الخميس 26 / جمادى الأولى / 1446 - 28 / نوفمبر 2024
(037) قوله تعالى: {لَّا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ...} الآية
تاريخ النشر: ٢٧ / ذو القعدة / ١٤٣٧
التحميل: 783
مرات الإستماع: 1285

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فلما كان هذا السياق في صدر هذه السورة الزهراء -سورة آل عمران- في الحديث عن أهل الكتاب وعلى وجه الخصوص عن النصارى، كانت الآيات التي مر الكلام عليها في الدرس الماضي وما قبله تتحدث عن معانٍ ربما تضمنت إشارة إلى اليهود، وقد جاء ذلك صراحة قبله في قوله -تبارك وتعالى-: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [آل عمران:24]، فهذا كلام من قول اليهود ودعواهم المعروفة.

قال الله -تبارك وتعالى- بعد ذلك وبعد أن قرر أنه له الملك الكامل: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:26]، وذكر كمال القدرة والتصرف في هذا الكون: تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [آل عمران:27]، قال الله -تبارك وتعالى- بعد ذلك: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ  [آل عمران:28]، فهذا نهي من الله -تبارك وتعالى- جاء بهذه الصيغة: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ فهو في ظاهره نفي؛ ولكنه مُضمن معنى النهي، وذلك بكونهم أولياء، أي: ما يقتضي النصرة وإيثار هؤلاء على المؤمنين، وإطلاع هؤلاء على دواخل أمور المسلمين وأسرارهم، ونحو ذلك من صور الموالاة.

لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ، فقوله: مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، يعني: هذا القيد: مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ يعني أنهم يوالون الكافرين من غير أهل الإيمان، يعني: من دون المؤمنين يوالونهم مع الإعراض عن المؤمنين وترك موالاتهم، فهذا قيد ذُكر هنا لكنه ليس له مفهوم.

ومعلوم أن الكلام يُستخرج منه المعاني بأنواع الدلالة، دلالة المنطوق: بالمطابقة، والتضمن، والالتزام، من إيماء وتنبيه وإشارة، وكذلك أيضًا بالمفهوم: وهو المسكوت عنه بأنواعه، مفهوم الموافقة بنوعيه: الأعلى والمساوي، ومفهوم المخالفة بأنواعه: من مفهوم شرط، وصفة، وغير ذلك.

هذه أنواع الدلالة التي تُنزل على النص فتُستخرج المعاني، منها ما يُستخرج بدلالة المنطوق، ومنها ما يُستخرج بدلالة المفهوم، وبحسب الأنواع الداخلة تحت كل قسم.

فهنا: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، لا مفهوم له، مفهوم المخالفة حجة عند الأصوليين، لكن هنا لو أعملنا مفهوم المخالفة: مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ يعني: أنه يجوز اتخاذ الكافرين أولياء لكن مع المؤمنين، ليس ضد، أو ليس بالتخلي عن المؤمنين، أو بعض المؤمنين، هذا مفهوم المخالفة لو طُبق في الآية، لكن هل يجوز أن يفهم الإنسان هذا الفهم: أنه يجوز موالاة الكفار مع موالاة المؤمنين؟

هذا لا يقول به أحد، إذن هذا المفهوم غير مُعتبر هنا، طيب لماذا خالفنا الأصل والقاعدة وهي أن مفهوم المخالفة حجة عند الأصوليين، وهذا صحيح، يُقال: مفهوم المخالفة حُجة لكن يُستثنى من ذلك مواضع نص عليها العلماء، كما قال صاحب مراقي السعود[1] في أصول الفقه:

"دع إذا الساكت"، دع من مفاهيم المخالفة "إذا الساكت منه خاف"، هذا في كلام الناس وليس في كلام الله لأن الله لا يخاف من أحد، لكنه يتكلم عن المفهوم، لأن المفهوم يُطبق في كلام الناس أيضًا، "أو جهل النُطق"، يعني: جهل الحكم المنطوق، فأُخبر بحكم المنطوق فقط، "أو النُطق جلب للسؤل"، يعني: جواب على سؤال، جاء المنطوق جوابًا على سؤال فيكون بقدره بصرف النظر عن المفهوم.

"أو جرى على الذي غلب، أو امتنانًا"، يكون له الامتنان، إما جريًا على الغالب، أو على سبيل الامتنان.

