الخميس 26 / جمادى الأولى / 1446 - 28 / نوفمبر 2024
(074) قوله تعالى: {إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ..} الآية، وقوله: {فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ...} الآيات 62-63
تاريخ النشر: ٠٢ / صفر / ١٤٣٨
التحميل: 538
مرات الإستماع: 1050

الحمد لله، والصلاة، والسلام على رسول الله، أما بعد:

لما بين الله -تبارك وتعالى- حقيقة المسيح ، ودعا المعاندين، والمُكابرين، والمُكذبين، والكافرين من النصارى بهذه الحقائق، دعاهم إلى المُباهلة، قال الله بعد ذلك: إِنَّ هَـذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ اللّهُ وَإِنَّ اللّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم [آل عمران:62]، هذا الذي أنبأتك أيها الرسول، هذا الذي أخبرتك، وقصصت عليك في شأن المسيح هو النبأ الحق الذي لا يتطرق إليه الباطل {إِنَّ هَـذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ}، فهذا الخبر، وما جرى للمسيح  كل ذلك من القصص الذي قصه الله على رسوله ﷺ في هذه السورة، هو الحق الذي لا شك فيه.

وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ اللّهُ، لا معبود بحق يستحق أن يتوجه إليه بالعبادة سوى الله -جل جلاله، وتقدست أسماؤه-، وَإِنَّ اللّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ القاهر الغالب في ملكه، الذي لا تُطاق سطوته، وهو الحكيم في تدبيره، وشرعه، وأقضيته، وأفعاله.

يؤخذ من هذه الآية الكريمة: إِنَّ هَـذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ، بعد هذا السياق الطويل جاء بهذا الحكم بأن ما قصه، وأخبر به هو الحق، فجاء مؤكدًا بهذه المؤكدات "إنّ" التي هي بمنزلة إعادة الجملة مرتين، وجاء بهاء التنبيه "هذا" "ذا" هذه للإشارة، إِنَّ هَـذَا، وكذلك أيضًا اللام هذه إِنَّ هَـذَا لَهُوَ الداخلة على الضمير المُنفصل، إِنَّ هَـذَا لَهُوَ، فهي تُفيد التأكيد أيضًا، وكذلك الفصل بالضمير المنفصل.

إِنَّ هَـذَا لَهُوَ، ما قال إن هذا القصص الحق، وقد ذكرنا في بعض المناسبات أن الفصل بالضمير بين طرفي الجملة يُفيد تقوية النسبة، وتأكيد ذلك، تأكيد الكلام، إِنَّ هَـذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ، تقول هذا هو الكريم، هذا لهو المُحق، ونحو ذلك.

وكذلك دخول (أل) على القصص، هذا القصص الصحيح، الثابت، الكامل من كل وجه، ووصف القصص أيضًا بالحق الْقَصَصُ الْحَقُّ، هكذا بإطلاق، فهو حق من كل، وجه، فكل ما أخبر الله -تبارك وتعالى- به فهو حق لا يتطرق إليه الباطل.

ثم قال الله تعالى: وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ اللّهُ، جاء بأقوى صيغة من صيغ الحصر، وهي النفي، والاستثناء، التي جاءت بها كلمة التوحيد "لا إله إلا الله"، وما هذه نافية، وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ اللّهُ، ودخلت "من" هنا {وَمَا مِنْ إِلَـهٍ} على النكرة، والنكرة في سياق النفي تفيد العموم، فإذا دخلت عليها "من" فهي للتنصيص الصريح في العموم.

وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ اللّهُ، فهذا فيه رد على هؤلاء النصارى الذين قالوا بإلهية المسيح -عليه السلام-، فجاء بأقوى الصيغ في الحصر، فهو وحده الذي يستحق العبادة.

وكذلك أيضًا وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ اللّهُ، فهذا شهادة بالتوحيد أن الله -تبارك وتعالى- هو الواحد في إلهيته، وربوبيته، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، لا معبود سواه.

كذلك أيضًا: وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ اللّهُ وَإِنَّ اللّهَ، ما قال: وإنه فأظهر في موضع يصح فيه الإضمار، يقول البلاغيون: إذا كان ذلك في جملتين؛ فإن ذلك لا يثقل على السمع، ولا يُنافي البلاغة، وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ اللّهُ هذه جملة وَإِنَّ اللّهَ هذه جملة أخرى، فأظهره هنا، وفيه ما فيه من تربية المهابة، والتعظيم، ما قال: وإنه العزيز الحكيم، وَإِنَّ اللّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم، لَهُوَ الْعَزِيزُ فدخلت هذه اللام أيضًا، وضمير الفصل كما سبق لتقوية النسبة، لَهُوَ الْعَزِيزُ، وهذا يُشعر بالحصر، كأنه يقول: له العزة الكاملة، والحكمة الكاملة، ولا عزيز، ولا حكيم سواه.

وَإِنَّ اللّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم، فذكر هذين الاسمين في ختم هذه الآية الكريمة فيه تهديد، ووعيد مُبطن لهؤلاء المجادلين بالباطل، فإذا كان هو العزيز؛ فهو قادر على أخذهم، ومعاقبتهم، ومن عزته -تبارك وتعالى- أن خلص المسيح مما أرادوا به، ومكروا، فمكروا، ومكر الله، فهو العزيز الذي لا يُغالب، وهو الحكيم الذي يضع الأمور في مواضعها، ويوقعها في مواقعها.

