الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ما زال الحديث متصلاً بقوله -تبارك وتعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ [آل عمران:7].
فقوله -تبارك وتعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ [آل عمران:7]، هذا شروع في بيان أقسام الناس إزاء المتشابه، فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ [آل عمران:7]، أي: ميل عن الحق، فهؤلاء مرضى الشبهات، فحالهم أنه يتبعون المتشابه لسوء قصدهم، وذلك طلبًا للفتنة ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ [آل عمران:7]، فتن الناس بالتشكيك والتضليل فيما يتعلق بالوحي، وما يتبع ذلك من النبوة فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ [آل عمران:7]، طلبًا لحمله على محامل غير مرادة لله -تبارك وتعالى- وذلك؛ لأن هذا المتشابه قد يكون محتملاً لوجوه من المعاني فيحملونه على مرادهم الفاسد، بخلاف ابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ، والله وحده هو الذي يعلم تأويله، على الوقف -كما ذكرنا- باعتبار أنه لا يعلم حقائق الأمور الغيبية إلا الله -تبارك وتعالى.
وأما الراسخون في العلم الذين حصّلوا فيه تحصيلاً بحيث صار العلم سجية لهم وتمكنوا فيه غاية التمكن، فهؤلاء بخلاف حال أولئك الزائغين فإنهم يُعلنون موقفهم إزاء المتشابه بالإيمان والإذعان والتسليم، هذا على الوقف.
قلنا على الوصل يكون هؤلاء ممن يعلم تأويله وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [آل عمران:7]، أي: يعلمون تأويله، قائلين في الوقت نفسه آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران:7]، يعني: المحكم والمُتشابه، فهؤلاء يُصدقون، ولا يضربون بعضه ببعض، ولا يُلبسون، ولا يُنقرون في هذه المتشابهات وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ [آل عمران:7]، لا يحصل التذكر والتعقل والانتفاع بذلك كله إلا أصحاب العقول السليمة، أصحاب العقول الراجحة الصحيحة.
يؤخذ من هذه الآية الكريمة من الهدايات والفوائد: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ [آل عمران:7]، "هو" ابتدأ بالضمير المتعلق به -سبحانه وتعالى- تعظيمًا وتفخيمًا للمُنزل، وما يتبع ذلك أيضًا من تعظيم شأن المُنزل والمُنزل عليه، هُوَ الَّذِي [آل عمران:7]، والتعبير هنا بالضمير في هذا السياق أفخم من التعبير أيضًا بالاسم الظاهر، وهذه قضايا يُدركها من له ذوق في البلاغة والفصاحة هُوَ الَّذِي [آل عمران:7].
لو قال الله الذي خلاف هو الذي، ففي كل مقام يكون التعبير بحسبه، والقرآن هو أفصح الكلام، هُوَ الَّذِي [آل عمران:7] ثم لاحظ معلوم أن الضمير معرفة، الضمائر معارف، فهذه معرفة "هو" وكذلك دخول أل (الذي) هاتان معرفتان تعاقبتا وذلك يُشعر بالحصر هُوَ الَّذِي [آل عمران:7]، يعني: ليس غيره أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ [آل عمران:7]، فذلك يرجع إلى الله وحده هو المُنزل وحده هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ [آل عمران:7]، ومن ثَم هذا لا شك أنه يُفيد الامتنان من جهة، فالله -تبارك وتعالى- يتمدح بهذا، وفيه أيضًا من رفع شأن المُنزل عليه هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ [آل عمران:7]؛ لأنه قدم الضمير المتعلق به فقُدم هنا الجار والمجرور ما قال "هو الذي أنزل الكتاب عليك" قال: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ [آل عمران:7] "عليك" فجاء بالضمير المتعلق بالنبي ﷺ وقدمه فهذا لا شك أنه تقديم يدل على تشريف، وكذلك أيضًا تقديم ما حقه التأخير يدل على الاختصاص أو الحصر، يعني: أنه نزله على نبيه ﷺ ولم يُنزله على أحد سواه، يعني: ممن كان في ذلك الحين، وإلا فالله أنزل على أنبياء قبله كما هو معلوم.
