الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فلا زال الحديث متصلاً بما يُستخرج من الهدايات من قوله -تبارك وتعالى-: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ [آل عمران:14].
فقوله -تبارك وتعالى-: زُيِّنَ لِلنَّاسِ، تحدثنا عن هذا التزيين، وأن الذي زينه هو الله -تبارك وتعالى-، وما يدل عليه الحذف، حذف الفاعل والبناء للمفعول: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ، وأن الناس هنا للعموم؛ لعموم الناس: للمؤمنين والكفار، كل ذلك مضى الكلام عليه، ولكن بقي قوله -تبارك وتعالى-: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ فجعل المُزين هو حبها حب الشهوات، ولم يقل: زُين للناس الشهوات، ولا شك أن تزيين الحُب لهذه الشهوات أشد وأعظم وأكثر خطرًا؛ لأن الحب عمل قلبي يتعلق بالإنسان نفسه فزُين له حبها، وذلك بخلاف ما لو كان المُزين ما هو مُنفصل عنه، كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-[1]، قد يُزين للإنسان بناء وقد يُزين له حرث، وقد يُزين له مركب، ولكن قد يتفطن لبعض مساوئه وما يزهده فيه فيرغب عنه، لكن إذا كان المُزين هو الحب نفسه فهذا الحب يجول معه حيث جال، ويتنقل معه حيث حل وانتقل، فصار ذلك ممزوجًا بكيانه.
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ وهنا سمى ذلك بالشهوات؛ لما جُبلت عليه النفوس من الميل إليها، والشهوات هي مطلوبات النفوس ومحبوباتها وما تُصغي النفس إليه وتميل إليه من مطالبها الذاتية من المطعوم والمنكوح والمركوب والمساكن، وما إلى ذلك، هذه كلها سماها الله شهوات: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ.
ثم ذكر أنواعًا من هذه الشهوات هي أعلاها، وهي الأعظم، وهي الأعلق بالنفوس، وأكثر مطالب الناس تدور عليها، وذكرها مرتبة الأشد من تلك الشهوات ثم بعد ذلك ما يليه إلى آخرها، تلك السبع التي ساقها مرتبة بحسب قوتها، من جهة تعلق مطالب الناس وشهواتهم، فذكر النساء أولاً، فهذا تفسير للشهوات: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ إلى آخر ما ذكر.
وتسمية ذلك بالشهوات يدل على انحطاطها هي شهوات، والاشتغال بها عن الله اشتغال بالشهوات، والعاقل لا يمكن أن تطغى عليه شهوة فتشغله وتصرفه عن ما خُلق من أجله، فذلك نظر قاصر وضعف في عقل الإنسان، وفي -أيضًا- رباطة جأشه وقوة إرادته، وما إلى ذلك، ينساق مثل: البهيمة، حينما يسترسل مع النفس ومطالبها، فالنفس فيها العنصر الذي يرتبط بالأعلى وهو الروح، وفيها العنصر الذي يجذبه إلى الأسفل وهو طينته، هذه الطينة هي التي تتمتع والروح يكون تبعًا لها بهذا الالتذاذ، الأكل والشرب والنكاح والمساكن والمراكب الفارهة، وما إلى ذلك هذا كله مما تتمتع به الأجساد، والروح تكون تبعًا لها في هذا المتاع.
