الخميس 26 / جمادى الأولى / 1446 - 28 / نوفمبر 2024
(081) قوله تعالى: {وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ...} الآية 73
تاريخ النشر: ١٦ / صفر / ١٤٣٨
التحميل: 563
مرات الإستماع: 1068

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

لما ذكر الله -تبارك وتعالى- ما تواطأ عليه طائفة من أهل الكتاب من الدخول في هذا الدين في أول النهار، ثم إعلان الرجوع عنه في آخره، من أجل تشكيك المؤمنين في إيمانهم، وزعزعة يقينهم، ولصد الناس أيضًا عن الدخول في هذا الدين؛ إذ يرون هؤلاء الذين هم على علم ومعرفة بالكتاب المُنزل، قد دخلوا فيه، ثم رجعوا عنه، وأن ذلك لم يقع، ولم يكن إلا لشيء قد استبان وظهر لهم بأنه ليس بدين صحيح موحىً به من الله ، فهذه المكيدة التي فضحهم الله بها، وأخبر بها علاّم الغيوب.

ذكر عنهم بعد ذلك مقالة تواصوا بها، فقال: وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللّهِ أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيم [آل عمران:73].

وَلاَ تُؤْمِنُواْ هذا من قولهم، يوصي بعضهم بعضًا، فيقولون: ادخلوا في هذا الدين أول النهار، وارجعوا آخره، لعلهم يرجعون عنه، ولكن تنبهوا وتفطنوا لا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم، فالواو هنا عاطفة، فذلك في جملة ما تواصوا به، وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ فـ(لا تؤمنوا) يحتمل أن يكون المعنى: ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم، يعني: لا تؤمنوا برسول إلا إذا كان تابعًا لدينكم، ومن أهل ملتكم، بأن يكون من اليهود؛ لأن هذه المقالة صدرت عن اليهود، يعني: إلا أن يكون يهوديًّا، أما هؤلاء العرب فلا تؤمنوا أبدًا برسول يُبعث منهم حسدًا من عند أنفسهم، فهذا معنى مشهور ذكره عامة أهل العلم، وهو قول الجمهور من السلف فمن بعدهم في تفسير هذا الموضع، مع أن في الآية خلاف كثير بين المفسرين، ويحتمل أن يكون المعنى: وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ يعني: لا تطمئنوا، وتثقوا إلا لمن تبع دينكم، فمعنى لا تُفضوا إليهم بشيء من الحقائق والمعلومات فيما تجدونه في كتبكم من أمور اختصكم الله بها، سواء كان ذلك مما يتصل بصفة النبي الذي يُبعث، أو من الأمة التي يُبعث منها، أو بما وقع لكم، وحكم الله به عليكم، وأوقع من المثُلات، فلا تعطوا لأحد هذه المعلومات والحقائق.

فلما قالوا: وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ أمر الله نبيه ﷺ أن يقول: قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللّهِ فالله يهدي من يشاء إلى الوحي والنبوة والرسالة، فيصطفيه، ويهدي إلى الإيمان من شاء، ويهدي إلى العلم الصحيح من شاء، فيوفق من شاء، ويخذل من شاء.

أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ هاتان الجملتان أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ يحتمل أن يكون ذلك من جملة كلامهم، وتكون الجملة المعترضة من كلام الله، قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللّهِ فيكون سياق الكلام من غير الجملة المعترضة هكذا: وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ فيكون المعنى: لا تؤمنوا برسول من غيركم، كراهة أن يؤتى أحد مثلما أوتيتم، يعني أن تكون النبوة في غير اليهود، وبني إسرائيل.

وعلى المعنى الآخر: وَلاَ تُؤْمِنُواْ أي: لا تطمئنوا وتثقوا إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ أي: لا تثقوا إلا بأهل ملتكم، فلا تعطوا لهؤلاء العرب ما يستوون به معكم في العلم، مما اختصكم الله به، أو أن يتخذوا ذلك حجة عليكم عند الله ، بأنكم عرفتم صفة هذا النبي ومبعثه ومخرجه ومهاجره، وصفة الأمة التي يُبعث فيها، وتيقنتم ذلك، وهو مسطور في كتبكم، ومع ذلك كفرتم، يُحاجوكم عند ربكم، فهذا يحتمل.

أو يكون ذلك مما قد أوقعه الله به من المثُلات، والعقوبات، ونحو ذلك، فيحتجون عليكم به، لا تُفضوا إليهم بأي معلومات؛ لئلا يستوي هؤلاء العرب معكم في العلم بما تختصون؛ ولئلا يتخذوا ذلك ذريعة للمُحاجة عند الله ، فيحتجون عليكم بما تفوهتم به، وبما صدر عنكم، فهذان معنيان قريبان.

