الأربعاء 18 / جمادى الأولى / 1446 - 20 / نوفمبر 2024
(027) قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ...} الآية
تاريخ النشر: ١٣ / ذو القعدة / ١٤٣٧
التحميل: 765
مرات الإستماع: 1183

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فبعد أن ذكر الله -تبارك وتعالى- هذه الشهادة العظيمة، على أجل مشهود به، وهو التوحيد، حيث قال: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران:18] قال بعد ذلك: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [آل عمران:19].

فهذه جملة مستأنفة، تؤكد ما قبلها، حيث أنه لما ذكر الشهادة بالتوحيد، ذكر بعد ذلك الإسلام، إذ الإسلام هو التوحيد، فذلك بيان للدين الذي يقبله ويرضاه، ولا يقبل ولا يرضى دينًا سواه، فهذا هو دينه الذي شرعه، وأمر عباده باتباعه وسلوكه، والدين كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يأتي لمعنيين:

الأول: بمعنى المصدر وهو الاستسلام والانقياد لله -تبارك وتعالى-، فلا يترفع عن طاعته وعبادته، ولا يكون مُستكبرًا.

والثاني: الإسلام: هو الإخلاص وَرَجُلاً سَلَمًا لِرَجُلٍ [الزمر:29][1]، فلا يكون مشركًا بالله -تبارك وتعالى-، فهذا بيان ما سبق من التوحيد إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ وقبلها قال: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فهذا التوحيد وهذا الإخلاص هو الإسلام، وإسلام العبد وجهه لربه وخالقه يعني الإخلاص للمعبود والتوحيد والاستسلام، فلا يكون معارضًا لشرعه، فهذه المعاني مُلتئمة ومُجتمعة في هذه الآية.

فقوله -تبارك وتعالى-: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19] يعني: الدين الذي ارتضاه الله -تبارك وتعالى- للخلق، وأرسل به الرسل، وأنزل به الكتب، هو الانقياد لله وحده بالطاعة، والاستسلام له بالعبودية، واتباع الرسل -عليهم الصلاة والسلام- فيما بعثهم الله به، إلى أن خُتموا بمحمد ﷺ، وكلهم أرسله الله بالإسلام، وكلهم كان يدعو إليه، لكن هذا الخلاف أو الاختلاف الذي وقع بين أهل الكتاب وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فهؤلاء اليهود والنصارى حينما تفارقوا إلى شيع وطوائف وأحزاب، إنما كان ذلك بعد قيام الحجة عليهم، والبلاغ من الرسل -عليهم الصلاة والسلام-، ونزول الكتب، وإنما حملهم على ذلك البغي والعدوان والحسد، وطلب الدنيا.

وقوله: وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ سواء كانت المُنزلة المتلوة، أو كانت المشاهدة الدالة على ربوبيته -تبارك وتعالى-، ومن ذلك آيات الأنبياء التي هي المعجزات فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ سيجازيهم على ذلك.

فقوله: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ فيه معنى الحصر، أي: الدين الإسلام، فلا دين سواه، كذلك أكده بـ(إنَّ) التي هي بمنزلة إعادة الجملة مرتين.

وكذلك أيضًا توسيط الجار والمجرور عِنْدَ اللَّهِ فإن ذلك أيضًا يُشعر بالحصر، فالدين الحق الصحيح والمقبول عند الله -تبارك وتعالى- هو الإسلام، وليس ما سواه من الأديان؛ ولهذا قال الله -تبارك وتعالى-: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا [آل عمران:67] وإبراهيم أبو الأنبياء تنازعته الطوائف كلها، فاليهود يدعون أنه كان يهوديًّا، والنصارى يدعون أنه كان نصرانيًّا، فأخبر الله -تبارك وتعالى- أنه ليس منهم في شيء، وقد كان يوصي ذريتهم بالإسلام، فيقول: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [البقرة:132] وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ أي: ويعقوب وصى بنيه، إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ اختار لكم الدين، وهو الإسلام، فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [البقرة:132] فهذا يُفسر الدين الذي ذكره قبله على سبيل الإطلاق إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ [البقرة:132] فالدين هو التوحيد، واتباع شرع الله -تبارك وتعالى- المُنزل.