أما متاع الروح الحقيقي فهو بالارتباط بالله، ومناجاته، والاتصال به والقرب؛ فهذا هو اللذة التي قال عنها السلف: "لو علم بها الملوك وأبناء الملوك لجالدونا عليها بالسيوف"[2]، وهي التي قال قائلهم كابن المُنكدر -رحمه الله-: "كابدت الصلاة عشرين سنة واستمتعت بها عشرين سنة"[3]، يلتذ، وقال النبي ﷺ قبل ذلك: وجُعلت قرة عيني في الصلاة[4]، قُرة العين من القر وهو البرد، وذلك حينما يكون ثلج الصدر، وذلك يكون بالسعادة الكاملة؛ ولهذا يقولون: دموع الفرح باردة، ودموع الحزن ساخنة، وإذا اشتدت آلام الإنسان وأحزانه وجد حر ذلك في عينه، فهذا أمر مشاهد معلوم، فالنبي ﷺ يقول: وجُعلت قُرة عيني في الصلاة، وكان يقول: يا بلال أقم الصلاة أرحنا بها[5]، لكن قال: حُبب إليّ من دنياكم النساء والطيب، ما قال قُرة عيني، فجعل قُرة العين بالصلاة، وكما في الحديث بأن الصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء[6]، الصبر فيه حرارة وحبس للنفس، فالضياء فيه حرارة، هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا [يونس:5]، القمر ليس فيه حرارة مجرد نور، والشمس فيها حرارة وإحراق فسماها ضياء، فكذلك أيضًا الصبر ضياء لما فيه من الشدة، والحرارة، والصلاة نور ليس فيها حرارة قُرة عين، فهنا حُبب إليّ من دنياكم النساء والطيب.
وهنا: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ، فجعل التزيين لها لكن زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا [البقرة:212]، زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ [النمل:4]، فهذا التزيين واقع في هذا وهذا، في الشهوات وفي الأعمال وفي هذه الدنيا وحطامها ومطالبها كل ذلك مُزين في نفوس الناس، ولذلك يجرون خلفها، الغني والفقير، والكبير والصغير، والرجل والمرأة، حتى صارت غاية عند الكثيرين وهدفًا يسعون خلفه ولو كان ذلك على حساب الإيمان والعمل للآخرة.
فهنا ذكر أول هذه الشهوات حينما فسرها فهذا يدل على انحطاط مرتبة هذه المذكورات التي هي الأعلى من مطالب الدنيا من النساء؛ لأن النساء أعظم اللذات، ولو نظر الناس في سعيهم وكدهم وعملهم وتزينهم وتجملهم وذهابهم ومجيئهم وجمع الأموال لوجد أنه يدور في الغالب معظم الناس من أجل لو سألته هذا العمل وهذه الدراسة، أين الأهداف الكبرى؟ قال: الهدف الأسمى أنه يتزوج، يستطيع أنه يجمع المهر، ويكون دارًا، ونحو ذلك، ويؤثثها، ويتزوج، هذا هدف، لا بأس أن يكون هذا من الأهداف، وهو من مطالب، وسُنن المرسلين لكن لا يكون الهدف الأعلى والأسمى والنهائي والأعظم، إنما هو هدف من الأهداف القريبة، وهناك أهداف متوسطة، وهناك أهداف بعيدة، فهذا قريب يُتبلغ به إلى الله والدار الآخرة، لاسيما إذا وجدت معه النية، النية في النكاح إذا أراد الإنسان أن يتزوج إعفاف الغير، تكثير العفاف في المجتمع، اتباع سنن المرسلين، الاقتداء بهم، الاستجابة لقول النبي ﷺ: يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج[7]، تزوجوا الودود الولود[8]، أيضًا مُكاثرة الأمم، إنجاب الأولاد الصالحين الذين يعبدون الله ، وهكذا تكوين أسرة ولِبنة في مجتمع من أهل الصلاح والخير، ونحو ذلك من المقاصد الطيبة الصالحة التي يقصدها الإنسان في النكاح، فحُب النساء أمر جِبلي، جُبل الرجال على محبة النساءن، ميل طبيعي فطري، ولا يستطيع أحد أن يُنكره، لا أهل الصلاح ولا غير أهل الصلاح، هذه جِبلة لكن هذه الجِبلة وظفها الشرع ووجهها التوجيه الصحيح، فشرع النكاح وحث عليه تكثيرًا للعفاف، وتلبية أيضًا لهذه الفِطرة، وإبقاء للنسل؛ لئلا ينقطع نسل الناس، اقرأ قبل يوم إحصاءات في دول شرقية وغربية مع أن هذه الإحصاءات كانت في عام: 2006م يعني قديمة نوعًا ما، المواليد عندهم في الدول الأوروبية وأمريكا ونحو ذلك في بعض الدول الغربية وصل عدد المواليد في مثل: فرنسا في ذلك الوقت المواليد غير الشرعيين أكثر من 50%، عزوف عن النكاح، أُسر صاروا من الكبار في السن وصلوا إلى سن الشيخوخة جيل جديد من الشباب يكاد يضمحل؛ لأن هؤلاء يؤثرون أصلاً عدم الإنجاب من غير نكاح.
