الخميس 26 / جمادى الأولى / 1446 - 28 / نوفمبر 2024
[2] من قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ} الآية:5 إلى قوله تعالى: {لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} الآية:10
تاريخ النشر: ١٤ / محرّم / ١٤٢٧
مرات الإستماع: 9942

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى:

وقوله تعالى: وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [سورة الجمعة:3] أي: ذو العزة والحكمة في شرعه وقدره.

وقوله تعالى: ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [سورة الجمعة:4] يعني ما أعطاه الله محمداً ﷺ من النبوة العظيمة وما خص به أمته من بعثته ﷺ إليهم.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى- هنا: ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِالإشارة هنا للبعيد وأقرب ما تتوجه إليه -وهو ما ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هو الإسلام وما أعطاه الله لنبيه ﷺ من النبوة والوحي.

وبعض أهل العلم يفسره بغير ذلك وهي معاني متفرعة عن هذا المعنى، كقول بعضهم: إن المراد بفضل الله هنا لحوق العجم للعرب، وذلك بدخولهم في الإسلام فيستوون معهم لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى[1]، وهذا المعنى مما يستلزمه المعنى الأصلي، الذي هو المعنى المتبادر ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ هو ما ذكره الله : هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ، فهذا الفضل الذي أعطاهم الله إياه هو الإسلام.

ومن قال: إنه النبوة فهو داخل في هذا؛ لأن الإسلام إنما عرف من طريق النبي ﷺ، وما ذكره هؤلاء من أن المقصود به أن الأعاجم يلحقون بالعرب، إنما بفضل الله -تبارك وتعالى- عليهم حيث إن دخولهم في الإسلام أوصلهم إلى هذه المراتب، فهذا مما يستلزمه المعنى المختار، والله تعالى أعلم.

ولو أردنا أن نرجح ما ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في معنى الآية فيمكن أن توجَّه بقية الأقوال بهذه الطريقة فهي إما أن تكون مما دلت عليه الآية دلالة أولية، أو يكون ذلك من باب الملازمة، دلالة الالتزام.

مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ۝ قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ۝ وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ۝ قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [سورة الجمعة:5-8].

يقول تعالى ذاماً لليهود الذين أُعطوا التوراة وحملوها للعمل بها، ثم يعملوا بها، مثلهم في ذلك كمثل الحمار يحمل أسفاراً أي كمثل الحمار إذا حمل كتباً لا يدري ما فيها، فهو يحملها حملاً حسياً ولا يدري ما عليه، وكذلك هؤلاء في حملهم الكتاب الذي أوتوه، حفظوه لفظاً ولم يتفهموه ولا عملوا بمقتضاه، بل أولوه وحرفوه وبدلوه فهم أسوأ حالاً من الحمير؛ لأن الحمار لا فهم له، وهؤلاء لهم فهوم لم يستعملوها، ولهذا قال تعالى في الآية الأخرى: أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [سورة الأعراف:179]، وقال تعالى هاهنا: بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ.

أسوأ الأمثال المضروبة في القرآن مثلان كلاهما في أهل العلم الذين لا يعملون بعلمهم:

الأول: هو قوله -تبارك وتعالى- في ذلك الذي انسلخ من آياته بعد أن آتاه الله إياها، قال: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث [سورة الأعراف:176]، يعني حينما تطارده وتزجره، تَحْمِلْ عَلَيْهِ ليس معناه تحمل عليه المتاع، وإنما كما تقول: حملتُ على العدو بمعنى هجمت عليه، إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث فذكره في أبشع صوره وأسوأ حالاته، فهذا مثل للعالم الذي ينسلخ من مقتضى العلم، ويعمل بخلاف ما علم، ويبدل ويغير فيَضل ويُضل.

والمثل الثاني: هو مثل هؤلاء اليهود مثل الحمار الذي حمل أسفاراً، ليس له من حملها إلا التعب، فهذا مثل من يتعلم ولكنه لا يعمل بمقتضى هذا العلم، يتعلم من أجل الدنيا، يتعلم من أجل أمر يريده، لكنه لا ينتفع بعلمه ولا يظهر ذلك في سمته، وهديه، وعمله، وحاله، وهذا المثل الذي ذكره الله : مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ يعني: كلفوا بالعلم بها، ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا أي: لم يقوموا بما فرض الله عليهم، وما تضمنته هذه التوراة كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا.

