بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [سورة الأعراف:199، 200].
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله: خُذِ الْعَفْوَ أمره الله بالعفو والصفح عن المشركين عشر سنين، ثم أمره بالغلظة عليهم.
وقال غير واحد عن مجاهد في قوله: خُذِ الْعَفْوَ قال: من أخلاق الناس وأعمالهم من غير تجسس.
وقال هشام بن عروة عن أبيه: أمر الله رسول الله ﷺ أن يأخذ العفو من أخلاق الناس، وفي رواية قال: خذ ما عُفي لك من أخلاقهم.
وفي صحيح البخاري عن هشام عن أبيه عروة عن أخيه عبد الله بن الزبير -ا- قال: "إنما أنزل خُذِ الْعَفْوَ من أخلاق الناس"[1].
وفي رواية لغيره عن هشام عن أبيه عن ابن عمر -ا، وفي رواية عن هشام عن أبيه عن عائشة -ا- أنهما قالا مثل ذلك والله أعلم.
وروى ابن جرير وابن أبي حاتم جميعاً حدثنا يونس قال: حدثنا سفيان هو ابن عيينة عن أميٍّ قال: لما أنزل الله على نبيه ﷺ: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ، قال رسول الله ﷺ: ما هذا يا جبريل؟ قال: إن الله أمرك أن تعفو عمن ظلمك وتعطي من حرمك وتصل من قطعك[2].
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله -تبارك وتعالى: خُذِ الْعَفْوَ فيها ثلاثة معانٍ، المعنى الأول: الصفح عن إساءة المسيء، والإعراض والتجاوز عن ذلك بحيث لا يقف عند الإساءة.
والمعنى الثاني: وهو ما عفا أي: زاد فيما يتصل بأموال الناس، بحيث يتصدق بما زاد عن حاجته وحاجة أهله، وهذا كان في أول الإسلام، حينما كان الناس في شدة وضيق، فقد قال بعض أهل العلم: لا يجوز للإنسان أن يدخر شيئاً، وهذا الذي فارق عليه أبو ذر النبي ﷺ، وذهب إلى قومه وبقي فيهم سنين متطاولة، ثم جاء إلى النبي ﷺ في المدينة بعد ذلك بزمن طويل وكان الله قد وسع على المسلمين، وصار يجوز للإنسان أن يدخر، وأن ذلك لا يكون كنزاً وأنه إذا أخرج الزكاة برئت ذمته، وأما أبو ذر فكان يرى أن كل ما يُدخر فهو كنز يكوى به جبينه وجنبه وظهره، وخالفه على هذا الصحابة .
والمعنى الثالث -وهو المعنى المشهور الذي عليه عامة السلف وهو الأقرب في تفسيرها والله تعالى أعلم: أن المراد خُذِ الْعَفْوَ أي: من أخلاق الناس، فيكون المعنى لا تستقصِ الناس في معاشرتهم ومخالطتهم، وتطلب حقك منهم، فلا تطالبهم بكل حقوقك وتدقق معهم في هذا، وتستقصِ كل حق، فلا تفوت شيئاً لا دقيقاً ولا جليلاً، فإن من فعل ذلك فإنه سيتعب ويُتعب الناس، فالنفس من شأنها أن تضعف، ويكون لها حالات من الإقبال والإدبار، وقد تسوء النفس وتسوء الطباع والأخلاق بسبب ظاهر، أو بغير سبب أحياناً، فالنفس تمر في حالات من الارتفاع والهبوط، فالبشر من طبيعتهم الضعف والتقصير والعجز، فخذ العفو: يعني ما جاء منهم سهلاً بإقبال نفس فاقبل به، ولا تطالبهم بأكثر من هذا، وهذا أصل كبير في التعامل مع الناس، وراحة لقلبك ولهؤلاء الناس أيضاً.
أما الذي يريد أن يحاسب الناس على كل صغيرة وكبيرة، ماذا قالوا وماذا فعلوا؟ وكيف تصرفوا وكيف استقبلوه، وطريقتهم في الاستقبال؟ أو أنهم ما اكترثوا به أو ما أعاروه اهتماماً، وكأنهم لا يعرفونه حينما سلموا عليه، ثم يغضب، فمثل هذا سيتعب، وسيُتعب الآخرين معه، وإذا عرفوا منه ذلك، فإنهم سيتكلفون ويتصنعون له، فيكون مستثقلاً، فهذا أحسن ما فسرت به -والله تعالى أعلم، وهو اختيار ابن جرير وابن القيم، -رحمهم الله.
