل به المنافقون، فالمقصود أن كثرة الذكر لاسيما في أوقات الشدة مطلب من المطالب الشرعية، وهو من أعظم أسباب الثبات، والشدة لا تقتصر على الحرب، بل أولائك الذين يعانون من الضيق ويجدون وحشة في صدورهم وألماً أقول: جرِّبوا هذا، أكثروا من ذكر الله على ألسنتكم، وليكن ذلك بصوت تسمعه أذنك فستجد للحياة طعماً آخر، سيتغير كل شيء، جرب هذا، أكثر من ذكر الله، واسأل نفسك كم مرة تذكر الله في اليوم والليلة، أحياناً تكون الإجابة محرجة، فينبغي على المؤمن أن يكثر من ذكر الله، فهنا الذين لهم في رسول الله ﷺ أسوة حسنة هم أولائك الذين يرجون الله ويرجون ثوابه، وَالْيَوْمَ الْآخِرَ، فيرجون جزاءه في الآخرة، يقتدون به لا يمكن أن يقتدوا بالشياطين فيقودوهم إلى النار، وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا هم أهل الذكر الكثير، وهذا الذكر لا يقتصر على ذكر اللسان بل يشمل ذكر اللسان باللهج بالتهليل والتكبير وغير ذلك من الأذكار وقراءة القرآن، ويشمل ذكر القلب، فيعمر هذا القلب بمحبة الله وخشيته والإنابة إليه، وتعظيمه والتوكل عليه، فيكون القلب ذاكراً شاكراً مقبلاً على الله معظماً له، فيتعاظم المعبود في قلبه فيرى الخلق لا شيء، مثل الذر، ولا يخافهم، ولا يرهبهم، وكذلك يشمل ذكره باللسان، وبالجوارح، فذكره -تبارك وتعالى- بالجوارح بالصلاة بالركوع والسجود، وحركة الجوارح في طاعة المعبود ، كل هذا من الذكر، وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا، كثرة التعبد لله سبب لارتياض النفس وطمأنينة القلب والثبات في مواطن الشدة، إذا كان للناس صلة بالله فلا بأس عليهم، ولذلك نحن نجد شيئاً كثيراً من الطمأنينة والراحة فيما يجري لإخواننا الآن في غزة من جهة ما نسمع منهم في المقابلات التي تجرى مع الصغار والكبار، يذكرون الله ويثنون عليه ويحمدونه، وهم في غاية الرضا عن الله ، فهذا خير عظيم جداً، لما غزا الصرب بلاد البوسنة كان حالهم أنهم في أغلبهم لا يعرفون من الإسلام إلا اسمه فقط، ينتسبون للإسلام فقط ولا يعرفون شيئاً، فاستحرّ فيهم القتل والتشريد وتسلط عليهم الصرب بما لا يمكن وصفه، فكانوا يُجمعون بالآلاف تنقلهم الحافلات في مكان واحد ثم يذبحون، ومن ادعى منهم أنه نصراني كُشف عن عورته، وكل من كشف عن عورته ووجد أنه مختون قتل، مجازر جماعية، فنتحسر أن هؤلاء يذبحون ويقتلون ولا يدرون لماذا يقتلون، لا يعرفون من الإسلام إلا اسمه، ولما غزا الروس الشيشان كانت كذلك في أول الأمر، كانت كذلك، كانوا أجهل تلك الجمهوريات بالإسلام فدمرت بلادهم وتحولت تلك البلاد العاصمة "جروزني" إلى مدينة للأشباح، وهم مساكين لا يعرفون لماذا يذبحون، ثم تغير الحال بعد ذلك، فالذي يجري الآن في غزة يختلف تماماً عن هذا، فالناس يعرفون، ورايتهم واضحة لا غبش فيها، الشعار المرفوع "لا إله إلا الله، الله أكبر"، فقوم يرفعون هذا الشعار ويثبتون ويصبرون وينتظرون ما عند الله، إن صبروا وثبتوا وصدقوا مع الله لابد أن ينتصروا، لكن النصر صبر ساعة، سئل عنتر بن شداد وهو من الفرسان الأبطال كيف تنتصر على خصومك في أرض المعركة؟ فقال: أصبر، يعني: أقدّر أن الخصم سينهزم الآن، يقول: أنا أصبر قليلاً حتى أتمكن منه، وفي قصة بني إسرائيل التي قصها الله في سورة البقرة أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ [سورة البقرة:246]، فإنهم تساقطوا مرة بعد مرة، أول مرة حينما كتب الله عليهم القتال، والمرة الثانية حينما أخبروا أن الملك هو طالوت، والمرة الثالثة في الشرب من النهر، والمرة الرابعة عند المواجهة لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ [سورة البقرة:249]، وكل مرة يتساقط عدد، وهذا العدد الذي يتساقط غير مأسوف عليه، قد ينظر الإنسان في ظاهر الأمر -لأول وهلة- إلى الخسارة، ما يبقى إلا حفنة قليلة، لكن هؤلاء القلة هم الأصفياء والخلاصة، هم الذين ينتصرون في نهاية الطريق، فقال الله فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاودُ جَالُوتَ [سورة البقرة:251]، في غزوة بدر خرج للقتال ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً، وانظر هذا الانتصار التاريخي الذي حصل، قال الله وَلَوْ تَوَاعَدتَّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِن لِّيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً [سورة الأنفال:42]، وقال: لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ [سورة الأنفال:42]، فالله يدبر عباده المؤمنين الذين يتمسكون بحبله المتين، ويخلصون له، والأمثلة على هذا كثيرة، وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [سورة القصص:83]، حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ [سورة يوسف:110]، وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ [سورة الأنعام:34]، فهؤلاء ينصرهم الله في نهاية المطاف، فيحتاج المؤمن أن يعرف هذه الحقائق والمعاني.

