بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المصنف -رحمنا الله تعالى وإياه- في تفسير قوله تعالى:
إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ [سورة الأنفال:11- 14] يذكرهم الله تعالى بما أنعم به عليهم من إلقائه النعاس عليهم أماناً، آمنهم به من خوفهم الذي حصل لهم من كثرة عدوهم وقلة عددهم، وكذلك فعل تعالى بهم يوم أحد كما قال تعالى: ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ [سورة آل عمران:154] الآية، قال أبو طلحة: كنت ممن أصابه النعاس يوم أحد، ولقد سقط السيف من يدي مراراً يسقط وآخذه، ويسقط وآخذه، ولقد نظرت إليهم يميدون وهم تحت الحجف.
وروى الحافظ أبو يعلى عن علي قال: "ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد، ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم إلا رسول الله ﷺ يصلي تحت شجرة ويبكي حتى أصبح"[1].
وعن عبد الله بن مسعود أنه قال: "النعاس في القتال أمنة من الله، وفي الصلاة من الشيطان"[2].
وقال قتادة: النعاس في الرأس، والنوم في القلب، قلت: أما النعاس فقد أصابهم يوم أحد، وأمر ذلك مشهور جداً، وأما الآية الشريفة إنما هي في سياق قصة بدر، وهي دالة على وقوع ذلك أيضاً، وكأن ذلك كائن للمؤمنين عند شدة البأس لتكون قلوبهم آمنة مطمئنة بنصر الله، وهذا من فضل الله ورحمته بهم ونعمته عليهم، وكما قال تعالى: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا [سورة الشرح:5، 6]، ولهذا جاء في الصحيح أن رسول الله ﷺ لما كان يوم بدر في العريش مع الصديق وهما يدعوان أخذت رسول الله ﷺ سنة من النوم، ثم استيقظ مبتسماً فقال: أبشر يا أبا بكر فهذا جبريل على ثنايا النقع..[3]، ثم خرج من باب العريش وهو يتلو قوله تعالى: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [سورة القمر:45].
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله -تبارك وتعالى: إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ [سورة الأنفال:11] وفي قراءة ابن كثير وأبي عمرو إذ يغشاكم النعاسُ وعلى هذه القراءة يكون النعاس فاعل.
أما قراءة إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ، أي: أن الله يعشيكم النعاس، وقد نقل عن قتادة –رحمه الله- أن النعاس في الرأس والنوم في القلب، والنعاس هو مقدمة النوم وما يعتري الإنسان من الضعف الطبيعي بحيث لا يغيب عن الإدراك بالكلية، ومن أهل العلم من يقول: السِّنة في الرأس والنعاس في العين، والنوم في القلب.
وفي حالة الحرب والخوف يذهب النوم من الإنسان من شدة الفزع، لكن الله –تبارك وتعالى- نزَّل على عباده المؤمنين النعاس أمنة منه فحصل لهم بذلك طمأنينة القلب وارتفاع عوارض الخوف والفزع، وحصل لهم راحة الجسد.
فالنعاس في الحرب أمنة من الله، وفي الصلاة من الشيطان، وقد قال بعض السلف فيمن ينام في مجالس العلم: ذاك حمار في مسلاخ إنسان.
قال: "وهم تحت الحجف"، الحجف هي تروس يستظلون بها من المطر.
وقوله: وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء [سورة الأنفال:11]، قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس -ا- قال: نزل النبي ﷺ حين سار إلى بدر والمشركون بينهم وبين المال رملة دعصة، وأصاب المسلمين ضعف شديد، وألقى الشيطان في قلوبهم الغيظ يوسوس بينهم: تزعمون أنكم أولياء الله تعالى وفيكم رسوله، وقد غلبكم المشركون على الماء وأنتم تصلون مجنبين، فأمطر الله عليهم مطراً شديداً فشرب المسلمون وتطهروا وأذهب الله عنهم رجز الشطيان وثبت الرمل حين أصابه المطر، ومشى الناس عليه والدواب فساروا إلى القوم، وأمد الله نبيه ﷺ والمؤمنين بألف من الملائكة، فكان جبريل في خمسمائة مجنِّبة وميكائيل في خمسمائة مجنِّبة.
