بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ [سورة الأنفال:55-57].
أخبر تعالى أن شر ما دبَّ على وجه الأرض هم الذين كفروا، فهم لا يؤمنون، الذين كلما عاهدوا عهداً نقضوه، وكلما أكدوه بالأيمان نكثوه، وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ أي: لا يخافون من الله في شيء ارتكبوه من الآثام، فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ أي: تغلبهم وتظفر بهم في حرب فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ أي: نكل بهم، قاله ابن عباس -ا- والحسن البصري والضحاك والسدي، وعطاء الخرساني وابن عيينة ومعناه: غلّظ عقوبتهم وأثخنهم قتلاً ليخاف من سواهم من الأعداء من العرب وغيرهم، ويصيروا لهم عبرة، لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ وقال السدي: يقول لعلهم يحذرون أن ينكثوا فيصنع بهم مثل ذلك.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله -تبارك وتعالى: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ [سورة الأنفال:56]، حينما حصلت غزوة بدر لم يكن بين النبي ﷺ وبين المشركين عهد، وإنما كانت عهوده ﷺ مع اليهود، وذلك أن النبي ﷺ حينما هاجر إلى المدينة وادع اليهود وعاهدهم، ولهذا قال كثير من السلف: إن المقصود من هذه الآية هم اليهود، ومن أهل العلم من خص هذه الآية ببني قريظة، واختار ابن جرير الطبري –رحمه الله- أن هذه الآية في بني قريظة ونظرائهم ممن عاهدهم النبي ﷺ ووادعهم، أما كفار مكة فلم يكن بينهم وبين النبي ﷺ عهد إلا في غزوة الحديبية في السنة السادسة.
قوله: فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ [سورة الأنفال:57]، الثَّقْف هو الحذق في إدراك الشيء، والحاذق في صنعة أو في علم يقال له: مثقف.
والتشريد هو التفريق مع اضطراب، ومعنى: فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ أي: نكل بهم واقتلهم قتلاً ذريعاً وأوقع بهم بأسك من أجل أن يرتدع من وراءهم فيخاف، ولا يجرؤ على نقض العهد أو الخيانة، وهذا الذي حصل لبني قريظة، فقد قتل كل من يقدر على حمل السلاح في صبيحة واحدة، وسبى النساء والذرية، وأخذت الأموال.
وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ [سورة الأنفال:58]، يقول تعالى لنبيه ﷺ: وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ قد عاهدتهم خِيَانَةً أي: نقضاً لما بينك وبينهم من المواثيق والعهود، فَانبِذْ إِلَيْهِمْ أي: عهدهم، عَلَى سَوَاء أي: أعلمهم بأنك قد نقضت عهدهم حتى يبقى علمك وعلمهم بأنك حرب لهم وهم حرب لك، وأنه لا عهد بينك وبينهم على السواء، أي: تستوي أنت وهم في ذلك، إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ أي: حتى ولو في حق الكافرين لا يحبها أيضاً.
روى الإمام أحمد عن سليم بن عامر قال: كان معاوية يسير في أرض الروم وكان بينه وبينهم أمد، فأراد أن يدنو منهم فإذا انقضى الأمد غزاهم، فإذا شيخ على دابة يقول: الله أكبر الله أكبر وفاء لا غدراً، إن رسول الله ﷺ قال: ومن كان بينه وبين قوم عهد فلا يحلن عقدة ولا يشدها حتى ينقضي أمدها أو ينبذ إليهم على سواء قال: فبلغ ذلك معاوية فرجع، فإذا الشيخ عمرو بن عنبسة [1] وهذا الحديث رواه أبو داود الطيالسي وأخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان في صحيحه، وقال الترمذي: حسن صحيح.
قوله: عَلَى سَوَاء أي: إذا تخوفت من قوم خيانة بنقض العهد فأعلمهم بنبذ العهد إليهم، وأنه لا عهد بينك وبينهم، فتستوي معهم في هذه الحال وأن الحرب قائمة، هذا من أحسن ما فسرت به هذه الآية -والله تعالى أعلم- وذهب بعض أهل العلم إلى أن معنى قوله: عَلَى سَوَاء أي: يستوي في علم ذلك أولهم وآخرهم، وقول ابن كثير هو الأرجح.
وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ [سورة الأنفال:59، 60].
يقول تعالى لنبيه ﷺ: ولا تحسبن يا محمد الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ أي: فاتونا فلا نقدر عليهم، بل هم تحت قهر قدرتنا، وفي قبضة مشيئتنا فلا يعجزوننا، كقوله تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَاء مَا يَحْكُمُونَ [سورة العنكبوت:4] أي يظنون.
وقوله تعالى: لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ [سورة النــور:57]، وقوله تعالى: لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [سورة آل عمران:196، 197]، ثم أمر تعالى بإعداد آلات الحرب لمقاتلتهم حسب الطاقة والإمكان والاستطاعة فقال: وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم أي مهما أمكنكم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ روى الإمام أحمد عن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول وهو على المنبر: وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ ألا إن القوة الرمي، ألا أن القوة الرمي[2]، رواه مسلم.
قوله: وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ [سورة الأنفال:59] هذه قراءة حفص وابن عامر وحمزة، وقرأ الباقون وَلا تَحْسَبَنَّ، وقد أنكر قراءة الياء كبير المفسرين ابن جرير الطبري –رحمه الله- ولا شك أنها قراءة متواترة، وما ذكره ابن جرير وغيره مجاب عنه في مواضعه.
قوله: وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ [سورة الأنفال:60].
مِّن قُوَّةٍ أي: كل قوة مستطاعة، وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ الخيل من جملة القوة، وهذا من باب عطف الخاص على العام، فيدل على أهمية الخيل، والمقصود برباط الخيل، أي: الخيل التي ترتبط في سبيل الله، وبعض أهل اللغة جعل ذلك مختصاً بما كان يبلغ الخمس فما فوقها، فيقال له: رباط الخيل.
وقد أمر –تبارك وتعالى- المؤمنين بإعداد العدة لحرب الكفار -مع أن الكفار تحت قبضته سبحانه ونواصيهم بيده؛ لكي يحصل التمايز بين الناس، ويحصل اصطفاء الشهداء، وشفاء صدور المؤمنين، وبلاء المؤمنين بالكفار، كما قال –تبارك وتعالى: وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ [سورة محمد:4].
وقد ذكر النبي ﷺ أعلى درجات القوة وأشدها فتكاً بالعدو فقال: ألا إن القوة الرمي[3]، ولهذا جاء الحث على تعلم الرمي فقال ﷺ: ارموا بني إسماعيل، فإن أباكم كان رامياً[4]، وقد فسر بعض أهل العلم القوة بالحصون وهي نوع واحد من أنواع القوة.
قوله ﷺ: في مرج أو روضة المرج: الأرض الواسعة ذات النبات الكثير، تسرح فيها الدواب، والروضة أخص من المرعى، فهي الأرض ذات النبات الكثير.
قال: فما أصابت في طيلها أي: الحبل الذي تربط فيه يد الدابة، وعادة الحبل الذي يربط به الفرس أن يكون طويلاً؛ لأن الفرس يحتاج إلى تربية ولا بد أن ينطلق.
قوله: فاستنت شرفاً أو شرفين يحتمل أن يكون المعنى أنها تنطلق فتصعد على مكان عالٍ، وهذا من طبيعة الخيل، أو أنها تنطلق شوطاً أو شوطين، فهي لا تتوقف عن الحركة، وكل هذه الخطوات مكتوبة لصاحبها؛ لأنها قد ربطت في سبيل الله.
قوله: ورجل ربطها تغنياً وتعففاً ولم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها فهي له ستر يعني الذي ربطها تغنياً وتعففاً من أجل استيلادها وبيع أولادها ونحو هذا، فهي له ستر؛ لأنه ربطها لغرض مباح.
قوله: ورجل ربطها فخراً ورياءً ونواء، فهي على ذلك وزر، أي: ربطها رياء ومناوأة ومعاداة لأهل الإسلام فهي عليه وزر.
قوله: وسئل رسول الله ﷺ عن الحمر فقال: ما أنزل الله علي فيها شيئاً إلا هذه الآية الجامعة الفاذة فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [ سورة الزلزلة:7، 8].