ثم بعد أن ذكر المنافقين عندما قالوا: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا [سورة الأحزاب:12]، ذكر موقف أهل الإيمان وهو كما قال الله: وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا [سورة الأحزاب:22]، فالأحزاب يحاصرونهم، جيوش كثيرة لا قبل لهم بها، أكثر من عشرة آلاف، والمسلمون يقربون من ثلاثة آلاف، لا يوجد تناسب في العدد، فقالوا: هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وفي سورة البقرة التي نزلت بعدما هاجر النبي ﷺ إلى المدينة يقول الله فيها: أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ [سورة البقرة:214]، ويقول في آل عمران في ثنايا الحديث عن غزوة أحد: أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ۝ وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ [سورة آل عمران:142-143]، ثم يبين لهم ألا يتعلقوا بالذوات والأشخاص، ولو كان أعظم الذوات من المخلوقين، وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ [سورة آل عمران:144]، فإذا أصيب الرموز والقيادات الكبار فليس معنى ذلك أن يفت هذا في أعضاد الأتباع، وفي سورة براءة وقد نزلت بعد ذلك، أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً [سورة التوبة:16]، فهذه الآيات فيها وعد من الله بالابتلاء، أَمْ حَسِبْتُمْ، فحينما رأوا الأحزاب مباشرة، قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ [سورة الأحزاب:22]، وأرجح ما قاله المفسرون في هذا هو ما اختاره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- ومن وافقه قال: هو الابتلاء الذي يعقبه النصر، فبمجرد ما رأوا الابتلاء ورأوا الأحزاب قالوا: هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، فهذا الابتلاء وهذا الحصار ما زادهم إلا إيماناً بالله ؛ لأنه وعدهم بهذا، فهم يرون ما وعدهم الله به يتحقق، ووعدهم بالنصر والتمكين الذي يكون بعد الابتلاء، فقالوا: هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا، والتسليم هو الانقياد والطاعة، يقول ابن عاشور -رحمه الله- صاحب التحرير والتنوير: ومن التسليم هنا تسليم أنفسهم لملاقاة عدو شديد دون أن يتطلبوا الإلقاء بأيديهم إلى العدو، وأن يصالحوه بأموالهم، هذا من التسليم، اصبروا حتى يحكم الله بينكم وبين عدوكم، وأصحاب السير يذكرون الواقعة المشهورة لما اشتد البلاء على المسلمين استشار النبي ﷺ السعدين سعد بن معاذ وسعد بن عبادة -ا- في أن يعطي ثلث ثمار المدينة تلك السنة عيينة بن حصن والحارث بن عوف، وهما قائدا غطفان، على أن يرجعا عن المدينة، فقالا: "يا رسول الله أهو أمر تحبه فنصنعه، أم شيء أمرك الله به لابد لنا من العمل به، أم شيء تصنعه لنا ؟ فقال: بل شيء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلا لأني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، وكالبوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما، فقال سعد بن معاذ  : يا رسول الله قد كنا نحن وهؤلاء على الشرك -على الشرك بالله- لا نعبد الله ولا نعرفه وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة واحدة إلا قِرًى أو بيعاً، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا إليه وأعزنا بك وبه نعطيهم أموالنا؟! ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم، قال رسول الله ﷺ: فأنت وذاك[2]، وقال هنا: فَزَادَهُمْ إِيمَاناً [سورة آل عمران:173].