كذلك أيضًا في قوله: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ توكيد الجُملة بـ(إنَّ) يدل على أهمية ما تضمنته، وإنما يؤكد ما يكون في حال من الأهمية، أو ما كان السامع فيه مترددًا، وهذا لا شك أنه في غاية الأهمية، ولا شك أن اليهود والنصارى يُنازعون في ذلك ويُجادلون.

وقوله -تبارك وتعالى-: وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فالدين الحق هو الإسلام، وأخذه بمجموعه وشموله وكماله هو سبب للاجتماع والأُلفة، وأخذ بعضه وترك بعضه يكون سببًا للتفرق والاختلاف، فهنا كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "بأن سبب الاجتماع والألفة هو جمع الدين، والعمل به كله، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، كما أمر به باطنًا وظاهرًا، وسبب الفرقة ترك حظ مما أُمر العبد به، والبغي بينهم، ونتيجة الجماعة: رحمة الله ورضوانه وصلواته، وسعادة الدنيا والآخرة، وبياض الوجوه، ونتيجة الفرقة: عذاب الله ولعنته، وسواد الوجوه، وبراءة الرسول ﷺ منهم"[2].

وفي قوله -تبارك وتعالى-: وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وفيما ذكره شيخ الإسلام: من أن أخذ بعض الدين يكون سببًا للفرقة، وأخذ جميع الدين يكون هو سبب الأُلفة، فهذا لا شك أنه واقع، فإن هذه الأمة مما أشبهت به أهل الكتاب، مما ذكره شيخ الإسلام -رحمه الله- في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم، حيث ذكر الأمور التي شابهت بها هذه الأمة اليهود والنصارى، ومنها: التفرق والاختلاف[3]، لتتبعُن سنن من كان قبلكم[4]، ومن الأشياء التي وافقوهم وشابهوهم فيها: التفرق والاختلاف، فإذا أخذ بعض طوائف الأمة بعض الدين، وأخذ طوائف بعض الدين، وأخذ آخرون بعضه، كان ذلك سببًا للنزاع، وهناك فرق بين اختلاف التنوع، واختلاف التضاد، يعني: يمكن أن يقوم بعض المسلمين ببعض الأعمال ووظائف العبودية فيما زاد عن الواجب، يعني: أن يقوم هؤلاء مثلاً بكفالة الأيتام والأرامل، والقيام على الفقراء والمساكين والمحتاجين، وما أشبه ذلك، ويقوم آخرون بالدعوة إلى الله، وتقوم طائفة ثالثة: بتعليم الناس العلم الشرعي، فهذا لا إشكال فيه؛ لأنه من باب اختلاف التنوع، لكن الاختلاف الذي يورث الشحناء والبغضاء والتفرق، وما إلى ذلك بأن يأخذ بعض طوائف الأمة ببعض الدين على أنه هو الدين الذي بعث الله به رسوله ﷺ، ويجعل هذا الجانب هو الأصل، فمن دخل معه فيه والاه، ومن لم يدخل معه فيه، ولم يُشاركه في هذا العمل، فإنه يُنابذه ويُعاديه، فهذا لا يجوز، وهو حرام.

فمثلاً لو أن أحدًا أخذ من الدين الجهاد في سبيل الله، والجهاد هو ذروة سنام الإسلام، لكن أن يُحصر الإسلام بالجهاد، ثم من لم يدخل معه فيه فإنه يُلمز ويُعاب، وينقبض منه، وما أشبه ذلك، فهذا لا يجوز، وهكذا قد يأخذ البعض العلم الشرعي، ويُضخم هذه القضية، فمن دخل معه فيه فإنه يُقربه ويُحبه ويؤثره، ولم يدخل معه فيه فإنه يشنأه ويُعاديه، ويُنفِّر منه، ونحو ذلك، وهكذا من يأخذ الدعوة إلى الله -تبارك وتعالى-، ويجعل هذا كل شيء، ويُنابذ من سواه، فهذا لا يجوز بحال من الأحوال، فهذا يكون كما وقع لأهل الكتاب، حيث فرقوا دينهم، وكانوا شيعًا، والواجب على المسلم أن يأخذ الإسلام بكماله وشموله، كما جاء به الرسول ﷺ، ويُحب للمؤمنين ما يُحب لنفسه، ومن كان مُلتزمًا شرائع الدين وعقائده وأصوله وفروعه فهو وليه، وينقص من هذه الموالاة بحسب ما نقص من طاعة الله، وطاعة رسوله ﷺ، هذا هو المعيار الصحيح من غير أي اعتبار آخر، فلا يتم تعليق الولاء والبراء بمثل ذلك، فتتفرق الأمة إلى طوائف متناحرة.

