الأربعاء 23 / جمادى الآخرة / 1446 - 25 / ديسمبر 2024
الآية 34 من سورة البقرة
تاريخ النشر: ٠٦ / رمضان / ١٤٢٥
التحميل: 3273
مرات الإستماع: 2523

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فمن الآيات التي قد تُفهم على غير وجهها في كتاب الله ما قصه الله -تبارك وتعالى- علينا في سبعة مواضع من كتابه، وذلك حينما أمر الملائكة بالسجود لآدم فامتنع إبليس، ففي أربعة مواضع في كتاب الله ما قد يوهم أن إبليس من جملة الملائكة:

الموضع الأول: في قوله -تبارك وتعالى- في سورة البقرة: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [البقرة:34].

والموضع الثاني: في قوله: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ۝ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ۝ فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ۝ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ [الحجر:28-31].

والموضع الثالث: وذلك قوله -تبارك وتعالى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا [الإسراء:61].

والموضع الأخير من هذه المواضع الأربعة: وهو في سورة طه في قوله: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى [طه:116]، هذه أربعة مواضع لا خامس لها، قد يُفهم من ظاهرها أن إبليس من جملة الملائكة، وذلك أن الله أمر الملائكة بالسجود وأخبر أنهم امتثلوا إلا إبليس فاستثناه، ولكن هذا الظاهر أو هذا الذي يتوهمه كثير ممن يقرأ هذه الآية غير صحيح، والله تعالى أعلم، يُبين ذلك ثلاثة مواضع من كتاب الله ، وذلك أن القرآن يفسر بعضه بعضاً، فما ذُكر في موضع يأتي بيانه في موضع آخر.

الله أمر الملائكة بالسجود وأخبر أنهم امتثلوا إلا إبليس فاستثناه، ولكن هذا الظاهر أو هذا الذي يتوهمه كثير ممن يقرأ هذه الآية غير صحيح، والله تعالى أعلم، يُبين ذلك ثلاثة مواضع من كتاب الله ، وذلك أن القرآن يفسر بعضه بعضاً، فما ذُكر في موضع يأتي بيانه في موضع آخر.

ومن أجود التفسير أن يُبين القرآن بالقرآن، فقد بين الله ذلك في سورة الأعراف حيث ذكر مادة خلق إبليس في قوله: وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ ۝ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف:11-12]، فهذا صريح أنه خُلق من النار، والملائكة لم يخلقوا من النار.

والموضع الثاني: في سورة ص وذلك في قوله: إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ ۝ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ۝ فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ۝ إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ۝ قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ ۝ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [ص:71-76].

والموضع الثالث الذي يُبين ذلك وهو أصرح من هذا حيث صرح الله  فيه أنه خلقه وهو من جملة الجن وذلك في سورة الكهف: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [الكهف:50]، فهذه الآيات الثلاث توضح الأربع السابقة، ومن هنا نعلم أن إبليس ليس من الملائكة، وإنما هو من جملة الجن، وهو أبوهم على قول كثير من السلف فمن بعدهم .

وأما الاستثناء في قوله تعالى: فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى [طه:116]، فإن هذا الاستثناء ليس من قبيل الاستثناء المتصل، وإنما هو من الاستثناء المنقطع بمعنى لكن.

وحقيقة الاستثناء المنقطع هو ما كان المستثنى من غير جنس المستثنى منه، الاستثناء المتصل أن تقول: جاء المصلون إلا سعيداً، هذا استثناء متصل، سعيد هو من جملة المصلين.

والاستثناء المنقطع أن تقول: جاء المصلون إلا عربة مثلاً، أو جاءت الكتب إلا قنينة، القنينة ليست من الكتب، أو تقول مثلاً: جاءت الأوراق إلا قلماً، القلم ليس من الأوراق، فهذا ما يقال له: الاستثناء المنقطع، تقول: جاءت الثياب إلا كتاباً، فهذا يقال له: الاستثناء المنقطع، أي لكنّ كتاباً لم يأتِ، هذا المعنى، وبالتالي وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى [طه:116]، فسجدت الملائكة لكن إبليس لم يسجد، فهو ليس من جملة الملائكة، والله تعالى أعلم.

وهنا فائدة أخرى تبعاً -والمقصود هو ما ذكرت- نجد أن الآيات التي تحدثت عن هذه القضية منها ما أخبر الله  فيه أنه سيخلق آدم في المستقبل، ويأمر الملائكة أنه إذا خلقه عليهم أن يسجدوا له، وفي بعض الآيات كما في سورة الأعراف أخبر قال: وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ [الأعراف:11]، وفي بعضها أنه أمرهم بالسجود: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ، فما المراد بهذه الآيات؟، هل بينها اختلاف؟.

الجواب: لا، فإن الله أخبر قبل خلق آدم أخبر الملائكة أنه سيخلق بشراً من صلصال من طين، ثم قال لهم: فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ [ص:72]، يعني: أن السجود محله بعد نفخ الروح في آدم ، فالله أخبر الملائكة قبل أن يخلقه من طين، وقبل أن ينفخ فيه من روحه، أخبرهم أنه سيخلقه، فإذا خلقه ونفخ فيه من روحه عليهم أن يسجدوا له، فهذا كما في سورة الحجر.

وفي الموضع الآخر الذي في سورة الأعراف: وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا [الأعراف:11]، فهذا أمر ظاهره أنه أمرهم بالسجود بعدما خلقهم وصوره، أعطاه الصورة -الهيئة- التي تخصه ويفترق فيها عن سائر المخلوقات، وهذا كله لا منافاة بينه، فالله أخبر الملائكة أولاً أنه سيخلق هذا البشر، وحدّ لهم حدًّا ليسجدوا عنده، وهو أنه إذا سواه ونفخ فيه من روحه فعليهم أن يسجدوا له.

هذا، والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

مواد ذات صلة