الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
لما ذكر الله -تبارك وتعالى- إنزاله لهذه الكتب الثلاثة، وعقب بعد ذلك بإنزال الفرقان الذي يحصل به الفرق بين الحق والباطل والهدى والضلال، قال الله : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ [آل عمران:4].
فهذه الآيات المُنزلة الكتب التي تضمنت الهدى الكامل من الله لعباده، فإن الذين يكفرون بها متوعدون بالعذاب الشديد، فكان في ذلك الإخبار بإنزال هذه الكتب الدعاء إلى الإيمان بها، والعمل بمقتضاها، فجاء هذا التهديد والوعيد لمن كفر لاسيما أن الخطاب كما سبق في صدر هذه السورة في بضع وثمانين آية موجه إلى النصارى، فيتوعدهم بعد هذه المقدمات التي تستدعي الإيمان إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ [آل عمران:4]، فذكر الكفر مع الاسم الموصول الَّذِينَ كَفَرُوا كل ذلك لإظهار متعلق الوعيد، وأن ذلك مُسبب عن الكفر، فمن وقع في شيء من ذلك بالكفر بأحد هذه الكتب كالقرآن فله عذاب شديد.
وهذه اللفظة "شديد" فيها معنى الشد والتضييق، وعذاب جهنم لا شك أنه بهذه المثابة وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا [الفرقان:13]، وذلك يكون كحال المشدود الذي ألمه مُضاعف لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ [آل عمران:4]، والله -تبارك وتعالى- وصف العذاب بالشدة، ووصفه بأنه أليم أيضًا في مواضع كثيرة من كتاب الله -تبارك وتعالى-، وهذا الألم يقع على الأجساد كما يقع على الأرواح، ووصفه أيضًا بأنه مُهين، وذلك واقع على الأرواح فيجتمع لهم هذا وهذا، كما قال الله -تبارك وتعالى-: يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ [القمر:48]، فالسحب على الوجوه لا شك أنه في غاية الإيلام مع الإهانة.
وما يكون لهم مع ذلك من التبكيت ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان:49]، قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون:108]، فيحصل لهم من ضروب الإهانة الشيء الكثير، فيحصل الألم للأجساد والأرواح.
وعلى كل حال هذا قد توعد الله -تبارك وتعالى- به من كفر بآياته، وهذا العذاب الشديد لم يُقيد أنه في النار، أو في الآخرة، فيبقى على إطلاقه، قد توعدهم بالعذاب الشديد، فيكون ذلك في الدنيا بما يقع عليهم من المصائب والآلام والعقوبات العامة والخاصة، وكذلك ما يقع لهم على أيدي أهل الإيمان من إدالتهم عليهم والقتل والأسر.
وهكذا أيضًا ما يقع لهم في البرزخ، وما يقع لهم في القيامة، وما يقع لهم في النار، فيكون هكذا بهذا الإطلاق -والله تعالى أعلم.
وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ [آل عمران:4] "عزيز" فهذا اسم، من أسمائه العزيز، وهو يتضمن صفة العزة، وصفة العِزة من الصفات الجامعة، الصفات الجامعة هي التي تجمع معانٍ وأوصاف حتى يتحقق هذا الوصف، كما ذكرنا في الكلام على الأسماء الحسنى في مناسبات شتى، كاسمه -تبارك وتعالى-: "المجيد" فهذا يتضمن صفة المجد، وهي من الصفات الجامعة.
فالعزة والمجد وما أشبه ذلك مما لا يتحقق إلا بمجموع أوصاف كل ذلك يُقال له صفة جامعة، يعني: العزة لا تتحقق بمجرد القوة، فقد يكون قويًّا لكنه ليس بعزيز، ولا تتحقق بمجرد الغنى فقد يكون غنيًّا ولكنه في غاية الذُل، وإنما تكون العزة بمجموع ذلك فيكون له من العظمة والقوة، وما أشبه ذلك بحيث إنه لا يُضام ولا يُرام، فهذا العزيز.
عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ [آل عمران:4] هنا ما قال: والله عزيز مُنتقم، وإنما قال: عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ، وذو بمعنى صاحب، والفرق بين المقامين أن العزة صفة مُطلقة من أوصاف الله يوصف أنه العزيز ويُسمى بالعزيز، يوصف بالعزة ويُسمى العزيز، ولكن الانتقام ذلك وصف مقيد، وليس بمطلق يعني هو مُنتقم ذو انتقام صاحب انتقام، مُنتقم من المجرمين، منتقم من الكافرين ونحو ذلك، لكن الانتقام لا يكون كمالاً بإطلاق إلا إذا كان في الموضع الذي يكون كمالاً فيه، فهنا قال: وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ [آل عمران:4]، ما قال منتقم بهذا الإطلاق كما قال عزيز فيكون ذلك مقيدًا حيث يصلح الانتقام وحيث يكون كمالاً.
ثم التعبير هنا بذو ذُو انْتِقَامٍ ولم يقل صاحب، ولا يوجد في موضع واحد في كتاب الله -تبارك وتعالى- التعبير بصاحب مع أن أهل اللغة يُفسرون هذا بهذا، ذو بمعنى صاحب، ولكنه في القرآن جاء بهذه الصيغة بهذه اللفظة، وذلك أبلغ -والله تعالى أعلم- أبلغ من الوصف بصاحب، يقولون: بأن ذو لا تأتي إلا مُضافة إلى اسم فيكون مدلولها أبلغ ذُو انْتِقَامٍ.
وكذلك أيضًا هنا وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ بعد هذا الوعيد إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ [آل عمران:4]، فهنا ذكر العزيز مع ما بعده من وصفه بأنه ذو انتقام هذا فيه وعيد بالانتقام والأخذ لهؤلاء المكذبين الكافرين.
فهذا الختم والتذييل لهذه الآية بهذه الأوصاف لا شك أنه يتضمن وعيدًا فهو قادر على أخذهم، فالوعيد في قوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ، لا يتحقق إلا لمن كان عزيزًا، ومن كان قادرًا على الأخذ والانتقام من هؤلاء، وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ وجاء بهذا الاسم الكريم الذي هو أعظم الأسماء كما سبق وأظهره لتربية المهابة ولما في ذلك من التعظيم والتفخيم.
والآيات في هذه الآية إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ [آل عمران:4]، التي توعد على الكفر بها الذي يظهر -والله أعلم- أنها تشمل الآيات المتلوة، وذلك يدخل في هذه الآيات دخولاً أوليًّا؛ لأنه ذكر إنزال الكتب التوراة والإنجيل والقرآن، فهذه آيات متلوة، ويدخل فيه أيضًا الآيات التي هي الدلائل والبينات والبراهين التي يُظهرها على يد أنبيائه ورسله -عليهم الصلاة والسلام- لبيان وإظهار صدقهم، كالآيات التي أعطاها الله لموسى ، والآيات التي كانت للرسل -صلوات الله عليهم وسلامه-، وكذلك ما أعطى الله نبيه ﷺ، فهذه الآيات كانت ظاهرة لا تلتبس، ولكن أكثر أولئك الأقوام كفروا بها كما قص القرآن إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ.
وإنما ذكرنا ذلك؛ لأن آيات هنا جمع مُضاف إلى معرفة وهو الاسم الظاهر لفظ الجلالة بِآيَاتِ اللَّهِ [آل عمران:4]، ومثل هذا هو من صيغ العموم كما هو معلوم بِآيَاتِ اللَّهِ، والأصل بقاء العام على عمومه إلا لدليل يُخصصه، لكن السياق هنا دل على أن هذه الآيات المقصود الأولي بها هي الآيات المتلوة لذكر الكتب قبلها، ولكن يدخل فيها أيضًا الآيات التي هي دلائل التي يسمونها المعجزات براهين صدق الأنبياء وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً [الإسراء:59]، يعني: آية مُبصرة وليس معناها أن الناقة مُبصرة فَظَلَمُوا بِهَا [الإسراء:59]، يعني: بالتكذيب.
