الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
الموضع الأخير مما قد يُحمل على غير وجهه، أو يُفهم على غير معناه من سورة البقرة هو قوله -تبارك وتعالى- في أواخرها: لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ [البقرة:284]، فالحاصل أن الله أنزل هذه الآية وظاهرها أن الإنسان يُحاسَب على كل شيء حتى على خطرات النفس، وحركاتها، وسكناتها، ولا ريب أن هذا الأمر لا يطيقه الإنسان فهو خارج فوق طوقه، ولا يستطيع الإنسان أن يحبس فكره وحركات القلب والواردات التي ترد عليه فهو دائم التحرك بالأفكار والخواطر، ولذلك قيل له: الفؤاد لكثرة تفؤّده وتقلبه وتحركه بالواردات والخواطر، لكن هل هذه الآية على ظاهرها أن الله يحاسبنا على حركات النفوس فضلاً عن حركات الجوارح واللسان؟.
لما أنزل الله هذه الآية كما أخرج مسلم في صحيحه في حديثين اثنين حديث أبي هريرة [1]، وحديث ابن عباس -ا، "فشق ذلك على أصحاب النبي ﷺ"[2].
وجاء في بعض الروايات: "أنهم بركوا على الرُّكب، وقالوا: كُلفنا من العمل ما نُطيق، وقد أنزل الله عليك ما لا نُطيق"[3]، وهي هذه الآية، لا يستطيع الإنسان، قد يستطيع أن يُغمض عينيه، وأن يسد أذنيه، لكن القلب! حتى إذا كان الإنسان على فراشه في غرفة ظلماء يبدأ القلب يستعيد الشريط الذي كان في سائر اليوم، ولربما استعاد أشياء منذ سنوات، ولربما تحدث قلبه أو حدثته نفسه بأمور سيفعلها في المستقبل، فلا يستطيع الإنسان هذا الأمر، فلما قالوا ذلك للنبي ﷺ علمهم كيف يقولون، وحذرهم أن يقولوا كما قال بنو إسرائيل: سمعنا وعصينا، فعلمهم أن يقولوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة:285]، فلما قالوا ذلك، وأذعنت قلوبهم وألسنتهم أنزل الله ما يُبين ذلك بعده، وهو قوله -تبارك وتعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة:285].
نحن لا نعترض على شيء من أحكامك الشرعية ولا القدرية، سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ [البقرة:285-286]، يعني: مما يدخل في طوقها، وقدرتها وإمكانها، رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286]، وقد جاء في الحديث القدسي: أن الله قد قال: قد فعلت[4]، وهي في صحيح مسلم، وفي الرواية الأخرى عند مسلم قال: نعم[5]، رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا قال: نعم، رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا، والإصر هو التكاليف الشاقة التي لا تُطيقها النفوس، بنو إسرائيل كانت عليهم الآصار والأغلال، فلما أذنبوا ذلك الذنب المعروف، ووقع منهم ذلك التمرد على الله -، وعبدوا العجل كانت توبتهم أن يقتلوا أنفسهم، فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ [البقرة:54]، قيل: أُلقي فيهم الغمام فقُتل فيهم في يوم واحد سبعون ألفاً، صار الرجل يقتل أخاه وأباه وأقرب الناس إليه وهو لا يراه، فكانت تلك توبتهم المعروفة في التاريخ.
فالمقصود أن الله علمهم قال: رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [البقرة:286].
فأقول: هذا من لطف الله ، وقد جاء في هذه الروايات أن هذه الآية ناسخة للتي قبلها، "آمن الرسول" ناسخة للتي قبلها، ولكن ذلك على وجه من التوسع في إطلاق النسخ لكل ما يرِد على النص العام، أو يُغير ظاهره، والمقصود بذلك هنا -والله تعالى أعلم- هو أنها بينتها، أي أنكم إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه فإن الله يحاسبكم عليه مما يدخل في طوقكم، أما خطرات النفوس فإن الله لا يؤاخذ بها؛ لأنها ليست في طاقة الإنسان، وقد قال النبي ﷺ: إن الله تجاوز لأمتي عما وسوست أو حدثت به أنفسها، ما لم تعمل به، أو تكلم[6]، حديث النفس ولذلك لما جاء الصحابة إلى النبي ﷺ وقال له القائل: "إن أحدنا ليقع في نفسه الشيء، ليُحدث نفسه بالشيء يتعاظم أن يتكلم به"، يعني: يتمنى أن يُلقَى من شاهق جبل على أن ينطق به، يعني: هو أمر عظيم، فقال النبي ﷺ: أوَقد وجدتموه؟، ذاك صريح الإيمان[7]، بعضهم قال: المقصود بقوله: ذاك صريح الإيمان، يعني القلق بسبب هذه الخواطر فيدل على أن الإيمان يعمر القلب، فيطرد مثل هذه الخواطر ويضيق ذرعاً بها، وبعضهم قال: ذاك صريح الإيمان، أي: تلك الخواطر حينما تُلقى في القلب فإن ذلك يدل على أن إبليس يحرص على التشويش على هذا الإنسان؛ لأنه كما جاء "ما يفعل الشيطان بالبيت الخرب"، فلذلك قال النبي ﷺ: الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة[8]، يعني: ما عنده شيء آخر معكم، ما استطاع أن يحملكم على الكفر والشرك بالله فصار يشوش عليكم بهذه الخواطر، فالمقصود أن كثيراً من الناس يسألون، وبعضهم يُبتلى بالوسوسة، بعضهم يقول: وأنا أقود السيارة كأني تكلمت أن زوجتي حرام، أنها طالق، كأني تكلمت في سب الذات، الرب -تبارك وتعالى، كأنه كذا، هذا لا يؤاخذ فيه الإنسان، ولا يلتفت إليه، ولربما يقع في نفسه أشياء هل هذا القرآن حق؟، هل هذا الرسول حق؟، هذا من الشيطان فلا يلتفت إليه ولا داعي للقلق منه، لكن لا يسترسل الإنسان مع التفكير، ولذلك أخبرنا النبي ﷺ أن الشيطان يأتي للإنسان ويقول: من خلق كذا؟، من خلق كذا؟، من خلق كذا؟، فينبغي أن يستعيذ، ويترك ذلك.
