الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
الآية 55 من سورة آل عمران مع الآية 156 و159 من سورة النساء 2
تاريخ النشر: ٢٩ / شعبان / ١٤٢٦
التحميل: 2559
مرات الإستماع: 2443

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فلا زال الكلام عن الآية الأولى من سورة آل عمران، وهي الآية 55 من هذه السورة، مما يُشكل، أو قد يُستشكل في كتاب الله -تبارك وتعالى- أو يُفهم على غير وجهه، وذلك قول الله -تبارك وتعالى: إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ [آل عمران:55]، وقلنا: إن هذه الآية لربما يُستشكل فيها من ناحيتين:

الأولى: ما يتعلق بالوفاة، وإن من أهل العلم من قال: إن في الآية تقديماً وتأخيراً، والتقدير: إذ قال الله يا عيسى إني رافعك إليّ ومطهرك من الذين كفروا، وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ومتوفيك، يعني: في نهاية المطاف، وهذا خلاف الأصل، والأصل أن يكون الكلام على وجهه من الترتيب، وعلى هذا فإن أقاويل أهل العلم قد تفرقت فيها، وذكرنا بعضها، فمن قائل: إني متوفيك، أي: مستوفيك روحاً وبدناً، أن الله رفعه بروحه وبدنه، وليس الموت، ومن قائل: إنه يوفيه أجره كاملاً، وهذا فيه بُعد، ومن قائل: إن الله كأنه طمأنه أن نهايته ستكون الوفاة وليس القتل كما أرادوا وكما دبروا -أعني الكفار من بني إسرائيل وهم اليهود، يعني: "إني متوفيك" لن تكون النهاية بالقتل كما دبر هؤلاء اليهود، وهذا فيه بُعد، ومن قائل: إن المعنى أني قابضك من الأرض، وهذا يشبه بعض الأقوال التي سبقت، كما قال الله : اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ [الروم:40].

فالحاصل أن أجود هذه الأقوال كما سبق هو قول من قال: إن الوفاة تحمل على المعنى الشرعي لا اللغوي؛ لأن ألفاظ الشارع محمولة على المعاني الشرعية، والمعنى الشرعي للوفاة معروف وهو مفارقة الروح الجسد إما كليًّا وهو ما نسميه الموت الحقيقي، وذلك تنتفي معه الحياة بالكلية، يكون الإنسان جثة هامدة، أو يكون ذلك بمفارقة الجسد مفارقة أخرى ينتفي معها الإدراك، وهي النوم، كما قال الله : اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ [الزمر:42]، فسماه موتاً ووفاة، وكذلك: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ [الأنعام:60]، ونحن نقول كما علمنا النبي ﷺ: الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا[1]، فسُمي النوم موتاً، وهكذا.

فالمقصود أن مثل هذا هو الأقرب في معنى هذه الآية، أي: أن الله ألقى عليه النوم ورفعه إليه في هذه الحالة.

وأما الجزء الآخر في الآية الذي قد يُستشكل وهو قوله -تبارك وتعالى: وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [آل عمران:55]، ومعروف أنه بعدما رُفع المسيح أن النصارى انقسموا إلى ثلاث طوائف: طائفة قالوا: إنه الله، وطائفة قالوا: إنه ابن الله، وطائفة قالوا: إنه ثالث ثلاثة، افترقوا إلى هذه الفرق الثلاث وبقوا على هذا نحواً من ثلاثة قرون، ثلاثمائة سنة وهم على هذا التفرق والاختلاف ولم يكن لأهل الحق والتوحيد الذين قالوا: إنه عبد لله، ورسول لم يكن لهم ظهور على هؤلاء بالقوة والغلبة، ثم بعد ذلك جاء قسطنطين وهو رجل وثني كما هو معروف، وهو ملك الرومان، فدخل ظاهراً في النصرانية، حتى قيل: إنه أدخل النصرانية في الوثنية في الواقع، دخل ظاهراً فيها ثم غلب القول بأن عيسى ثالث ثلاثة، أو أنه ابن الله.