"أو امتنانًا أو وفاق الواقع"، هذا هو الشاهد هنا هذه الجملة "أو وفاق الواقع"[2] ما معنى وفاق الواقع؟

يعني: أن تنزل الآية تتحدث عن أمر من الأمور بحسب الواقع الذي وقع وحصل وجرى، فهنا لا يُعتبر مفهوم المخالفة، بمعنى هنا مثلاً: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ يوجد بعض المؤمنين تولوا بعض الكفار ضد بعض المؤمنين، أو مع التخلي عن بعض المؤمنين، فجاءت الآية تتحدث عن هذه الواقعة.

مثال آخر في قوله -تبارك وتعالى- في سورة النور: وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ البغاء -أعزكم الله- الزنا بأُجرة، وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا [النور:33]، فهذا القيد لو أحد أعمل مفهوم المخالفة إذا كانت هي لا تريد التحصن هي تريد الزنا هل يجوز أن يؤذن لها فضلاً عن إكراهها بالزنا؟

الجواب: لا، لا قطعًا، إذن: ما معنى هنا إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا؟

يُقال: هذا القيد لا مفهوم له، لا يُعتبر فيه مفهوم المخالفة؛ لأنه جاء على وفق واقع معين، عبد الله بن أُبي رأس المنافقين كان عنده جاريتان أسلمتا فكان يُكرههن على البغاء، ويضربهن على ذلك الزنا بأجرة، يتكسب من وراء هاتين الجاريتين يعني مملوكتين، فكان يُكرههن على البغاء -الزنا- ويأخذ الأجرة فنزلت الآية: وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ[3]، يعني المماليك الإماء، عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا، كُن يردن التحصن في هذه الواقعة، لكن لو فُرض حالات أخرى، هي لا تريد التحصن، هي تريد الزنا فلا يجوز أن يُسمح لها بحال من الأحوال، فمفهوم المخالفة لا يُحتج به في مواضع سبعة أو ثمانية حددها وذكرها ونص عليها الأصوليون، منها: أن تكون الآية نازلة على وفاق واقع معين تحكيه فيكون القيد بحسب ذلك، فهنا لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ هذا القيد: مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ جاء لأن بعض المؤمنين وقعوا في مثل هذا، والوا بعض الكافرين على حساب موالاة المؤمنين، فجاء النهي عنه، لكن في الحالات الأخرى التي لا يحصل فيها مثل هذا وإنما يقول: بأنه يوالي المشركين، ويوالي المؤمنين يُقال: هذا لا يجوز، فهذا القيد في هذه الآية غير مُعتبر؛ لأنه جاء على وفق واقع معين، هذه قاعدة معروفة.

إذن: وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ، يعني: ليس من الله في شيء فقد برأ الله -تبارك وتعالى- منه، إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً، يعني: أن تكونوا ضعفاء فتصانعوهم بالقول، هذا معنى اتقاء هؤلاء بالقول على وجه المصانعة، يعني: أن يُحسن إليهم القول، يتكلم معهم بكلام لطيف، بكلام لبق، بكلام فيها مصانعة لا مُداهنة، والفرق بين المُداهنة والمُداراة: أن المُداهنة تكون بإسقاط حق وتضييعه، أو ارتكاب باطل، المُداهنة أن يُداهن الإنسان في دينه معناها أنه يتكلم بما لا يحل، ويفعل ما لا يحل من باب المُداهنة؛ ليُرضي صديقه أو نحو ذلك، أو يترك الحق الذي هو عليه، أو بعض الحق طلبًا لمرضاة الخلق، هذه مُداهنة.

أما المُداراة فهي المُصانعة بالقول، وقد قال عنها بعض أهل العلم بأنها نصف العقل، نصف العقل في المُداراة، والعاقل يُداري الناس لكن بمُداراة لا تبلغ به حد الملق والنفاق والكذب، يعني: يُبالغ في ذكر المدح والثناء بما ليس في هذا الممدوح، أو نحو ذلك مما يُصانعه به من القول فهذا لا يجوز، لكن أن يتكلم بالكلام الحسن، بالكلام الطيب الذي يكون سبيلاً لامتصاص الغضب، أو دفع الشر، أو في لربما تحصيل مصالح ودفع مفاسد، فهذا لا إشكال فيه، بل هذا هو اللائق عند العقلاء، لكن بالنسبة للكفار فكما قال الله : يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [التحريم:9]، فهنا لا مُصانعة ولا مُداراة، لكن متى؟

هذا في وقت القوة، ولذلك فإن الراجح أن آية السيف، وهي الآية الخامسة من سورة براءة، وهي قوله -تبارك وتعالى-: فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ [التوبة:5]، هذه الآية بعض العلماء يقولون: إنها نسخت مائة وأربعة وعشرين آية من القرآن، يقولون: كل آية فيها إعراض عن المشركين، والصفح والدفع بالتي هي أحسن، والصبر واحتمال الأذى من المشركين كله هذه الآيات يقولون: نُسخت بآية السيف، هذا قول لطائفة من أهل العلم.