قوله: وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ قال: العرف هو المعروف، والمعروف هو: كل خصلة جميلة يحبها الله ورسوله ﷺ، كل ما تطمئن إليه النفوس، وتستحسنه العقول السوية من الأقوال والأعمال، وكل ما جاء به الرسول ﷺ فهو من المعروف، فالمعروف أقرتْ بحسنه الشريعة، وما يدرك منه بالعقل؛ فإن العقول تستحسنه، ولا يمكن للعقول السوية أن تستقبح المعروف، لكنها قد تتوقف في البعض بحيث لا تدرك ما فيه من الحسن، وإنما يُعرف ذلك من جهة الشرع فيما لا مجال للعقول في إدراكه، فمن الأفعال ما فيه حسن ذاتي، يُدرك بالعقل وإن لم يأت النقل بتقريره.
وهناك أشياء لها قبح ذاتي، ولو لم يأت النقل بذمها، فالكذب والزنى والفواحش والظلم كلها قبائح، تدرك ذلك العقول السوية، وجاءت الشرائع بتقرير هذا، فمثل هذه الأمور قررها العقل والنقل، ولا يقال الشرع والعقل؛ لأن العقل الصحيح هو من جملة أدلة الشرع، فلا يقابل بالشرع، وإنما يقال: العقل والنقل، وأدلة الشرع: العقل والنقل والفطرة، وقوله: خُذِ الْعَفْوَ جمعت أصولاً عظيمة، ومعناها أي: لا تستقصِ في التعامل مع الناس، وتستأصل حقك منهم.
وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ أي: اؤمرهم بما يعمر القلوب، ويهذب الأخلاق، ويرفعهم، ويقبل ذلك من يقبله، وينتفع به من ينتفع، ويستجيب من يستجيب، وستجد سفهاء لا يتعاملون بطريقة صحيحة، يصدر منهم ما يؤذيك، فهؤلاء لا تقفْ معهم على الإساءة ولا تُجارِهم بهذا، فتكون منحدراً منسفلاً، تستوِ معهم في أخلاقهم، وعدوانهم على الناس، وجهالاتهم، وحماقاتهم، فإن الإنسان إذا نزل مع هؤلاء وأراد أن يجاريهم فإنه يكون قِرناً لهم ونظيراً لهم، فتكون مرتبته بذلك منحطة، فالواجب على الإنسان أن يُعرض عن الجاهلين لقول الله: وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا [سورة الفرقان:63]، وقوله: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ [سورة القصص:55]، فإذا مروا باللغو أعرضوا عنه، واللغو يشمل جهالات الجاهلين.
فالله -تبارك وتعالى- أمر بالصفح والعفو والإعراض في القرآن، إزاء جهالات الجاهلين وحماقاتهم، إلا في موضع واحد -قال الله : وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ[سورة الشورى:39]- في مقام المدح للمؤمنين، وهذا لا يعارض الآيات الأخرى ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [سورة المؤمنون:96]، و[سورة فصلت:34]، وإنما يُحمل ذلك -والله تعالى أعلم- على معنى وهو أن الإنسان إذا كان في مقام يورثه المذلة، ففي هذا الموطن يتعين الانتصار، فالمؤمن لا يكون ذليلاً، فالعفو الذي يورده موارد الذل لا يقبل به، لا يُستذل، يُستذل ثم يُستذل ثم يُستذل ويقول: أعفو وأصفح، وإنما العفو الممدوح هو الذي يزيد الإنسان عزةً ورفعةً، والعفو الذي يزيد المؤمن ذلة وضعة وهواناً هذا لا ينبغي أن يكون للمؤمن؛ لقول النبي ﷺ: لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه[3]، فجاء في هذا الموضع الواحد وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ.