وأحسن ما في هذا ما رواه الإمام محمد بن إسحاق بن يسار صاحب المغازي -رحمه الله: حدثني يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير قال: بعث الله السماء وكان الوادي دهساً، فأصاب رسول الله ﷺ وأصحابه ما لبد لهم الأرض، ولم يمنعهم من المسير، وأصاب قريشاً ما لم يقدروا على أن يرتحلوا معه، وقال مجاهد: أنزل الله عليهم المطر قبل النعاس فأطفأ بالمطر الغبار، وتلبدت به الأرض، طابت نفوسهم وثبتت به أقدامهم.
وقوله: لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ [سورة الأنفال:11]، أي: من حدث أصغر أو أكبر، وهو تطهير الظاهر، وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ [سورة الأنفال:11] أي: من وسوسة وخاطر سيئ، وهو تطهير الباطن، كما قال تعالى في حق أهل الجنة: عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا [سورة الإنسان:21] فهذا زينة الظاهر، وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا [سورة الإنسان:21] أي: مطهراً لما كان من غل أو حسد أو تباغض وهو زينة الباطن وطهارته، وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ [سورة الأنفال:11] أي: بالصبر والإقدام على مجالدة الأعداء وهو شجاعة الباطن، وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ [سورة الأنفال:11] وهو شجاعة الظاهر، والله أعلم.
قوله: وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ [سورة الأنفال:11] ذكرت هذه الآية فوائد نزول المطر على المجاهدين، فقوله: لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ أي: الطهارة من الجنابة، فقد أجنب بعض الصحابة فاحتاجوا إلى الماء، فوسوس إليهم الشيطان، كيف تزعمون أنكم على حق ولم تجدوا الماء؟ وكيف تلقون عدوكم غداً على غير طهارة؟
قال –تبارك وتعالى: وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ [سورة الأنفال:11] أصل الرجز العذاب، فالشيطان يلقي الوساوس والخواطر وهي تزعج الإنسان وتقلقه ويصل الأمر بالبعض إلى حد أنهم يتمنون الخلاص من هذه الحياة، لشدة ما يجد، ومن الناس من يجلس من صلاة العصر إلى آذان المغرب في دورة المياه يعيد الوضوء، وبعضهم وصل به الأمر إلى حالات انهيار وبكاء، فهم في عذاب وشقاء بسبب الشيطان.
قوله : وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ [سورة الأنفال:11] أي: ترتفع عنهم خواطر السوء، وتطمئن القلوب ويربط عليها حتى يصير الثبات غالباً ومهيمناً عليها، ولهذا عبر بعلى ولم يقل: وليربط قلوبكم.
قال: وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ [سورة الأنفال:11] الضمير يرجع إلى المطر الذي نزل، مع أنه يحتمل أنه يرجع إلى أقرب مذكور، ويكون المعنى الربط على القلوب يكون سبباً لتثبيت الأقدام، وذلك أن القلب إذا حصل له الثبات ثبت القدم في أرض المعركة فلا ينهزم الإنسان، وإنما ينهزم لضعف قلبه، وغلبة دواعي الخوف عليه، والراجح –والله أعلم- أن الضمير يرجع إلى المطر فقد كان سبباً في تثبيت الأقدام في ساحة القتال.
وقوله تعالى: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ [سورة الأنفال:12] وهذه نعمة خفية أظهرها الله تعالى لهم ليشكروه عليها، وهو أنه -تعالى وتقدس وتبارك وتمجد- أوحى إلى الملائكة الذين أنزلهم لنصر نبيه ودينه وحزبه المؤمنين، يوحي إليهم فيما بينه وبينه أن يثبتوا الذين آمنوا.