الحمار يضرب به المثل عند الأمم -وليس العرب فقط- في البلادة والمذلة، فهذا المثل تضمن هذا، إذا نظرت إلى ما ذكره الله من الدواب مرتباً وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً [سورة النحل:8]، لوجدتها جاءت مرتبة بالتدريج من ناحية الجمال من الأعلى إلى الأدنى، ومن ناحية القوة على الحمل من الأدنى إلى الأعلى.

من ناحية الجمال: الخيل أجمل من البغال، والبغال أجمل من الحمير، ومن ناحية القوة: أقواها على الحمل هي الحمير، ومن ناحية أيضاً المذلة: الخيل شعار من شعارات العز، وقيل لها ذلك؛ لما فيها من الخيلاء والاختيال في مشيتها، ولذلك ذكروا في أخلاق الأمم والطوائف بسبب المخالطات، ذكروا أن أوصاف أهل الخيل فيهم من العزة، بخلاف أهل الإبل ففيهم من الرعونة والجفاء، بخلاف من يخالطون الغنم ففيهم من السكينة.

فالمقصود أن الحمار يضرب به المثل في البلادة والمذلة، وهو أقوى هذه الدواب على الحمل، فمثّلهم الله بالحمار، يحمل أشياء ثقيلة ترهقه وتثقله، ولكن ليس له من ذلك إطلاقاً سوى التعب لا ينتفع بما فيها، فكذلك من يحمل علماً ولا يظهر ذلك عليه، ولا يعمل بمقتضاه فإنه بهذه المثابة.

وإذا كان هذا المثل قد وجه أو ضرب لهؤلاء اليهود فإن هذه الأمة أشرف منهم، فإذا وقع أبناؤها فيما وقع فيه اليهود فهم أولى باستحقاق هذا المثل، فليس ذلك مما يختص باليهود وليس بين الله وبين أحد من الناس نسب، والله لا يحابي أحداً.

كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا، والأسفار: جمع سفر، ويطلق على الكتاب الكبير الذي يسفر عما يحتويه، عما يتضمنه من المعاني.

ثم قال تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ أي: إن كنتم تزعمون أنكم على هدى وأن محمداً وأصحابه على ضلالة فادعوا بالموت على الضال من الفئتين إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ أي: فيما تزعمونه.

الله تحداهم بذلك، ولم يتمنوا الموت، ولهذا جاء في حديث ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- -كما سبق- لما قال أبو جهل ما قال، قال: لئن لقيت محمداً أو رأيته يصلي لأطأن على عنقه، فالحاصل أن النبي ﷺ قال: لو فعل لأخذته الملائكة عياناً، ولو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا، ولو أن النصارى باهلوا النبي ﷺ لرجعوا لا يجدون أهلاً ولا مالاً[2]، أو كما قال -عليه الصلاة والسلام، فالحاصل: أنهم لم يتمنوا الموت.

إِن زَعَمْتُمْ وكلمة زعم تطلق تارة على معنى زعم فلان أي قال، وتطلق تارة على ما يراد توهينه من الكلام، وتارة تطلق على ما يكذب منه، زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا [سورة التغابن:7]، والله هنا يقول: قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ، فلم يتمنوه؛ لأنهم يعلمون أن الآخرة ليست لهم.

وقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا كما سبق أيضاً في بعض الدروس أن أصل الهود بمعنى الرجوع، هاد يهود أي رجع، وقيل: إن اليهود قيل لهم ذلك لهذا المعنى، فإنهم قالوا: هُدْنَا إِلَيْكَ [سورة الأعراف:156] أي: رجعنا إليك، كما قيل: يا أيها المذنب هُدْ، هُدْ، يعني ارجع، ارجع، واسجد كأنك هدهد، فهذا معنى معروف في كلام العرب، ولكن هل هذه التسمية الَّذِينَ هَادُوا هل هذه اللفظة عربية أصلاً حتى يقال: إنها مأخوذة من هذا المعنى، مشتقة، أو أنها لفظة أعجمية؟ فإن قيل: إنها أعجمية فإنه لا يذكر في معناها هذا الاشتقاق، والله أعلم.