وفي هذه السورة يقول: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ وستجد من مخالطة الناس التقصير في حقك فخذ العفو ولا تعنتهم، وأمُر بطاعة الله وطاعة رسوله ﷺ، وبكل قول وفعل جميل، ومع هذا فستجد منهم ما تتأذى به من الأقوال والأفعال ممن لا يحسبون للكلمة حساباً، ولا ينضبطون بضوابط الشرع، فمثل هؤلاء لا تهبط معهم ولا تُجارِهم في هذه الجهالات والحماقات، فتكون بمنزلتهم -والله أعلم.
هذا يوضح عدل عمر الذي يضرب به المثل والذي هو في قمة النزاهة، والزهد، والخوف من الله ، يقول: لو عثرت بغلة في العراق لكنت مسئولاً عنها، ويقول: لئن بقيت ليصلنّ هذا المال إلى راعي الغنم في غنمه على جبل في صنعاء دون أن يأتي إليه، ويخرج يطارد بعيراً من إبل الصدقة خارج المدينة، ويمشي وهو يستقبل في الفتح، فتح الشام، بلاد إمبراطورية وفيها ناس ووجهاء وناس يستقبلونه، يأتي يخوض الماء رافعاً ثيابه، ويتعاقب عليه هو والخادم وفترة يجعلونه يرتاح، ليس لديه موكب ولا حرس ولا غير ذلك.
وقد أخذ بعض الحكماء معنى الآية فسبكه في بيتين فيهما جناس فقال:
خذ العفو وأمر بعرف كما | أُمرتَ وأعرض عن الجاهلين |
ولِن في الكلام لكل الأنام | فمُستحسَن من ذوي الجاهلين |
وقال بعض العلماء: الناس رجلان، فرجل محسن فخذ ما عفا لك من إحسانه، ولا تكلفه فوق طاقته، ولا ما يحرجه، وإما مسيء فمُره بالمعروف، فإن تمادى على ضلاله واستعصى عليك واستمر في جهله فأعرض عنه فلعل ذلك أن يرد كيده، كما قال تعالى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ [سورة المؤمنون:96-98]، وقال تعالى: وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [سورة فصلت:34، 35]، أي: هذه الوصية.
وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [سورة فصلت:36]، وقال في هذه السورة الكريمة أيضاً: وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [سورة الأعراف:200].
عدو الإنسان قد يكون من الإنس، وقد يكون من الشياطين، فالأول قد تنفع فيه المصانعة؛ لطيب أصله، فإذا أحسن إليه تحول وكف إساءته، وربما تحول إلى ولي حميم، أما الآخر فهذا لا تنفع معه المصانعة ولا الإحسان، لكن الله -تبارك وتعالى- أخبرنا بشيء نتخلص به منه هو الاستعاذة فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ، والنزغ: هو النخس، والمقصود به: ما يلقيه الشيطان، فيحرك الإنسان ويوسوس له، ويزين له الباطل والمنكر والإساءة والظلم والعدوان على الناس -والله تعالى أعلم، وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ فيحرك النفس المُغضبَة، ويأمره بالانتقام أو العدوان والظلم، ويلقي في نفسه الخواطر والوساوس السيئة، يقول له: إن عفوت فإن هذا يحمل على غير وجه، ويظن أنك تضعف عن الانتقام، فانتقم، وهكذا، فيحمله على رد الإساءة بإساءة مثلها أو أكثر منها، فكل هذه المعاني يفسر بها النزغ.
فهذا الآيات الثلاث في الأعراف والمؤمنون وحم السجدة لا رابع لهن، فإنه تعالى يرشد فيهن إلى معاملة العاصي من الإنس بالمعروف وبالتي هي أحسن فإن ذلك يكفه عما هو فيه من التمرد بإذنه تعالى، ولهذا قال: فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ، ثم يرشد تعالى إلى الاستعاذة به من شيطان الجان، فإنه لا يكفه عنك الإحسان، وإنما يريد هلاكك ودمارك بالكلية، فإنه عدو مبين لك ولأبيك من قبلك.
وقال ابن جرير في تفسير قوله: وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ: وإما يغضبك من الشيطان غضب يصدك عن الإعراض عن الجاهل ويحملك على مجازاته فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ يقول: فاستجر بالله من نزغه إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ: سميع لجهل الجاهل عليك، والاستعاذة به من نزغه، ولغير ذلك من كلام خلقه، لا يخفى عليه منه شيء، عليم بما يُذهب عنك نزغ الشيطان وغير ذلك من أمور خلقه، وقد قدمنا أحاديث الاستعاذة في أول التفسير بما أغنى عن إعادته هاهنا.
إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ [سورة الأعراف:201-202].
يخبر تعالى عن المتقين من عباده الذين أطاعوه فيما أمر وتركوا ما عنه زجر، أنهم إذا مسهم أي: أصابهم طيف، وقرأ الآخرون طَائِفٌ، وهما قراءتان مشهورتان فقيل بمعنى واحد، وقيل بينهما فرق، ومنهم من فسر ذلك بالغضب ومنهم من فسره بمس الشيطان بالصرع ونحوه، ومنهم من فسره بالهم بالذنب، ومنهم من فسره بإصابة الذنب، وقوله: تَذَكَّرُواْ...
قوله: إِذَا مَسَّهُمْ أي: أصابهم طيف، هذه قراءة متواترة، وهي قراءة أهل البصرة وابن كثير، إذا أصابهم طيف، وقرأ الآخرون طَائِفٌ وهما قراءتان مشهورتان، هما بمعنى واحد، وهذا هو المشهور، وذكر بعضهم فرقاً بينهما، فبعضهم قال: الطيف هو التخيل، والطائف: هو الشيطان، وهذا فيه بعد -والله تعالى أعلم.
ثم اختلف العلماء في المراد بالطائف في قوله: إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ، فقيل: هو الشيطان، وقيل: هو الغضب، ويكون الطائف والطيف بمعنى الغضب، ومنهم من فسره بمس الشيطان بالصرع ونحوه، وقيل: الذنب، وقيل: نفس إصابة الذنب، وقيل: هو الوسوسة؛ لأنها من إلمام الشيطان بقلب ابن آدم، وتشبه ما ألم به من الخيال في قلب الإنسان، وقيل: ما يتخيله قلب الإنسان أو ما يراه في المنام، والأقرب حمل الآية على هذه المعاني جميعاً -والله تعالى أعلم.
قوله: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ أي: إذا ألم بهم لمم من الشيطان من غضب يحركهم إلى الانتقام، أو ألقى في قلبهم الوساوس والخواطر الرديئة، والأفكار المضلة، أو الإغراء بالشهوات، أو زين لهم المنكر، أو غير ذلك من المعاني التي ذكرها السلف، فإن الذين اتقوا إذا أصابهم هذا يتذكرون وعد الله ووعيده وثوابه وعقابه، فيورثهم هذا التذكر والتبصر عند حدود الله ، فإذا كان هذا الذي ألقاه في قلبه هو الغضب وتحريكه إلى الانتقام تذكر ما عند الله ، تَذَكَّرُواْ.
لما قال معاوية حين جاء إلى المدينة وكان يريد أن يأخذ البيعة لولده يزيد فتكلم بحضرة من حضر من الصحابة ومنهم ابن عمر وقال: من يرى أنه أحق منا بهذا الأمر، فليخرج قرنه فنحن أحق به منه ومن أبيه، يقول ابن عمر: فحللت حبوتي وهممت أن أتكلم، أراد أن يقول: أحق به منك، مَن قاتلك وأباك على الإسلام؟ لكنه تذكر ما عند الله، غضب وأراد أن يرد عليه، لكنه قال: تذكرت ما عند الله، إذا أصابهم طائف من الشيطان تذكروا، فعلى الإنسان أن يكون منضبطا بضوابط الشرع، فلا يصدر منه إلا ما يليق، لا يتحول إلى سفيه، فمن الناس من يقول: والله ما كنت أدري عن شيء، وربما قد حصل منه الطلاق أو الضرب العنيف، فيفتخر أنه إذا غضب ما يدري ما يقول، وما يعمل، أي أنه يتصرف كالمجنون في حال الغضب.
إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ وفي حال الوساوس يأتي الشيطان فيشككه ويلبّس عليه فيتذكر، ويتبصر ويعرض عن هذا كله، ويكف عن الاسترسال مع هذه الوسوسة، وإذا ألم بذنب أو حصل له تزيين المنكر، فإنه يتذكر وعد الله ووعيده وثوابه وعقابه ويكف، فيوسف ﷺ دعته امرأة العزيز وغلقت الأبواب وقالت: هيت لك، قَالَ مَعَاذَ اللّهِ [سورة يوسف:23]، مع أن الله قال: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء [سورة يوسف:24]، فهم يوسف ﷺ من قبيل الخواطر التي لا يؤاخذ عليها الإنسان، وكان هم امرأة العزيز من قبيل العزم فقد غلقت الأبواب، ثم دعته إلى الفاحشة، والعزم هو التصميم على الأمر، فهذا ينزل منزلة الفعل ويحاسب الإنسان عليه، كقول النبي ﷺ: القاتل والمقتول في النار لما سئل عن هذا قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه[5].
فالمقصود: أن الشيطان إذا أغوى الإنسان بالفاحشة أو بالمنكر، فإنه يتذكر ما عند الله ، ولا يستمر عليه، بل يتوب مباشرة ويتذكر أن هذا بلاء نزل به من الشيطان، ويندم على ما عمل، فيكون حاله أحسن من حاله قبل اقتراف الذنب، لما يقع في نفسه من الندم والتوبة، أما الإنسان الغافل اللاهي الذي استحوذ عليه الشيطان فإنه كما قال الله : اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ [سورة المجادلة:19] فهو لا يرعوي ولا يكف، ولهذا قال بعده: وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ [سورة الأعراف:202]، أي: أن المتقين إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ، كفوا.
وَإِخْوَانُهُمْ أي: إخوان الشياطين من الإنس، يعني أن الإنسي أخ للشيطان من الجن، هذه الأخوة للمشابهة والمتابعة، كما قال الله لمن شابه غيره أو سار على سننه وخطاه فإنه يكون أخاً له: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ [سورة الإسراء:27]؛ لأنهم يسيرون على نهجهم، وشابهوهم، فهذا أحد المعاني في قوله تعالى: وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا [سورة الأحزاب:18]، ويحتمل أخوة النسب، ويحتمل الأخوة بالأمر الجامع المشترك حيث إنهم يسكنون المدينة، ويحتمل أن يكون الأخوة في الدين حيث إنهم من المنافقين مثلهم، فقال: وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ أي: أنهم عكس هؤلاء تماماً، يدخل في المنكر ويدخل في الفواحش ويسترسل ويستمر عليها، ولا يكف عنها بحال.
وقوله: تَذَكَّرُواْ أي: عقاب الله وجزيل ثوابه ووعده ووعيده، فتابوا وأنابوا واستعاذوا بالله ورجعوا إليه من قريب، فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ أي: قد استقاموا وصَحوا مما كانوا فيه.
وقوله تعالى: وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ أي: وإخوان الشياطين من الإنس، كقوله: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ [سورة الإسراء:27]، وهم أتباعهم والمستمعون لهم، القابلون لأوامرهم.
هذه الآية فيها كلام كثير لأهل العلم ما المراد بقوله: وَإِخْوَانُهُمْ؟ أي: الشياطين يمدون الإنس بالغي، أو الإنس إخوان الشياطين من الجن يمدونهم، والسبب في اختلافهم هو عود الضمير في يمدونهم، لكن الأقرب هو ما ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- وَإِخْوَانُهُمْ يعني: إخوان الشيطان تمدهم في الغي، لا يزال يزين له الباطل والمنكر حتى يلقى الله على ذلك، لا يكف ولا ينقطع ولا يرعوي ولا يقصر، -والله تعالى أعلم.
يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ أي: تساعدهم الشياطين على المعاصي وتسهلها عليهم وتحسنها لهم، وقال ابن كثير: المد الزيادة، يعني يزيدونهم في الغي، يعني الجهل والسفه ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ قيل معناه: إن الشياطين تمد الإنس لا تقصر في أعمالهم بذلك، كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس -ا- في قوله: وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ الآية، قال: لا الإنس يقصرون عما يعملون، ولا الشياطين تمسك عنهم.
لاَ يُقْصِرُونَ لا تفتر فيه ولا تبطل عنه، كما قال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا [سورة مريم:83]، قال ابن عباس -ا- وغيره: تزعجهم إلى المعاصي إزعاجاً.