المقصود أن هذا مثل فرنسا، في أمريكا أكثر من 40% من غير نكاح، خارج نطاق الزواج، فهذا الميل مع الإحصاءات الأخرى التي يذكرونها كما يقع من حالات الاغتصاب غير الزنا بالتراضي غير الذي لا يُبلغ عنه أصلاً قد يكون هو الأكثر إحصاءات الأطفال وغير الأطفال، كم من امرأة تعرضت للاغتصاب؟ 13% من النساء اُغتصبت، حالات الأطفال أرقام كبيرة، ويكون الاغتصاب من الأب من أحد أفراد الأسرة في نِسب كبيرة جدًا عندهم، بيئة هشة، مُجتمع مفكك محطم، ولذلك كأنهم أولاد ضبة، لا يوجد بينهم تواصل وتعاون وتكاتف، وإنما كل يجري في سبيله خلف شهواته خلف الدنيا وحطامها، هذا خطأ، الشارع وجه الشهوات، هذه رُكزت في النفوس فتوجه التوجيه الصحيح بالنكاح النظيف، والله جعل ذلك آية من آياته: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم:21]، في سياق آيات ذكرها الله تدل على عظمته وقدرته ووحدانيته .
فهنا ابتدأ بالنساء؛ لأن الفتنة بهن أعظم وأشد من النساء، وكما قال النبي ﷺ: ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء[9]، "أضر" بهذه الصيغة: ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء، وهذه صيغة تدل على العموم لا يوجد أضر على الرجال من النساء، يعني: هي أضر من المال، أضر من سائر الفتن الأخرى "النساء"، ولذلك حذر النبي ﷺ: إياكم والدخول على النساء[10]، يعني: غير المحارم، وحذّر أيضًا النساء من الخضوع بالقول والتبرج: وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى [الأحزاب:33]، وأمرهن بالقرار في البيوت.
ومن هنا نعلم كذب الدعاوى التي قد نسمعها أن إطلاق النساء والرجال على أي حال مختلطين في أماكن العمل والدراسة ونحو ذلك، تلبس النساء ما شاءت، أن ذلك يكون تنفيسًا للكبت الذي يجعل الإنسان يتطلع دائمًا إلى تحقيق مآربه ومطالبه وتفريغ غرائزه، هذا كلام غير صحيح، الله عليم حكيم، وأمر بالعفاف، وأمر بفصل الرجال عن النساء حتى في أماكن العبادة: خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها[11]، والنساء على العكس من هذا، خير صفوف النساء الأخير إذا كن يُصلين خلف الرجال، أما إذا كن في مُصلى مستقل فأفضلها أولها بالنسبة للنساء؛ لأن الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا كما ذكر هذا النووي[12]، وغيره من الشُراح.
فالمقصود هنا أن هذا الذي يقول: إن إطلاق الشباب والفتيات في المجتمع جنبًا إلى جنب في مقاعد الدراسة والعمل وما إلى ذلك، أن ذلك هو السبيل إلى التنفيس عن هذه الغرائز المكبوتة، هذا كلام غير صحيح، فها هم في الغرب والشرق إحصاءات هائلة حتى في المدارس الابتدائية الفجور، وأصبحوا يعلمون الطالبات في الابتدائي على عقاقير منع الحمل، وإحصاءات في عدد الحمل لدى الطالبات في المراحل التعليمية الثلاث الابتدائي والمتوسط والثانوي.
