الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقد يُخطئ أحد من الناس في فهم آية من كتاب الله ، ولربما أشكل عليه معناها، وقد يُخطئ فيها كثير من الناس، بل قد يغلب في وقت من الأوقات بعض الفهوم الخاطئة لبعض كلام الله -تبارك وتعالى.
لقد وقع في زمن النبي ﷺ شيء من ذلك، حيث استشكل بعض أصحاب النبي ﷺ بعض الآيات من كتاب الله -تبارك وتعالى، فهذا عدي بن حاتم كما أخرج الشيخان البخاري ومسلم -رحمهما الله- في صحيحيهما لما نزل قول الله -تبارك وتعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ [البقرة:187]، عمِد كما حدث عن نفسه إلى عقال أبيض وإلى عقال أسود، وجعلهما تحت وسادته فجعل ينظر من الليل فلا يستبين له الأبيض من الأسود، يقول: فغدوت على رسول الله ﷺ فذكرت له، فقال: إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار[1]، فهو قد فهم من الآية أن المراد بذلك هو الخيط المعروف لديهم، وهو ما يُربط به، أو العقال الذي تُربط به الدابة أو البعير، "الخيط الأبيض من الخيط الأسود"، فجاء بعقالين هذا أسود وهذا أبيض وجعلهما تحت وسادته، وجعل يأكل ويشرب في ظلمة الليل، وهو في حجرته حتى يتبين له هذا من هذا، فلما تطاول عليه ذلك أخبر النبي ﷺ بما وقع له، فبين له النبي ﷺ المراد، وأن المراد بذلك سواد الليل وبياض النهار، وقد وقع هذا لغير عدي بن حاتم كما دل على ذلك الحديث المُخرج في الصحيح من حديث سهل بن سعد قال: "أنزلت: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ [البقرة:187]، ولم ينزل: من الفجر،..."[2]، وهذا يدل على أن الصحابة لم ينقصهم الفهم والذكاء ولكن هذا الجزء من هذه الآية الذي يُبين المراد لم ينزل بعدُ، ففهم منها من فهم أن المراد بذلك الخيط المعروف، يقول: "فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود، ولا يزال يأكل حتى يتبين له رِئيهما"، يعني: يتضح هذا من هذا، طبعاً ليس عندهم إضاءة كما هو الآن، "فأنزل الله بعدُ: مِنَ الْفَجْرِ فعلموا أنه إنما يعني: الليل والنهار".
ومن المفاهيم التي وقعت على غير مراد الله ما جاء من حديث أبي هريرة المُخرج في صحيح مسلم قال: "لما نزل قول الله تعالى: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ [النساء:123]، فدل ظاهر هذه الآية على أن كل من بدر منه بادرة في عمل غير صالح في سوء فإنه يُحاسب على هذا ويُجازى به،..."[3].
وهذا الفهم يبدو أنه تفشى وانتشر عند عامة الناس في ذلك، "فشق ذلك على المسلمين وبلغت منهم ما شاء الله، فشكوا ذلك إلى رسول الله ﷺ، شكوا إليه أينا لم يقع منه الإساءة والذنب والخطأ والسوء؟، فقال النبي ﷺ: سددوا وقاربوا، فإن كل ما أصاب المسلم كفارة، بين لهم المراد أن هذا يُجزى به، فالحزن الذي يصيبه كفارة، الخسارة التي تصيبه في تجارته كفارة، ما يحصل له من التنغيص من زوجته من ولده كفارة، الشوكة التي تصيبه والجراح والآلام كل ذلك من الكفارات.
وحينما ينخرق ثوبه، أو حينما تفسد عليه دابته، أو حينما تتعسر أموره في قضية من القضايا فإن ذلك التكدير والتنغيص كله من الخطايا وكله من الكفارات للخطايا، وهذا من فضل الله وسعة رحمته، يقول ﷺ: فإن في كل ما أصاب المسلم كفارة حتى الشوكة يُشاكها[4]، يعني: ما هو أعظم من الشوكة فإنه يُكفر عنه من خطاياه، يقول: حتى الشوكة يُشاكها والنكبة يُنكبها.
وعند أحمد من حديث أبي بكر أنه قال: "يا رسول الله، كيف الصلاح بعد هذه الآية: مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ [النساء:123]، فكل سوء عملنا جُزينا به؟ فقال النبي ﷺ: غفر الله لك يا أبا بكر، ألست تنصب؟، ألست تمرض؟، ألست تحزن؟، ألست تُصيبك اللأواء -يعني الشدة،قال: بلى، قال: فهو ما تجزون به[5]، فهذا هو المراد مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ [النساء:123]، ليس معنى ذلك أن كل هذه الأشياء يُعذب عليها يوم القيامة، لا، كل ما يصيبنا من هذه الآلام مما نتأذى به من الحر والبرد، وما نتأذى به من التنغيص والتكدير في داخل الدار، أو مع الزملاء في العمل، أو مع الطلاب في المدرسة، أو مع غير ذلك مما يحصل للإنسان، كله يُكفَّر به من خطايا الإنسان.