قوله: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ [سورة الأنعام:128]، أي: فاستكثروا منهم بإغوائهم وإضلالهم، وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ [سورة الأنعام:128]، أي: أن الجن يستمتعون بطاعة الإنس لهم، وخوفهم منهم، وتعظيمهم لهم، فكان الواحد منهم إذا نزل وادياً قال: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه، فينتفش الجن ويتعاظمون، ويقولون: سُدنا الإنس والجن، وكذلك ما يتقربون به إليهم من القرابين كفعل السحرة والكهنة، والضُّلال من بني آدم حيث يتقربون للجن بالذبح والنذر وما أشبه ذلك، فإذا سكن أحدهم داراً ذبح على البحر أو ذبح في أسس هذه الدار أو نحو هذا مما يستمتع به الجن، واستمتاع الإنس بالجن -كذلك أيضاً- يكون بنشد الضالة، والتعاون مع السحرة والشياطين، وقد يحصل على مطلوبه، وقد يعرف العلة والمرض، أو يعرف سحر من سحره، أو يسحر هذا ويفسد عليه عيشه، وينغص عليه حياته، ويفرق بينه وبين أهله، أو يبتز ماله، أو نحو ذلك مما يحصل على يد هؤلاء بإعانة الشياطين لهم، فكل هذا من استمتاع الإنس بالجن، واستمتاع الجن بالإنس، فهذه أخوة بينهم وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ.
وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِآيَةٍ قَالُواْ لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إِلَيَّ مِن رَّبِّي هَذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [سورة الأعراف:203].
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس -ا- في قوله تعالى: قَالُواْ لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا يقول: لولا تلقيتها، وقال مرة أخرى: لولا أحدثتها فأنشأتها، وقال ابن جرير عن عبد الله بن كثير عن مجاهد في قوله: وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِآيَةٍ قَالُواْ لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا قال: لولا اقتضيتها، قالوا: تخرجها عن نفسك، وكذا قال قتادة والسدي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم واختاره ابن جرير.
قوله: لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا أي: اصطفيتها واخترتها وأنشأتها من عندك، وهذه المعاني كلها متقاربة، فقالوا ذلك لأنهم يرون أنه يختلق ذلك ويفتريه، وتحتمل الآيات معنيين: يحتمل أن يكون المراد بها الآيات المتلوة التي تخبرهم عما سألوا عنه مثلاً لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا واختلقتها، ويحتمل أن يكون المقصود به: الآيات التي يقترحونها على النبي ﷺ، كأن يحول الصفا إلى ذهب، أو يزيح عنهم جبال مكة، أو ينزل عليهم
كتاباً من السماء يقرءونه، وما أشبه هذا من الأشياء التي اقترحوها.
قال بعض أهل العلم في قوله: لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا هذا في الآيات المتلوة، لما كان الوحي يتأخر يقولون: لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا، أي: لولا اخترتها، لولا اختلقتها، وكانوا يسألون النبي ﷺ عن أشياء فينتظر الوحي، فيقولون ذلك استهزاء وسخرية.
قوله: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ السين والتاء تدل على فرق بين السماع والاستماع، فالتاء تدل على طلب، بمعنى أن الإنسان يقصد الاستماع، والإنصات هو السكوت للاستماع، فلا ينشغل عنه بشيء، والذي عليه عامة أهل العلم من السلف فمن بعدهم أن هذه الآية في الصلاة، إذا قرأ القارئ في الصلاة؛ لأن الإنسان مأمور بهذا، لحديث عبادة بن الصامت قال: كنا خلف رسول الله ﷺ في صلاة الفجر فقرأ رسول الله ﷺ فثقلت عليه القراءة فلما فرغ قال: لعلكم تقرءون خلف إمامكم؟ قلنا: نعم يا رسول الله، قال: لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها[6].