وقوله: سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ [سورة الأنفال:12] أي: ثبتوا أنتم المؤمنين وقووا أنفسهم على أعدائهم عن أمري لكم، بذلك سألقي الرعب والذلة والصغار على من خالف أمري وكذب رسولي، فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ [سورة الأنفال:12]، أي: اضربوا الهام، فَفَلقوها، واحتزوا الرقاب، فَقَطعوها، وقطعوا الأطراف منهم وهي أيديهم وأرجلهم.
وقوله: فَوْقَ الأَعْنَاقِ [سورة الأنفال:12] قيل معناه: اضربوا الرءوس، وقيل معناه فَوْقَ الأَعْنَاقِ أي: على الأعناق، وهي الرقاب. قاله الضحاك وعطية العوفي، ويشهد لهذا المعنى أن الله تعالى أرشد المؤمنين إلى هذا في قوله تعالى: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ [سورة محمد:4]، وقال الربيع بن أنس: كان الناس يوم بدر يعرفون قتلى الملائكة ممن قتلوهم بضرب فوق الأعناق وعلى البنان مثل سمة النار قد أحرق به.
وقوله: وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ [سورة الأنفال:12] قال ابن جرير: معناه واضربوا من عدوكم أيها المؤمنون كل طرف ومفصل من أطراف أيديهم وأرجلهم، والبنان جمع بنانة، وقال العوفي عن ابن عباس، فذكر قصة بدر إلى أن قال: فقال أبو جهل: لا تقتلوهم قتلاً ولكن خذوهم أخذاً حتى تعرّفوهم الذي صنعوا من طعنهم في دينكم ورغبتهم عن اللات والعزى، فأوحى الله إلى الملائكة أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ [سورة الأنفال:12] الآية، فقتل أبو جهل لعنه الله في تسعة وستين رجلاً، وأسر عقبة بن أبي معيط فقتل صبراً، فوفى ذلك سبعين -يعني قتيلاً، ولهذا قال تعالى: ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله أي: خالفوهما فساروا في شق، وتركوا الشرع والإيمان به واتّباعه في شق، ومأخوذ أيضاً من شق العصا وهو جعلها فرقتين.
وَمَن يُشَاقِقِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [سورة الأنفال:13] أي: هو الطالب الغالب لمن خالفه وناوأه لا يفوته شيء ولا يقوم لغضبه شيء -تبارك وتعالى- لا إله غيره ولا رب سواه ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ [سورة الأنفال:14] هذا خطاب للكفار، أي ذوقوا هذا العذاب والنكال في الدنيا، واعلموا أيضاً أن للكافرين عذاب النار في الآخرة.
قوله –تبارك وتعالى: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ [سورة الأنفال:12] أي: مع الملائكة.
قوله: فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ [سورة الأنفال:12] جاء في بعض الروايات أن التثبيت كان بتكثير السواد، فكان أهل الإيمان يرون رجالاً لا يعرفونهم ويقاتلون معهم، وجاء في بعض الروايات أنه كان يأتي الواحد من الملائكة إلى الرجل من المسلمين فيقول: سمعت هؤلاء يقولون: إنهم لو عزموا وشدوا علينا شدة لانهزمنا، فيقوى عزمه، ويقدم على القتال.
ومما هو معلوم أن الشيطان له لِمّة على قلب ابن آدم، وقد أذهبها الله –تبارك وتعالى- وبقيت لِمّة المَلك فثبت أهل الإيمان.
وقد أخبر النبي ﷺ أصحابه بأنه رأى جبريل -عليه الصلاة والسلام- في خمسمائة من الملائكة، وميكائيل في خمسمائة من الملائكة، وحدد ﷺ قبل المعركة مصارع الكفار، فكل مثل هذه الأشياء تجعل الإنسان يقدم على عدوه غير هيّاب.