ثم أيضًا إضافة ذلك إلى الله بهذه الصيغة هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ [آل عمران:7]، هذا فيه أيضًا إشارة إلى تنزيل المُتشابه أنه امتحان للقلوب واختبار لها، فالله أراد ذلك أنزل الكتاب منه كذا ومنه كذا؛ ليحصل بسبب ذلك الامتحان فيظهر أرباب القلوب المريضة وأرباب القلوب الصحيحة، وكذلك أيضًا ذكر الكتاب "الكتاب" كما ذكرنا في بعض المناسبات ودخول أل عليه هكذا يدل على أنه الكتاب الفرد، يعني: الكتاب الذي استجمع الأوصاف الكاملة بحيث إذا ذُكر الكتاب بإطلاق فهو القرآن، لم يكن هناك حاجة للتصريح بقوله مثلاً هو الذي أنزل عليك القرآن، وإنما هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ [آل عمران:7]، والكتاب هو أحد الأسماء الأربعة للقرآن الكريم، العلماء -رحمهم الله- يذكرون أسماء كثيرة، وبعضهم ألف في ذلك مصنفًا مستقلاً في أسماء القرآن، والواقع أن أكثر ما يذكرون في ذلك إنما هو من قبيل الأوصاف، مثل الهدى، والتبيان، والنور، ونحو ذلك، هذه أوصاف للقرآن وليست بأسماء، وإنما أسماءه الثابتة أربعة: القرآن، والكتاب، والفرقان، والذكر، وهي التي ذكرها أبو جعفر ابن جرير -رحمه الله- في أول تفسيره، أربعة أسماء[1]، وما عداها فهي أوصاف.
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ [آل عمران:7]، ما قال هو الذي نزّل عليك الكتاب منه آيات، قلنا نزّل تدل على التنجيم، وهي تدل على التكثير فعّل لكن هنا قال: أَنْزَلَ وذلك أنه هنا أضاف إليه هذا الوصف.
مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ [آل عمران:7]، فذلك -والله أعلم- باعتبار النظر إلى جملة القرآن، وليس النظر إلى بعض أفراده في كل آية.
وهنا قال: أَنْزَلَ، لأنه بالنظر الكلي منه كذا، ومنه كذا، لكن حينما يقول نزّل كما في صدر هذه السورة اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ [آل عمران:2-3]، فذكر "نزّل" وذلك باعتبار أنه نزل مُنجمًا شيئًا بعد شيء، حينًا بعد حين، والله أعلم.
كذلك أيضًا هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ [آل عمران:7]، هنا لاحظ أنه قدم المُحكمات، وقلنا إن المُحكمات جمع مُحكم، والمُحكم ما استقل بنفسه، يعني في بيان المراد منه، لم يحتج إلى غيره لوضوحه وظهوره، والمتشابه بخلافه ما احتاج إلى غيره لبيان المراد منه، وهنا قدم ذكر المحكمات قال: هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ [آل عمران:7]، قدمها لأنها الأصل، والله أعلم؛ ولأنها الأكثر والأغلب من الآيات أنها من قبيل المحكمات.
هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ [آل عمران:7] ومعنى الأم "أم الكتاب" يعني الأصل الذي يعول عليه ويُرجع إليه، وذلك -والله تعالى أعلم- بمعنى أن المُتشابهات تُرجع إلى المحكمات، وذلك أنها لا تُفهم إلا بإعادتها إلى المُحكم {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} [آل عمران:7]، "هن" يعني جميع المُحكمات هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ [آل عمران:7] وما قال أمهات الكتاب؛ لأن المقصود بذلك جميع المحكمات فهي موصوفة بهذا الوصف، وليس المقصود أن كل آية منها هي أم الكتاب، لا، وإنما مجموع المحكمات أم الكتاب، وليس كل آية بمفردها هي أم الكتاب، فعموم المتشابهات ترجع إلى الأصل الذي هي الأم، فالأم يُقال لمجمع الشيء كما ذكرنا في الكلام على التسهيل في علوم التنزيل بشيء من التوسع، ولهذا يُقال للراية التي يجتمع الجيش عليها يُقال لها أم، ويُقال لجلدة الرأس أم الدماغ، والله قال: فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ [القارعة:9]، وقد ذكرنا في الكلام على التفسير التعليق على المصباح المنير أقوال أهل العلم في ذلك، بعضهم يقول فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ [القارعة:9]، يعني: يخر في النار على أُم رأسه، وبعضهم يقول غير ذلك مما يرجع إلى هذا المعنى الذي هو الأصل أصل الشيء، ومجمعه وما إلى ذلك هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ [آل عمران:7].