ومن التسليم الرضا بما يأمر به رسول الله ﷺ قال الله فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا [سورة النساء:65]، فأهل الإيمان يسلمون وينقادون لأمر الله وأمر رسوله ﷺ، ولكن أقول: هذه الآية ينبغي أن يستحضرها الإنسان دائماً، كلما مرت عليه شدة تذكر قول الله وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، فإذا وقع به مرض مخوف أو ابتلي بماله، أو ابتلي بولده، أو غير ذلك دائماً يتذكر هذا المعنى، أن الله وعد بالابتلاء الذي يعقبه التمكين، فلا ينكسر إذا ابتلي ولا يتضعضع ولا يتزلزل ولا يسوء ظنه بربه ، فالله لطيف بعباده، وهو ولي المؤمنين، وما ساق إليه الابتلاء ليكسره، وإنما ساق إليه الابتلاء ليرفعه وليمحّصه، ويخرج من هذا الابتلاء خالصاً نظيفاً زكياً، والجنة دار زكية طيبة لا تصلح إلا للطيبين، فيسلط عليهم هذا الكير في الدنيا    -كير الابتلاء- فيمحصهم وينقيهم وينظف قلوبهم ونفوسهم، فإذا جاءوا إلى الجنة إذا هم في حال من الزكاء والصفاء والطيب ليدخلوا دار الطيبين.

نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منها، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ۝ لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ۝ وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا ۝ وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا ۝ وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا [سورة الأحزاب:23-27].

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا، هذا تعقيب يذكر الله  به أهل الإيمان من الصادقين الثابتين الذين يفون بعهد الله ، فهؤلاء هم أهل الصدق والإخلاص الذين لم يبدلوا ولم يغيروا ولم يتلونوا ولم يتقلبوا بهذه الشدائد كما تلون أهل النفاق الذين لم يصدقوا الله في عهدهم، فأهل الإيمان منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر: بعضٌ لا زال على قيد الحياة إما أنه لم يقدر لهم لقاء العدو كأولائك الذين عاهدوا الله قبل وقعة الأحزاب ولم يكن لقاء، أو يكونون ممن لم تكتب لهم الشهادة ولكنهم على الصدق والوفاء، وطائفة اختارهم الله واصطفاهم واتخذهم شهداء فماتوا على الصدق والوفاء، والتعبير في قوله -تبارك وتعالى: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ هذه اللفظة فيها زيادة ثناء في هذا المقام، يقال: إن الرجل مشتق من الرِّجل وهي قوة اعتماد الإنسان، فهم أهل قوة وثبات وعزيمة وليسوا من أهل الخور والضعف.

وقوله -تبارك وتعالى: فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ النحب يطلق في كلام العرب على معانٍ متعددة، يطلق على النذر والموت، قَضَى نَحْبَهُ أي: مات، ويطلق أيضاً على الخطر العظيم، ويطلق على مواصلة السير، وكثير من السلف يقولون في المراد بقوله: فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ أي: عهده الذي عاهد الله به فمات على الصدق والوفاء، يعني: أدى ما التزمه ووفى به فقاتل حتى قتل؛ لأنه قابل هؤلاء بقوله: وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ، فدل على أن من ينتظر: لا زال حياً، وأن من قضى نحبه أنه مات، وليس الموت بحد ذاته مدحة يمدح بها الإنسان، وإنما من مات على الجادة فإن ذلك يكون مما يذكر به ويثنى عليه، فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ أي: مات على الصدق والوفاء بالعهد الذي عاهد الله به، وبعض السلف يقول: هذه في قوم لم يشهدوا بدراً فعاهدوا الله أن يفوا في قتال للمشركين مع النبي ﷺ، فمنهم من وفَى ومنهم من بدل، فذكر الله أهل الوفاء وأثنى عليهم فيه، ويذكرون في هذا قصة أنس بن النضر ، وأنه لما فاتته غزوة بدر، ورأى ما جعل الله لأهل بدر من الأجر والمثوبة والمنزلة قال: لئن أشهدني الله لقاء المشركين ليرين الله ما أصنع، فكانت وقعة أحد، فجاء ونظر إلى المسلمين وقد انهزموا، ونظر إلى المشركين فقال: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع هؤلاء، ونظر إلى المسلمين