الأربعاء 23 / جمادى الآخرة / 1446 - 25 / ديسمبر 2024
الآية 219 من سورة البقرة
تاريخ النشر: ١٠ / رمضان / ١٤٢٥
التحميل: 3030
مرات الإستماع: 2809

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

سأتحدث اليوم عن ثلاث آيات من سورة البقرة مما قد يُشكل فهمه على قارئها.

فأول ذلك هو قوله -تبارك وتعالى: وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ [البقرة:219]، كثير ممن يقرأ هذه الآية قد لا يفهم المراد، ما هو العفو؟ العفو هو الفضل، لكن ما المراد بهذا الفضل في هذه الآية؟ بعض أهل العلم يقولون: ما فضل عن حاجتك وحاجة أهلك وعيالك تصدق به، أنت مأمور بالصدقة بما زاد عن حاجتك، وبعضهم يقول: الفضل بمعنى أنك تتصدق بأفضل مالك، تتصدق بالأفضل وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ [البقرة:267]، يعني: تأخذه على حياء إذا أعطاك إياه أحد مجاملة، ثم تذهب به من الباب الآخر وتلقيه، والنبي ﷺ حينما دخل المسجد فوجد عذقاً من بُسر أو رُطب شيص قد عُلق لأهل الصُّفة -فقراء في المسجد- فلما رآه قال: إن صاحبه ليأكله شيصاً يوم القيامة[1]، والحديث ثابت ومعروف وصحيح، فالإنسان الذي لا يتصدق إلا بالثياب الخلِقة يلقى ذلك يوم القيامة، والذي لا يتصدق إلا بالطعام الرديء يلقى ذلك يوم القيامة، والذي لا يتصدق إلا بالأثاث التالف يلقى ذلك يوم القيامة، وليس المقصود أن الإنسان يرمي هذه الأشياء، بل يعطيها من يحتاج إليها لكن لا يقتصر في النفقة عليها، وإذا كان عنده شيء جيد قال: لا، هذا جيد أبقوه، يَتحسّف به أن يخرجه في سبيل الله، لا، فبعض أهل العلم قال: قُلِ الْعَفْوَ [البقرة:219]، أي: الفضل، يعني: الأفضل من أموالك. 

وبعضهم يقول: المراد بالفضل هنا منسوخ، هو ما زاد عن الحاجة وقد نُسخ ذلك بالزكاة، نُسخ بحيث إن الإنسان إذا أخرج الزكاة لا عليه لو أبقى مثل مال قارون ليس عليه حرج، فكان في أول الأمر لشدة الحاجة والفقر لا يجوز للإنسان أن يُبقي ما زاد عن حاجته الأساسية وحاجة أهله، ثم لما وسع الله على المسلمين بالفتوح صار يجوز للإنسان أن يدخر، وهذا الذي عليه عامة الصحابة فمن جاء بعدهم، خالف فيه نفر قليل كأبي ذر حيث يرى أن قوله: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ۝ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ [التوبة:34-35]، يرى أن كل ما زاد عن حاجته ولم يتصدق به أنه يكوى به جنبه وظهره وجبينه يوم القيامة، لكن هذا كان في أول الأمر ثم بعد ذلك فرض الله الزكاة فمن أخرجها فقد برئت ذمته.

فالمقصود: هذه الأقاويل في معنى الفضل، وبعضهم يقول: ليست منسوخة بآية الزكاة لكن تُبينها آية الزكاة، ولعل المقصود -والله تعالى أعلم- قُلِ الْعَفْوَ [البقرة:219]، أي: تصدقوا بما زاد عن حاجتكم الأساسية، وليس ذلك على سبيل الوجوب، والمقصود هو التوجيه أن الإنسان يبدأ بمن يعول لا يتصدق للأبعدين ويترك الأقربين بأمس الحاجة، والرجل الذي جاء إلى النبي ﷺ بقطعة من ذهب فعرضها عليه يتصدق بها أعرض عنه ثم أعرض عنه ثم أخذها فرماه بها، وقال: يعمد أحدكم إلى كل ماله ثم يتكفف الناس[2].

فالمقصود إذاً هو أن يبدأ الإنسان بنفسه، بأهله، بمن يعول، بأولاده فلا يترك هؤلاء في مسغبة أو حاجة ويذهب ويعطي البعيد، وهذه قضية نقع فيها كثيراً.

