الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فلا زال الحديث متصلاً فيما يُستخرج من الهدايات في قوله -تبارك وتعالى-: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ [آل عمران:11].
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ كشأنهم وعادتهم وسنتهم المستمرة، وكذلك كسنة الله بالمكذبين من الأخذ والعقوبة والنكال، وهذا يدل على أن سنته -تبارك وتعالى- قد مضت في أهل التكذيب والكفر والعتو على الله -تبارك وتعالى- بالأخذ والعقاب والنكال والعذاب الأليم في الدنيا قبل الآخرة، وهذا فيه ما فيه -كما ذكرنا في الليلة الماضية- من الوعيد لكل المكذبين والكافرين والمعرضين عن دعوة الرسل -عليهم الصلاة والسلام-.
ثم إن قوله -تبارك وتعالى-: فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ الفاء هذه تدل على التعقيب المُباشر، وقلنا: إن تعقيب كل شيء بحسبه، يعني ليس معنى ذلك أنه بمجرد التكذيب وقع العذاب، وإنما كان ذلك بحيث إنه قد حصل إقامة الحجة عليهم والإعذار منهم، وذكرنا لذلك أمثلة في أن تعقيب كل شيء بحسبه.
كذلك أيضًا هذه الفاء تدل على ترتيب ما بعدها على ما قبلها، ما سبب الأخذ؟ هو الكفر والتكذيب بآيات الله -تبارك وتعالى-، كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ، فكان سبب الأخذ هو التكذيب، فهي تدل على ترتيب ما بعدها على ما قبلها وأن ذلك -أعني الذي قبلها- عِلة للذي بعدها، علة الأخذ هو التكذيب، فدل على أن التكذيب سبب لعقوبة الله وعذابه، وهذا كله يوجب الحذر من الذنوب والمعاصي والكفر وما إلى ذلك مما يوجب سخط الله .
كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ والآيات هنا تشمل الآيات المُنزلة وتشمل أيضًا الآيات التي هي بمعنى البراهين والدلائل التي تدل على صدق الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-، فهؤلاء الفراعنة فرعون ومن معه كذبوا بما جاء به موسى ، كذبوا بالمعجزات التي أراهم إياها وكان أعظم ذلك العصى التي انقلبت إلى حية وصارت تلتهم وتبتلع ما يأفكون، وكذلك أيضًا سائر الآيات.
فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ الأخذ هنا يدل على سرعة العقاب، والاستئصال الذي حل بهم، يدل على شدته وعظيم ذلك العقاب، فكأن هذا المأخوذ يصير في حال لا يستطيع معها الدفع ولا الرفع فهو عاجز من كل وجه، يأخذه العذاب أخذًا، كالمربوط الذي لا يدفع عنه نفسه، فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وهذه الباء الظاهر أنها تدل على السببية يعني بسبب ذنوبهم، ويحتمل أن يكون بمعنى المُلابسة أخذهم الله حال كونهم مُلابسين ومقارفين للذنوب، يعني: أخذهم بجرمهم المشهود حال مواقعة الجُرم، لكن الأول أقرب، والله تعالى أعلم.
فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ والإظهار هنا، ولم يقل: كذبوا بآياتنا فأخذناهم بذنوبهم، لا، فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ، فأظهر الاسم الكريم في مقام يصح فيه الإضمار، كما عرفنا أن العرب تُعبر بالضمائر اختصارًا لكنها تُظهر في مقام يصح فيه الإضمار إذا كان ذلك لنُكتة ومعنى، وذلك أنه أوقع هنا في القلب، وأعظم في المهابة، وتربيتها في النفوس، وكذلك أفخم، ويدل على شدة الأخذ، فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ من الذي أخذهم؟
الله، فأخذه أليم شديد، فأضاف ذلك إليه .
ثم أيضًا: فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ هذه أفعالهم وجنياتهم وأعمالهم القبيحة، فدل ذلك على أن الله -تبارك وتعالى- لا يظلم الناس شيئًا، ولكن الناس أنفسهم يظلمون، أخذهم بسبب جناياتهم ولم يظلمهم بهذا الأخذ، ثم أيضًا أضاف هذه الذنوب إليهم فدل على أنهم فاعلون لها خلافًا لمن يقول: بأن الإنسان لا فعل له حقيقة، وأنه مُجبر على الأفعال، كريشة في مهب الريح، هذه عقيدة باطلة.