بيّن النبي ﷺ أن من اتخذ الحمر لأمر يحبه الله ورسوله ﷺ فإنه يؤجر عليه، وذلك لعموم قوله تعالى: فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [سورة الزلزلة:7، 8].
وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود عن النبي ﷺ قال: الخيل ثلاثة، ففرس للرحمن، وفرس للشيطان، وفرس للإنسان، فأما فرس الرحمن فالذي يربط في سبيل الله، فعلفه وروثه وبوله وذكر ما شاء الله، وأما فرس الشيطان فالذي يقامر أو يراهن عليها، وأما فرس الإنسان فالفرس يربطها الإنسان يلتمس بطنها فهي له ستر من الفقر[6].
وفي صحيح البخاري عن عروة بن أبي الجعد البارقي -: أن رسول الله ﷺ قال: الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة الأجر والمغنم[7].
وقوله: تُرْهِبُونَ أي: تخوِّفون بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ أي: من الكفار وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ قال مجاهد: يعني بني قريظة، وقال السدي: فارس، وقال مقاتل بن حيان وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هم المنافقون، ويشهد له قوله تعالى: وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ [سورة التوبة:101]، وقوله: وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ [سورة الأنفال:60] أي: مهما أنفقتم في الجهاد فإنه يوفى إليكم على التمام والكمال، كما تقدم في قوله تعالى: مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [سورة البقرة:261].
ذكر الله سبحانه العلة من أمره بإعداد العدة فقال: تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ، وقد قال النبي ﷺ: نصرت بالرعب مسيرة شهر[8]، وقال: وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم[9].
قوله –تبارك وتعالى: وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ [سورة الأنفال:60]
قوله: تُرْهِبُونَ أي: تخوفون بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ قدم عداوة الله على عداوة المؤمنين؛ لأن عداوة المؤمنين تبع لعداوة الله فهم يعادون من عاداه الله ولو كان أقرب قريب إليهم، ويوالون من والى الله ولو كان أبعد ما يكون نسباً عنهم.
قال: وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ قال مجاهد: يعني بني قريظة وقيل: فارس.
قال: لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ أي: هؤلاء الآخرين لا تعلمونهم الله هو الذي يعلمهم، فمن أهل العلم من قال: هم المنافقون الذين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، وقال الإمام ابن جرير -رحمه الله: المراد بهم الجن، والذي حمل ابن جرير -رحمه الله- على هذا القول هو أن عداوة قريظة كانت معروفة ولم تكن خفية، وأما أهل النفاق فلم تكن ترهبهم قوة المسلمين؛ لأنهم يظهرون الموافقة، والقوة لم تكن قد أعدت لهم، وذكر ابن جرير بعض الآثار من أن الجن يخافون من الخيل وصهيلها، وهذه الآثار لا يثبت منها شيء.
وإعداد هذه القوة ترهب أعداء الله الظاهرين، وترهب آخرين من دونهم لا يعلمهم المسلمون، وهذا أمر لا شك فيه، فالمسلمون إن كان عندهم قوة ظاهرة ضاربة فإنه يخافهم عدوهم الظاهر وعدوهم الآخر الخفي، فتكون الأمة مرهوبة الجانب يحترمها القريب والبعيد، وكلمتها نافذة، وهذا الذي كان لهذه الأمة في أزمان وقرون متطاولة، فقد كان لا يُعيَّن حاكم في أوروبا إلا بموافقة الخليفة العثماني، وحصل في بعض المرات تعيين بعض الملوك الأمراء، فأرسل الجيش حتى أُبعد وعُزل، وقد كانت روسيا تدفع الجزية للدولة العثمانية.
وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [سورة الأنفال:61-63].
يقول تعالى: إذا خفت من قوم خيانة فانبذ إليهم عهدهم على سواء فإن استمروا على حربك ومنابذتك فقاتلهم، وَإِن جَنَحُواْ أي: مالوا لِلسَّلْمِ أي: المسالمة والمصالحة والمهادنة، فَاجْنَحْ لَهَا أي: فمل إليها واقبل منهم ذلك، ولهذا لما طلب المشركون عام الحديبية الصلح ووضْعَ الحرب بينهم وبين رسول الله ﷺ تسع سنين، أجابهم إلى ذلك مع ما اشترطوا من الشروط الأُخَر.