قال الله تعالى: وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْأي: بما يعملون لهم من الكفر، والظلم، والفجور، وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ.

وقد قدمنا الكلام في سورة البقرة على هذه المباهلة لليهود حيث قال تعالى: قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِندَ اللّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ۝ وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ ۝ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ [سورة البقرة:94-96].

يعني أحرص الناس وأحرص من الذين أشركوا، أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يعني وأحرص من الذين أشركوا، والمعنى الآخر وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ يكون ذلك مرتبطاً بما بعده، يعني ذكر صفة اليهود وذكر صفة المشركين، والأقرب هو المعنى الأول، أنهم أحرص الناس وأحرص من أهل الإشراك الذين لا يؤمنون بالآخرة أصلاً.

فاليهود أحرص منهم على البقاء في هذه الحياة؛ لأنهم يعلمون أنهم لا نصيب لهم في الآخرة، كما قال الله -تبارك وتعالى: قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ [سورة الممتحنة:13]، على أحد المعنيين في الآية كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ [سورة الممتحنة:13]، من إخوانهم المقبورين من أن يرجعوا إليهم.

والمعنى الثاني: كما يئس المقبورون الكفارُ من ثواب الله لما عاينوا بعد الموت، فهؤلاء يئسوا من الآخرة كيأس الكفار الذين عاينوا ما عاينوا بعد موتهم، يئسوا من ثواب الله ومرضاته وجنته، وهذا المعنى أقرب وهو المتبادر؛ لأن الأول لا يختص بالكفار بل كل من مات فإنه لا يرجع إلى الدنيا مرة ثانية في الأصل، ولا يختص ذلك بهؤلاء.

وقد أسلفنا الكلام هناك وبيّنا أن المراد أن يدعوا على الضُّلال من أنفسهم أو خصومهم كما تقدمت مباهلة النصارى في آل عمران، فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ [سورة آل عمران:61]، ومباهلة المشركين في [سورة مريم: قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا [سورة مريم:75].

تمني الموت ليس بالضرورة أن يكون ذلك بالمباهلة، ولا يشكل على هذا أن الإحصاءات تظهر أن كثيراً من اليهود ينتحرون مرة بعد مرة، فهم لا يفعلونه، لأنهم يرجون ثواب الله، فالمنتحر لا يرجو مزيد فضل عند الله حينما يقدم على هذا، وإنما يغلب عليه اليأس وتظلم الدنيا في عينه، فيقدم على هذا الفعل الشنيع لأنه قد شعر أن الأبواب قد أغلقت في وجهه وأن الموت خير له من الحياة، لغلبة هذا الشعور عنده، وكثير من هؤلاء أصلاً ملاحدة، ولا يرفع رأساً لدين، ولا يعبد الله بأي طريقة من الطرق، وإنما يعبد شهوته فقط، فإذا عرض له ما يحزنه جزع غاية الجزع ولم يجد خلاصاً من ذلك إلا الموت.

وقد روى الإمام أحمد عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- قال: قال أبو جهل لعنه الله: إن رأيت محمداً عند الكعبة لآتينه حتى أطأ على عنقه، قال: فقال رسول الله ﷺ:لو فعل لأخذته الملائكة عياناً، ولو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا، ورأوا مقاعدهم من النار، ولو خرج الذين يباهلون رسول الله ﷺ، لرجعوا لا يجدون أهلاً ولا مالاً[3]. رواه البخاري والترمذي والنسائي.

وقوله تعالى: قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ، كقوله تعالى في سورة النساء: أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ [سورة النساء:78].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ۝ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [سورة الجمعة:9-10].

إنما سميت الجمعة جمعة لأنها مشتقة من الجمع، فإن أهل الإسلام يجتمعون فيه في كل أسبوع مرة بالمعابد الكبار، وفيه كمُل جميع الخلائق؛ فإنه اليوم السادس من الستة التي خلق الله فيها السماوات والأرض، وفيه خلق آدم وفيه أدخل الجنة وفيه أخرج منها، وفيه تقوم الساعة وفيه ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يسأل الله فيها خيراً إلا أعطاه إياه، كما ثبتت بذلك الأحاديث الصحاح.

الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هنا جمع في سبب التسمية بين معنيين، ذكر أنها مأخوذة من معنى الاجتماع، وذكر معنيين مما يذكره أهل العلم لسبب تسميتها بالجمعة، من هذا الاجتماع الذي اشتقت منه هذه التسمية، أو الجمع: أنه اجتمع فيه خلق آدم ﷺ، ومن ذلك أنه اكتمل فيه خلق السماوات، والأرض، والجبال، إلى أن خلق آدم في آخر ساعة من الجمعة، فهذا من معنى الاجتماع.

وفيه أيضاً اجتماع المسلمين في المساجد يوم الجمعة للخطبة، والصلاة، وفيه أيضاً يقوم يوم القيامة، ولهذا سمى الله  يوم القيامة بيوم الجَمْع؛ لاجتماع الأولين، والآخرين، وأهل السماوات، والأرضين.

والحافظ ابن كثير -رحمه الله- أراد أن يجمع بين هذه المعاني؛ لأنه ليس عندنا دليل يدل على تخصيص واحد منها، فكل هذه المعاني تدل على معنى الجمع، اجتماع الناس للصلاة، واجتماع الخلق، واجتماع خلق آدم ﷺ، فقيل لها الجمعة، إلا على قول من قال: إن أول من سماها بذلك كعب بن لؤي؛ لأن بطون قريش قد اجتمعت إليه، فيكون بهذا الاعتبار اسماً قديماً، قبل الإسلام، ومن قال: إن ذلك لاجتماع الناس للصلاة فمعنى ذلك أنه -كما يعبر بعضهم- من مبتكرات الإسلام، يعني ليس اسماً معروفاً في الجاهلية، ولذلك يقولون: إن الأسماء في اللغة القديمة الجمعة كان اسمها عروبة في اللغة القديمة العربية، وتبدأ الأيام من يوم الأحد بطبيعة الحال كما هو معروف، ولهذا فإنه يقال له "أول" -اسم يوم الأحد؛ لأنه أول يوم وقع فيه الخلق، وأهون ليوم الإثنين، وجبار ليوم الثلاثاء... إلى يوم الجمعة الذي يقال له: يوم العروبة.

وبعضهم يقول: الأنصار هم أول من سماها بهذا، على أنه من مبتكرات الإسلام، باعتبار أن أول جمعة أقيمت كانت في المدينة، وذلك أن النبي ﷺ قبل أن يهاجر ما أقام جمعة في مكة، وأقامها مصعب بن عمير -رضي الله تعالى عنه، وقيل: أسعد بن زرارة، ولا منافاة بين القولين باعتبار أن مصعب بن عمير كان هو الداعي وهو الإمام، وأسعد بن زرارة كان بمثابة الأمير على المسلمين، قبل أن يهاجر النبي ﷺ.

وقد كان يقال له في اللغة القديمة يوم العَروبة، وثبت أن الأمم قبلنا أُمروا به فضلوا عنه، واختار اليهود يوم السبت الذي لم يقع فيه خلق، واختار النصارى يوم الأحد الذي ابتدئ فيه الخلق.

هذا وجه من وجوه ضلال النصارى، أنهم جعلوا الأجازة في أول يوم بدأ فيه الخلق، يعني هذا لا وجه له أصلاً.

واختار الله لهذه الأمة يوم الجمعة الذي أكمل الله فيه الخليقة، كما أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله ﷺ: نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، ثم إن هذا يومهم الذي فرض الله عليهم، فاختلفوا فيه، فهدانا الله له، فالناس لنا فيه تبع، اليهود غداً، والنصارى بعد غدٍ[4]. لفظ البخاري.

وفي لفظ لمسلم: أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا، فكان لليهود يوم السبت وكان للنصارى يوم الأحد فجاء الله بنا فهدانا الله ليوم الجمعة، فجعل الجمعة والسبت والأحد، وكذلك هم تبع لنا يوم القيامة، نحن الآخرون من أهل الدنيا والأولون يوم القيامة المقضي بينهم قبل الخلائق[5]، وقد أمر الله المؤمنين بالاجتماع لعبادته يوم الجمعة، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ أي: اقصدوا، واعمدوا، واهتموا في سيركم إليها، وليس المراد بالسعي هاهنا المشي السريع، وإنما هو الاهتمام بها كقوله تعالى: وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ [سورة الإسراء:19].