وقال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء، ثم أقبل عليهم بسيفه فقاتلهم حتى قتل، فوُجد فيه من الجراحات من ضرب السيوف وطعن الرماح وضرب النبال ما قد شوه صورته فلم يُعرف، تغيرت معالمه تماماً، جثة مليئة بالجراح، وما عرفته إلا أخته ببنانِه، ففي مثله نزلت هذه الآية: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا، ولا شك أنه داخل في هذا، ولكن المعنى لا يختص به، وإنما هذا مثال على من تصدُق عليهم هذه الآية، والمقصود أن أصل النحب يمكن أن يقال هنا: إنه استعمل بمعنى الموت على الصدق والوفاء، وأن أصل ذلك يرتبط بمعنى النذر، فالشيء الذي لا بد للإنسان منه كالنذر لابد من الوفاء به وكذلك الموت لابد من ملاقاته، فهو كالنذر الذي لابد من أن يوفي به الإنسان، واستعمل في هذا المعنى كما يقوله بعض أهل العلم، قال: وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا، هذا فيه تعريض بالمنافقين الذين بدلوا وغيروا وتضعضعوا وقالوا: مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا [سورة الأحزاب:12] في وقعة الأحزاب، وقبل ذلك في وقعة أحد انسل عبد الله بن أبي بثلث الجيش، ثم قال الله لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا، ليجزي الصادقين بإيمانهم وبإخلاصهم، ليجزي الصادقين بنصحهم للمسلمين ولله ولرسوله ﷺ، ليجزي الصادقين في عملهم وجهادهم، فهؤلاء يجازيهم الله -تبارك وتعالى- بصدقهم، أي: بسبب صدقهم، وهذا الجزاء يكون لهم في الدنيا، ويكون لهم في الآخرة حيث إن الله لم يقيد هذا الجزاء بدار من الدارين، ليجزيهم بصدقهم في الدنيا فتكون لهم الرفعة والمحبة في قلوب الخلق والعزة، والإنسان إنما يعتز ويعلو ويرتفع بحسب ما يكون له من البذل والجهاد والتجرد عن حظوظ النفس، والترفع عن الدنايا، والنفع العام للأمة، وهؤلاء الذين في غزة الآن صاروا شامة بيضاء في هذه الأمة، وأصبح المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها يهتفون لهم، ويدعون لهم، ويثنون عليهم، فارتفعوا لمّا بذلوا أنفسهم وأرواحهم في سبيل الله، واعتبر بهذا غيرُهم ممن كانوا كذلك فطار ذكرهم ثم بدلوا تبديلاً فنسيهم الناس وتجاوزوهم، بل إذا ذُكروا ذُكر معهم الذم؛ لأنهم قد غيروا وانحرفوا وقد شهدنا أحداثاً في التاريخ وتقلبات لأناس كانوا لربما في وقت من الأوقات يبذلون ولهم من النفع المتعدي والخير، الجهاد وما إلى ذلك، ثم بعد ذلك حصل لهم ما حصل فصاروا في حال تعرفونها، ويأتي سؤال وهو في قوله -تبارك وتعالى: وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ، المنافقون كفرهم أكبر مخرج من الملة، والحديث في هذه الآيات عن النفاق الأكبر، فهل هؤلاء تحت المشيئة؟ وهل هؤلاء ممكن أن يتوب الله عليهم؟ من أهل العلم كابن جرير -رحمه الله- من يقول: إن المقصود أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ بمعنى: أنه يوفقهم للتوبة ويقبل ذلك منهم، فالقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن، ومن أهل العلم من يقول: هذا فيه تنبيه لهم بسعة رحمة الله ليجعل لهم خط الرجعة، لعلهم أن ينيبوا، ولا تنغلق الأبواب في وجوههم، فإن الله  رحمته واسعة، وسعت كل شيء، كما قال الله في أولائك الذين نسبوا له الصاحبة والولد: أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [سورة المائدة:74]، وقال في أولئك الذين أحرقوا المؤمنين بالنار في قصة الأخدود: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا [سورة البروج:10] يعني: أحرقوهم بالنار، والفتْن يأتي بمعنى الإحراق بالنار، ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا، فقيده بالتوبة، فمع كبير جرمهم إلا أن الله قد فتح لهم هذا الباب فلا يتعاظمه شيء ، إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا أي: بمن تاب وأناب ورجع إليه وإن كان قد أساء قبل ذلك.

وقد تاب على بعض المنافقين كما هو معلوم في أخبارهم وفي تراجم الصحابة ، ويذكر من هؤلاء معتب بن قشير.