فاختلاف هؤلاء في شأن المسيح، وخلق المسيح قبل ذلك على هذه الصفة كل ذلك على مُقتضى حكمته، ثم رفع المسيح كل ذلك جارٍ على هذا الأصل، حكيم في أقداره، وفي تشريعاته، ومن اجتماع العزيز بالحكيم كما سبق في الكلام على الأسماء الحسنى، فإن ذلك يُثمر وصفًا ثالثًا، وهو أن عزته -تبارك وتعالى- مبنية على الحكمة.

العزة إذا كانت من غير حكمة فإنها تُفضي إلى أمور لا تخفى، المخلوق إذا كان عنده عزة لكن من غير حكمة فإن ذلك قد يُفضي إلى الإفساد في الأرض، والبطش بغير الحق، والتجبر، وما إلى ذلك، والحكمة إذا كانت من غير عزة فإنها قد لا تنفع؛ لأنه لا يُعمل بمقتضاها، ولا رأي لمن لا يُطاع كما يُقال، أما الله -تبارك وتعالى- فهو عزيز لا يُغالب، وهو حكيم يضع الأمور في مواضعها.

وهؤلاء النصارى عكسوا القضية، فجعلوا من عيسى الإله، وقالوا: بأن اللاهوت، يعني: الجزء الإلهي حل في الناسوت، يعني: في الجزء البشري، القالب البشري في جسد عيسى ، ثم صُلب، وقتل من أجل تخليص البشر من الخطيئة، يعني: أن الإله غُلب، وقُهر، وقُتل، وصُلب هذا لا يكون عزيزًا، ولا يكون حكيمًا -والله المستعان-.

وإذا عرف العبد أن ربه هو العزيز الحكيم؛ فإنه يركن إليه، ويثق به، ويطمئن إلى أحكامه القدرية، ويطمئن إلى أحكامه الشرعية، والنبي ﷺ يقول: عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء، صبر فكان خيرًا له[1]، وإذا عرف العبد أن ربه عزيز حكيم، فإنه يُدرك بأنه حينما يؤخر المفسدين والظالمين، فإن ذلك ليس عن عجز عن مؤاخذتهم، وإهلاكهم، وإنما يؤخرهم ليزدادوا إثمًا وفق حكمته -تبارك وتعالى-، ثم بعد ذلك يأخذهم أخذ عزيز مقتدر.

فما يُشاهد من مظالم، وأحوال في بلاد المسلمين حيث يتسلط عليهم أعداء الله -تبارك وتعالى-، وترى ما لا تُطيق النفس رؤيته من أحوال لأطفال، ونساء، وشيوخ قد أصابهم اللأواء، والضر، فالله عزيز، قادر على أن ينتقم، وهو حكيم، يضع الأمور في مواضعها، ويوقعها في مواقعها، فيُمهل، لكنه لا يُهمل، وهذه الحياة قصيرة مهما طالت الأيام.

ثم يقول الله -تبارك وتعالى-: فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِين [آل عمران:63] فَإِن تَوَلَّوْاْ، يعني: أعرضوا عن الإيمان، واتباع النبي ﷺ، وتصديق ما جاء به من خبر المسيح، فإن الله عليم، يعني: أن علمه مُحيط -هذه صيغة مُبالغة- بالمُفسدين، وعلمه متضمن لتهديد هؤلاء المُفسدين، فهو عليم بهم إذًا هو سيؤاخذهم، ويعاقبهم، ويأخذهم متى شاء.

وقوله -تبارك وتعالى-: فَإِن تَوَلَّوْاْ، هذا يحتمل أن يكون على سبيل الغيبة، تولوا هم، يعني: أهل الكتاب، أو النصارى، ويحتمل أن يكون على سبيل الخطاب، يقول لهم: فإن تولوا، يعني: تتولوا فإن الله عليم بالمفسدين، فيكون هنا فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِين، "فإن الله" ما قال: فإنه عليم بالمفسدين، وما قال: فإن تولوا فإن الله عليم، أو فإنه عليم بهم، فهذا فيه إبراز لمعنى في غاية الأهمية، وهو أن من تولى عن الإيمان فهو مُفسد، فالكفر هو أعظم الفساد، لا فساد أعظم من الكفر بالله -تبارك وتعالى-، ولا مُفسد أعظم من الكافر الذي ترك عبادته ، وعبد غيره.

فلو قال: فإن تولوا فإن الله عليم بهم لم يُفهم هذا المعنى، لكن لما قال: فَإِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِين، فدل ذلك على أن المتولين عن الإيمان أنهم مفسدون، وأي فساد أعظم من الكفر بالله ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ [الروم:41]، فبسبب ذلك تموت الدواب، والهوام، والسباع بسبب خطايا ابن آدم.

وأيضًا دلت هذه الآية فَإِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِين، على شمول علم الله ، وأنه علم مُحيط؛ لأن عليم صيغة مُبالغة، فلا يخفى عليه شيء، وكذلك أيضًا إذا كان بهم عليمًا فإن ذلك يعني أنه مُحيط بكل ما يصدر عنهم، ومع ذلك يُمهلهم، ويؤخرهم، ولكنه إذا أخذ فإنه شديد الأخذ، فَإِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِين، وهذا القيد "عليم بالمفسدين" لا مفهوم له، بمعنى: أنه عليم بالمفسدين، وليس عليمًا بغيرهم، هذا غير مُراد، فالله عليم بكل شيء، بكل شيء عليم، أحاط بكل شيء علمًا.

والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه مسلم، كتاب الزهد، والرقائق، باب المؤمن أمره كله خير، برقم (2999).

مواد ذات صلة