الخميس 26 / جمادى الأولى / 1446 - 28 / نوفمبر 2024
(043) تتمة قوله تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا..} الآية
تاريخ النشر: ٠٣ / ذو الحجة / ١٤٣٧
التحميل: 521
مرات الإستماع: 1106

الحمد لله، والصلاة، والسلام على رسول الله، أما بعد:

ما زال الحديث متصلاً بقوله -تبارك وتعالى-: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران:30] فقوله -تبارك وتعالى-: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ مضى الكلام على ذلك في آية قبلها، فأعاده هنا ربما -والله أعلم- لأنه قال بعده وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ يعني أن هذا التحذير يحذركم نفسه؛ نتيجة لكونه متصفًا بالرأفة بالعباد، يُحذركم نفسه؛ لكونه رؤوف بالعباد، فمن رأفته -تبارك وتعالى- بعباده أن حذرهم من أسباب عذابه، فذُكرت ثانية بهذا الاعتبار، وذلك أنه -تبارك وتعالى- قد بين للعباد ما يحتاجون إليه، وحذرهم من أسباب الشر، والهلاك، والعقوبات في الدنيا والآخرة، ويكون ذلك أيضًا جمعًا لهم بين الترغيب، والترهيب.

وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ هذا تحذير، ثم قال: وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ فهذا فيه رجاء، فيكون العبد بين الخوف، والرجاء، وهما كالجناحين للطائر لا يطير إلا بهما، فلا يصح أن تُبسط نصوص الرجاء الدالة على سعة رحمة الله ، وعفوه، ثم بعد ذلك يجرأ الناس على مساخطه اتكالاً على سعة عفوه، ورحمته، كما أنه لا يصح أن يُقنط الناس من رحمة الله -تبارك وتعالى- فيُذكر لهم نصوص الوعيد دون غيرها، وإنما يُذكر لهم هذا، وهذا كما هي طريقة القرآن، فالله -تبارك وتعالى- أعلم عباده أنه شديد العقاب، وأنه غفور رحيم، وهنا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ.

فالترهيب يحجز العبد عن مواقعة الذنب، وترك ما أمره الله -تبارك وتعالى- به، والترغيب يكون سائقًا إلى الجد، والاجتهاد، والعمل بطاعة الله رجاء الفوز الأكبر، والنعيم المقيم، فهو يُحسن الظن مع إحسان العمل، أما أن يُسيء العمل، ويُحسن الظن بالله -تبارك وتعالى- فهذا لا شك أنه مذموم.

وكذلك أيضًا فهذا يدل على أن رأفته -تبارك وتعالى- بهم وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ لا تمنع من إنزال العقوبة بمن يستحقها؛ لأنه قد سبق منه الإنذار، والبيان، والتحذير، فهو مع رأفته، وسعة رحمته إلا أنه يُعذب من شاء من عباده، من أهل الجراءة على حدوده، ومعصيته، وكما هو معلوم في نصوص الوعيد، ومن يدخل النار من أهل التوحيد فذلك ثابت لا شك فيه، أما الكفار فذلك أبين من أن يُنبه عليه أنهم يدخلون النار، وأن الله حرم عليهم الجنة، وأنهم يُخلدون أبدًا في نار جنهم.

فهذا التحذير، والوعيد ينبغي أن يُجمع مع الرجاء، فيكون العبد على حال من الاعتدال، لكن العلماء يقولون من كان مقصرًا فهو بحاجة إلى زاجر من التخويف، ولا يُرجى بنصوص الوعد لئلا يجترئ، ويُهمل، ويدع التوبة، ومن كان مجدًا في طاعة الله فهذا يحتاج إلى نصوص الرجاء، وبعض أهل العلم قالوا إنه عند الاحتضار، عند الموت ينبغي أن يُذكر للإنسان ما يُنمي الرجاء في قلبه؛ لأن النبي ﷺ قال: لا يموتن أحدكم إلا وهو يُحسن الظن بربه[1]، فقالوا إحسان الظن في هذا المقام مطلوب، والذي يوجبه هو نصوص الرجاء، ولهذا تعرفون ما جاء عن السلف في مثل هذه المقامات عن عبد الله بن عمرو بن العاص مع أبيه عند الاحتضار[2].

وكذلك أيضًا ابن عباس -رضي الله عنهما- مع عائشة -رضي الله عنها- إلى غير ذلك، فالمقصود أنه لا تكرار هنا في قوله: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ أعني لا تكرار بلا معنى جديد، وإنما ذلك اقتضاه السياق، هناك حذر من موالاة الكافرين، فقال: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران:28]، وهنا يُحذرهم من مغبة المعاصي، والجرائر، والجرائم، بحيث إن العبد سيجد ذلك مُحضرا يوم القيامة، فقال: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ.