لا يكشف الغماء إلا ابن حرة | يرى غمرات الموت ثم يخوضها |
قال : سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ [سورة الأنفال:12]، الرعب: هو الخوف الشديد الذي يملأ القلب، والإنسان الخائف لا يثبت في أرض المعركة، وقد قال النبي ﷺ: نصرت بالرعب مسيرة شهر[4]، وهذا لا يختص بالنبي ﷺ بل لأتباعه من بعده حظ من ذلك على قدر ما عندهم من الاتباع والإيمان والاستقامة على الصراط المستقيم، فيخافهم أعداؤهم ويرهبون منهم على قدر ما عندهم من الاستقامة.
قال ابن كثير –رحمه الله- في قوله: فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ [سورة الأنفال:12]: "أي: اضربوا الهام، فَفَلقوها، واحتزوا الرقاب، فَقَطعوها، وقطعوا الأطراف منهم وهي أيديهم وأرجلهم" وهذا من أحسن ما فسرت به هذه الآية، فقد جمعت عبارة ابن كثير المعاني التي قالها السلف وهي التي تحتملها الآية، فالعنق، هي الرقبة، والله يقول: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ [سورة محمد:4]، وقال بعض السلف: فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ أي: اضربوا رءوسهم، ويحتمل أن يكون: فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ بمعنى اضرب على العنق، ويحتمل أنه علمهم مواضع القتل الذريع والفتك الشديد بحيث إذا ضرب ذلك الموضع بالسيف طار الرأس، وذلك في أعلى الرقبة تحت العظم الذي تحت الأذن، وعبارة ابن كثير قد جمعت بين كل هذه الأقوال، وهو اختيار ابن جرير.
والخطاب في قوله: فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ يحتمل أن يكون موجهاً للمؤمنين، ويكون المعنى: إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا أيها المؤمنون فوق الأعناق، والأقرب -والله أعلم- أن الخطاب للملائكة.
قوله: وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ [سورة الأنفال:12] البنان: هي الأطراف، فإذا قطعت الأطراف انشلت حركة الإنسان، ولا يستطيع أن يقاتل.
قال –تبارك وتعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [سورة الأنفال:13]، شاقوا أي: خالفوا الله ورسوله فصاروا في شق، فتركوا أمره وشرعه ودينه وحاربوا أولياءه، ثم جاء بالحكم العام وَمَن يُشَاقِقِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [سورة الأنفال:13].
قوله: ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ [سورة الأنفال:14] أي: ذوقوا العذاب والنكال في الدنيا من قتل وضرب للأعناق، وتقطيع الأطراف.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [سورة الأنفال:15، 16].
يقول تعالى متوعداً على الفرار من الزحف بالنار لمن فعل ذلك يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً: أي تقاربتم منهم ودنوتم إليهم، فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ أي: تفروا وتتركوا أصحابكم، وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أي: يفر بين يدي قرنه مكيدة ليريه أنه خاف منه فيتبعه ثم يكر عليه فيقتله، فلا بأس عليه في ذلك، نص عليه سعيد بن جبير والسدي، وقال الضحاك: أي يتقدم على أصحابه ليرى غرة من العدو فيصيبها.
أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ، أي: فر من هاهنا إلى فئة أخرى من المسلمين يعاونهم ويعاونونه، فيجوز له ذلك حتى لو كان في سرية ففر إلى أميره أو إلى الإمام الأعظم، دخل في هذه الرخصة، قال عمر بن الخطاب في أبي عبيد لما قتل على الجسر بأرض فارس لكثرة الجيش من ناحية المجوس، فقال عمر: لو تحيز إليّ لكنت له فئة. هكذا رواه محمد بن سيرين عن عمر.