وأيضًا قوله عن المحكمات هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ [آل عمران:7]، يدل على شرفها ومنزلتها، فقد قدمها وجعلها أصلاً، وهذا ظاهر، والله تعالى أعلم.
كذلك أيضًا يؤخذ من هذه الآية الكريمة: وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ [آل عمران:7]، قدم هنا ذكر أصحاب الزيغ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ [آل عمران:7]، وأخر الراسخين، ربما يكون ذلك -والله تعالى أعلم- باعتبار أن الآيات سيقت في الرد على النصارى ومجادلة النصارى، وهم أهل زيغ ويتبعون ما تشابه كما ذكرنا في الليلة الماضية، فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ [آل عمران:7]، فهو يُخاطبهم ويُجادلهم، ويرد عليهم ويُبين ما هم عليه من الضلال، فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ [آل عمران:7]، فقدم ذكر هؤلاء، وقد يكون ذلك باعتبار أن هذا الصنيع قُدم لشدة خطورته وضرره وضرورة التفطن له؛ لأنه أصل الضلال، فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ [آل عمران:7].
ولاحظ أنه أضاف الزيغ إلى القلوب، وذلك أن موضع الزيغ الهدى والضلال في القلب رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا [آل عمران:8]، فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا [التحريم:4]، فذلك يرجع إلى القلب، وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ [التغابن:11]، فالهدى والضلال والزيغ كل ذلك يرجع إلى القلب، موضعه القلب، فالقلب هو مُستقر الإيمان والهدى.
وكذلك أيضًا الكفر والضلال والشهوات، ولهذا قال في مرض الشهوات فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [الأحزاب:32]، وفُسر هنا في آيات الأحزاب بالميل المُحرم للنساء فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [الأحزاب:32]، وكذلك النفاق فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا [البقرة:10]، فهذا كله يرجع إلى القلب، فالنفاق يكون في القلب، والكفر يكون في القلب، أعني أساسه، وإلا فالكفر قد يكون باللسان، وقد يكون بالعمل والفعل كل ذلك يكون الكفر به، لكن أساسه ومستقره القلب، ومن هنا يحتاج المؤمن دائمًا إلى الدعاء فعن أنس قال: كان رسول الله ﷺ يكثر أن يقول: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، فقلت: يا رسول الله، آمنا بك وبما جئت به فهل تخاف علينا؟ قال: نعم، إن القلوب بين أصبعين من أصابع الله يقلبها كيف يشاء[2].
بعضهم قال: "ما سُمي القلب قلبًا إلا من تقلبه" يتقلب، حتى قال بعض السلف كما ذكرنا في الكلام على الأعمال القلبية "أن القلب أشد تقلبًا من القِدر إذا استجمعت غليانا"، وبعضهم مثل ذلك بالريشة تكفأها الرياح، القلب يتغير -نسأل الله العافية والسلامة لنا ولكم ولإخواننا المسلمين- وكما قال النبي ﷺ في آخر الزمان في أوقات الفتن: يُصبح الرجل مؤمنًا ويُمسي كافرا، ويُمسي مؤمنًا ويُصبح كافرًا[3].