وهكذا يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران:30]، هنا ما قال، وهو رؤوف بالعباد، وإنما أعاد هذا الاسم الكريم مُظهرًا، مع أن الإضمار هنا يفي بالمعنى الأصلي، ولكنه أظهره، -والله أعلم-، وذلك أبلغ، وأقوى، وأدعى إلى تربية المهابة في النفوس، فهذا مقام تحذير، والعلماء يقولون بأن ذلك إذا كان في جملتين منفصلتين فإنه لا إشكال فيه -كما هنا-: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ، هذه جملة مستقلة وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ هذا جملة أخرى مستقلة، فهو مع التقارب إلا أن كل واحد في جملة مستقلة، لا إشكال في ذلك.

كذلك حينما قال الله : وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ بعد التحذير، فهذا فيه إشارة إلى معنى، وهو أن رحمته سبقت غضبه.

كذلك هنا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ، فهذا أيضًا يدل على الاستغراق، والعموم -كما ذكرنا في الليلة الماضية- وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ كل العباد، وبعضهم جعل "أل" عهدية فقال هذا يختص بالمؤمنين، وحمله على العموم هو المناسب للسياق وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ كل العباد، وهذا تحذير للجميع، وخطاب لعموم الخلق، وإذا خُص ذلك بالمؤمنين جُعلت "أل" عهدية رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ، يعني: المتقين المؤمنين، فيكون ذلك من قبيل البشارة لهم.

وكذلك أيضًا لاحظ هنا وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ رؤوف بنا، هذا الاسم الكريم يدل على المبالغة يعني كثير الرأفة، فالله ليس برحيم فقط، مع أن رحيم صيغة مُبالغة، وكذلك رحمان فهي أبلغ من رحيم، وكذلك أيضًا الرؤوف فهي رحمة خاصة، فهو عظيم الرحمة بل هو أيضًا واسع المغفرة، وهو لطيف بعباده، ومن معاني اللطف: الرفق، وإيصال ألوان البر بطرق خفية، وكذلك أيضًا هو بهم رؤوف أي عظيم الرأفة، والرأفة كما قلنا هي رحمة رقيقة هي أخص من مُطلق الرحمة.

وكذلك أيضًا حينما قال: وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ فهذا لا شك أنه يحمل المخاطب على المُبادرة إلى التوبة إن كان مقصرًا، وكلنا مقصر؛ لأن الله رؤوف، يفرح بتوبة التائب، وكذلك أيضًا يدعو المذنب، والمقصر إلى التوبة، وكلنا مقصر، وكذلك المُحسن يدعوه إلى مزيد من الإحسان؛ لأن الله -تبارك وتعالى- رؤوف، فهو يتعامل مع صاحب رحمة عظيمة -والله تعالى أعلم-.

فهذا ربنا الذي نعبده، وهذا أثر من آثار الإيمان بأسماء الله وصفاته، كما هو اعتقاد أهل السنة والجماعة، فيؤثر ذلك في القلوب خوفًا، ورجاء، ويدفع عنها القنوط، وكذلك أيضًا يدعو النفوس، ويجذبها إلى محبة المالك المعبود المتصف بهذه الأوصاف الكاملة، وفرق بين من يعبد ربًا يعتقد أنه لا يوصف بوصف، ويؤول هذه الأوصاف، فهذا يعبد عدمًا، ثم يكون قلبه خاويًا، خاليًا من مثل هذه المعاني التي ذكرتها -والله تعالى أعلم-.

وعلى كل حال هذا القدر يكفي -إن شاء الله-، وأسأل الله أن ينفعنا، وإياكم بما سمعنا.

إذا كان لديكم إضافة، أو سؤال.

السؤال: يقول في قوله: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ إذا قيل يُحذركم من عقابه؟

الجواب: ليس هذا هو المعنى المُطابق، فالذي يقول ذلك إن كان يُثبت صفة النفس يعني إن كان من أهل السنة فلا إشكال؛ لأنه فسرها بلازمها، فإذا حذر من نفسه، فمقتضى ذلك أنه يُحذر من عقابه، وأما إذا كان لا يثبت الصفة لله فمثل هذا لا شك أنه خلل في التفسير -والله أعلم-، لكن كثير من المفسرين يُعبرون بمثل هذا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ أي يُحذركم عقابه، فإذا أثبتنا الصفة فلا إشكال، لكن لو عُبر بعبارة أدق، فقيل: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ أي يخوفكم من عقابه، وفيه إثبات صفة النفس لله ، فهذا أوضح.

  1. أخرجه أحمد في المسند، برقم (14480)، وهو عند مسلم بلفظ: لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله كتاب الجنة، وصفة نعيمها، وأهلها، باب الأمر بحسن الظن بالله تعالى عند الموت، برقم، (2877).
  2. انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد، (4/ 196).

مواد ذات صلة