وقوله: وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فيه إشارة إلى أن هذا الاختلاف والبغي الذي وقع منهم هو نوع من الكفر؛ لأنه قال بعده: وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ فهؤلاء أفسدوا الدين، وفرقوه، وتفرقوا فيه، وجحدوا دين الإسلام.

ويُؤخذ أيضًا من قوله: وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ الحصر إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ هذا فيه تشنيع عليهم، أنه لم يحصل هذا التفرق والاختلاف إلا بعد قيام الحجة عليهم، ولم يكن ذلك لخفاء العلم، وسبب الجهل، وإنما كان بعد بلوغ الحجة، وقيام الحجة الرسالية عليهم، فهذا أشنع وأقبح بلا شك.

وكذلك كونهم أهل كتاب وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ويقع منهم هذا التفرق والاختلاف، فلا شك أن هذا أشد وأسوأ حالاً؛ ولهذا قيل: على قدر المقام يكون الملام، فالتفرق حينما يقع بين أهل كتاب لا شك أنه أشد من وقوعه بين طوائف من المشركين الذين لا عهد لهم بالكتاب والرسالة.

وأيضًا فإن قوله -تبارك وتعالى-: بَغْيًا بَيْنَهُمْ فيه تشنيع على هؤلاء بأن البغي والحسد هو الذي حملهم على هذا التفرق، ولم يكن ذلك طلبًا للحق، وهكذا أكثر التفرق الواقع بين طوائف هذه الأمة، إنما هو بسبب البغي، فربما يجتهد من يجتهد ويُخطأ، فيحصل بغي من مُخالفيه عليه، فيُجعل من هذا الخطأ سببًا للتفرق والتدابر والتقاطع الذي نهى الله عباده عنه، فهذا لا يجوز كما هو معلوم، إلا إذا كان ذلك الاختلاف مما يسوغ التقاطع والتدابر، أما الاختلافات الاجتهادية، والاختلاف السائغ في أمور ليست قطعية، وأمور للاجتهاد فيها موضع، فإن هذا لا يجوز للناس إذا اختلفوا فيه أن تحصل بينهم العداوة والبغضاء والتطاحن والتراشق والتنابذ، وانظر إلى ما يجري بين طوائف الأمة اليوم، لا سيما مع هذه الوسائل التي استعملت على وجه غير مرضي في الغالب، فصار التراشق والاتهام والتضليل والتبديع والرمي بالعظائم بسبب ربما مُخالفات اجتهادية، وربما لو صدر هذا الاجتهاد ممن يوافقه ويُحبه لم يُحرك ساكنًا، بل لعدّ ذلك من مناقبه، ولكنه إذا صدر ذلك الاجتهاد ممن يشنأه ويُبغضه جعل ذلك سبيلاً للطعن، والنيل منه، بل ربما إخراجه من الدين -نسأل الله العافية-، فهذا لا يجوز، فالتبديع والتضليل والتفسيق والتكفير كل ذلك حق للشارع، وليس للناس يوزعون مثل هذه الألقاب والأحكام بحسب ما يهوونه.

وأيضًا في قوله -تبارك وتعالى-: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فهذا الكلام فيه ترابط، فلما كان الدين هو الإسلام، فإن الذين خالفوه من أهل الكتاب لم يقع ذلك منهم إلا بعد أن جاءهم العلم، إذًا كان مُخالفتهم وكفرهم أشد وأعظم، وبيّن سببه وهو البغي.

