الخميس 26 / جمادى الأولى / 1446 - 28 / نوفمبر 2024
(060) قوله تعالى: {إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ ..} الآية:45
تاريخ النشر: ٠٧ / محرّم / ١٤٣٨
التحميل: 672
مرات الإستماع: 1206

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فلما ذكر الله -تبارك وتعالى- اصطفاءه لآدم ولنوح ولآل إبراهيم وآل عمران على العالمين، وذكر اصطفاءه لمريم إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:42]، وهي من آل عمران.

ذكر الله -تبارك وتعالى- بعد ذلك قول الملائكة لها: إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ [آل عمران:45].

إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يحتمل أن يكون ذلك متعلقًا بمُقدر: واذكر إذ قالت الملائكة، أو واذكروا إذ قالت الملائكة، ويحتمل أن يكون متعلقًا بما قبله: وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ [آل عمران:44]، إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ ولكن هذا لا يخلو من بُعد في هذا الموضع، ولو قيل: بأنه يتعلق فيما ذُكر من الاصطفاء قبل لكان أليق، -والله أعلم.

إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ بعض أهل العلم يقول: وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ وما كنت لديهم إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ، لم تكن هناك حين قالت الملائكة ذلك.

إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ والبشارة معروفة وقد ذكرنا في قوله -تبارك وتعالى- لزكريا : أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى [آل عمران:39]، وقلنا: إن البشارة تُقال غالبًا في عُرف الاستعمال للإخبار بما يسُر، وأنها في أصل اللغة قد تُقال لذلك ولغيره، يعني: مما يسوء، وذكرت قول الشاعر:

يُبشرني الغراب ببين أهلي فقلت له: ثكلتك من بشيرِ[1]

فأطلقه على الخبر الذي يسوء، فهذا في اللغة موجود، ولا يُقال: إنه من قبيل المجاز أو نحو ذلك، وإنما هو استعمال حقيقي.

وبعضهم يقول: هذا من قبيل التهكم، ولكن لا حاجة إلى ذلك، يعني: في الإخبار بما يسوء.

إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ وهو عيسى ، بولد كان بالكلمة، بِكَلِمَةٍ مِنْهُ فعيسى قيل له الكلمة؛ لأنه وجد بها بِكَلِمَةٍ مِنْهُ أي: من الله، و"من" هذه ابتداء الغاية، أي مُبتدئة من الله، وليست للتبعيض كقوله -تبارك وتعالى: بِرُوحٍ مِنْهُ [المجادلة:22]، فهي ليست تبعيضية وإنما لابتداء الغاية، والله -تبارك وتعالى- خلق وسخر لنا ما في السماوات والأرض جميعًا، وحينما ذكر ذلك قال: مِنْهُ أي أن ذلك مُبتدئ منه -تبارك وتعالى.

بِكَلِمَةٍ مِنْهُ كلمة أي من الله بقول كن فكان، اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، اسمه المسيح، والمسيح اختلفوا في سبب التسمية، أو هذا اللقب وقد ذكر بعضهم أربعين قولًا، ولكن لعل أقرب ذلك يعني في التعليل أنه لا يمسح على ذي عاهة إلا شفاه الله ، فكان ذلك مُعجزة وآية.

وقيل غير ذلك كثير، كقول بعضهم: بأنه كان ممسوح القدم يعني من باطنها ليس فيها تجويف في أخمصها، أو لأنه مسح الأرض في التجول والتطواف ونحو ذلك، لكن هذا لا دليل عليه، ولا يخلو من بُعد، إلى غير ذلك من الأقوال.

الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ له جاه عظيم، ومكانة ومنزلة في الدنيا وفي الآخرة، وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ عند الله يوم القيامة.

يؤخذ من هذه الآية الكريمة من الهدايات: إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ حينما يذكر الله لنا ذلك إِذْ قَالَتِ واذكروا إذ قالت، أو واذكر إذ قالت، فهذا يدل على شرف مريم، وشرف المسيح حيث أمر الله بذكر ذلك، أمر رسوله ﷺ الذي هو أشرف المرسلين، وكذلك الخطاب لأمته وفي أشرف كتاب قص خبرهما، ثم أيضًا: إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ هذا يدل على أن ما كل من كلمه الملك أو جاءه الملك بخبر أو نحو ذلك أنه نبي، فهي لم تكن نبية، وخاطبتها الملائكة، قيل: جبريل، وهذا هو المشهور؛ فيكون من قبيل ذكر العام الملائكة المراد به الخصوص خصوص ملك واحد، يعني: أُطلق لفظ عام يُراد به واحد.