بعد ذلك قال الله -تبارك وتعالى-: إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ [آل عمران:5]، فهذا بمعنى الإحاطة إحاطة العلم بكل صغيرة وكبيرة بهذا الكون في العالم العلوي والعالم السُفلي، ومثل هذا النفي إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ [آل عمران:5]، كما ذكرنا في بعض المناسبات يتضمن ثبوت كمال ضده، قلنا: إن النفي الذي يتوجه في أوصاف الله -تبارك وتعالى-، أو أوصاف النبي ﷺ، أو أوصاف الملائكة، أو القرآن؛ فإنه يقتضي ثبوت كمال ضده، فإذا قال: لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ [البقرة:255] فذلك لكمال حياته وقيوميته يعني فيه إثبات كمال حياته وقيوميته، فإذا نفى الظلم فذلك لكمال عدله، وهنا إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ [آل عمران:5]، لكمال علمه وإحاطته وإلا فالنفي بمجرده لا يكون مدحًا كما هو معلوم، فإذا جاء في أوصاف الله أو ما ذكرت فإنه يكون متضمنًا لثبوت كمال ضده.
إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ [آل عمران:5]، وهذا فيه أيضًا حافز للنفوس على الامتثال والإيمان والقبول والإذعان فلا يخفى عليه ما تُكنه الصدور، وما يصدر عن الخلق من الإيمان والكفر والأعمال الصالحة والأعمال السيئة، الله لا يخفى عليه شيء: يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر:19]، "خائنة الأعين" مُسارقة النظر إلى ما لا يحل، قد يخفى على الناس، ولكنه لا يخفى على الله -تبارك وتعالى-.
وكذلك ما يُكنه الإنسان في صدره من المقاصد الصحيحة والنيات الصالحة، وما يكون أيضًا من المقاصد الفاسدة كالرياء والسمعة والإشراك بأنواعه، وكذلك أيضًا ما يتعلق بمحبة الله ومحبة الخلق، وكذلك الخوف والرجاء والتوكل، لا يخفى عليه شيء من ذلك، ومثل هذا يُربي المراقبة لله تعالى، وهو أحوج ما نكون إليه في مثل هذه الأوقات أن يُراقب الإنسان ربه، وهذا من أجل الأعمال القلبية، وهو ارتقاء إلى مرتبة الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك[1].
هذه المراقبة نحن بحاجة إليها؛ لأن الشر والفتنة والحرام أصبح أقرب في هذا الوقت، وهذه الوسائل إلى الواحد منا من اليد للفم، في غاية القرب وهو جالس لربما في المسجد يفتح هذا الجهاز وينظر إلى ما حرم الله -تبارك وتعالى-، الصغير والكبير، الفتيات والشباب، الكبار النساء، الرجال الشيوخ، ولربما يصل إليه ابتلاء من غير طلب لينظر الله -تبارك وتعالى- في حال العبد وتقواه ومراقبته وخوفه منه، فالنفوس قد تتطلع إلى شيء من ذلك من باب الفضول، أو ما جُبلت عليه من الشهوات، والشيطان يُزينها؛ ولكنه يبقى الإيمان الرادع والخوف من الله ومراقبته أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى [العلق:14].
فهذا باب المراقبة هو باب الإحسان الأكبر، وهو الذي يحتاج الناس إلى تربية عليه، يُربى عليه يُنشأ الصغير، وهكذا يُربي كل واحد نفسه على هذه الخلّة والخصلة التي هي من شُعب الإيمان، وذلك بكثرة النظر في مثل الأسماء الحسنى الدالة على هذا المعنى كالرقيب، والعليم، والخبير، واللطيف، والمُحيط عند من عده من الأسماء.
وهكذا السميع والبصير، ينظر في معانيها ويتأمل في ذلك ويتدبر، يقرأ القرآن بتدبر، وتجد في ثنايا الآيات التي تتحدث عن الأحكام وغيرها ما يُربي هذا في نفوس أهل الإيمان السميع البصير، العليم الخبير، اللطيف الرقيب، كل ذلك مما يحصل به التحقق بهذا الوصف.
إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ [آل عمران:5]، فذكر الأرض والسماء، وذلك يدل على الإحاطة بجميع أحوال العالم العلوي والسُفلي، فالسماء كل ما علا، والأرض يشمل الطِباق السبع، فالأرض جنس والجنس يصدق على جميع أفراده، وكذلك أيضًا السماء فإنها تشمل السماوات السبع، ولا حاجة للقول بأن ذلك إنما ذكر يعني الأرض والسماء؛ لأنهما مشهودان أمام الخلق فخاطبهم بما يُشاهدون، لا، إنما السماء تشمل العالم العلوي، والأرض تشمل العالم السُفلي، وهذا يشمل جميع الخلق، والله تعالى أعلم.
إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ [آل عمران:5]، وذكر الأرض قبل السماء باعتبار الترقي من الأدنى إلى الأعلى، وربما يكون ذلك باعتبار الناس أهل التكليف من الثقلين يعيشون في الأرض، وأهبط الله آدم، وقدّر أن يكون البقاء في هذه الأرض والابتلاء فيها والعمل، فذكر الأرض قبل السماء؛ لأنهم يدرجون على هذه الأرض وتكون أعمالهم ومزاولاتهم عليها.
إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ [آل عمران:5] وكذلك أيضًا هذا يدل على كمال حياته وقيوميته، فقد ذكر الحي القيوم في أول هذه السورة، ومن كمال حياته وقيوميته أنه لا يخفى عليه شيء من أحوال الخلق، فهذا الذي تقوم به معايشهم وأرزاقهم، ويقوم عليهم بأعمالهم وآجالهم، وما أشبه ذلك، لا بد من علم مُحيط بأحوال الخلق، فيرزقهم ويرصد أعمالهم، وما يصدر عنهم، ثم يُجازيهم على ذلك، وهذا فيه ما فيه من الوعد والوعيد لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ [آل عمران:5]، فأهل الأعمال الطيبة الصالحة والإيمان لا يخفى عليه عملهم، ومن ثَم فإنه سيُجازيهم، وأصحاب الأعمال السيئة لا يخفى عليه شيء من حالهم فيكون ذلك من قبيل الوعيد لهم.
فإذا قال قائل لمن تحت يده: لا يخفى عليّ عملك، لا يخفى عليّ حالك إذا كان عمله طيبًا، فهذا يبعث الطمأنينة في نفسه، وأنه سيُجازى الجزاء الأوفى، وإذا كان عمله سيئًا فقيل له لا يخفى علينا عملك، فإن ذلك فيه من الوعيد والتهديد والتخويف ما لا يخفى.
وكذلك أيضًا فيه إثبات صفة العلم لله -تبارك وتعالى-، وأن هذا العلم علم مُحيط كامل بالكليات والجزئيات، يعلم تفاصيل الأشياء.
وكذلك أيضًا لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ [آل عمران:5]، فشيء هنا نكرة في سياق النفي فتفيد العموم، فيشمل ذلك أعمال العباد: الأعمال القلبية، أقوال اللسان، أعمال الجوارح، يشمل الأعمال الطيبة والأعمال السيئة، كما يشمل أيضًا جميع ما يجري في هذا الكون، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ [آل عمران:5]، ما تسقط من ورقة إلا يعلمها، لا تكون لأحد حركة، ولا تسكينة إلا يعلمها، حبة في جوف صخرة يعلمها، فلا تخفى عليه خافية.
كل ما في هذا الكون قد علم الله به علمًا مُحيطًا، ما يصدر عن الناس من أقوال وأفعال ونجوى كل ذلك يعلمه، فهذه النجوى لا تخفى عليه، وما يُبيته الإنسان من المقاصد والنيات، وما إلى ذلك يعلمه، فيكون التعامل مع الله -تبارك وتعالى- بهذا الاعتبار، أنك تتعامل مع من يعلم السر وأخفى، أخفى من السر، فيكون الإنسان في حال من الصدق والإخلاص والمراقبة، ويكون في حال من إصلاح العمل، فيستوي حاله حينما يخلو مع حاله حينما يكون في الخلوة؛ لأنه يتعامل مع ربّ عليم خبير، ويعلم قصده ونيته، ولا يحتاج أن يتصنع للناس، ولا أن يُرائي بأعماله، بصدقاته، بعباداته ونحو ذلك؛ لأنه يتعامل مع ربٍّ السر عنده علانية، وإذا خلا بنفسه كان في حال من التقوى لله والحياء منه فلا يصدر عنه ما لا يليق، إذا كان يتحفظ الإنسان من الناس ويستحي من الناس، فالله أحق بأن يُعظم، وأن يُستحيى منه، وهكذا.
والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
- أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الإيمان، والإسلام، والإحسان، وعلم الساعة، رقم: (50)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب معرفة الإيمان، والإسلام، والقدر وعلامة الساعة رقم: (8).