وعن أبي قتادة أن رسول الله ﷺ قال: تقرءون خلفي؟ ، قالوا: نعم، قال: فلا تفعلوا إلا بأم الكتاب[7] فالشاهد: أن الإنسان في الصلاة مأمور بالإنصات، ومن أهل العلم من قال: إن ذلك في الصلاة وفي الخطبة، باعتبار أن الإنسان مأمور أن ينصت في الخطبة، وإذا قال لصاحبه أنصت فقد لغا، ومن مس الحصى فقد لغا، فلا يشتغل عن الخطبة بشيء، وابن جرير -رحمه الله- حمل الآية على الأمرين، الإنصات في الصلاة، وفي حال الخطبة؛ لأن ذلك هو الذي أُمرنا به، في حال الصلاة وفي حال الخطبة، ولكن الأقرب أن الآية تحمل على أعم معانيها، والله ما حدد شيئاً لا في الصلاة ولا في غير الصلاة، قال: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ فهذا الأمر معلق على شرط، فيحمل على أعم معانيه، فكلما وجد الشرط، وجد المشروط، وهذا من الأدب مع القرآن أن لا يشتغل الإنسان عنه بغيره إذا سمعه، فيستمع له وينصت، -والله تعالى أعلم.
وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ [سورة الأعراف:205، 206].
يأمر تعالى بذكره أول النهار وآخره كثيراً، كما أمر بعبادته في هذين الوقتين في قوله: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ [سورة ق:39] وقد كان هذا.
كلام ابن كثير -رحمه الله- هو المتبادر من السياق، في قوله: وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً يأمر تعالى بذكره أول النهار وآخره كثيراً، وهو ظاهر القرآن، وابن جرير -رحمه الله- حمل ربط هذه الآية بالتي قبلها، قال: وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً عند سماع القرآن، في حال سماع القرآن، يقول: إذا قرئ القرآن فاذكر ربك في نفسك أي: عظّمه، فإذا كان في الآيات تخويف تخاف، وإذا كان في الآيات تعظيم لله فإنك تعظمه، وتذكره في نفسك وتتذلل، وتستجيب وتنقاد وتؤمن بهذا الذي سمعته من كلام الله ، وهذا فيه بعد، فالآية في الذكر، وليس في حال سماع قراءة القرآن وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً اذكر ربك في نفسك يعني: سراً، وليس المعنى أن الإنسان يذكر في قلبه، وإنما يحرك الإنسان لسانه وشفتيه في الذكر، أما الذكر بإمرار ذلك بالقلب فقط، فإن هذا لا يكون من الذكر الذي يجزيه في القراءة، وقول الأذكار التي أمره الشارع بها، وليس كما يقال: يقرأ بعينه، أو يقول الأذكار في نفسه فقط دون أن يحرك لسانه بها، فلا يكون الذكر إلا بتواطؤ القلب واللسان.
وقوله: تَضَرُّعاً وَخِيفَةً يعني بضراعة وتذلل وخضوع وإخبات مع الخوف من الله ، لا تدعُ أو تذكر في حال كأنك مُدل ومتفضل على الله ، وإنما ذكْر المتضرع الذليل الخائف.
يحتمل أن الصلاة كانت في أول النهار وفي آخره، ويحتمل أن يكون المقصود به الذكر عموماً.
الغدو معناه ما بعد الفجر وطلوع الشمس، ثم أطلق بعد ذلك بتوسع على أول النهار، فبعض أهل العلم وقف عند المعنى اللغوي في الألفاظ فقال في التهجير يوم الجمعة: يبدأ من الزوال، فالساعة الأولى تبدأ من بعد الزوال، والساعة الثانية والثالثة والرابعة والخامسة، قال بهذا جماعة من أهل العلم فأخذوا لفظ التهجير من الهاجرة، ثم صارت تطلق بمعنى أوسع من مجرد المعنى الأصلي الذي وضعت له ابتداء.
الآصال جمع أصيل وأُصل وهو ما بعد العصر، ويكون ذلك بصورة أوضح من بعد اصفرار الشمس.
وقفتُ فيها أُصَيْلاناً أسائلها | عَيّتْ جواباً وما بالربع من أحد |
بمعنى وقت الأصيل، بعد اصفرار الشمس، وهذا أفضل ما يكون في وقت الذكر، بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ فالغدو بعد الفجر إلى طلوع الشمس، وَالآصَالِ يقول أذكار المساء، المساء يبدأ من بعد زوال الشمس، هذا كله يقال له مساء، فلو قال الإنسان الأذكار بعد الظهر -أذكار المساء- لأجزأه؛ لأن هذا مساء، لكن الذكر كما قال الله : وَالآصَالِ وهو بعد العصر، وآكد ما يكون ذلك وأحسن ما يقع فيه هو عند ذبول الشمس.