تجد الناس على سبيل المثال عندهم خادم -أوخادمة- في غاية الفقر، ويبحثون عن الأبعدين يتصدقون عليهم لربما وراء البحار، طيب وهذا المسكين الذي عندك؟، يقول: هذا يأخذ راتبًا، كم هذا الراتب؟ أربعمائة ريال، خمسمائة ريال، سله هل وراءه أسرة كبيرة؟ أحياناً يكون وراءه أسرة لو كان راتبه عشرة آلاف ما كفته هذه، قد يكون باع أبقاره وباع كل شيء عنده جاء يظن أنه هنا سيحصل الكنوز الأحمر والأصفر، ثم جاء المسكين على أربعمائة ريال، خمسمائة ريال، ستمائة ريال، من الناس من يكون غنيًّا بهذا، ليس وراءه مسئوليات، ومنهم من يتشحط بالفقر والديون ووراءه أسرة، وكم من امرأة طلقها زوجها ممن يعمل عندنا.

فأقول: هذه قضية ينبغي للإنسان أن يتلمس حاجة الأقربين، أحياناً يكون أحد الجيران محتاجًا، ويذهب الإنسان إلى أبعدين ويعطيهم وهكذا، وقد أخرج مسلم من حديث أبي هريرة قال: قال رجل: يا رسول الله، عندي دينار، قال: أنفقه على نفسك، إذاً الإنسان يؤجر على ما ينفقه على نفسه من غير سرف.

أنفقه على نفسك، فهل نفقه هذا المعنى؟، قال: عندي آخر، قال: أنفقه على أهلك، يعني: زوجتك، قال: عندي آخر، قال: أنفقه على ولدك، قال: عندي آخر، قال: فأنت أبصر[3]، هذا معنى قُلِ الْعَفْوَ [البقرة:219]، ابدأ بنفسك وبمن تعول فمن الخطأ أن تنسى أولادك، أن تنسى زوجتك، أن تنسى أباك وأمك وقرابتك من ذوي الأرحام وغير ذلك وتبحث عن الأبعدين، قد يتوهم الإنسان أن هؤلاء يأكلون في البيت، لا، هم لهم حاجات أخرى، لهم مصاريفهم، ما يريدون في كل مرة أن يقول لك: أعطني، كذلك أيضاً من النواحي التربوية لا تجعل من تعولهم يشعرون بالحرمان، هذا خطأ؛ لأن هذا يوقعهم في ألوان من الانحرافات، أقل هذه الانحرافات الكذب.

الحديث الآخر: في صحيح مسلم حديث جابر أن النبي ﷺ قال لرجل: ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل عن أهلك فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا[4]، هذا الميزان يا إخوة.

وحديث ثالث: في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعاً: خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، واليد العليا خير من السفلى، وابدأ بمن تعول[5]، قُلِ الْعَفْوَ  [البقرة:219]، يعني: ما زاد عن هذه الالتزامات والأشياء التي أنت بحاجة إلى النظر فيها.

  1. لم أجده بهذا اللفظ ولكن أخرج أبو داود في كتاب الزكاة، باب ما لا يجوز من الثمرة في الصدقة، برقم (1608)، عن عوف بن مالك، قال: دخل علينا رسول الله ﷺ المسجد وبيده عصا، وقد علق رجل قِنًّا حشفًا، فطعن بالعصا في ذلك القِنو، وقال: لو شاء رب هذه الصدقة تصدق بأطيب منها، وقال: إن رب هذه الصدقة يأكل الحشف يوم القيامة، والنسائي، كتاب الزكاة، باب -قوله : وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ [البقرة:267]، برقم (2493)، وابن ماجه، أبواب الزكاة، باب النهي أن يخرج في الصدقة شر ماله، برقم (1822)، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود، برقم (1426).
  2. أخرجه ابن حبان في صحيحه، برقم (3372)، وقال محققه الأرناؤوط: "رجاله ثقات إلا أن فيه تدليس ابن إسحاق"، والدارمي في سننه، برقم (1700).
  3. أخرجه ابن حبان في صحيحه، برقم (4233)، والحميدي في مسنده، برقم (1210)، والبيهقي في السنن الكبرى، برقم (15691)، وصححه الألباني في تحقيق مشكاة المصابيح، برقم (1940).
  4. أخرجه مسلم، كتاب الزكاة، باب الابتداء في النفقة بالنفس ثم أهله ثم القرابة، برقم (997).
  5. أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب لا صدقة إلا عن ظهر غنى، برقم (1426)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب بيان أن اليد العليا خير من اليد السفلى، وأن اليد العليا هي المنفقة وأن السفلى هي الآخذة، برقم (1034).

مواد ذات صلة