فالمقصود أنه لا يؤاخذ عليه، كذلك قول النبي ﷺ: من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، ومن هم بحسنة فعملها كتبت له عشرًا إلى سبعمائة ضعف، ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب، وإن عملها كتبت[9]، وهذا من فضل الله ، همّ بها فلم يعملها تكتب حسنة، فهذه الخواطر لا يؤاخذ الإنسان عليها.
ثم انظر إلى نقطة تتعلق بهذه الآية وهي قوله -تبارك وتعالى: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286]، فقد تُحمل أيضاً على غير وجهها، إذ إن البعض لربما احتج بها على أنه يفعل ما شاء من المحرمات، ويقول: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا، طيب هذا في وسعك، أنت ما تستطيع أن تترك التدخين؟، ما تستطيع أن تترك سماع الموسيقى؟، ما تستطيع أن تترك تعاطي الربا؟، وإذا قيل له شيء قال: "لا يكلف الله نفساً إلا وسعها"، هذا ليس بخارج عن قدرتك وإرادتك، تجد الإنسان يذهب إلى الساحر ليفك عنه السحر، أو يذهب إلى الكاهن والعراف ليُخبره عن مكان الشيء الضائع أو المسروق ويقول: أنا مضطر، لستَ مضطراً؛ لأن الدين فوق، ثم النفس، ثم بعد ذلك يأتي العقل، ثم بعد ذلك يأتي العرض، والمال على خلاف في الترتيب، فالدين أولاً، الدين يُفدى بالنفوس، وتُبذل في سبيل حفظه وإقامته المُهج، ولا يذهب الدين في سبيل حفظ المُهجة والنفس، هذا غلط، ولم يقل بذلك أحد من أهل العلم، وإنما يكون ذلك فيما تحته، بمعنى أن الإنسان يبذل المال من أجل حفظ النفس، بل لربما بذل العرض بسبب حفظ النفس، لو أن امرأة أُكرهت ووضع المسدس على رأسها قيل لها: تفجرين أو تقتلين، يجوز لها، لا تؤاخذ، لكن لو صبرت فهي شهيدة، من قُتل دون عرضه فهو شهيد[10]، فهذا من رحمة الله ولطفه، فليس معنى لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، أن الإنسان يفعل ما يحلو له، وإذا قيل له: يا أخي اتقِ الله، هذا لا يجوز، قال: ماذا أفعل؟ لا يكلف الله نفساً إلا وسعها، يا أخي لا تبيع المجلات التي عليها صور النساء الفاتنات، فكل من نظر إليها فأنت مؤاخذ، ومُحاسب وعليك وزره، وكل من فُتن بها فعليك وزره، وتسويق المنكر والباطل والشر والرذيلة في المجتمع الإسلامي لك نصيب منه، إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [النور:19]، العلماء تكلموا كشيخ الإسلام وغيره قالوا: فقط مجرد المحبة، هو وده فقط أنها تنتشر يكون داخلا في هذه الآية، فما بالك بالإنسان الآخر الذي يروجها وينشر الصور أو المجلات الهابطة، أو الأفلام الخليعة، أو البرامج السيئة، أو يروجها في المجتمع بالكلام أو غير ذلك، ثم إذا قلت له: يا أخي اتقِ الله، قال: ماذا أفعل؟.
فنسأل الله أن يغنينا وإياكم بحلاله عن حرامه، وأن يقينا شر أنفسنا، ويعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته، ونسأل الله لنا ولكم القبول، وأن يختم لنا ولكم بخير.
- أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان قوله تعالى: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ [البقرة:284]، برقم (125).
- أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان قوله تعالى: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ [البقرة:284]، برقم (126).
- رواية أبي هريرة المتقدمة.
- أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان قوله تعالى: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ [البقرة:284]، برقم (126).
- أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان قوله تعالى: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ [البقرة:284]، برقم (125).
- أخرجه البخاري، كتاب الأيمان والنذور، باب إذا حنث ناسيا في الأيمان، برقم (6664)، عن أبي هريرة ، ومسلم، كتاب الإيمان، باب تجاوز الله عن حديث النفس والخواطر بالقلب، إذا لم تستقر، برقم (127).
- أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الوسوسة في الإيمان وما يقوله من وجدها، برقم (132).
- أخرجه أبو داود، أبواب النوم، باب في رد الوسوسة، برقم (5112)، وأحمد في المسند، برقم (2097)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين".
- أخرجه البخاري، كتاب الرقائق، باب من هم بحسنة أو بسيئة، برقم (6491)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب إذا هم العبد بحسنة كتبت، وإذا هم بسيئة لم تكتب، برقم (130)، واللفظ له.
- أخرجه أبو داود، كتاب السنة، باب في قتال اللصوص، برقم (4772)، والترمذي، أبواب الديات عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء فيمن قتل دون ماله فهو شهيد، برقم (1421)، والنسائي، كتاب تحريم الدم، من قاتل دون دينه، برقم (4095)، كلهم بلفظ: من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله، أو دون دمه، أو دون دينه فهو شهيد، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (6445).