بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المفسر -رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقول الله -تبارك وتعالى: وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ الصحابة -رضوان الله عليهم- عندما خرجوا من المدينة لطلب العير لم يكن ذلك فيه كراهة، خرج من خف منهم ولم يُلزَم أحد بالخروج، وبقي الكثير منهم في المدينة؛ لأن القتال لم يكن متوقعا، وعبر بالكراهة باعتبار العاقبة وما آل إليه أمرهم من كراهتهم لقتال المشركين، ولقاء ذات الشوكة أي: الجيش –والله تعالى أعلم.
وقوله: يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ أي: يجادلونك في الحق، ثم اختلف أهل العلم في المراد بالذين يجادلون من المقصود بهم؟ فقال البعض: إن الذين يجادلون هم الكفار، يجادلونه في الحق أي: في التوحيد، ولكن هذا بعيد، وإنما المراد المؤمنون؛ لأن الخبر عنهم، فهم الذين جادلوه في الحق وذلك حينما نجت العير وبقي النفير، بقي الجيش، فكان لا بد من المواجهة، فصاروا يجادلون النبي ﷺ في الحق بعدما تبيّن، يعني تبيّن أن النفير هو الخيار الوحيد الآن، ومن أهل العلم من يقول: بَعْدَمَا تَبَيَّنَ أي: تبيّن أنه الشيء الذي أمرتهم به، وهذا يرجع إلى القول الأول، والمقصود بالحق: القتال، ويحتمل أن يكون بعدما تبيّن لهم أنك لا تأمرهم بشيء إلا بعد إذن الله ووحيه، أو بعدما تبيّن لهم أن إحدى الطائفتين لهم، والأقرب -والله أعلم: بَعْدَمَا تَبَيَّنَ أن العير قد نجت وأن النفير هو خيارهم، وأخبرهم النبي ﷺ بذلك كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ، هذا ليس من صفة المشركين، وإنما سياق الآيات يتحدث عن المؤمنين.
قوله: وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ قال: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ يعني العير أو النفير وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ أي: تودون أن غير الجيش والنفير، وهو الغنيمة الباردة وهي العير التي كانت مع أبي سفيان، فأبو سفيان نجا بالعير عندما ذهب ناحية الساحل، فنجت العير، وقد وصف الله مكانهم حينما قال في هذه الآيات: إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ [سورة الأنفال:42] يعني من عدوتَي الوادي، فالدنيا هي ما يلي المدينة، الأقرب إلى المدينة، والقصوى من ناحية مكة، وذكر لهم موضع العير فقال: وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ يعني ناحية الساحل.
وقوله: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ، الشوكة: السلاح، يقال: طائفة ذات شوكة، ويقال: شاكي السلاح، وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ أي: يريد أن يظهره وأن يعليه وأن ينصر أهله وأتباعه وأن يهزم الكفار ويخذلهم، فالحق ثابت في نفسه، فلا يقال: إن إحقاقه تحصيل حاصل، وإنما المقصود إظهار الحق وإشهاره ونصر أهل الإيمان أهل الحق، وكبت أهل الباطل، لِيُحِقَّ الْحَقَّ [سورة الأنفال:8]، ولهذا فسره بعضهم وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ قالوا: ما وعد به من النصر، وبعضهم يقول: لقاء الكفار؛ لأنه أمر حق، وقد قدره وقضاه فلا بد أن يقع، ولعل الذي ألجأ هؤلاء إلى مثل هذه الأقوال أن الحق ثابت في نفسه، فكيف يكون إحقاق الحق؟، فيقال: ما تقدم من إظهاره وإشهاره ونصر أهله وإذلال الكفر وهزيمة الكفار -والله تعالى أعلم.
وقوله: يُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ المراد بالكلمات الآيات المتلوة، وكل ما أنزله على الرسل -عليهم الصلاة والسلام- من كلامه، وكذلك يدخل في كلماته أمره للملائكة وخطابه لهم، ويدخل فيه أيضاً الكلمات التكوينية التي يدبر بها أمر الخليقة، يخلق ويرزق ويعطي ويمنع، فهذا كله من كلماته -تبارك وتعالى- قال الله : قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي [سورة الكهف:109]، فقوله: وَيُرِيدُ اللّهُ يحتمل أن تكون الآيات المتلوة التي أنزلها في هذا الشأن، يبيّن بها ذلك وما جرى، ويحتمل أن تكون هذه الكلمات هي أمره للملائكة بما أمرهم به من تثبيت المؤمنين وقتل الكافرين، وإمداد أهل الإيمان، ويحتمل أن تكون هذه الكلمات هي الكلمات عموماً، الكلمات الكونية الأزلية، حيث قضى الله إذلال الكفر وأهله، وكبتهم، وإنزال المَثُلات بهم في الدنيا والآخرة، كما فعل بالمشركين يوم بدر، فهو واقع لا محالة، ولعل هذا أقرب الأقوال -والله أعلم.
وبعضهم يفسر قوله: يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ يعني يثبت ما وعد به، ويتحقق ذلك من نصر أهل الإيمان، فالله وعد وعداً عاماً وأخبر بذلك، ووعد وعداً مشروطاً فقال: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ [سورة غافر:51]، ووعد وعداً مشروطاً: إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ [سورة محمد:7]، كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [سورة المجادلة:21]، فهذه الغلبة لا بد أن تكون، وقد تكون بالحجة والبيان، أو بالسيف والسنان، وهذا غالب ما تأتي له هذه الكلمة (غلبة) في القرآن.