وأيضًا في قوله: وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لم يذكر اختلفوا في ماذا؟  فهم اختلفوا في كتابهم، واختلفوا في دينهم، فصاروا فرقًا، فالنصارى فرق كثيرة، والطوائف الكبرى منها ثلاث، يُكفر بعضها بعضًا، والنبي ﷺ يقول: افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، فواحدة في الجنة، وسبعون في النار، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، فإحدى وسبعون في النار، وواحدة في الجنة[5]، وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يعني: فيما بينهم، وأيضًا في اختلافهم على أنبياءهم، وفي اختلافهم على رسول الله ﷺ، والدين الذي جاء به، فردوه وكفروا به، وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ اختلفوا في ماذا؟ فهنا حذف المُتعلق يدل على العموم.

وكذلك أيضًا هنا حينما قال: إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ فهذا العلم بماذا؟ العلم بكتابهم، وما جاء به رسولهم، والعلم بدينهم، والعلم بما جاء به الرسول ﷺ، فكل ذلك -والله أعلم- داخل فيه، فهو يُفيد العموم.

وقوله -تبارك وتعالى-: إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ هذا العلم ما المقصود به؟

بعض العلماء يقولون: العلم هو الكتاب المُنزل عليهم: التوراة والإنجيل، وبعضهم يقول: المقصود به القرآن، والحمل على الإطلاق الذي أشرت إليه آنفًا يقتضي حمله على ذلك كله، فإن هذه الكتب المُنزلة هي مصدر العلم، فكان ذلك من قبيل إطلاق السبب على المُسبب.

وقوله -تبارك وتعالى-: بَغْيًا بَيْنَهُمْ يدل على أن هذه الصفة راسخة في أهل الكتاب، والله -تبارك وتعالى- حينما يذكر ذلك فإنما يذكره من أجل أن يستبين سبب هذا الاختلاف والكفر الواقع لدى أهل الكتاب، ومن جهة أخرى من أجل أن نتجنب مثل هذه الأسباب، فلا نقع في شيء منها.

ثم قال الله -تبارك وتعالى-: وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ فهذا فيه وعيد لمن يكفر بآيات الله -تبارك وتعالى- بأنه سيصير إلى الله -تبارك وتعالى-، وسيُجازيه على كفره مُجازاة في غاية السرعة، فهو سَرِيعُ الْحِسَابِ والحساب هنا إحصاء أعمال هؤلاء العاملين من الكفر والتفرق والاختلاف، وما إلى ذلك، فالله -تبارك وتعالى- يُحصيها عليهم جميعًا، كما أنه يُحاسب الخلق جميعًا على كثرتهم، وكثرة أعمالهم، كنفس واحدة، فهو سريع الحساب، كذلك في حسابه -تبارك وتعالى- لا يحتاج إلى ما يحتاج إليه البشر من آلات، وعد وحساب، وعقد بالأصابع مما يفعله البشر، فالله -تبارك وتعالى- أعظم من ذلك وأجل، وكذلك جاء التأكيد لهذه الجملة فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ لأن ذلك مما يحتاج إلى توكيد لأهميته البالغة.

وهكذا في قوله: فَإِنَّ اللَّهَ لم يقل: فإنه سريع الحساب، وإنما أظهر الاسم الكريم في مقام يصلح فيه الإضمار، فذلك لتربية المهابة؛ ولأن ذلك أعظم وأفخم، وفيه ما فيه من التهويل، والله تعالى أعلم.

فسرعة الحساب من الأوصاف الفعلية، ويحتمل ذلك أن يكون في الدنيا، فيُعجل لهم العقوبة في الدنيا، ويكون ذلك أيضًا في الآخرة؛ لأن المعاني التي ذكرها أهل العلم فيها هذا وهذا، سريع الحساب يُعجل لهم العقوبة في الدنيا، وقد يؤخرها في الآخرة، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

  1. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لابن تيمية (ص:56).
  2. مجموع الفتاوى (1/ 17).
  3. اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (1/ 101).
  4. أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة باب قول النبي ﷺ: لتتبعن سنن من كان قبلكم برقم: (7320) ومسلم كتاب العلم، باب اتباع سنن اليهود والنصارى برقم: (2669).
  5. أخرجه بهذا اللفظ ابن ماجه في كتاب الفتن باب افتراق الأمم برقم (3992) وصححه الألباني.

مواد ذات صلة