ويحتمل أن يكون الملائكة جمع، كما قال ابن جرير -رحمه الله[2].

إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ هنا أيضًا المناداة لها باسمها وبخصوصها بالتسمية هذا لا شك أنه تشريف آخر لها، وأيضًا تبشير الله لها، والناقل لذلك هم الملائكة، يعني: لم يكن ذلك برؤية منامية مثلًا، فلا شك أن هذا من أعظم الشرف، ويدل على منزلتها ومكانتها عند الله -تبارك وتعالى.

إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ فهذا الولد الآن من غير أب، والمذكور قبله من خبر زكريا هو وجود ولد من أبوين، ولكن لم تكن الحال مما يكون معه الولد عادة، قد بلغ من الكِبر عتيا وامرأته عاقر، فكان ذلك آية من آيات الله -تبارك وتعالى، فجاء سياق هذه الآيات بالتدريج في ذكر زكريا فكان أمره عجبًا، ثم جاء ما هو أعجب منه، وهو وجود عيسى من غير أب؛ فكان ذلك بهذا الترقي من العجيب إلى ما هو أعجب منه، وذلك له أثره بلا شك في تهيأ الأذهان، وقبولها لمثل هذا، وترقبها لمثل هذه الخوارق التي تخرق العادات، مما يدل على قدرة الله ، وأنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن.

بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ فلما كان عيسى من غير أب كان بالكلمة فأُطلق عليه ذلك، وهذا يؤخذ منه أنه يمكن أن يُطلق على الشيء فيُسمى بسببه، يعني يُقال للمُسبب اسم السبب، يُطلق اسم السبب على المُسبب، الآن السبب الكلمة "كُن" فكان عيسى فهو مُسبب عن الكلمة فأُطلق عليه كلمة بهذا الاعتبار من باب إطلاق السبب على المُسبب، فهذا إطلاق صحيح قد دل عليه القرآن، وجاء هذا المولود على غير المعهود مما يكون به خلق الناس، والله على كل شيء قدير.

وكذلك أيضًا: إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ، فيه فضل البشارة وأنها مما يُرغب فيه، فالله يُبشر عباده المؤمنين بما يسرهم في الدنيا والآخرة، في زكريا : يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى [آل عمران:39]، وفي مريم يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ [آل عمران:45]، إلى غير ذلك من المواضع في كتاب الله -تبارك وتعالى.

وقد قال الله عن مبعث رسوله ﷺ، ومهمته، ووظيفته تبليغ الرسالة والتبشير، وكذلك القرآن وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ [الإسراء:9]، فهذا أمر ينبغي أن لا يُهدر ولا يُضيع ويُهجر، وقد أصبح حال الكثيرين منا في مثل هذه الأوقات كما أشرت في بعض المناسبات أنه لا يعرف غير ثقافة الغم في كتابته وفي رسائله، لو يلقاك عرضًا في أي مكان ولو عند جمرة العقبة عرضًا تمر به يُلقي لك خبرًا يسوؤك سائر اليوم، من هذه الثقافة التي عنده، لو عرضًا، لو كنت تتحاشاه لئلا تسمع منه شيئًا إذا رأيته عرفت أنه سيُلقي خبرًا تغتم منه فتحاول أن تتحاشاه، فلو لقيته هكذا عرضًا في أي مكان عام مكان غير مُهيأ للحديث عن خبر أو الإخبار عن ما يسُر أو ما يسوء مُباشرة، سلم قال: بلَغك كذا، وقد لا يكون هذا الخبر صحيحًا، قد تكون إشاعة، قد تكون توقعات، قد تكون تحليلات وتحولت إلى حقيقة في نظره أو في نظر غيره، وهذه مشكلة هذه الثقافة، وهي بئست التربية، وأعظم من يشقى بهذا هم من يحتفون به ممن يبتلون به من الأولاد والزوجة، ومن يراهم ويرونه صباح مساء، فهو يُصبحهم ويُمسيهم على مثل هذه الأمور التي تغم القلب، وتشغل الفكر، وتصرف الإنسان عن ما هو بصدده، وكان في غنى عن ذلك كله.