وقال محمد بن إسحاق -رحمه الله- عن عبد الله بن عباس -ا- قال: لما سمع رسول الله ﷺ بأبي سفيان مقبلاً من الشام، ندب المسلمين إليهم، وقال: هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها لعل الله أن يُنْفلكُموها فانتدب الناس فخف بعضهم وثقل بعضهم، وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله ﷺ يلقى حرباً، وكان أبو سفيان قد استنفر حين دنا من الحجاز يتجسس الأخبار، ويسأل من لقي من الركبان تخوفاً على أمر الناس، حتى أصاب خبراً من بعض الركبان أن محمداً قد استنفر أصحابه لك ولعيرك، فحذر عند ذلك فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري فبعثه إلى أهل مكة، وأمره أن يأتي قريشاً فيستنفرهم إلى أموالهم، ويخبرهم أن محمداً قد عرض لها في أصحابه، فخرج ضمضم بن عمرو سريعاً على مكة، وخرج رسول الله ﷺ في أصحابه حتى بلغ وادياً يقال له ذفران، فخرج منه حتى إذا كان ببعضه نزل، وأتاه الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم.
فاستشار رسول الله ﷺ الناس وأخبرهم عن قريش فقام أبو بكر فقال فأحسن، ثم قام عمر فقال فأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله امض لما أمرك الله به فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [سورة المائدة:24] ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فو الذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد -يعني مدينة الحبشة- لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه، فقال له رسول الله ﷺ خيراً، ودعا له بخير.
ثم قال رسول ﷺ: أشيروا علي أيها الناس وإنما يريد الأنصار وذلك أنهم كانوا عدد الناس، وذلك أنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا: يا رسول الله إنا برئاء من ذمامك حتى تصل إلى دارنا، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمامنا، نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا، وكان رسول الله ﷺ يتخوف أن لا تكون الأنصار ترى عليها نصرته، إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم.
فلما قال رسول الله ﷺ ذلك قال له سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله قال: أجل فقال: "فقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أمرك الله، فو الذي بعثك بالحق إن استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما يتخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً، إنا لصُبُر عند الحرب صُدُق عند اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسِرْ بنا على بركة الله، فسُرّ رسول الله ﷺ بقول سعد ونشطه ذلك، ثم قال: سيروا على بركة الله، وأبشروا، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم[1]. ورواه العوفي عن ابن عباس -ا- نحو هذا، وكذلك قال السدي وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وغير واحد من علماء السلف والخلف، اختصرنا أقوالهم اكتفاء بسياق محمد بن إسحاق.
وقوله أي ابن كثير -رحمه الله: برك الغماد، يقال: بَرْك وبِرك، والغِماد والغُماد، قال: يعني مدينة الحبشة، لكن المشهور خلاف هذا، بعضهم يقول: موضع باليمن، وبعضهم يقول: تحت مكة بخمسة ليال، وهذا كله يقال له: يمن، ما عن يمين الكعبة، هذا هو المشهور، وحينما تذكر هذه لا يعني أن الوصول إليها في غاية الصعوبة، وأنه أمر شاق جداً، وإنما قد يذكر الإنسان الشيء الذي لا عهد له به وفي ظنه أنه بعيد فيقول: لو سرت بنا إلى كذا، يعبر بهذا لينبئ ويفيد السامع بالقبول والاستجابة والمتابعة والطاعة، تقول مثلاً: لو سرت بنا إلى اليمن، أو لو أردت أن أحملك إلى مكة، يقصد أنه لا يتردد في فعل ذلك.
وقوله: وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ دابر الشيء: هو آخره، وقطْع دابرهم يعني استئصالهم، تقول: قطع الله دابرهم يعني استأصلهم، ويقول: وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ لِيُحِقَّ الْحَقَّ وتقدم قوله: وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ فالحق في الموضع الأول وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ لبيان إرادته ، وأنها تختلف عن إرادتهم، فهذا الحق في هذا الموضع فسره بعضهم بتحقيق ما وعد به المؤمنين من النصر، وفسره بعضهم بلقاء الكفار - المواجهة مع الجيش وليس تحصيل العير- والحق في الثانية قال: لِيُحِقَّ الْحَقَّ اللام هذه للتعليل، فهو تعليل لإرادته، فهم يريدون العير، والله يريد أن يحق الحق بالنفير وكبت الكفار وقطع دابر المشركين، لِيُحِقَّ الْحَقَّ بإعزاز الشريعة وإعلاء كلمته ، وفسره بعضهم بالنصر يعني الحق الثاني لِيُحِقَّ الْحَقَّ فهذا تعليل لما يريده، أي أنه يريد ذلك بإحقاق الحق، لإظهاره ووضع الباطل وكبت أهله، وليس هو من التكرار؛ لأن القرآن ليس فيه تكرار محض.
- انظر: الطبقات الكبرى، لابن سعد (2/14)، وصححه الألباني في فقه السيرة (223).