قوله: وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا أي: مالوا، والجنوح هو الميل، تقول: جنحت الإبل بأعناقها، أي: مالت بأعناقها، قال بعض أهل العلم: هذه الآية منسوخة بآية السيف؛ لأن الله قال في الآية الخامسة من سورة براءة: فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [سورة التوبة:5] فقالوا: لا مجال للسلم والمصالحة مع العدو الكافر، ولكن القول بالنسخ فيه نظر، والقاعدة: أن النسخ لا يثبت بالاحتمال، وأنه لا يصار إليه إلا مع التعارض من كل وجه، ولا يوجد معارضة، وقد قال ابن جرير الطبري -رحمه الله: إن قوله: وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا نزلت في أهل الكتاب الذين يخيرون بين القتال أو الدخول في الإسلام، أو دفع الجزية للمسلمين عن يد وهم صاغرون، فإذا قبلوا المسالمة ورضوا بدفع الجزية، كف عن قتالهم، وأما أهل الأوثان فإنه لا تقبل منهم الجزية، على خلاف بين أهل العلم في هذه المسألة.
وتجوز المسالمة للكفار إذا كان أهل الإسلام في ضعف لا يستطيعون قتال العدو، وقد اشترط بعض أهل العلم ألا تزيد هذه الهدنة عن عشر سنين؛ لأن النبي ﷺ وادع المشركين عشر سنين، والمقصود ألاَّ تكون الهدنة دائمة؛ لأن المسلمين مأمورون بإعداد القوة ومجاهدة أعدائهم.
هذا الحديث لا يصح ولكن على فرض صحته، فمعناه -والله تعالى أعلم- يشير إلى ما وقع بين المسلمين من الاختلاف، ووجّه النبي ﷺ ذلك إلى علي وهذا من دلائل نبوته ﷺ.
التأليف بين القلوب لا يختص بما كان بين الأوس والخزرج، أو بما حصل من المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار؛ لأن الآية أعم من ذلك، فقد صار يجتمع في المدينة الأوسي والخزرجي والقرشي والجهني وغير هؤلاء من قبائل العرب من أنحاء الجزيرة العربية بعدما كانوا طوائف متناحرة.
قوله: لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [سورة الأنفال:63].
لا يمكن أن تحصل هذه الألفة والإخاء إلا بالتوحيد والإيمان واتباع الرسول ﷺ ويستحيل جمع الناس على المال والدنيا ولو كان هذا المال ملء الأرض؛ لأن الناس أسرى لعقائدهم وأفكارهم ولا يمكن أن يتخلوا عنها بشيء من المال.
- رواه أبو داود، كتاب الجهاد، باب في الإمام يكون بينه وبين العدو عهد فيسير (3/83)، برقم (2759)، والترمذي، كتاب السير، باب ما جاء في الغدر (4/143)، برقم (1580)، وأحمد (4/111)، برقم (17056)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (5 / 472).
- رواه مسلم، كتاب الإمارة، باب فضل الرمي والحث عليه وذم من علمه ثم نسيه (3/1522)، برقم (1917).
- تقدم تخريجه.
- رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب التحريض على الرمي (3/1062)، برقم (2743).
- رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب الخيل لثلاثة (3/1050)، برقم (2705)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب إثم مانع الزكاة (2/682)، برقم (987)، واللفظ للبخاري.
- رواه أحمد (1/395)، برقم (3756)، وصححه الألباني في إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل (5 / 338).
- رواه البخاري، كتاب الجهاد، باب الجهاد مع البر والفاجر (3/1048)، برقم (2697)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب الخيل معقود في نواصيها الخير (3 / 1492)، برقم (1871)، واللفظ للبخاري.
- رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب قول النبي ﷺ: نصرت الرعب مسيرة شهر (3 / 1087)، برقم (2815)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، (1/370)، برقم (521).
- رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب ما قيل في الرماح (3 / 1066)، وأحمد (9 / 123)، برقم (5114)، واللفظ لأحمد.
- رواه أحمد (1/90)، برقم (695)، وقال محققو المسند: إسناده ضعيف.
- رواه البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الطائف في شوال (4/1574)، برقم (4075)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام وتصبر من قوى إيمانه (2/738)، برقم (1061).