الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
من هذه الفهوم التي وقع فيها اللبس وجرى تصحيحها في زمن أصحاب النبي ﷺ ما أخرجه الشيخان عن حُميد بن عبد الرحمن بن عوف -ا- أن مروان بن الحكم كان والياً على المدينة لمعاوية، فقال لبوابه: "اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقل: لئن كان كل امرئ منا فَرِحَ بما أَتَى، وأحب أن يُحمد بما لا يفعل مُعذَّباً لنُعذبن أجمعون"[1]، التبس عليه قوله -تبارك وتعالى: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ [آل عمران:188]، فحمل ذلك على ظاهره وهو العموم، أن كل إنسان يُحب أن يُمدح بأمور لم يفعلها، وكذلك أيضاً يفرح بالأشياء التي يقوم بها أنه متوعَّد بالعذاب، فقال ابن عباس: "مالكم ولهذه الآية، إنما نزلت هذه الآية في أهل الكتاب، ثم تلا: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ [آل عمران:187]، ثم قال بعده: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا [آل عمران:188].
فالمقصود أن ابن عباس -بغض النظر عن مناقشة المثال- صحح لمروان هذا الفهم الذي فهمه، وإن كان يمكن أن يقال في الآية غير ذلك باعتبار أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وإذا كان أولئك متوعَّدون على هذا الفعل المشين فإن ذلك يكون في حق هذه الأمة من باب أولى؛ لأن الأمة الشريفة الرفيعة ذات القدر والمكانة إذا أتت بهذه النقائص فإنها أولى بهذا الوعيد، ومعلوم أنه على قدر المقام يكون الملام، وليس المقصود مناقشة المثال، وذكر ابن عباس -ا- سبب نزول هذه الآية وهو: "أن النبي ﷺ سألهم عن شيء فكتموه وأخبروه بغيره، فأروه أنْ قد استحمدوا إليه بما أخبروه عنه فيما سألهم، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم إياه ما سألهم عنه"، يعني: النبي ﷺ سألهم عن قضية في كتابهم فكذبوا، وذكروا غير الحقيقة، ثم فرحوا بهذا الصنيع والكتمان، وأحبوا أن يُحمدوا على هذه الخدمة التي قدموها للمسلمين.
ومن ذلك ما وقع لجماعة منهم قُدامة بن مظعون وهو من الصحابة ومن أهل بدر ووقع ذلك أيضاً لغيره، وقع لأناس بالشام شربوا الخمر، فقال لهم يزيد بن أبي سفيان وكان والياً آنذاك: شربتم الخمر؟، قالوا: نعم؛ لقول الله تعالى: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا [المائدة:93]، فكتب فيهم إلى عمر بن الخطاب ، فكتب عمر إليه: إن أتاك كتابي هذا نهاراً فلا تُنظر بهم إلى الليل، وإن أتاك ليلاً فلا تُنظر بهم إلى النهار حتى تبعث بهم إليّ لا يفتنوا عباد الله، فبعث بهم إلى عُمر، فلما قدموا على عمر، قال: شربتم الخمر؟ قالوا: نعم، فتلا عليهم: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ [المائدة:90]، فقالوا: اقرأ التي بعدها: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا [المائدة:93]، فالمقصود أن هؤلاء احتجوا بهذه الآية كما احتج بها قُدامة بن مظعون حينما كان في البحرين -البحرين هذا الساحل- في زمن عمر فشرب الخمر وهو من أهل بدر، فلما جيء به إلى عمر وسأله قال: إن الله قال: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا [المائدة:93]، ونحن قد آمنا، وشهدنا بدراً مع النبي ﷺ، وعملنا الصالحات وأحسنّا فليس علينا حرج وجناح في شرب الخمر، هذا خطأ في الفهم، فبين لهم عمر المراد، وسبب نزول هذه الآية: هو أنه لما قُتل من قُتل في غزوة أحد ومنهم حمزة بن عبد المطلب ، ونزل تحريم الخمر بعد ذلك، فقال أناس من الصحابة : "كيف بإخواننا الذين أصيبوا في أُحد وهي في أجوافهم؟"[2].
الآن الخمر حرام، رجس من عمل الشيطان، فكيف بهؤلاء الذين قد قُتلوا في سبيل الله وهي في أجوافهم؟، فأنزل الله : لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا [المائدة:93]، جُناح بمعني حرج، إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [المائدة:93]، وليس معنى ذلك بعد تحريم الخمر أن الإنسان يسوغ له أن يشرب ويقول: أنا مؤمن وأعمل الصالحات، لا، هذه من الكبائر، فكيف يكون محسناً وكيف يكون متقياً وعاملاً للصالحات وهو يُعاقر الخمرة؟، بل إن هذا متوعَّد بأن يسقيه الله من طينة الخبال في الآخرة[3]، ومن شربها ومات قبل أن يتوب لا يشربها في الآخرة[4].
هذا آخر الحديث عن هذه المقدمات، ثم بعد ذلك نتحدث عن الآيات التي يحصل فيها اللبس في فهمها في عصرنا الحاضر، وهذه إنما هي مقدمات في تصويب الأفهام في زمن النبي ﷺ، وفي زمن الصحابة.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.
- أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا [آل عمران:188]، برقم (4568)، ومسلم، كتاب التوبة، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، برقم (2778).
- انظر: تفسير الطبري (8/ 668).
- أخرجه مسلم، كتاب الأشربة، باب بيان أن كل مسكر خمر وأن كل خمر حرام، برقم (2002).
- أخرجه البخاري، كتاب الأشربة، باب قول الله تعالى: إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:90]، برقم (5575)، ومسلم، كتاب الأشربة، باب عقوبة من شرب الخمر إذا لم يتب منها بمنعه إياها في الآخرة، برقم (2003).