وكان عمر بن الخطاب وابن مسعود -رضي الله تعالى عنهما- يقرأانها فامضوا إلى ذكر الله، فأما المشي السريع إلى الصلاة فقد نهي عنه، لما أخرجاه في الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- عن النبي ﷺ قال: إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الله وعليكم السكينة والوقار، ولا تسرعوا، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا[6] لفظ البخاري.

وعن أبي قتادة -رضي الله تعالى عنه- قال: بينما نحن نصلي مع النبي ﷺ إذ سمع جلبة رجال فلما صلى قال: ما شأنكم؟ قالوا: استعجلنا إلى الصلاة، قال: فلا تفعلوا، إذا أتيتم الصلاة فامشوا وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا[7] أخرجاه.

قال الحسن: أما والله ما هو بالسعي على الأقدام، ولقد نُهُوا أن يأتوا الصلاة إلا وعليهم السكينة والوقار، ولكن بالقلوب والنيات والخشوع.

وقال قتادة في قوله: فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ يعني: أن تسعى بقلبك وعملك، وهو المشي إليها، وكان يتأول قوله تعالى: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ [سورة الصافات:102]، أي: المشي معه، وروي عن محمد بن كعب   وزيد بن أسلم وغيرهما نحو ذلك.

المعنى الذي ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- أولاً: أي بمعنى اقصدوا، القصد والعمد والاهتمام بها، وليس المقصود الإسراع، هذا المعنى هو المتعين في هذه الآية للنهي الذي سمعتم؛ لأن السعي يأتي بمعنى الإسراع في المشي، ومنه وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى [سورة القصص:20] أي يسرع في المشي ليدرك موسى ﷺ؛ لكي يقول له: إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ، وقال: وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ [سورة يس:20]، -وليست هذه في قصة موسى ﷺ.

فالحاصل: أن السعي يأتي بمعنى الإسراع في المشي، ويأتي بمعنى العمل بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ [سورة الصافات:102]، يعني صار قادراً على العمل، وكذلك هنا فَاسْعَوْا فسر بمعنى اقصدوا، يعني بالنية، وفسر بمعنى أحسن من هذا وأكمل منه، وهو ما ذكره الحافظ ابن كثير فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ يعني العمل على حضور الجمعة، والتهيؤ لها، وترك التشاغل عنها، وذلك بالاغتسال والتطيب وما أشبه ذلك، وقوله: فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ المقصود بالذكر يعني حضور الخطبة والصلاة، والمقصود بالنداء في هذه الآية: إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ النداء الثاني الذي يكون بين يدي الخطبة -والله تعالى أعلم.

  1. رواه أحمد في المسند برقم (23489)، وقال محققوه: إسناده صحيح، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (2700).
  2. رواه أحمد في المسند برقم (2225)، وقال محققوه: صحيح، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم(2296).
  3. رواه أحمد في المسند برقم (2225)، وقال محققوه: صحيح، والنسائي في الكبرى، كتاب التفسير، باب قوله تعالى: ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ [سورة آل عمران:61]، برقم (11061)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (3296)، وعند البخاري بلفظ: "لئن رأيت محمداً يصلي عند الكعبة لأطَأن على عنقه، فبلغ النبيَّ ﷺ فقال: لو فعله لأخذته الملائكة" برقم (4675)، والترمذي برقم (3348).
  4. رواه البخاري، كتاب الجمعة، باب فرض الجمعة، برقم (836)، ومسلم، كتاب الجمعة، باب هداية هذه الأمة ليوم الجمعة برقم (855).
  5. رواه مسلم، كتاب الجمعة، باب هداية هذه الأمة ليوم الجمعة، برقم (856)، من حديث أبي هريرة .
  6. رواه البخاري، كتاب الأذان، باب لا يسعى إلى الصلاة وليأت بالسكينة والوقار، برقم (610)، من حديث أبي هريرة .
  7. رواه البخاري، كتاب الأذان، باب قول الرجل: فاتتنا الصلاة، برقم (609)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب إتيان الصلاة بوقار (603).

مواد ذات صلة