الذكر يكون بصوت خافت بحيث يسمع الإنسان نفسه، ولا يؤذي الآخرين، فقد صح عن النبي ﷺ: الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة، والمُسِرُّ بالقرآن كالمسر بالصدقة[8].
قال الله في الدعاء: ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [سورة الأعراف:55]، تضرعا: يعني بضراعة وذل واستكانة وخضوع وإخبات، وَخُفْيَةً لا ترفعوا أصواتكم في الدعاء إذا كان الإنسان يدعو لنفسه، وإذا كان خلفه من يؤمن عليه، فإنه يدعو بأدب دون رفع زائد للصوت فإن هذا من الاعتداء في الدعاء وسوء الأدب مع الله -تبارك وتعالى، تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً، وقال في الذكر: وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ فذكر الخيفة وذكر الإسرار دون الجهر بالقول بالغدو والآصال، وقوله: فِي نَفْسِكَ يدل على أن المراد به الذكر، لا كما قال ابن جرير -رحمه الله- من أن ذلك في حال سماع القرآن، إذ كيف يكون بالغدو والآصال؟ -والله أعلم.
وإنما ذكَرهم بهذا ليُقتدَى بهم في كثرة طاعتهم وعبادتهم، ولهذا شرع لنا السجود هاهنا لما ذكر سجودهم لله ، كما جاء في الحديث: ألا تصفّون كما تصفّ الملائكة عند ربها؟ يتمون الصفوف الأول فالأول ويتراصون في الصف[10]، وهذه أول سجدة في القرآن مما يشرع لتاليها ومستمعها السجود بالإجماع.
- رواه البخاري برقم (4367)، كتاب التفسير، باب خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [سورة الأعراف:199].
- رواه ابن جرير الطبري في جامع البيان في تأويل القرآن (13/330)، برقم (15548)، وابن أبي حاتم في تفسيره (6/320)، برقم (9449).
- رواه الترمذي برقم (2254)، كتاب الفتن عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في النهي عن سب الرياح، وابن ماجه برقم (4016)، كتاب الفتن، باب قوله تعالى: يأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم، وأحمد في المسند (38/435)، برقم (23444)، وقال محققوه: إسناده ضعيف من أجل علي بن زيد بن جدعان، من حديث حذيفة ، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2/112)، برقم (413).
- رواه البخاري برقم (4366)، كتاب التفسير، باب خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [سورة الأعراف:199].
- رواه البخاري من حديث أبي بكرة برقم (31)، كتاب الإيمان، باب وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فسماهم المؤمنين.
- رواه أبو داود برقم (823)، في كتاب الصلاة، باب من ترك القراءة في صلاته بفاتحة الكتاب، وحسنه الألباني في مشكاة المصابيح (1/186)، برقم (854).
- رواه أحمد في المسند (37/ 309)، برقم (22625)، وقال محققوه: صحيح لغيره، وهذا إسناد ضعيف لانقطاعه بين سليمان التيمي -وهو ابن طرخان- وعبد الله بن أبي قتادة.
- رواه أبو داود برقم (1333)، كتاب التطوع، باب رفع الصوت بالقراءة في صلاة الليل، والنسائي برقم (2561) كتاب الزكاة، باب المسر بالصدقة، والترمذي برقم (2919) وقال: هذا حديث حسن غريب، كتاب فضائل القرآن عن رسول الله ﷺ، كلهم من حديث عقبة بن عامر ، وصححه الألباني في صحيح أبي داود برقم (1204)، وفي صحيح الجامع برقم (3105).
- رواه البخاري برقم (2830)، كتاب الجهاد والسير، باب ما يكره من رفع الصوت في التكبير، ومسلم برقم (2704)، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب استحباب خفض الصوت بالذكر، روياه بدون زيادة: أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته فهي عند أحمد في مسنده (32/374) برقم (19599)، وإسناده صحيح على شرط الشيخين، قاله محققو المسند، والنسائي في الكبرى برقم (7680).
- رواه مسلم برقم (430)، كتاب الصلاة، باب الأمر بالسكون في الصلاة والنهي عن الإشارة باليد ورفعها عند السلام وإتمام الصفوف الأول والتراص فيها والأمر بالاجتماع، من حديث جابر بن سمرة .