ثم قال الله -تبارك وتعالى: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا وهذه الآية في هذه الليلة في غاية المناسبة، وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا، سمعتم عن هؤلاء اليهود في آخر الليلة الماضية أنهم قد أعلنوا وقف إطلاق النار، وهم بذلك يريدون أن يظهروا أمام العالم أنهم قد انتصروا، مع أنهم يعلمون أن الوقت ليس في صالحهم، وأن سمعتهم قد مُرغت بالتراب، وأن الأمة قد طارت بهؤلاء، فما عاد هؤلاء فصيلاً من هذه الفصائل في فلسطين، وإنما صارت الأمة كلها حماس، وصار الناس يهتفون لهم في كل مكان، وأيقظوا روح العزة في الأمة، وأحيوا فيها معاني الجهاد في سبيل الله  بعد أن عمل الأعداء سنوات وبذلوا الأموال الطائلة من أجل قتل هذه المعاني في الأمة، وإظهار هذه الأمة على أنها أمة ضعيفة، أمة ذات خوَر تستجدي أعداءها، وتتملق إليهم، وتغير حقائق الدين، ويبدل كلام الله ، ويلبس كثير من معانيه، جاءت هذه القضية لتنسف هذه الجهود، وهذا يدل على أن هذا الدين يتجدد، وأن هذا الدين قد شب عن الطوق منذ عهد بعيد، وأنه لا يمكن لأحد أن يطمس معالمه وأن الخاسر هو الذي يتخلف عن ركابه فقط، أما هذا الدين فهو يتجدد حيناً بعد حين، كلما بذل أعداؤه ما في وسعهم وأنفقوا أموالهم من أجل تشويه صورته، وتغيير حقائقه جاءت ريح عاصف كهذه فأطارت ذلك جميعاً ونسفته، كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ [سورة آل عمران:117] فصارت أعمالهم كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ [سورة إبراهيم:18]، كصفوانٍ عليه تراب فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا [سورة البقرة:264]، فهذه أفسدت على الأعداء مخططاتهم، ورأوا أن الوقت ليس في صالحهم فتوقفوا دون أن يحققوا شيئاً مما بذلوا الكثير من أجله، وتبينت حقيقة تلك الأسطورة الكاذبة من قوتهم التي زعموا أنها لا تقهر ولا تغلب، لم يستطيعوا أن يتقدموا ولم يستطيعوا المواجهة، لم يبق عليهم إلا أن يدخلوا في حروب عصابات في داخل الأحياء، وهم لا يستطيعون المواجهة؛ لأن الله يقول: لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ [سورة الحشر:14]، ولم يحصل في التاريخ حرب قط بين المسلمين واليهود أبداً، ولذلك سيأتي في قوله -تبارك وتعالى: وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ [سورة الأحزاب:26]، وفي وقعة بني قينقاع من غير قتال، والنضير من غير قتال، وقريظة من غير قتال، وخيبر دخلها النبي ﷺ في غلس الصبح، وخرج الفلاحون ومعهم المَسَاحِي فلما رأوه ﷺ قالوا: الخميس الخميس، يعني: الجيش الجيش، فالنبي ﷺ قال: الله أكبر خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بأرض قوم فساء صباح المنذرين[3]، فما احتاجوا إلى قتال، ولم تحصل مواجهة في خيبر، وأموال هؤلاء في فدك وفي النضير وفي قريظة وقينقاع من قبيل الفيء، والمواجهات كانت مع المشركين، وكانت مع النصارى، أما اليهود فما حصل قط مواجهة رجل بوجه رجل في معركة إطلاقاً، ممكن أن يرمي بالقاذفات، ممكن بطائرة من بعيد جداً، لا تصل إليها المضادات، فهم مثل الفأر يجيد الإفساد فقط لكن لا يستطيع المواجهة، ولذلك افتضحوا، يقولون: إنهم استعملوا الجيش وجاءوا بالقوة الاحتياطية واستعملوا نصف القوة الجوية على ناس عزل جاءوا بهذا كله، فهم في غاية الهلع، والحمد لله الذي فضحهم وهتك وكشف أستارهم وعوارهم وبين ضعفهم وهزيمتهم.