وكذلك أيضًا يؤخذ من قوله: فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ، "شديد العقاب" هذا أيضًا يدل على التهويل والتعظيم والتفخيم، يعني: أظهر الاسم الظاهر، فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ، هنا ما قال: وهو شديد العقاب، وإنما قال: "والله"، فأظهر ذلك، والقاعدة: أن مثل هذا إذا كان في جُملتين مستقلتين فإنه لا يكون من قبيل التكرار الذي يثقل على السمع، يعني: هنا لا يُحتاج إلى الضمير، يمكن أن يُذكر الاسم الظاهر ويكون ذلك أوقع في السمع والقلب وأعظم وأفخم فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ، هذه جملة مستقلة، وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ فأظهر هنا في مقام الإضمار أيضًا وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ، ولو تقارب ذلك، فلما كانت جملة مستقلة كان ذلك غير مستثقل في السمع وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ، وهذه الجملة أيضًا تدل على معنى التخويف وتدل على شدة بأس الله -تبارك وتعالى-، وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ.
ومثل هذا ينبغي أن يكون حاضرًا في نفس المؤمن من الخطأ أن يستحضر الإنسان دائمًا أن الله غفور رحيم وينسى مثل هذه المواضع المُصرحة بأن الله -تبارك وتعالى- شديد العقاب، فهو غفور رحيم، وفي الوقت نفسه هو شديد العقاب، فذلك يحصل به تحقيق الخوف والرجاء وهما كالجناحين للطائر لا يطير إلا بهما فيحتاج العبد إلى أن يجمع بين الخوف والرجاء، يرجو رحمة الله ويُحسن العمل، وكذلك أيضًا يخاف من سطوته وعذابه وعقوبته ونكاله بسبب تقصير العبد.
ثم قال الله : قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [آل عمران:12]، قل يا محمد ﷺ قل للذين كفروا، يدخل في هذا الذين كفروا من أهل الكتاب؛ لأن هذه الآيات كما قلنا في صدر هذه السورة في مخاطبتهم ومجادلتهم والرد عليهم، وكذلك عموم الذين كفروا يدخل فيه سائر طوائف الكفار؛ لأن ذلك يصدق عليهم، وإذا كان يُعنى به أهل الكتاب بطريق الأساس أو الأولى فهذا يدل على أن أهل الكتاب يُقال لهم: الكفار، والذين كفروا، وهذا كثير في كتاب الله : لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ [البينة:1]، فسماهم كفارًا، وكذلك أيضًا وصفهم بالإشراك: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ [المائدة:73]، وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ [التوبة:30]، فهم كفار وهم مشركون بلا شك.
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [آل عمران:12]، هذا وعيد لهم في الدنيا والآخرة، وهو وعد من الله -تبارك وتعالى- لنبيه ﷺ "سُتغلبون"، والغلبة هنا يدخل فيها الغلبة بنوعيها الغلبة في ميدان المعركة، وهي المُتبادرة، وهي الإطلاق الأغلب في كتاب الله ، وكلام الله يُفسر بالأغلب في الاستعمال في القرآن، ويدخل فيه الغلبة أيضًا بالحُجة والبُرهان، ولا شك أن هذه الغلبة بنوعيها حاصلة ومتحققة، وقد حصل ذلك؛ فقد غُلبوا في ميدان المعركة، وغلبوا أيضًا في ميدان الحجة، وذلك ليس للرسول ﷺ بل يكون لأتباعه بقدر ما يكون لهم من الاقتداء والاتساء والاتباع، فيكون لهم من النصر والغلبة بحسب ذلك.
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ فهذا لكل الكفار في كل زمان ومكان وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ، والحشر هو سوق الجمع يُحشرون، يُحشرون إلى جهنم وَبِئْسَ الْمِهَادُ الفراش الموطأ للصبي يُقال له: مهاد فيكون مهادهم لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ [الأعراف:41]، فهذا هو حال هؤلاء الكفار يفترشون النار -نسأل الله العافية- تكون لهم فراشًا، وأيضًا تغشاهم النار من فوقهم.
ويؤخذ من هذه الآية الكريمة: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ [آل عمران:12]، النبي ﷺ عبد مأمور مُكلف من قِبل الله أن يُبلغ فعليه البلاغ، وإنما الذي يحكم ويُشرع ويأمر وينهى هو الله -تبارك وتعالى-، فهو يأمر نبيه ﷺ أن يقول لهم ذلك، إذن ليس ذلك إليه أعني أن النصر لا يتنزل من النبي ﷺ، ولا يملكه رسول الله ﷺ، وكذلك العذاب الذي يقع في الدنيا والآخرة على هؤلاء الكفار لا يملكه الرسل -عليهم الصلاة والسلام-، ولهذا حينما كان أقوامهم يُطالبونهم بمثل هذا وبتعجيل العذاب كان الرسل -عليهم الصلاة والسلام- يُجيبونهم بهذا الجواب، وهو أنهم رسل من الله إنما عليهم البلاغ، وأنهم لا يملكون لهم ذلك.