المقصود أن قول أهل التوحيد والإيمان: إنه عبد الله ورسوله هذا قول صار أهله يُنبذون ويُلاحقون، ويُعذبون ويُقتلون ويحُبسون ويلقون غاية الأذى، وجاء قسطنطين هذا وبنى لهم نحواً من اثني عشر معبداً، وهو الذي صور الكنائس، وهو الذي يقولون -زعموا: إنه ارتكب ذنباً فزاد في شهر صومهم عشرة أيام، فصار الصوم عندهم أربعين يوماً.

وكذلك في وقته أحل لهم الخنزير ووقعت أمور كثيرة جدًّا من تغيير الديانة النصرانية حتى إنهم أداروا ظهرهم تماماً للتوراة التي هم متعبدون بها؛ لأن عيسى   كما قال الله في خبره حينما قال لبني إسرائيل: أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ [آل عمران:49]، إلى أن قال: وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ [آل عمران:50]، فهو جاء أحل لهم بعض الأشياء، ووضع عنهم بعض الآصار والأغلال التي هي التكاليف الشاقة الثقيلة عليهم، وضعها عنهم، هو لم ينسخ التوراة لكن لشدة عداوة النصارى لليهود تركوا العمل بالتوراة، والتوراة فيها الشريعة، القوانين، النظام، والإنجيل كان الغالب عليه الأمور التي تتعلق بالأخلاق والآداب والرقاق، وما أشبه ذلك، فصاروا بلا شريعة ولا قانون، فوَضع لهم أو وضعوا كتاباً وضعوا فيه القوانين سموه: الأمانة العظمى أو الكبرى، فصاروا يعملون به، فكان ذلك تبديلاً لشرائع الله التي أنزلها على رسله -عليهم الصلاة والسلام، هذا الذي حصل، فما معنى قوله -تبارك وتعالى: فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ [الصف:14]، هناك في سورة الصف، وهنا في سورة آل عمران: وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا [آل عمران:55]؟   

فبعض أهل العلم كابن القيم وابن كثير وأمثال هؤلاء من المحققين يقولون: لما كان النصارى -يعني: الذين ينتسبون إلى النصرانية- أقرب إلى المسيح من اليهود كانوا ظاهرين عليهم، فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ [الصف:14]، فبعدما دخل قسطنطين في النصرانية صار النصارى أقوياء، وصار اليهود يُذبحون في ممالك الرومان، يُطلب في ولايات الرومان وفي ممالكهم إحصاء اليهود الذين يوجدون في المدن والقرى فكانوا يُقتلون قتلاً ذريعاً، سلط الله عليهم قسطنطين هذا.

فالمقصود أن من أهل العلم من يقول: هذا هو المراد بالظهور أنهم لما كانوا أقرب للمسيح من اليهود ظهروا عليهم وإن كان عندهم ضلالات وانحرافات وكفر، لكن هذا المراد، ولما كان المسلمون أقرب للمسيح من النصارى صار المسلمون ظاهرين على اليهود والنصارى، فدحروا اليهود في قريظة والنضير والخندق وقينقاع، ودحروا مملكة النصارى الكبرى التي هي الرومان، وأخرجوهم من الشام، ثم من القسطنطينية التي بناها قسطنطين الذي ذكرناه آنفاً، فهذا قول لبعض أهل العلم.   

والقول الآخر: أن هذا الظهور المشار إليه كان على يد النبي ﷺ وأتباعه حينما رفعوا راية التوحيد، وأعادوا الحق إلى نصابه، فهذا هو الظهور الذي وعد الله به، كما قال الله : قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ [الصف:14]، لأنه أرسل إلى بني إسرائيل، آمنت طائفة من بني إسرائيل هم النصارى،وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ هم اليهود، فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ، ما هذا الظهور؟ بعض أهل العلم يقول: بما أنه لم يكن لهم ظهور في التاريخ فالظهور أنه ما كان في عهد النبي ﷺ، وأصحابه حيث إن النبي ﷺ دعا إلى التوحيد، وهو الذي دعا إليه المسيح فكان ذلك ظهوراً على اليهود والنصارى وجميع طوائف المشركين، وهذا قول جيد قريب له وجه، والله تعالى أعلم.

هذا إيضاح لهذين المعنيين في الآية مما قد يُستشكل، ولعله يكفي -إن شاء الله.

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

  1. أخرجه مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب ما يقول عند النوم وأخذ المضجع، برقم (2711).

مواد ذات صلة