فالله يقول: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا، لم يتحقق شيء من هذه الأهداف التي جاءوا من أجلها، جاءوا من أجل استئصال النبي ﷺ، استئصال المسلمين، احتلال المدينة، ولم يحصل شيء من هذا، بقي النبي ﷺ وأصحابه، وقد يقتل بعض الرموز كسعد بن معاذ أصابه سهم غَرْب في أكحله، فنزف وداواه النبي ﷺ ثم بعد ذلك انفجر جرحه، فالشاهد وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء [سورة آل عمران:140]، مع أنه اهتز له عرش الرحمن، وحزن المسلمون لفقده، لكن الله -تبارك وتعالى- أراد أن يكرمه بهذا وأن يرفعه، فلا إشكال في هذا، ولا تنكسر القلوب بسببه، فهنا لاحِظْ في هذه الآية أنه عبر عن الأحزاب بالذين كفروا، وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ، ما قال: ورد الله الأحزاب بغيظهم؛ للإيماء إلى أن كفرهم هو سبب خيبتهم التي وقعت لهم، وهذا هو الوصف المؤثر في الحكم، فالذي خيب آمالهم وأوقعهم في هذه الحال هو ذلك الكفر الذي أركسهم الله به، والغيظ هو الحنق والغضب، لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا لم يحصل لهم مطلوب، ولم يحصل لهم تشفٍّ من أهل الإيمان، ولم يقتل النبي ﷺ ولم يقتل أصحابه، ولم يحتلوا المدينة، وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ، فلم يحصل قتال، قد كان هناك بعض المواجهة أو المبارزة اليسيرة مع أفراد استطاعوا أن يتخطوا الخندق، ولكن البقية كانوا بعيداً، فكفى الله المؤمنين القتال، وجنود الله لا يعلمها إلا هو، سلط عليهم الريح وهي ريح الصِّبا وهي التي تهب من المشرق، يقول النبي ﷺ: نصرت بالصِّبا، وأهلكتْ عاد بالدبور[4]، فحيث كان المسلمون بهذه المثابة من الضعف والفقر، والحاجة، والقلة، سلط الله على الكفار من جنوده التي لا يعلمها إلا هو، فهبت الريح، والملائكة زلزلت هؤلاء، فقذف الله في قلوبهم الرعب، فانكفأت قدورهم، وجالت خيلهم، وتفلتت دوابهم، وانقلعت خيامهم، وانطأفت نيرانهم، وحملت الرياح التراب فألقته في وجوههم وعيونهم، فهزمهم الله ، وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا، وهذا التعقيب والتذييل بهذين الاسمين هو في غاية المناسبة؛ لأن هزيمة الأحزاب ورد الذين كفروا بغيظهم إنما يكون للقوي العزيز، فالقوي هو الذي يقهرهم ويدحرهم ويهزمهم ويكسرهم ولا يتعاظمه شيء، والعزة لابد منها مع القوة، فقد يكون الإنسان قوياً يملك ما يملك من السلاح وغير ذلك لكنه ذليل، فالذليل لا ينصر نفسه، ولا ينصر قومه، ولا يُنتفع به ولا بقوته، والله هو القوي العزيز، ومن أراد العزة فقد أخبر الله  أن العزة بكاملها لله -تبارك وتعالى، ويكون لأهل الإيمان من العزة بقدر ما يكون لهم من التعلق والارتباط بالله  .

ثم قال: وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، في هذه الآيات تحول الحديث إلى قريظة وهم تمالئوا مع الأحزاب حيث جاءهم حيي بن أخطب وكلم كعب بن أسد، وما زال به حتى نقض العهد مع رسول الله ﷺ، فحاصرهم النبي ﷺ خمساً وعشرين ليلة أو ما يقرب من هذا، فهم أهل الكتاب الذين ذكرهم الله ، وعناهم بهذه الآية، وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم أي: عاونوهم وناصروهم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِوهم يهود قريظة، وكانت مواقعهم في الجنوب الشرقي من المدينة، وكان النبي ﷺ قد رجع من الخندق ظهراً، ووضع السلاح، وأراد ﷺ أن يغتسل، ثم جاءه جبريل وقال: وضعتم السلاح؟ والله إن الملائكة لم تضع أسلحتها[5]، وأمر النبي ﷺ أن يتوجه بأصحابه إلى قريظة، فنادى النبي ﷺ في أصحابه: لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة[6]، فذهبوا، فاجتهدوا في صلاة العصر، فمنهم من صلاها بعد غروب الشمس أخذاً بالظاهر، لقوة الاستجابة عند هؤلاء الصحابة ، وبعضهم فهم أن المراد المبادرة فصلى في الطريق، والشاهد: أن النبي ﷺ حاصرهم هذه المدة، وطلبوا من النبي  ﷺ أن ينزلوا على حُكْم حَكَم، أي صلح على طريقة النزول على حُكْم حَكَم، بحيث يختار حكماً، ويختارون حكماً من المسلمين يحكم فيهم؛ لأن قريظة قد رأوا ما حصل لبني النضير، وذلك أن بني النضير أجلاهم النبي ﷺ وشفع لهم عبد الله بن أبي بن سلول وهو من الخزرج، وكان النضير حلفاء الخزرج، وقريظة حلفاء الأوس في الجاهلية، فأبى النبي ﷺ ذلك فما زالوا به، وبعد مداولات قبلوا النزول على حكم سعد بن معاذ ، وهو سيد الأوس، حلفاؤهم في الجاهلية، وظنوا أنه سيحسن إليهم وكان جريحاً في خيمة في مسجد رسول الله ﷺ، وكان