وفي رواية أبي عثمان النهدي عن عمر قال: لما قتل أبي عبيد قال عمر: أيها الناس أنا فئتكم، وقال مجاهد: قال عمر: أنا فئة كل مسلم، وقال عبد الملك بن عمير عن عمر: أيها الناس لا تغرنكم هذه الآية فإنما كانت يوم بدر، وأنا فئة لكل مسلم، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي قال: حدثنا حسان بن عبد الله المصري، قال: حدثنا خلاد بن سليمان الحضرمي قال: حدثنا نافع أنه سأل ابن عمر، قلت: إنا قوم لا نثبت عند قتال عدونا، ولا ندري من الفئة إمامنا أو عسكرنا؟ فقال: إن الفئة رسول الله ﷺ فقلت: إن الله يقول: إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً الآية، فقال: إنما أنزلت هذه الآية في يوم بدر لا قبلها ولا بعدها.
وقال الضحاك في قوله: أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ المتحيز الفار إلى النبي ﷺ وأصحابه وكذلك من فر اليوم إلى أميره أو أصحابه، فأما إن كان الفرار لا عن سبب من هذه الأسباب فإنه حرام وكبيرة من الكبائر؛ لما رواه البخاري ومسلم في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: اجتنبوا السبع الموبقات قيل: يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات[5] ولهذا قال تعالى: فَقَدْ بَاء أي: رجع بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ أي: مصيره ومنقلبه يوم معاده جهنم وبئس المصير.
قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ [سورة الأنفال:15] الزحف: هو الدنو شيئاً فشيئاً وقليلاً قليلاً، وأصله الاندفاع على الإلية، وقيل ذلك للجيش؛ لأن العدد الكثير إذا رأيتهم من بعيد كأنهم وقوف لا يتحركون، وحركتهم بطيئة جداً.
وقوله: زحفاً: يمكن أن يكون حالاً من الكفار، يعني إذا لقيتم الذين كفروا زاحفين، ويمكن أن يكون حالاًَ من المؤمنين، ويكون المعنى: إذا لقيتم الذين كفروا في حال كونكم زاحفين إليهم، ويحتمل أن يكون حالاً من الفريقين، يعني متزاحفين، وهذا الذي اختاره كبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله.
قوله –تبارك وتعالى: فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ [سورة الأنفال:15] هذا نهي، والنهي للتحريم، ويدل على أن الفرار من الزحف من كبائر الذنوب، ويدل على ذلك ما ذكر في قوله –تبارك وتعالى: وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [سورة الأنفال:16] وتولية الدبر كناية عن الانهزام؛ لأن المنهزم يدير ظهره لعدوه، ولهذا يفتخر الشجعان والأبطال بأن دماءهم لا تسيل على ظهورهم، وإنما على أقدامهم، كما قال ابن الزبير لما شج وجهه -ضُرب بالمنجنيق وأصاب بعض السواري في المسجد الحرام، فأصيب وجهه فنزل الدم على قدميه، فتمثل بهذا البيت:
ولسنا على الأعقاب تدمى كلومنا | ولكن على أقدامنا تقطر الدم |
وذهب طائفة من أهل العلم -وهو منقول عن عمر وابن عمر وأبي هريرة وجماعة كبيرة من التابعين وبه قال أبو حنيفة- إلى أن الفرار من الزحف كان محرماً في يوم بدر خاصة، وكان عمر يقول: أنا فئة كل مؤمن، والله يقول: وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [سورة الأنفال:16] وعمر كان في المدينة، والفتوح كانت في العراق وفي الشام.
واحتجوا أيضاً بحديث عن ابن عمر -ا- قال: بعثنا رسول الله ﷺ في سرية فحاص الناس حيصة فقدمنا المدينة فاختبينا بها وقلنا هلكنا، ثم أتينا رسول الله ﷺ فقلنا: يا رسول الله، نحن الفرارون، قال: بل أنتم العكّارون وأنا فئتكم[6] والعكَّار: هو الذي يرجع مرة ثانية إلى عدوه.
واستدلوا بقوله: وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ قالوا: إن هذه الآية مختصة بيوم بدر، وقالوا: إن المسلمين إذا انهزموا ليس لهم مكان يتحيزون فيه وقد قال النبي ﷺ: إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض[7]، أما بعد النبي ﷺ فيأتون إلى الإمام.
