بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المفسر -رحمه الله تعالى- عند تفسير قوله تعالى:
وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [سورة الأعراف:182، 183]
يقول تعالى: وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ، ومعناه: أنه يفتح لهم أبواب الرزق ووجوه المعاش في الدنيا حتى يغتروا بما هم فيه ويعتقدوا أنهم على شيء، كما قال تعالى: فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [سورة الأنعام:44، 45]، ولهذا قال تعالى: وَأُمْلِي لَهُمْ أي: وسأملي لهم، أي أطوّل لهم ما هم فيه، إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ أي: قوي شديد.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة السلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله -تبارك وتعالى: وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ [سورة الأعراف:182] الاستدراج هو الأخذ بالتدريج منزلة بعد منزلة، حتى يوقعه في مغبّة فعله، فالله -تبارك وتعالى- يملي للكافرين، قال : وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ [سورة آل عمران:178] فيعطيهم ويغدق عليهم من الأموال والأرزاق والخيرات في الدنيا حتى تستحكم الغفلة على قلوبهم، ثم يأخذهم فيهلكهم.
قوله: إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [سورة الأعراف:183]، تعليل لما سبق، فمن الكيد أن يملي الله لهؤلاء الكفار ويستدرجهم، وهذا الموضع في القرآن من المواضع التي ذكر فيها الكيد في غير مقابلة، مما يدل على أن هذه الصفة لا يشترط فيها أن تكون من قبيل المقابلة، أو من قبيل المشاكلة، وهو نوع من المجاز، لكن هذه الصفة لا تطلق على الله ولا تقال لله بإطلاق وإنما بقيد، فيقال: الله يكيد للكافرين وللمجرمين وللظالمين، فهي صفة كمال بهذا الاعتبار.
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ [سورة الأعراف:184] يقول تعالى: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ هؤلاء المكذبون بآياتنا مَا بِصَاحِبِهِم: يعني محمداً ﷺ، مِّن جِنَّةٍ أي: ليس به جنون بل هو رسول الله حقاً دعا إلى حق، إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ: أي: ظاهر لمن كان له لب وقلب يعقل به ويعي به، كما قال تعالى: وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ [سورة التكوير:22]، وقال تعالى: قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ [سورة سبأ:46]، يقول: إنما أطلب منكم أن تقوموا قياماً خالصاً لله ليس فيه تعصب ولا عناد، مَثْنَى وَفُرَادَى أي: مجتمعين ومتفرقين، ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا في هذا الذي جاءكم بالرسالة من الله أبه جنون أم لا؟ فإنكم إذا فعلتم ذلك بان لكم وظهر أنه رسول الله ﷺ حقاً وصدقاً.
وقال قتادة بن دعامة: ذكر لنا أن نبي الله ﷺ كان على الصفا فدعا قريشاً فجعل يفخذهم فخذاً فخذاً، يا بني فلان يا بني فلان، فحذرهم بأس الله ووقائع الله، فقال قائلهم: إن صاحبكم هذا لمجنون بات يصوت إلى الصباح أو حتى أصبح، فأنزل الله تعالى: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ [سورة الأعراف:184].
وهذا مرسل عن قتادة، وإن كان وقوف النبي على الصفا ثابتاً بأحاديث مسندة.
قوله –تبارك وتعالى: أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ [سورة الأعراف:185]، الواو هذه عاطفة تعطف قوله : وَمَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ، على ما قبلها وهو قوله: مَلَكُوتِ، ويكون المعنى: أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض، وينظروا في ما خلق الله فيتفكروا ويعتبروا.
قوله: وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ [سورة الأعراف:185] هذه الجملة أيضاً معطوفة على ملكوت، يعني يتفكروا في قرب آجالهم، أن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم، يتفكروا في هذا، وينزجروا عما هم فيه.
قوله –تبارك وتعالى: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ [سورة الأعراف:185]، يحتمل أن يكون الضمير راجعاً إلى ما تقدم من التفكر والنظر في الأمور المذكورة، ويحتمل أن يكون عائداً إلى القرآن، أي فبأي حديث بعد القرآن يؤمنون؟ ولعل هذا هو المتبادر، ويحتمل أن يكون عائداً إلى النبي ﷺ، ويحتمل أن يكون عائداً إلى الأجل المذكور في قوله: وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ [سورة الأعراف:185] باعتبار أن الضمير يرجع إلى أقرب مذكور، ولكن هذا فيه بعد -والله تعالى أعلم- والأقرب أن ذلك يرجع إلى القرآن، ولهذا قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله: "فبأي تخويف وتحذير وترهيب بعد تحذير محمد ﷺ وترهيبه الذي أتاهم به من عند الله في آي كتابه" فعبر ابن كثير بهذه العبارة التي تشتمل على أنه محمد ﷺ والقرآن.
ثم قال تعالى: مَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [سورة الأعراف:186] يقول تعالى: من كتب عليه الضلالة فإنه لا يهديه أحد، ولو نظر لنفسه فيما نظر، فإنه لا يجزي عنه شيئاً، ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً.
ولو نظر لنفسه فيما نظر، فإنه لا يجزي عنه شيئاً، وكما قال تعالى: قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ [سورة يونس:101].
يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [سورة الأعراف:187]
يقول تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ كما قال تعالى: يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ [سورة الأحزاب:63] قيل: نزلت في قريش، وقيل: في نفر من اليهود، والأول أشبه؛ لأن الآية مكية، وكانوا يسألون عن وقت الساعة استبعاداً لوقوعها وتكذيباً بوجودها، كما قال تعالى: وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ [سورة الملك:25]، وقال تعالى: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ [سورة الشورى:18].
الذين كانوا يسألون النبي ﷺ عن الساعة منهم من سأله سؤال تكذيب واستبعاد، ومنهم من سأل سؤال مستخبر ومستعلم، فقد جاء أعرابي يسأل النبي ﷺ عن الساعة، وجاء جبريل -عليه الصلاة والسلام- وسأل النبي ﷺ عن الساعة؛ لتعليم الناس أن هذا الأمر مما اختص الله به.
والساعة اسم من أسماء القيامة كما هو معلوم، وسميت بهذا الاسم لسرعة وقوعها، كما دلت الأحاديث على هذا المعنى، فربما ينشر الرجلان الثوب يتبايعانه فلا يتم البيع، وربما يصلح الرجل حوضه فلا يسقي منه، وربما أخذ الرجل بلبن لقحته ولا يشربه.
وقيل: سميت الساعة بهذا الاسم؛ لسرعة وقوع الحساب فيها، فحساب جميع النفوس عند الله كحساب نفس واحدة، وقيل: لأنها مؤقتة بوقت، وما كان كذلك فإنه يقال له: الساعة.
الأقوال التي قالها السلف في معنى مرساها متقاربة، تقول: رست السفينة، أي: انتهت إلى المكان الذي تقف فيه، ووقفت عندها، فمعنى أَيَّانَ مُرْسَاهَا، أي: متى وقتها الذي تجيء به، ومتى تحل بالخلق؟
قوله: لاَ يُجَلِّيهَا التجلية: أصلها بمعنى الإظهار، أي: لا يكشف عنها ولا يظهرها ولا يبديها عن وقتها إلا هو.
قوله: ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، أي: ثقل علمها، وهذا هو اختيار ابن جرير -رحمه الله- وذلك باعتبار أن ما لا يعلمه الإنسان فإنه يثقل عليه، فإذا علمه وانكشف له حقيقته وعرفه، فإنه يخف عليه ويسهل، ومثال ذلك قول الخضر لموسى ﷺ: سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا [سورة الكهف:78]، ثم لما أعلمه قال: ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا [سورة الكهف:82] فلمّا كان علْم ذلك مستثقلاً عند موسى ﷺ قال له في الأولى لَمْ تَسْتَطِع، وموسى -عليه الصلاة والسلام- منشغل بهذه الأشياء التي شاهدها، فلما أخبره عن حقائق هذه الأشياء وما وراء هذه التصرفات، سرّي عنه وخف عنه.
هذا قول آخر في معنى قوله -تبارك وتعالى: ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، فإذا وقعت الساعة فإنها تكون ثقيلة شديدة تحصل فيها من الأهوال والأوجال ما لا طاقة للبشر به، يشيب الصغير، وتضع كل ذات حمل حملها، وتنفطر السماوات، وتنكدر النجوم، وتتغير هذه الأفلاك، وتزلزل هذه الأرض، وتسجر البحار وتزال الجبال عن أماكنها، إلى غير هذا من الأمور التي أخبر الله عنها.
وقال الضحاك عن ابن عباس -ا- في قوله تعالى: ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قال: ليس شيء من الخلق إلا يصيبه من ضرر يوم القيامة.
وقال ابن جريج: ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قال: إذا جاءت انشقت السماء وانتثرت النجوم، وكورت الشمس وسيرت الجبال، وكان ما قال الله فذلك ثقلها.
هذه الروايات الثلاث ترجع إلى المعنى الأول، أي: ثقل علمها.
وقال بعض أهل العلم في معنى قوله –تبارك وتعالى: ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أي: عظُم وصفها، وقيل: أي: ثقلت المسألة عنها، والراجح –والله أعلم- في معنى هذه الآية أنه ثقل علمها، وإذا وقعت فإنها تكون شديدة على الخلق، وهذا هو القول الأول والثاني.
هذا يرجع إلى القول الأول، أي خفي علمها، وما خفي علمه ثقل على النفوس حتى ينكشف.
لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً، يبغتهم قيامها، تأتيهم على غفلة، وقال قتادة في قوله تعالى: لا تأتيكم إلا بغتة قضى الله أنها لا تأتيكم إلا بغتة، قال: وذكر لنا أن نبي الله ﷺ كان يقول: إن الساعة تهيج بالناس والرجل يصلح حوضه والرجل يسقي ماشيته، والرجل يقيم سلعته في السوق ويخفض ميزانه ويرفعه.
وروى البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون، فذلك حين لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً، ولتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما، فلا يتبايعانه ولا يطويانه، ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقْحَته فلا يطعمه، ولتقومن الساعة وهو يَلِيط حوضه فلا يسقي فيه، ولتقومن الساعة والرجل قد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها [1].
- رواه البخاري كتاب الرقائق، باب طلوع الشمس من مغربها، (5/2386)، برقم: (6141).