الخميس 24 / جمادى الآخرة / 1446 - 26 / ديسمبر 2024
(024) قوله تعالى: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا} وقوله: {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ} الآيات
تاريخ النشر: ٠٩ / ذو القعدة / ١٤٣٧
التحميل: 750
مرات الإستماع: 1340

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

لما ذكر الله -تبارك وتعالى- ما زُين للناس من حُب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث، وبيّن أن ذلك متاع الحياة الدنيا، وأن الله عنده حسن المآب، حيث قال: لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران:15] ثم بيّن حال هؤلاء ووصْفَهم، فقال: الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ [آل عمران:16-17] فهذه الآيات كما ترون آخذ بعضها بحُجز بعض، فهي في غاية الارتباط، فهذه الدنيا متاع لا قيمة له، والله عنده حسن المآب لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ فحُسن المآب هو تلك الجنات لأهل التقوى، وما فيها من الخلود الأبدي السرمدي، والأزواج المطهرة والرضوان من الله -تبارك تعالى- فوق ذلك،  وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ.

فهؤلاء الذين لهم هذا الجزاء هم الذين اتقوا الذين يقولون: رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّار [آل عمران:16] ويحتمل أن يكون ذلك تفسيرًا للعباد في قوله: وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ يعني: الذين اتقوا واستحقوا ذلك الجزاء، هم الذين يقولون: رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا [آل عمران:16] آمنا بك، واتبعنا رسولك ﷺ، فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا [آل عمران:16] فاسترها، وقِنا تبعات هذه الذنوب، فلا يصل إلينا شيء من العقوبة والمؤاخذة، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:16].

فهذه الآية تتضمن من الفوائد: التنويه بهؤلاء بذكر الاسم الموصول الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا [آل عمران:16] وأيضًا هذا الوصف -الأول- الذي ذكره، وهو إعلانهم وإعلامهم بالإيمان الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا [آل عمران:16] والله -تبارك وتعالى- عليم بذات الصدور، يعلم حال العبد وإيمانه، ولكن هؤلاء يُعلنون هذا الإيمان؛ لأنه مما يُطلب الإعلان به، يعني: لا بد أن يتلفظ الإنسان، ويقول بلسانه: أشهد أن لا إله إلا الله، فالإيمان قول باللسان، وتصديق بالجنان، وعمل بالأركان، فهذا القول منهم هو إعلان وإعلام بالإيمان، يتقربون به إلى الله -تبارك وتعالى-، ويتوسلون إليه، وقد جاء الإعلام والإعلان بالإيمان كثيرًا في القرآن، من قِبل الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-، ومن قِبل أتباعهم، وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ [الأعراف:143] فهنا الَّذِينَ يَقُولُونَ عُبر بالمضارع؛ ليدل على أنه يتكرر منهم، والفعل المضارع أيضًا يدل على الاستمرار، فهم مستمرون على هذا الإيمان.

وجاء النداء باسم الرب -تبارك وتعالى- في قوله: الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا وهذا هو الغالب في القرآن في دعاء الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-، وأهل الإيمان، فإنهم يدعون بهذا الاسم الكريم (الرب)؛ لأن من معاني الربوبية -كما ذكرنا-: العطاء، والمنع، والغفر، والجزاء، وإدخال الجنة، والثواب والرزق، والإحياء والإماتة، فكل المطالب إنما تُطلب بهذا الاسم الكريم؛ لأن من ربوبيته -تبارك وتعالى- أن يرزق ويُعطي ويمنع، ويُجيب السائلين، ويُعطيهم سؤلهم، ونحو ذلك.

ويُلاحظ أيضًا أنه حُذف ياء النداء الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أصله (يا ربنا) فحذفه يُشعر باستشعارهم القُرب من الله -تبارك وتعالى-، وأنه قريب منهم، يسمع دعاءهم ونداءهم، فسألوا بهذه الصيغة رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا وجيء بـ(إن) الدالة على التوكيد إِنَّنَا آمَنَّا وهي بمنزلة إعادة الجملة مرتين، كما عرفنا في بعض المناسبات؛ وذلك لتوكيد الإيمان، وهو مما يُطلب تأكيده وتقريره، أما ذكر الربوبية في هذا الموضوع فهو تمهيد لما سيأتي بعده من قوله: فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إلى آخر ما سألوا.