يعني: تحول سريع فيكثر ذلك في أوقات الفتن، فذلك يتطلب المزيد من الدعاء وسؤال المعبود الثبات على الحق والهداية إليه، ونحن في كل ركعة اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، كما يوجب ذلك الحذر الشديد من تعريض القلب لرياح الشُبه، فالشُبه كما قال السلف خطافة، وكذلك لنار الشهوات، الإنسان فيه من الغرائز ما هو معلوم، فإذا أوقد تحتها النار صار لها من الضِرام ما يعجز معه من كبح النفس، فهذا الذي يقرأ في الشبهات، ويجلس مع أهل الشبهات، ويسمع الشبهات، وذاك الذي يُشاهد، وينظر ما يُثير الشهوات كل هؤلاء عُرضة للضلال، فإن أصلي الضلال: إما بالشُبهة وإما بالشهوة، كل من ضل فإن ضلاله إما أن يكون لشُبهة أو لشهوة، أصحاب الشبهات هم أصحاب الأهواء والبدع التي لا يتوبون منها، يموت دونها، يتهافت على الموت ويسأل ربه التثبيت، ويرى أن الآخرين على ضلال، ولهذا قال السلف بأن البدعة أحب إلى إبليس من المعصية، ذلك أن صاحب المعصية يُرجي التوبة ويعلم أنه على ضلال وانحراف، ولكن صاحب الشبهة يموت دونها، ويقوم ويقعد وهو يقول أسأل الله الثبات.
وكما ترون -نسأل الله العافية- هؤلاء الذين يتعرضون للشبهات ويقرؤون ويسمعون مقاطع وغير ذلك من الضلالات، تراه -نسأل الله العافية- يفعل الأفاعيل والجرائر والجرائم الكبار العظام الموبقات ويتقرب إلى الله بأفضل الأوقات، يعني يتقرب إلى الله بقتل أبيه وأمه في رمضان، يتقرب إلى الله بقتل المصلين في ساحات المسجد النبوي، يقتل الصائمين عند الإفطار، هذا لا يمكن أن يُقال إن هذا يُمثل وهو يقتل نفسه قِتلة -نسأل الله العافية- قد يعجزون عن جمع وتتبع ما تناثر من جسده، هذه لا يُقدم عليها إلا إنسان قد تشرب عقيدة يموت دونها.
فلاحظوا الضلالة إذا أُشربها القلب كيف يتحول صاحبها، ولذلك بعض الناس يقولون هل هذا سحر، هو ليس بسحر ولكن الناس أسرى لأفكارهم ومعتقداتهم، يضحون من أجلها، ومن هنا كانت الخطورة بالغة في تعريض القلب للشبهات، القراءة في المواقع، السماع للمقاطع، الجلوس مع أصحاب اللوثات، لا تُجالس صاحب لوثة، فِر من هؤلاء فرارك من الأسد؛ لأن صاحب اللوثة يقذف الشبهة فتعلق في القلب، كما كان السلف يقولون، كانوا يضعون أصابعهم في آذانهم ما يجلسون مع أحد من هؤلاء ولا يسمعون منه إطلاقًا، ويقولون: القلب ضعيف والشُبه خطافة، وأغلى ما يملك الإنسان قلبه وإيمانه، فلا يُعرض ذلك للشُبهات أو الشهوات.
وقد سمعت من بعض الأمهات ومن بعض من ابتلي بشيء من ذلك أنه حينما كان يُشاهد مشاهد تُثير الشهوات والغرائز أنه كان يبحث عن أقرب شيء يستفرغ فيه هذه الشهوة فيقع على أخته، وبعضهم يقع على بنته، سمعت هذا من زوجات، وسمعته من بعض من ابتلي بهذا، يوقد تحت الشهوات، والغرائز جامحة تحتاج إلى ضبط، وهذا يوقد النار تحتها ليلاً طويلاً، وينظر في هذه المشاهد فيُسعر قلبه حتى يجد أثر ذلك في جميع أجزاء جسده يتلهب، ثم بعد ذلك يعمى لا يرى شيئًا إلا هذه الشهوة فيقع على أقرب من يليه، على بنته، على أخته، ونحو ذلك -نسأل الله العافية.
أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن لا يُزغ قلوبنا بعد إذ هدانا، اللهم ارحم موتانا، واشف مرضانا، وعاف مبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
- تفسير الطبري (1/ 94).
- أخرجه الترمذي، أبواب القدر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، باب ما جاء أن القلوب بين أصبعي الرحمن، رقم: (2140)، وابن ماجه، باب دعاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رقم: (3834).
- أخرجه أبو داود، كتاب الفتن والملاحم، باب في النهي عن السعي في الفتنة، رقم: (4259)، والترمذي، باب ما جاء ستكون فتن كقطع الليل المظلم، رقم: (2195).