من هذه الفهوم ما أخرجه الشيخان من حديث ابن مسعود قال: "لما نزلت: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82]، فظاهر هذه الآية "لم يلبسوا إيمانهم بظلم" بأي ظلم، مَن الذين وُعدوا بالأمن والاهتداء في الآخرة ولهم نصيب بذلك في الدنيا؟ هم الذين لم يلبسوا إيمانهم -لم يخلطوا إيمانهم- بظلم، "فشق ذلك على المسلمين وقالوا: أينا لم يظلم نفسه؟"، بمعنى أن الإنسان إذا عصى الله ظلم نفسه، وقد يظلم أقرب الناس إليه، وقد يظلم ولده، وقد يظلم تلامذته، وقد يظلم جيرانه، وقد يظلم الناس بسوء الظن بهم، وقد يظلمهم بأي لون من ألوان العدوان، لا يخلو الإنسان من ظلم، قد يقع ذلك في بيعه، في شرائه، في ألوان المعاطاة والمعاملات التي يتعامل بها الإنسان مع غيره، وأينا لا يظلم نفسه؟، فقال النبي ﷺ: ليس ذلك، يعني: ليس على ما فهمتم، ليست الآية كما ظننتم، إنما هو الشرك، ألم تسمعوا قول لقمان لابنه: يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ[6].
ومن ذلك ما أخرجه مسلم من حديث المغيرة بن شعبة : "أنه لما قدِم إلى نجران، وكان النبي ﷺ أرسل المغيرة إلى نجران، وكان في نجران النصارى، فأثاروا له شبهة، فقالوا له: إنكم تقرءون "يا أخت هارون" يعني مريم، فقالوا له: موسى قبل عيسى بكذا وكذا، يعني: من مئات السنين، مدة طويلة جدًّا بين عيسى وإن شئت أن تقول: بين هارون وبين مريم مئات السنين، قرون، فكيف قال: "يا أخت هارون"، وهي ليست أخته؟، فاستشكل ذلك المغيرة بن شعبة فاستمهل حتى جاء إلى النبي ﷺ في المدينة فسأله عن ذلك؟، فبين له المراد أنه ليس المراد الأخوة في النسب وإنما قال: إنهم كانوا يُسمُّون بأنبيائهم والصالحين قبلهم[7].
ومن المعاني التي ذكرها بعض أهل العلم في هذه الآية: يَا أُخْتَ هَارُونَ [مريم:28]، أي: يا نظيرته ومثيلته في التقى والصلاح والعبادة والنزاهة والشرف ورفعة المكانة والمنزلة والدرجة العالية في العبودية، كيف أتيتِ بهذا الولد من غير أب؟، يَا أُخْتَ هَارُونَ [مريم:28]، يا نظيرة هارون في الطهر والشرف والعفاف والصيانة، فهذا أحد الأوجه.
والوجه الثاني: أن "أخت هارون" أي أخوها هارون ليس أخا موسى ﷺ، وإنما كانوا في بني إسرائيل يسمون بأسماء الأنبياء والصالحين، ففي زمان مريم أناس يقال لهم: هارون، وأناس يقال لهم: موسى، فقال لها الناس: يا أخت هارون، أخ لها يقال له: هارون وليس المراد هارون نبي الله .
أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بالقرآن العظيم، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين.
- أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب قول الله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة:187]، برقم (1916)، ومسلم، كتاب الصيام، باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر، وأن له الأكل وغيره حتى يطلع الفجر، وبيان صفة الفجر الذي تتعلق به الأحكام من الدخول في الصوم، ودخول وقت صلاة الصبح وغير ذلك، برقم (1090).
- أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب قول الله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ، برقم (1917)، ومسلم، كتاب الصيام، باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر، وأن له الأكل وغيره حتى يطلع الفجر، وبيان صفة الفجر الذي تتعلق به الأحكام من الدخول في الصوم، ودخول وقت صلاة الصبح وغير ذلك، برقم (1091).
- أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض، أو حزن، أو نحو ذلك حتى الشوكة يشاكها، برقم (2574)، بلفظ: قاربوا، وسددوا، ففي كل ما يصاب به المسلم كفارة، حتى النكبة ينكبها، أو الشوكة يشاكها.
- أخرجه البخاري، كتاب المرضى، باب ما جاء في كفارة المرض، برقم (5640)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض، أو حزن، أو نحو ذلك حتى الشوكة يشاكها، برقم (2572).
- أخرجه أحمد في المسند، برقم (68)، وقال محققوه: "حديث صحيح بطرقه وشواهده"، وضعف إسناده الألباني في كلامه على حديث رقم (2924)، في سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة (6/ 472).
- أخرجه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ [لقمان:12]، برقم (3429)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب صدق الإيمان وإخلاصه، برقم (124).
- أخرجه مسلم، كتاب الآداب، باب النهي عن التكني بأبي القاسم وبيان ما يستحب من الأسماء، برقم (2135).