هذه الثقافة للأسف هي أبعد ما تكون عن التبشير، يعني: لا تكاد تسمع من مثل هذا بشارة قط، أين البشارة؟! لماذا لا ننشر البشائر؟! لماذا لا نُبشر الناس؟! والنبي ﷺ قال: بشروا ولا تُنفروا[3]، التبشير أصل وأساس كبير لأهل الإيمان، وهو يبعث الناس على الانشراح والانطلاق والفرح المحمود، والعمل النافع، عمل الدنيا أو عمل الآخرة.

أما التبشير بما يسوء كما قال ذلك الشاعر المتُشائم، الغراب لا شأن له، خلق من خلق الله، ليس عنده شيء، ولا دراية بغيب، لكن هذا يتشائم من كل شيء:

يُبشرني الغراب ببين أهلي  

لما رأى الغراب ينعق قال:

يُبشرني الغراب ببين أهلي فقلت: ثكلتك من بشيرِ.

هو يرى في كل شيء سوء، وإشارة إلى شر يترقبه ويتوجه إليه، فهو بانتظار أن ينزل به، فيكون حال الإنسان -نسأل الله العافية-كحال المنافقين الذين ذكرهم الله بقوله مع الفارق: يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ [المنافقون:4]، هو يترقب دائمًا المكروه، يترقب دائمًا الشر، أسوء الاحتمالات، أسوء التوقعات فهو دائمًا مكروب، ومن كانت هذه حاله فهو يعيش في حال من سوء الظن في كل شيء حتى الأفعال والأعمال والإنجازات الصحيحة الصالحة، ويعتقد الظن أن ورائها غير ذلك، هذا غلط، وينبغي أن نُغير هذا التفكير، ونُغير هذه الثقافة، ولا ننشر مثل هذه الأشياء، لا تنشر شيئًا مما يغتم به الناس، وقد قال بعض العقلاء والحكماء كما ذكر ابن حزم[4] في بعض كتبه بأن ذلك -يعني مقابلة الأخ بما يسوؤه ونحو ذلك- من فعل الأراذل، وشتان بين اثنين: هذا إذا لقيته أعطاك ما يبعث على الأمل والانشراح والفرح ويبعث على النشاط والعمل، ويُبشرك ببشائر طيبة، وآخر إذا لقيته ألقى على مسامعك ما يسوؤك فتتثبط الهمة، ويصير الإنسان في حال من الحُزن، ويبتأس، ويجد الشيطان إلى قلبه الطريق مُشرعًا، حيث يتسلط عليه بالوساوس والخواطر السيئة، هذا يحتاج إلى معالجة.

فهنا: إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ فاسمه: اسْمُهُ الْمَسِيحُ فذكر اللقب ثم ذكر الاسم عيسى، ثم نسبه إلى أمه، فهذه ثلاث، العرب عادة تؤخر اللقب وتكره الدعاء به، يعني: أن يُنادى بلقبه، يكرهون المناداة باللقب، وإنما يحبون الكنية فإن لم فالاسم، وآخر ذلك اللقب، ولكن لما كان هذا اللقب فيه ما فيه من الشرف والمزية والمنقبة قُدم اسْمُهُ الْمَسِيحُ فعلى اعتبار أنه لا يمسح ذا عاهة إلا برئ، فلا شك أن هذه آية ومعجزة؛ فيكون مقُدمًا لأنه أبرز، وأعظم وأجل.

ثم ذكر اسمه: عِيسَى وبهذا يكون قد سُمي قبل أن يولد، كيحيى أيضًا: أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى [آل عمران:39]، فهذا سُمي أيضًا قبل أن يولد، وكذلك إسحاق ويعقوب: فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ [هود:71]، قبل الحمل بإسحاق، وقبل أن يوجد الحفيد يعقوب -عليهم السلام جميعًا، فهذا كله من تسمية المولود قبل ولادته، قبل وجوده، وقد ذكرت فيما مضى بأنه يمكن أن يُسمى المولود قبل أن يولد، وإن كانت السنة في يوم سابعه.

