الأربعاء 18 / جمادى الأولى / 1446 - 20 / نوفمبر 2024
الآية 66 من سورة التوبة
تاريخ النشر: ٢٠ / رمضان / ١٤٢٧
التحميل: 1748
مرات الإستماع: 2206

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فمن الآيات التي قد تُفهم على غير مراد الله، وتحتاج إلى بيان المراد منها قول الله -تبارك وتعالى- في خبر المستهزئين في سورة التوبة، الفاضحة، براءة، أولئك الذين استهزءوا بالقُراء في غزوة تبوك فأنزل الله فيهم ما أنزل، وقال: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ ۝ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً [التوبة:65-66].

فقوله -تبارك وتعالى: لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ، هذه الآية في المنافقين، ولم يرد في القرآن أصلاً شيء من الاستهزاء بالدين، أو بأهل الدين إلا عن اليهود، أو النصارى، أو الكفار، أو المنافقين، الله قال عن أهل الكتاب: وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا [المائدة:58]، وقال عن المشركين الذين بُعث إليهم الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام، ومن هؤلاء من بُعث إليهم نبينا محمد  ﷺ: أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا [الفرقان:41]، يستهزئون بالنبي ﷺ، إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا [الفرقان:42]، فهم يستهزئون به يقولون: هذا!، هذا هو الرسول! يحتقرونه ويستخفون به ويستصغرون شأنه، وهكذا يستهزئون بالدين، ويستهزئون بالمسلمين في آيات كثيرة في كتاب الله ، وفي الآخرة يضحك منهم أهل الإيمان فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ [المطففين:34]، كما ضحكوا منهم في الدنيا؛ لأنهم في الدنيا كانوا يضحكون منهم، وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ [المطففين:30]، استهزاءً وسخرية، وهذه في المنافقين، المنافقون يستهزئون بالمطَّوعين في المؤمنين في الصدقات، كما قال : الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ [التوبة:79]، يقولون: الله غني عن هذا، انظروا جاء بكف من تمر، الله غني عنه وعن صدقته، وإذا جاء بصدقة كثيرة، قالوا: انظروا إلى هذا المُرائي، ويستهزئون بالنبي ﷺ، ويقولون: هو أُذن، أُذن يعني أنه يسمع من كل من جاء، ورأيه مع آخر واحد يأتي، كل من جاء ألقى -صب- في أُذنه ما شاء.

ويستهزئون بأهل الإيمان عموماً، وبكتاب الله ، فالشاهد هذه الآية الله يقول فيها: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ [التوبة:65]، نمزح، نزجّي الأوقات، نقضيها، نضحك فُكاهة، تبوك بعيدة تحتاج إلى شيء من الإجمام، وما وجدوا شيئًا يستهزئون فيه غير الدين، والمتدينين، مثل أصحاب هذا البرنامج الرديء الذي يُعرض على الناس في وقت الإفطار "طاش ما طاش"، وإن كان الإنسان يستحيي أن يُسميه.

فالمقصود: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ ۝ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ [التوبة:65-66]، هل كانوا مؤمنين؟، هذا هو محل الإشكال، هل كانوا مؤمنين حتى قال الله فيهم: "قد كفرتم بعد إيمانكم"؟

المعروف أنهم كانوا من المنافقين.

الجواب عن هذا أن يقال: إن المراد كفرتم بعد إيمانكم الذي أظهرتموه، هم يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر، فالله جعل ذلك نقضاً منهم لإيمانهم الظاهر المُدَّعى المُعلن، "كفرتم بعد إيمانكم"، هم كفار في الباطن، ولم يكونوا مؤمنين كما هو معلوم، يقول الله : إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء:145]، إذن "كفرتم بعد إيمانكم"، أي: الذي أظهرتموه، ثم انظر قوله بعده: لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً [التوبة:66]، هل يكون من كان كافراً في الباطن محلًّا لعفو الله ؟

إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، والله يقول: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء:145]، فما المراد إذن؟

من أهل العلم من قال: المراد بهذا إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ [التوبة:66]، الطائفة تصدق على الواحد فما فوق، كان معهم رجل من المسلمين ضحك، ما كان يستهزئ، فقط ابتسم، ضحك، فنزلت الآية في الجميع، فقال: إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ [التوبة:66]، هذا الذي جاء وهو مَخْشي بن حُميِّر إلى رسول الله ﷺ فقال: "يا رسول الله، قعد بي اسمي واسم أبي"[1]، قعد بي اسمي، مَخْشي، واسم أبي، حُمِّير، وكان يعتذر للنبي ﷺ وتاب وصحت توبته، وحسُن إيمانه بعد ذلك، فكثير من السلف قال: إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ، هذا مخشي، نُعَذِّبْ طَائِفَةً.