قد قال: "اللهم لا تمتني حتى تقر عيني في بني قريظة"[7]، وقال: "اللهم إن كان قد بقي من قتال المشركين شيء فأبقني له، وإلا فاجعلها شهادة"[8]، أو كما قال ، ومعلوم أنه بعد غزوة خيبر قال النبي ﷺ: اليوم نغزوهم ولا يغزوننا[9]، وكان فتح مكة بعد صلح الحديبية الذي وقع، حصل الفتح بعد ذلك، الشاهد أنهم نزلوا على حكم سعد بن معاذ، فجيء به على حمار، وهو جريح، أصحابه من الأوس يطوفون بحماره، ويقولون: الله الله في حلفائك، كان بينهم منافسات في المكارم والبذل، والمروءات وما أشبه ذلك، فيرون أن الخزرج قد أحسنوا إلى حلفائهم، فالأوس يريدون أن يفعلوا كفعل الخزرج، فجعلوا يطوفون به وهو لا يتكلم، فلما أكثروا عليه قال : "لقد آن لسعد ألا تأخذه في الله لومة لائم"[10]، فعرفوا أنه يريد قتلهم، فأقبل على المكان الذي فيه النبي ﷺ، فقال النبي ﷺ للأوس: قوموا إلى سيدكم[11]، تقوية لحكمه ، فطلب منه النبي ﷺ أن يحكم فيهم، فنظر إلى الناحية التي فيها النبي ﷺ ولم يلتفت؛ إجلالاً لرسول الله  ﷺ وقال: حكمي نافذ على من هاهنا؟ فقال له النبي ﷺ: نعم، ثم التفت إلى الناحية الثانية التي فيها هؤلاء، وقال: حكمي نافذ على من هاهنا؟ فقالوا: نعم، فقال: حكمي فيهم أن تقتل المقاتلة، يعني: كل من يستطيع حمل السلاح، يعني كل بالغ، وأن تسبى النساء والذرية والأموال، فقال النبي ﷺ: لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة[12] يعني: من فوق سبع سماوات، فجُمعوا في مكان واحد، في بيت، والروايات اختلفت في عددهم، قيل: كانوا بين سبعمائة إلى ثمانمائة، وقيل: أربعمائة وخمسين، وقيل: ستمائة، وقيل: إن الأسرى كانوا سبعمائة وخمسين، وقيل غير ذلك، والشاهد أنهم جمعوا في مكان واحد وكان يؤتى بهم فتضرب أعناقهم، يقتلون، وقد تجلّد بعضهم وحاول ألا يشمت به أحداً من الناس، والشاهد: أنهم قتلوا، ومن شُك فيه هل بلغ أو لا، كُشف عن عورته ونظروا فإن كان قد أنبت ضربت عنقه، فكل بالغ يقتل، والنساء والذرية سبي، وكذلك الأموال، فالله  يقول: وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ، والصياصي هي الحصون، واحدها صيصة، والصيصة أصلها يقال: إنها قرن الثور، لما كان الثور يدافع بقرنه، ويحتمي به قيل ذلك: للقلاع والحصون، وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، القذف هو الإلقاء السريع، فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا، الذين يؤسرون هم النساء والأطفال، ثم قال: وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَئُوهَا، يعني: أورثكم النواحي التي تخصهم، ما كان منها معموراً يعني القرية نفسها، وما كان منها مما يحيط بها من الزروع أو المساحات الخلاء، التابعة لهم، فكل ذلك صار للمسلمين، وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، وكانت لهم أموال طائلة، فاليهود يعبدون الذهب كما هو معلوم، ولهم سلاح كثير، ثم قال: وَأَرْضًا لَّمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا، هذه الأرض التي ذكرها الله  بعضهم يقول: هي أرض النضير نفسها لم يطأها المسلمون قبل ذلك، والمقصود بالوطء ليس معناه مشي الأقدام، وإنما المقصود لَّمْ تَطَئُوهَا قال: وطأهم الجيش، بمعنى: الغلبة والأخذ، فهنا وَأَرْضًا لَّمْ تَطَئُوهَا بعضهم يقول: هي أرض قريظة، مكنهم الله منها، وبعضهم يقول: هي أرض فارس والروم، وغير ذلك مما فتح الله على المسلمين، وبعضهم يقول: مكة، وَأَرْضًا لَّمْ تَطَئُوهَا يعني: بالقوة، وبعضهم يقول: هي خيبر قد فتحت بعد هذه الغزوة، بعد قريظة بسنة وشهر، والأقرب: أن حمل ذلك على العموم أولى، وهذا اختيار ابن جرير -رحمه الله، فالفتوحات التي حصلت للمسلمين بعد ذلك هي داخلة في قوله: وَأَرْضًا لَّمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا، لا يتعاظمه شيء ، فهو قادر على نصر أهل الإيمان وكسر أهل الكفر مهما تعاظمت قوتهم ولكن الله يبتلي الناس بعضهم ببعض، وإلا لو شاء لجعل الناس على الإيمان، لو شاء لآمن من في الأرض كلهم جميعاً، وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً [سورة هود:118]، وهكذا لو شاء -تبارك وتعالى- لانتقم منهم، لكن كما قال الله وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ، ولو شاء الله -تبارك وتعالى- ألا يوجد الكفار أصلاً لما وُجدوا، فالله شاء ذلك جميعاً من أجل أن يحصل التمحيص والابتلاء، وتتميز الصفوف، ويسلك طريق السعادة من شاء الله واجتبى، ويسلك طريق الشقاوة من أذله الله وأخزاه وأركسه.