وهنا: الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ [آل عمران:45]، فأضافه إليها، وقد ذكرت فيما سبق بأنه لم يُضف نبي إلى أبيه قط في القرآن فضلًا عن أمه سوى عيسى فقد أُضيف إلى أمه، ولا يكاد يُذكر إلا مُضافًا إليها، وفي هذا تذكير بالمعجزة، وفيه تشريف لأمه، وفيه أيضًا رد على اليهود الذين اتهموها بتهمة قبيحة، فيذكرها الله بهذا القرآن لأشرف الرسل يُتلى إلى يوم القيامة، فأي شرف بعد هذا!.

ثم لما كان من غير أب فهذا أيضًا فيه إشارة حيث قال: اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ إلا أنه يوجد من غير أب، إشارة إلى المعجزة قبل أن تقع، وهذا فيه ما فيه من تهيئة النفوس وهو مطلب بلا شك في الأمور الغريبة، أو في الأمور التي قد يحصل بسببها شيء من الصدمة أو الانزعاج، أو نحو ذلك فتحتاج النفوس إلى تهيئة.

وكذلك أيضًا فيه إشارة إلى أنه يُنسب إليها، فيكون ذلك تشريفًا لها، المسيح عيسى ابن مريم.

وكذلك أيضًا هنا: اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ، هنا وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا يعني له منزلة، وله مكانة، وله جاه، فقد يُظن أن الجاه في الدنيا ذكر الله بعده في الآخرة وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وتكون وجاهته مستمرة، وهذه هي الوجاهة الحقيقية، قد يكون الإنسان وجيهًا في الدنيا لكن لا خلاق له عند الله ولا شأن، وإذا وضع في الميزان لا يزن عند الله جناح بعوضة، كما ذكر النبي ﷺ في الرجل في الناس يقولون: في الدنيا ما أعقله، ما كذا، ما كذا، ولا يزن عند الله جناح بعوضة، وذكر أن الرجل السمين يوضع في الميزان عند الله فلا يزن عند الله جناح بعوضة[5].

فالميزان في الدنيا ليس على وجاهات الناس ومكتسباتهم المادية الدنيوية ونحو ذلك، وإنما يكون بما يعمرون به قلوبهم وجوارحهم من تقوى الله، وطاعته، والإيمان به، والإحسان إلى الخلق ابتغاء ما عند الله -جل جلاله، وتقدست أسماءه.

ثم أيضًا ذكر ما هو أعلى من ذلك يعني الوجاهة في الآخرة تتفاوت، والناس ليسوا سواء فيها فقال: وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ، يعني: أن وجاهته عند الله في الآخرة تكون بمنزلة عُليا.

وكذلك أيضًا يؤخذ من هذه الآية الكريمة تفضيل عيسى على يحيى، لما جاءت البشارة بيحيى لزكريا -عليهما السلام: أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى [آل عمران:39]، فقط، لكن لما ذكر عيسى والبُشرى به: إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ [آل عمران:45]، وأضاف ذلك إليه، اسْمُهُ الْمَسِيحُ: فذكر لقبه، عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ [آل عمران:45]، فكل ذلك وما بعده يدل على منزلته وقدره، ولم يُذكر هذا في حق يحيى ، فالله -تبارك وتعالى- جعله نفس الكلمة: بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ، وهكذا التعبير بالوجيه فهذه صيغة مبالغة من الوجاهة.

وكذلك أيضًا في الدنيا والآخرة جمع له هذا وهذا، ومن المقربين أيضًا عند الله -تبارك وتعالى.

فأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بالقرآن العظيم، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، اللهم ارحم موتانا، واشف مرضانا، وعاف مبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا، -والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله، وصحبه.

  1. الدر المصون في علوم الكتاب المكنون (1/ 209).
  2. تفسير الطبري (5/ 408).
  3. أخرجه مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب في الأمر بالتيسير، وترك التنفير، برقم (1732).
  4. الأخلاق والسير في مداواة النفوس (ص: 47).
  5. أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ [الكهف:105] الآية، برقم (4729)، ومسلم، في أوائل كتاب صفة القيامة والجنة والنار، برقم (2785).

مواد ذات صلة