ثم جاء بالفاء في هذا السؤال والدعاء والطلب: إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا فالفاء هذه تدل على التعليل، وتدل أيضًا على ترتيب ما بعدها على ما قبلها، يعني: كأنهم يقولون: لأننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا، فهذا توسل إلى الله -تبارك وتعالى- بالإيمان، فهم يتوسلون بإيمانهم كما جاء في آخر السورة: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ ۝ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:190-191] فتوسلوا بذلك، فهذا من التوسل المشروع، وهو أن يتوسل إلى الله -تبارك وتعالى- بعمله الصالح، كما توسل الثلاثة الذين أطبقت عليهم الصخرة إلى الله بصالح أعمالهم، كما هو معلوم.

فالتوسل المشروع أن يتوسل إلى الله بأسمائه الحسنى، كقولهم هنا: رَبَّنَا وكذلك أيضًا يتوسل بإيمانه أو بعمله الصالح إِنَّنَا آمَنَّا فجمعوا بين الأمرين: توسلوا إلى الله بهذا الاسم الكريم، وهو توسل بالأسماء والصفات، وكذلك أيضًا توسلوا بإيمانهم، وعملهم الصالح.

إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وهذا من الأدب في الدعاء أن يُقدم الإنسان بين يدي سؤله ما يكون سببًا وسبيلاً للإجابة، ولا يبدأ المسألة مُباشرة، فيقول: ربنا اغفر لنا ذنوبنا، وقنا عذاب النار، وإنما يذكر قبله ما يستدعي الإجابة.

رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا هذا أيضًا فيه إعلان بالعبودية، ولاحظ هذا السؤال الذي سألوه فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ يدل على تواضعهم، وأنهم لا يرون لأنفسهم منازل عالية، وحينما أعلنوا الإيمان فهم لم يترفعوا بذلك، وإنما سألوا غفران الذنوب، فهم متواضعون، مُقرون لله -تبارك وتعالى- بأنهم مذنبون، ومقصرون في حقه، يسألون مغفرة ذنوبهم، فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وجاء بالضمير المُتعلق بهم، وقدّمه: فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا لأن هذا هو الأهم، وهو المطلوب الأكبر، وهو خلاص النفوس، فقدّم ما يتعلق بها فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وعرفنا أن الغفر يتضمن معنيين: الستر، والوقاية، فهم يسألون أن لا يفتضحوا في الدنيا، ولا في الآخرة، وأن لا يلحقهم من جراء هذه الذنوب شيء من التبعات، فهذا حقيقة الغفر.

ويؤخذ من هذه الآية: الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ أنهم يسألون مع مغفرة الذنوب: الوقاية من عذاب النار؛ لأنه قد تُغفر الذنوب، ومع ذلك لا يدخل الإنسان الجنة؛ لأنه لم يعمل العمل الذي يُدخله الجنة، والنبي ﷺ أخبر أنه لن يدخل أحد الجنة بعمله[1]، فلو حوسب الإنسان على النِعم التي أعطيها، فإنه يستحق العذاب والنار؛ لأنه لم يؤد شكرها، فهنا سألوا غفران الذنوب، وسألوا أيضًا: الوقاية من عذاب النار، والله -تبارك وتعالى- قال في آخر هذه السورة حاكيًا قولهم ودعاء المتقين أهل الإيمان: إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ [آل عمران:192] وقال: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185].

وهنا ذكر لهم أوصافًا كاملة، مفصلة، مرتبة ومُتدرجة، فذكر الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ فهؤلاء الذين يسألون هذا السؤال هم المتقون الذين اتصفوا بالصبر وحبس النفس على طاعة الله ، وبحبسها عن معصيته، وبحبسها عن الجزع والتسخط والاعتراض على أقدار الله المؤلمة، فكل ذلك داخل في الصبر، كما هو معلوم، فهؤلاء الصابرون، وَالصَّادِقِينَ الصدق في الإيمان، والصدق في الأقوال، والصدق في الأفعال، وفي الأحوال، والصدق في الاعتقاد والقلب، وما إلى ذلك، فيشمل ذلك جميعًا، فهذا خلاف النفاق، وقد يُظهر الإيمان ويقول: آمنا، كما قال الله عن المنافقين: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ يعني: إذا دخلوا على النبي ﷺ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ [المنافقون:1] فهؤلاء شهدوا بأنه رسول الله، لكن كانوا كذبة، ولهذا جاءت هذه الجملة الاعتراضية بين رد الله عليهم وتكذيبهم وبين دعواهم الإيمان والتصديق والشهادة بذلك، وذلك من المحترزات التي تُذكر في القرآن لدفع الإيهام، يعني: والله يعلم إنك لرسوله، والله يشهد إن المنافقين لكاذبون، كأن القول الذي قالوا لا حقيقية له، وهو رسول الله حقًّا، فحتى لا يُفهم قوله: يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ [المنافقون:1] على غير المُراد، قال هنا: وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ لدفع إيهام من قد يتوهم أن ذلك رد لرسالته ﷺ، وإنما المقصود هو تكذيب هؤلاء المنافقين بأنهم لم يصدقوا بهذه الدعوى.