هذا نهاية الكلام على هذه الآيات من سورة الأحزاب، اللهم انصر إخواننا المجاهدين والمستضعفين في فلسطين، اللهم انصرهم نصراً مؤزراً، اللهم ثبت أقدامهم واربط على قلوبهم، اللهم اجمع شملهم، ووحد كلمتهم على الحق، اللهم ثبتهم، اللهم أنزل عليهم نصرك وألطافك وفضلك، اللهم أغنهم عن خلقك أجمعين، اللهم لا تكلهم إلى أحد من خلقك طرفة عين ولا أقل من ذلك، اللهم الطف بهم، اللهم الطف بهم، اللهم عليك باليهود، اللهم اهزمهم واكسرهم، اللهم شتت شملهم، وفرق جمعهم، واجعل الدائرة عليهم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.

  1. رواه البخاري، كتاب التوحيد، باب وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء [سورة هود:7]، وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [سورة التوبة:129]، برقم (6984).
  2. انظر: الطبقات الكبرى، لابن سعد (3/ 425).
  3. رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب التكبير عند الحرب، برقم (2829)، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب غزوة خيبر، برقم (1365).
  4. رواه البخاري، كتاب الاستسقاء، باب قول النبي ﷺ: نصرت بالصبا، برقم (988)، ومسلم، كتاب صلاة الاستسقاء، باب في ريح الصبا والدبور، برقم (900).
  5. رواه أحمد في المسند، برقم (24994)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط مسلم، حماد بن سلمة من رجاله، وبقيتهم ثقات من رجال الشيخين.
  6. رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب صلاة الطالب والمطلوب راكبا وإيماءً، برقم (904)، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب المبادرة بالغزو وتقديم أهم الأمرين المتعارضين، برقم (1770)، وفي رواية مسلم: لا يصلين الظهر.
  7. رواه أحمد في المسند، برقم (25097)، وقال محققوه: بعضه صحيح، وجزء منه حسن، وهذا إسناد فيه ضعف، وحسن إسناده الألباني -رحمه الله- في السلسلة الصحيحة، برقم (67).
  8. أصله في البخاري، كتاب المغازي، باب مرجع النبي ﷺ من الأحزاب ومخرجه إلى بني قريظة ومحاصرته إياهم، برقم (3896)، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب جواز قتال من نقض العهد وجواز إنزال أهل الحصن على حكمِ حاكمٍ عدلٍ أهلٍ للحكم، برقم (1769).
  9. رواه أحمد في المسند بلفظ: الآن نغزوهم، ولا يغزونا، برقم (18309)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط الشيخين، وهذا اللفظ رواه الطبراني في المعجم الكبير، برقم (6485).
  10. رواه أحمد في المسند، برقم (25097)، وقال محققوه: بعضه صحيح، وجزء منه حسن، وهذا إسناد فيه ضعف، وحسن إسناده الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (67).
  11. رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب إذا نزل العدو على حكم رجل، برقم (2878)، ومسلم، باب الجهاد والسير، باب جواز قتال من نقض العهد وجواز إنزال أهل الحصن على حكم حاكم عدل أهل للحكم، برقم (1768).
  12. رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب إذا نزل العدو على حكم رجل، برقم (2878)، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب جواز قتال من نقض العهد وجواز إنزال أهل الحصن على حكم حاكم عدل أهل للحكم، برقم (1768)، ولفظهما: لقد حكمت فيهم بحكم الملك، وهذا اللفظ رواه ابن سعد في الطبقات (2/75).

مواد ذات صلة