ومن أهل العلم من يقول: المراد بذلك هو أن الله يوفق بعضاً للتوبة فيتوب عليهم كما قال الله في الكفار يوم أُحد الذين قتلوا حمزة وفعلوا ما فعلوا: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ [آل عمران:128]، كيف يتوب على الكفار؟ يوفقهم للتوبة فيتوب عليهم، والأمر كله لله، هذه هي الآية الأولى.

والآية الثانية: وهي في سورة هود، وهي قوله -تبارك وتعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ ۝ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود:15-16]، هل من كانت له إرادة للدنيا يكون داخلاً في هذا الوعيد مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ ۝ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ؟ [هود:15-16]، هل هذا هو المراد؟ من الذي يَسلم؟! كل إنسان له إرادة للدنيا، في أحد ما له إرادة للدنيا؟، لا يوجد.

وكذلك في ثلاث آيات أُخر في كتاب الله ، هذه آية هود، وآية آل عمران وهي قوله: وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ [آل عمران:145].

والآية الثالثة: وهي في سورة الإسراء مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا [الإسراء:18].

والآية الرابعة: في سورة الشورى، وهي قوله -تبارك وتعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [الشورى:20]، هذه أربع آيات، فما المراد؟.

بعض السلف قالوا: هذه الآيات في الكفار أصلاً، ومنهم من قال كمعاوية وهو مروي عن ابن عباس بإسناد فيه ضعف: إن المراد بذلك أهل الرياء، الذي يُرائي في أعماله، ومن أهل العلم من قال: هذه الآيات في المنافقين يريدون الدنيا، يظهرون الإسلام ويريدون حقن دمائهم وإحراز أموالهم.

ومن أهل العلم من قال: هذه في من تمحض طلبه للدنيا، فالدنيا هي طِلبته وغايته التي من أجلها يقوم ويقعد، وهذه المعاني التي قالها السلف صحيحة، الشيء الذي يجب أن نفهمه أنه ليس كل من أراد الدنيا يكون نصيبه النار، هذا لا ينفك منه أحد، وإنما يدخل في هذه الآية من كان منافقاً، المنافقون، ويدخل فيها أيضاً الكفار؛ لأنهم يريدون الحياة الدنيا، ويدخل فيها أيضاً أهل الرياء، ليس الذي راءى في عمل معين، فإنه لا يكفر إلا إن كان الرياء واقعاً في أصل الإيمان، إنسان دخل في الإيمان رياءً، أو كانت جميع أعماله رياء، وأبو هريرة في الحديث المشهور لما حدّث بالثلاثة الذين هم أول من تُسعر بهم النار يوم القيامة، وبكى بكاءً شديداً، ثم بعد ذلك حدث ثم بكى، ثم حدث ثم بكى، ثم ذكر هؤلاء: تعلم العلم أو قرأ القرآن ليقال: قارئ، وأنفق ليقال: جواد، وجاهد ليقال: شجاع[2]، فهؤلاء أول من تُسعر بهم النار يوم القيامة، أبو هريرة قرأ الآية هذه بعدها: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ [هود:15]، قصد بذلك أهل الرياء، لكن يقال هذا فيمن كان الرياء عنده واقعاً في أصل الإيمان، أو جميع أعماله رياء. 

ويدخل فيها أيضاً من تمحضت إرادته للدنيا في كل شيء، من أجلها يقوم ومن أجلها يقعد، إن صلى مع الجماعة فهو يريد إثبات عدالته فقط ودفع التهمة عنه، وإن مشى إلى المسجد يريد الرياضة، وإن صام من أجل أن يصح، وإن زكى من أجل أن ينمو ماله، وإن وصل الرحم فهو من أجل فقط أن يُنسأ له في أثره ويُطال في عمره، وهكذا في كل عمل من الأعمال الصالحة يريد شيئاً عاجلاً من الدنيا، فمثل هذا داخل في هذه الآية، هذا هو المراد، والله تعالى أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. انظر: تفسير ابن كثير (4/ 172)، ومغازي الواقدي (3/ 1004)، وسيرة ابن هشام (2/ 525).
  2. أخرجه الترمذي، أبواب الزهد عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في الرياء والسمعة، برقم (2382)، والنسائي في الكبرى، برقم (11824)، وابن خزيمة في صحيحه، برقم (2482)، والحاكم في المستدرك، برقم (1527)، وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (1713).

مواد ذات صلة