وقوله: وَالْقَانِتِينَ وقد قلنا: بأن القنوت كما قال شيخ الإسلام في جميع استعمالاته يرجع إلى معنى وهو: دوام الطاعة[2].

وَالْمُنْفِقِينَ هم الذين ينفقون المال في سبيل الله -تبارك وتعالى-، ويدخل أيضًا في عموم الإنفاق إنفاق العلم، وإنفاق الجاه، وإنفاق الجهد البدني، كل بحسبه، ومن عنده رأي، أو عنده عقل، أو مشورة، ونحو ذلك، فإنه يبذل ذلك للناس؛ لينتفعوا به، وقد يكون بعض ذلك أعظم من إنفاق المال، فالناس قد يحتاجون إلى مشورة، وقد يحتاجون إلى فتوى، وقد يحتاج الناس إلى تدبير، ونحو ذلك، فهذا قد يكون خير من المال في بعض الحالات، ولا شك أن العلم أشرف من المال.

وَالْمُسْتَغْفِرِينَ السين والتاء للطلب، أي: الذين يطلبون المغفرة من الله -تبارك وتعالى-، وذكر ذلك في الأسحار لما سيأتي -إن شاء الله تعالى-، فهذا وصف مفصل لهؤلاء.

فلاحظ هنا أنه جعل هذه الأوصاف كل صفة مستقلة، الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ فكل صفة من هذه الصفات تتحقق بها مزية في غاية الأهمية، فبالصبر مثلاً يحصل للإنسان الثبات على المبادئ، والثبات على الحق، ويحصل له أيضًا مُجانبة مساخط الله -تبارك وتعالى-، والقيام بوظائف العبودية وبالصبر يحصل له أيضًا الثبات، فحينما تقع الأقدار المؤلمة والمكاره، فلا يعترض ولا يضطرب ولا يتسخط ولا يحصل له نكوص، كالذي يعبد الله على حرف، فإذا أصابه ما يُحب فرح وسُرّ بذلك، وإذا أصابه ما يكره ارتد على عقبيه، ورجع عما هو فيه، فالصبر يُحتاج إليه في كل شيء، ولا يمكن أن تُحصل المطالب الدنيوية، ولا المطالب الأخروية إلا بالصبر.

وفي قوله -تبارك وتعالى-: وَالصَّادِقِينَ فالصدق يترفع به الإنسان عن صفات المنافقين، ويترفع به عن التلون، فذلك من الأوصاف المرذولة، وبالصدق يترفع عن موجباته وأسبابه، والكذب مثلاً إنما يكون من نفس جبانة؛ لأنه يضعف فيكذب، وأما الصادق فهو شجاع رابط الجأش، يتكلم بالصدق، ويقف مقامات الصدق، ولا يتلون، ولا يُظهر خلاف ما يُبطن؛ وذلك في إيمانه وأقواله وأفعاله وأحواله، لا يُظهر سمتًا وحالاً على غير ما في داخله، وكذلك قد يظهر الخشوع وهو غير خاشع، أو يتصنع الصلاح والتقوى وهو ليس كذلك، ونحو هذا، وكذلك القنوت فبه يستمر على الطريق، حتى يصل إلى الله -تبارك وتعالى-.

وكذلك في الإنفاق يتحرر من الشُح وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [التغابن:16] فعلق به الفلاح، وأيضًا هو بهذا الإنفاق يكون مواسيًا لإخوانه، ومُحسنًا إليهم، ولا شك أن سعادة الإنسان -كما سبق في بعض المناسبات- دائرة بين إحسانه مع ربه، وإحسانه إلى الخلق، فهو يُحسن إليهم بهذا الإنفاق، وهذا يدل على أنه يحمل نفسًا قد تجردت من الطمع، والتهافت على الدنيا، والحرص عليها، فهي نفس حُرة.

وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ وهذا الاستغفار يدل على أنهم لا يرون أنفسهم بمنزلة من الصلاح والتقوى، ونحو ذلك، ويدل أيضًا على أن هؤلاء في حال من الطاعة والعبادة والاستقامة بحيث إنهم يستغفرون بهذا الوقت الشريف، والسَحَر: هو الذي يكون في آخر الليل قبل الفجر، وهو وقت للنزول الإلهي، فالله ينزل في ثلث الليل الآخر إلى الفجر فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه[3]، فهؤلاء يصلون الليل، يعني: هؤلاء الذين استغفروا إنما ختموا قيام الليل بهذا الاستغفار، فهم في حال من العبادة في ليلهم، ثم بعد هذا القيام يستغفرون، فدل على أن هؤلاء في حال من تحقيق العبودية، والإقبال على الله -تبارك وتعالى-، وأيضًا بالنظر إلى هذا الوقت -وقت السحر- هو وقت هدأة الناس، وسكون النفوس، فهو من جهة الناس يُخلدون فيه إلى النوم والراحة، وهؤلاء يستغفرون الله -تبارك وتعالى- بعد القيام.

واستغفارهم يدل أيضًا على أن هذا القيام لم يورثهم عُجبًا، وإنما زادهم إخباتًا، فهم يستغفرون، وكذلك أيضًا فإن الاستغفار في هذا الوقت نافع جدًا، فهو وقت صفاء النفوس والأرواح، فهي مُهيأة للدعاء، ومُهيأة للمناجاة والذكر لله -تبارك وتعالى-، فتكون في غاية الحضور، فهذا الوقت له مزية كما لا يخفى.

وقد قال شيخ الإسلام بأن الله أمر عباده أن يختموا الأعمال الصالحات بالاستغفار فكان النبي ﷺ إذا سلم من الصلاة استغفر ثلاثًا[4]، وهؤلاء أيضًا يستغفرون الله -تبارك وتعالى- بالأسحار، والله يقول: فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا [البقرة:200] فالذكر واللهج به والاستغفار لله بعد قضاء هذه العبادات لا شك أن ذلك من المطالب الشرعية، وأيضًا العبد حينما يقوم بهذه العبادات من قيام الليل، أو صلاة الفريضة، أو الحج، أو غيره، هذا لا يخلو من تقصير، فيحتاج معه إلى استغفار، وإذا استشعر العبد مثل هذا المعنى فإنه لا يمكن أن يغتر بعمله، أو أن يستكثر، أو أن يُعجب بطاعته، أو ربما يقع في نفسه أنه صاحب عبادة، وأنه صاحب قيام وصاحب صيام، أو صاحب حج يحُج كل سنة، ونحو ذلك لا، هو يُكثر من الاستغفار بعد هذه العبادات؛ لأنه يستشعر أنه مُقصر فيها، لم يأت بها على الوجه المطلوب، فإذا كان هذا العابد الذي قام في الأسحار يستغفر بهذه الطريقة، فما يقول من يُضيع صلاة الفجر وهو في حال من التفريط والمعصية والإقبال على أمور تضره، والغفلة عن ما ينفعه، فلا شك أن هذا أولى بالاستغفار، فإذا كان الإنسان يستغفر بعد الفريضة وبعد قيام الليل، فما يقول الذي يُعافس الذنب، ويفعل القبائح؟!

نتوقف عند هذا، وأسأل الله أن ينفعني وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين.

والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري في كتاب الرقاق، باب القصد والمداومة على العمل برقم (6464) ومسلم في صفات المنافقين وأحكامهم، باب لن يدخل أحد الجنة بعمله برقم (2818).
  2. القواعد النورانية (ص: 68) ومجموع الفتاوى (22/ 374).
  3. أخرجه البخاري في كتاب التهجد، باب الدعاء في الصلاة من آخر الليل برقم (1145) ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل برقم (758).
  4. التدمرية: تحقيق الإثبات للأسماء والصفات وحقيقة الجمع بين القدر والشرع (ص:228).

مواد ذات صلة