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [آل عمران:12]، هذا يبعث الطمأنينة والثقة لدى أهل الإيمان بما هم عليه مهما انتفش الباطل ومهما استطال أهله، ومهما تعاظم فإن ذلك يزول عن قريب ولا محالة، ووعد الله لا يتخلف، سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ هذه قضية تُلاحقهم وتُطاردهم، ولا يمكن لهم الخلاص منها، أما ما يحصل في بعض الأوقات من إدالتهم على أهل الإيمان فإن ذلك مؤقت، والعبرة بكمال النهايات، فإن العاقبة لأهل الإيمان وليست لهؤلاء الكفار.
ولذلك فإن المؤمن لا يبتأس ولا ييأس ولا ينكسر ولا يضعف ولا يتراجع ولا يتنازل عن دينه والحق الذي هو عليه، ولا يتشكك بحال من الأحوال حينما يرى للباطل صولة؛ لأنه يعلم أن للحق جولة تمحوا هذا الباطل وتزيله من أساسه وأصوله، وذلك مُقرر في كتاب الله في مواضع كثيرة، وقال الله : كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة:21]، "كتب" فهذا أمر مُتحقق لا محالة، وكما ذكر أهل العلم بأن ذلك يكون لأتباع الرسل -عليهم الصلاة والسلام-، لكن بحسب الاتباع، بحسب ما يكون لهم من الاتباع، وقوله ﷺ: نُصرت بالرعب مسيرة شهر[1]، كذلك قرر أهل العلم كالحافظ ابن القيم[2] وغيره بأن أتباعه يكون لهم من ذلك أيضًا لكن بقدر ما هم عليه من تحقيق متابعته ﷺ: نُصرت بالرُعب مسيرة شهر، يعني: العدو الذي يبعُد عن مقامه ﷺ مسيرة شهر يعني على الإبل، وذلك أبعد من الشام، الله قال عن ما سخر من الريح لسليمان ﷺ: غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ [سبأ:12]، فهي تسير به من الشام إلى اليمن هذه مسيرة شهر تقطعها في غداة يوم، وكذلك أيضًا في الرجوع الرواح بعد الزوال كذلك أيضًا تقطعها مسيرة شهر تقطعها في روحة في عشية من ذلك اليوم، فالمدينة تكون إذًا على نصف المسافة تقريبًا بين اليمن والشام، إذًا أبعد من الشام، ما وراء الشام يعيشون في حال من الهلع والاضطراب والخوف، هذا نُصرت بالرُعب مسيرة شهر.
فإذا كان هذا لأتباعه من بعده فإن ذلك يكون بحسب اتباعهم وإيمانهم وتمسكهم بدينهم، ولذلك انظروا إلى حال هؤلاء الكفار مع ما هم فيه من الشدة والقوة والتمكن وأسباب القوة المادية ومع ذلك هم يعيشون في حال من الخوف الشديد من الإسلام، ويبثون الدعايات الكاذبة، ويستغلون حماقات بعض المنتسبين إلى الإسلام لتشويه صورته، ويمزقون الشعارات التي لطالما تغنوا بها من الحرية وحقوق الإنسان، وما أشبه ذلك، فيفعلون ويقولون ما تُشاهدونه ويُشاهده العالم أجمع، كل ذلك خوفًا من الإسلام، يخافون مع أن المسلمين ليس لهم قوة تُذكر وهم متفرقون غاية التفرق، مُنقسمون على أنفسهم، وهؤلاء يشغلونهم بالصراعات والحروب والفتن وما إلى ذلك، فعلى كل حال هذا وعد من الله والواقع والتاريخ شاهد بذلك.
وهؤلاء الكفار ينبغي أن تكون نفوسهم مُنهزمة دائمًا؛ لأن الله كتب الغلبة لرسوله ولأهل الإيمان، وكتب على هؤلاء الهزيمة في الدنيا، وكذلك أيضًا الحشر إلى النار في الآخرة، فهي خيبة مُعجلة، وخيبة أيضًا أعظم منها مؤجلة، ليس لهم إلا الخيبة، فبماذا يغتر الإنسان، وعلى ما يُعطون أكبر من حجمهم ويُفخمون ويُعظمون، وكما قال الله : إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ [آل عمران:175]، يعني: يخوفكم من أوليائه، يجعل لهم حالة من الهالة والضخامة والعظمة من أجل أن تخافوهم: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ، يعني: يخوف الناس من أوليائه، فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:175].
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
- أخرجه البخاري، أوائل كتاب التيمم، برقم (335).
- هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى (2/ 353).