والراجح -والله أعلم- أن هذه الآيات لم تُنسخ بآية السيف، وإنما يكون ذلك بحسب حال الأمة من القوة والضعف، فإذا كانت في أزمنة الفترات وأوقات الضعف فإن الأمة لا يجوز لها بحال من الأحوال أن تستعدي الناس عليها بتصرفات تستفز هؤلاء الأعداء الأقوياء فيجتاحوها، ويحصل بسبب ذلك من المفاسد والقتل والقهر والتسلط، ويجد هؤلاء الكفار الذرائع التي تُقدم لهم مجانًا، من أجل التوصل بها والتذرع إلى مزيد من قهر الأمة ودحرها وابتزازها والتسلط عليها، وأخذ ما في أيديها، فهذا لا يجوز، وليس من العقل في شيء، ولهذا في مكة قيل للناس: كفوا أيديكم هكذا صراحة: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ [النساء:77]، فالقائل هنا الشارع، بُني الفعل للمجهول هنا أُبهم؛ لأنه معلوم الذي يأمر وينهى، كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ، ولما بايعوا النبي ﷺ أعني الأنصار بيعة العقبة قالوا للنبي ﷺ وكان ذلك في مِنى قالوا: "إن شئت يا رسول الله ملنا على أهل مِنى بأسيافنا"[4]، الذين كانوا في مِنى كانوا من المشركين، والنبي ﷺ قبل الهجرة كان المسلمون في حال من الاستضعاف، فهؤلاء يقولون: نحن على أتم الاستعداد من أجل التضحية فنميل عليهم بأسيافنا، نقتل هؤلاء المشركين في مِنى، فالنبي ﷺ نهاهم عن هذا، وأنه لم يؤمر بقتال، فمضت المرحلة المكية مرحلة الضعف ولم يحصل فيها أي اشتباك مع المشركين، ولا استفزاز بقتل أو نحو ذلك، فهذا هو المنهج الشرعي في سياسة الأمة في أوقات الضعف أنه لا يجوز بحال من الأحوال أن يصدر عن بعضها أو عن كلها مجموع الأمة ما يكون سببًا لتسلط الأعداء عليها، وهم ضعفاء أعني المسلمين لا يستطيعون دفع عادية هؤلاء الأعداء، فهذا يُنظر فيه إلى العواقب ومآلات الأمور وهي معتبرة شرعًا، ولهذا قال النبي ﷺ: من الكبائر شتم الرجل والديه، قالوا: يا رسول الله، وهل يشتم الرجل والديه؟! قال: نعم، يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه[5]، يعني: لما كان مُتسببًا بسب أبيه وأمه بسب آباء الناس وأمهاتهم كان ملعونًا، هو لم يسب أباه، ولم يسب أمه، وإنما سب أبا فلان وأم فلان فذاك لن يسكت سيرد عليه بالمثل، فكان ذلك الفعل تسببًا منه بسب أبويه، فقال النبي ﷺ: لعن الله من لعن والديه[6]، ليس معناه أنه مُباشرة، هذا من باب أولى لو أن إنسان وجه اللعن إلى والديه مُباشرة يلعن أبا نفسه -نسأل الله العافية-، لكن الحديث ليس في هذا، الحديث فيمن يتسبب في ذلك بسب آباء الناس.

فمن فعل فعلاً ينشأ عنه مفاسد ومضار وويلات تُجر إلى الأمة، تدفع الثمن الأمة، لا يدفع هو وحده لو كان هو الذي يدفع الثمن وحده لا شأن لنا به يتحمل نتيجة فعله، لكن الذي يدفع الثمن هي الأمة بكاملها، ويبدأ هؤلاء الأعداء في حال من النشوة ويُسلط آلة إعلامية ضخمة على الأمة، فإن كان في تلك البلاد في بلاد الكفار بقي الأقليات من المسلمين في حال يُرثى لها، كالغنم الذليلة في الليلة الشاتية المطيرة، لا يدرون ما الذي سينزل بهم بسبب فعل هذا السفيه الذي ما جر على المسلمين خيرًا ولا نفعًا ولا نصرًا، وإنما جر عليهم شرًا من كل وجه، فلا تسأل عن حالهم في خوفهم في بيوتهم، وخوفهم من خروجهم في الطريق وإلى مصالحهم ومدارسهم وجامعاتهم وأعمالهم، وما إلى ذلك، يُضيق عليهم، وتوجه إليهم أصابع الاتهام إلى غير ذلك مما تعلمون، وإذا كان ذلك أيضًا بالنظر إلى بلاد المسلمين فالحال يُشاهدها الجميع.