وهذا فيه نظر، فالمسلمون كانوا في المدينة وكثير من الصحابة لم يخرجوا مع النبي ﷺ والذي عليه الجمهور من أهل العلم: أن الفرار من الزحف من الكبائر، ولا يجوز ذلك، وقد ذكره النبي ﷺ من السبع الموبقات.
وليس المقصود بقوله –تبارك وتعالى: وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ يوم بدر، بدليل أن الآيات نزلت بعد عزوة بدر، فالراجح –والله أعلم- أنه لا يجوز الفرار من الزحف إلا إذا كان الكفار أكثر من ضعف المسلمين، قال –تبارك وتعالى: إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا [65سورة الأنفال:] ثم قُيَّد هذا الحكم بقوله –تبارك وتعالى: الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ [سورة الأنفال:66]
وقد قال عمر في يوم الجسر: "لو انحازوا إليّ لكنت فئتهم"، وكان قائدَ المسلمين في يوم الجسر أبو عبيد الثقفي، وكان النهر بين المسلمين وبين الفرس، فجاء خطاب من قائد الفرس يستفز فيه أبا عبيد، فعبر أبو عبيد مع الجيش الجسر، فاستشهد أبو عبيد وحصل قتل ذريع في المسلمين، وتفرق الناس وانهزموا، وانقسموا إلى أقسام، منهم من ذهب ولم يستطع الرجوع إلى المدينة حياءً من الله وخوفاً، ومنهم من جمع الفلول من أجل مواجهة جديدة، فقال عمر هذه المقولة: "لو انحازوا إليّ لكنت فئتهم"، وقد كان بإمكان المسلمين أن ينسحبوا؛ لأن عدد الكفار أضعاف المسلمين.
وقد انحاز خالد بن الوليد بالجيش في يوم مؤتة؛ لأن جيش الروم كان مائة ألف وكان عدد جيش خالد ثلاثة آلاف.
- رواه الإمام أحمد (1/125)، برقم (1023) وأبو يعلى (1/242)، برقم (280)، وابن حبان في صحيحه، كتاب الصلاة، باب إباحة بكاء المرء في صلاته إذا لم يكن ذلك لأسباب الدنيا (6/32)، برقم (2257)، وابن خزيمة في صحيحه، كتاب الصلاة، باب الدليل على أن البكاء في الصلاة لا يقطع الصلاة مع إباحة البكاء في الصلاة (2/52)، برقم (899).
- رواه الطبراني في المعجم الكبير (9 / 288)، برقم (9451)، وعبد الرزاق في مصنفه (2 / 499)، برقم (4219).
- دلائل النبوة، للبيهقى (3 / 54)، ورواه البخاري من حديث ابن عباس -ا- قال: قال النبي ﷺ يوم أحد هذا جبريل آخذ برأس فرسه عليه أداة الحرب» رواه البخاري، كتاب المغازي، باب شهود الملائكة بدرا (4/1468)، برقم (3773).
- رواه البخاري، كتاب الصلاة، باب قول النبي ﷺ: جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً (1/168)، برقم (427)، ورواه مسلم، كتاب المساجد، (1/372)، برقم (523).
- رواه البخاري، كتاب الوصايا، باب قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [سورة النساء:10] (3/1017)، برقم (2615)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الكبائر وأكبرها (1/92)، برقم (89).
- رواه الترمذي، كتاب الجهاد، باب ما جاء في الفرار من الزحف (4/215) برقم (1716)، وأبو داود، كتاب الجهاد، باب التولي يوم الزحف (3/46)، برقم (2647)، وأحمد (2/100)، برقم (5752)، وضعفه الألباني في إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل (5 / 27).
- رواه مسلم، كتاب الجهاد، باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر وإباحة الغنائم (3/1383)، برقم: (1763).