وأما جرائم الاغتصاب وما إلى ذلك هجوم على الطالبات ومن قِبل الطلاب في ليلة ظلماء، هذا يحدث ويتكرر، يجتمع هؤلاء الطلاب في ليلة ويهجمون على غرف الطالبات، ويفعل كل ما يحلو له، لم يحصل عندهم هذا التنفيس الذي يدعيه دعاة الرذيلة عندنا، لم يحصل بل بالعكس صُعار، ودعونا من هذا كله الرجل مع امرأته في البيت يعيش معها عشرات السنين ومع ذلك هو لا يزال يُعاشرها لم يكن ذلك الإلف والمعاشرة في بيت واحد وتحت سقف واحد سبيلاً وسببًا للزُهد في نكاحها، بل هو يُعاشرها مرة بعد مرة وهي معه يراها، فكيف يُقال: إن الإلف والمُشاهدة أن ذلك يكسر النفس، هذا لا يكسرها بل يزيدها ضِرامًا، وهذه الغرائز والشهوات تتجدد فإذا قضى الإنسان وطره فإنه بعد ذلك لا تزال تعاوده هذه الغرائز كالطعام والشراب، إذا أكل الإنسان وشبع لا يلبث بعد وقت ليس بالبعيد حتى يعود إليه تطلب ذلك، والشعور بالحاجة إلى الطعام والشراب، هذه أشد وأعظم، ولذلك ينسى الإنسان الطعام والشراب حال توقد الغرائز، ويؤثر قضاء الوطر على الطعام والشراب، وهذا أمر معلوم لا يخفى.
إذًا كيف يُقال في مثل تلك المقالات الفاسدة التي يُضلل بها الناس، فالبداية كانت بالنساء: مِنَ النِّسَاءِ فجاء بهذا أولاً، أن الشهوة تتعلق بهن بصورة أقوى وأمكن مع شدة الفتنة، ثم جاء بعد ذلك بالأولاد وبنوع منهم وهم البنون.
أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين.
- الاستقامة (1/ 369).
- انظر: الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي (ص:233).
- سير أعلام النبلاء ط الرسالة (5/ 224).
- أخرجه النسائي، كتاب عشرة النساء، باب حب النساء، برقم (3940)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (3125).
- أخرجه أبو داود، كتاب الأدب، باب في صلاة العتمة، برقم (4985)، وأحمد في المسند، برقم (23088)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (7892).
- أخرجه مسلم، كتاب الطهارة، باب فضل الوضوء، برقم (223).
- أخرجه البخاري، كتاب النكاح، باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((من استطاع منكم الباءة فليتزوج، لأنه أغض للبصر وأحصن للفرج))، وهل يتزوج من لا أرب له في النكاح، برقم (5065)، ومسلم، كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه، ووجد مؤنه، واشتغال من عجز عن المؤن بالصوم، برقم (1400).
- أخرجه أبو داود، كتاب النكاح، باب النهي عن تزويج من لم يلد من النساء، برقم (2050)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (2940).
- أخرجه البخاري، كتاب النكاح، باب ما يتقى من شؤم المرأة، برقم (5096)، ومسلم، كتاب الرقاق، باب أكثر أهل الجنة الفقراء وأكثر أهل النار النساء وبيان الفتنة بالنساء، برقم (2740).
- أخرجه البخاري، كتاب النكاح، باب لا يخلون رجل بامرأة إلا ذو محرم، والدخول على المغيبة، برقم (5232)، ومسلم، كتاب السلام، باب تحريم الخلوة بالأجنبية والدخول عليها، برقم (2172).
- أخرجه مسلم، كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف، وإقامتها، وفضل الأول فالأول منها، والازدحام على الصف الأول، والمسابقة إليها، وتقديم أولي الفضل، وتقريبهم من الإمام، برقم (440).
- شرح النووي على مسلم (4/ 159).