فالمداراة هي مصانعة بالقول، الأصل الإغلاظ على الكفار، كما قال الله : وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [التوبة:73] لكن هذا في وقت القوة، لكن في وقت الضعف، وهذه الآية وهي سورة مدنية نازلة في المدينة وهذا صدرها نزل متأخرًا لما جاء وفد نجران إلى النبي ﷺ كما عليه إطباق المفسرين، وإن كان من حيث الرواية لا يصح، فهذا متأخر في أواخر العهد المدني ومع ذلك: إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً فدل ذلك على أنها لم تُنسخ هذه الآيات، وقل مثل ذلك في التعامل مع المسلمين، بعض الناس يتعامل بطريقة فيها من الصلف والشدة والوقاحة، فيُقابل الناس بما يكرهون في وجوههم محتجًا ومعتذرًا بأنه صريح، يقول: أنا صريح، أنا لا أجامل، هذا يقوله أنا أحبك في الله يقول: أنا أُبغضك في الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، يعني: ما هذا الصنيع؟! من الناس من يفعل هذا، لماذا؟ فيسرد عليه قائمة مما ينقم عليه عبر دهر كان يرصد ما بدر منه، هذا غير مطلوب، ولا يفعله العاقل، وإنما العاقل يُداري الناس ويُلاطف ولا يستفز نفوسهم ويستعدي هؤلاء فهو لا يربح، ولا يكسب شيئًا إطلاقًا من هذا الاستعداء هذا ليس من فعل العقلاء، فيصير الناس لا يدرون ما الذي يبدر منه نحوهم، يتوقعون هذه السهام والرشق لأدنى مُلابسة، يعني حتى لو قالوا له كلامًا طيبًا لو قال له إنسان: أنا مُعجب بك وبأدبك وذوقك وأخلاقك، قال: لكن أنت على العكس من هذا، هذا لا يليق، ويعتذر ويقول: أنا صريح، ليست هذه صراحة هذه وقاحة، والنبي ﷺ لم يكن بالفظ ولا الغليظ ولا الجافي[7].

فهذا من الجفاء فمقابلة الناس بمثل هذا وجرح مشاعر الناس، وهذا الصلف هذا أمر غير جيد، قد يكون الإنسان في حال غير مُهيأ معها بأن يتكلم ويُلاطف ونحو ذلك؛ لألم ومرض يُعانيه أو هم يُكابده أو غير ذلك، فلا أقل من أن يسكت لا يؤذي الآخرين، لكن من الناس من يكون ذلك سجية له، يلقى الناس بمثل هذا فيكثر أعداءه وشانؤه ومُبغضوه وذلك لا ينفعه بل يضره، فاستجلاب الود والكلام اللبق والكلام الطيب الذي لا يوقع الإنسان في الإثم لا شك أنه مطلوب:  إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ أي: يُحذركم ذاته، فالنفس بمعنى الذات، وهي صفة يعني النفس ثابتة لله ، وفسرها أهل العلم ممن هم على اعتقاد السلف بالذات،  وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ يعني: المرجع والمآب.

وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بالقرآن العظيم، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين، اللهم ارحم موتانا، واشف مرضانا، وعاف مبتلانًا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا، -والله أعلم-.

وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.

  1. نشر البنود على مراقي السعود (1/ 98).
  2. نشر البنود على مراقي السعود (1/ 99).
  3. أخرجه مسلم، كتاب التفسير، باب في قوله تعالى: وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ [النور:33]، برقم (3029).
  4. دلائل النبوة لأبي نعيم الأصبهاني (ص: 309).
  5. أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الكبائر وأكبرها، برقم (90).
  6. أخرجه مسلم، كتاب الأضاحي، باب تحريم الذبح لغير الله -تعالى- ولعن فاعله، برقم (1978).
  7. دلائل النبوة للبيهقي محققا (1/ 296).

مواد ذات صلة