ويحتمل أن يكون قوله: أَن يُؤْتَى أَحَدٌ أن يكون من جملة كلام الله الذي أمر نبيه ﷺ أن يقوله، فيكون كلامهم انتهى عند قوله: وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ ثم جاء الرد: قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللّهِ أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أي: تقولون هذا كراهة أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللّهِ أي: لا تستطيعون أن تحتكروا النبوة والوحي أو العلم، فذلك إلى الله -تبارك وتعالى-، يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيم.

والأقرب -والله أعلم- أن تكون الجملة المعترضة هي فقط قوله: قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللّهِ وبقية الكلام يتصل بما قبله، فيكون الكلام: وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ، أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ كراهة أن يؤتى أحد مثلما أوتيتم، فأنتم تختصون بالهدى، فلا تؤمنوا لغير أهل ملتكم، أو يُحاجوكم عند ربكم، قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء فالعطاء بيده، والخير بيده -تبارك وتعالى-، وكل شيء فهو في تصرفه وملكه، فأعطى هذه الأمة ما أعطاها، كما قال الله -تبارك وتعالى-: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا [فاطر:32] هذه الأمة بطبقاتها الثلاث، فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ [فاطر:32].

فيؤخذ من قوله: وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ فهذا والذي قبله، ومواضع أخرى من كتاب الله، نوع من إعجاز القرآن، وهو الإخبار بأمور غيبية، فهذا من جملة الغيوب التي أخبر الله عنها، من الذي أطلع النبي ﷺ على هذا الأمر الذي يُسر بعضهم إلى بعض به؟! هو الله -تبارك وتعالى-، فهو الذي أنبأه بذلك، وأظهره عليه، وهذا له شواهد ووقائع من السنة.

وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ هذا يدل أيضًا على الغرور الذي كان يملأ نفوسهم إلى حد أنهم صاروا يعتقدون أنهم يحتكرون النبوة والعلم والهدى، وفضل الله -تبارك وتعالى-.

ويدل أيضًا على إصرارهم على الباطل، مع معرفتهم بالحق، يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [البقرة:146] وهذه الصيغة والتركيب لـ(لا) الناهية، مع الفعل بعدها، هي من صيغ العموم، وقد جاء ذلك بطريق الحصر {إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ} النفي والاستثناء، وهي من أقوى صيغ الحصر، لا تؤمنوا لأحد سوى من كان تابعًا لدينكم، فهؤلاء لا طب فيهم؛ ولذلك يندر أن يُسلم أحد من هؤلاء اليهود، وغيرهم من الوثنيين والمشركين والنصارى يسلمون، لكن اليهود على مدى التاريخ لا يكاد يُسلم منهم إلا أفراد قلائل، والسبب ما انطوت عليه نفوسهم من الكِبر والحسد، وأيضًا العُجب والغرور والشعور بالعظمة والكمال، كل هذا أدى بهم إلى شدة العداوة، فيعرفون أنه نبي، ومع ذلك يحاولون قتله مرارًا، وسحروه كما في قصة لبيد بن الأعصم، وأطعمته اليهودية الشاة المسمومة، وفعلوا ما لم يفعله أهل الإشراك، وكل ذلك عن طريق الدس، والجبان أذاه قد يكون بليغًا، ولكنه من تحت، وهذه نكاية الجُبناء، فقد تكون قاتلة ومؤذية وعميقة، ولكنها بالدس، فلاحظ السحر خفي، ووضع السم كذلك، وأين وضعته؟ في الذراع، وأكثرت منه؛ لأنه يُحبه، وهكذا تجد أن الدسائس والمؤامرات هي من قِبل اليهود والمنافقين، لكن أهل الإشراك مُكاشفة ومجاهرة يلتقون بالميدان وفي أرض المعركة، ويحصل المواجهة واللقاء والحرب والقتال، فينتصرون أو ينهزمون، ثم يعاودون الكرة، ويُسلم من يُسلم، ولكن هؤلاء اليهود الأمر يختلف، فهذه مفارقة بين اليهود وغيرهم؛ ولذلك تجد أن آيات الفيء هي فيما يتعلق باليهود، وليست معركة يحتدم فيها القتال، إنما حصار، ثم بعد ذلك ينتهي كل شيء، فتكون أموالهم فيئًا، فنزل تشريع الفيء، وتفصيله، وبيان أحكامه، ومصارفه في مواجهات مع اليهود.

وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ وهذا يدل على جهلهم المُفرط، يعني: الله أنزل عليهم الكتب، ومع ذلك يفكرون بهذه الطريقة، ولا غرابة! إذا كانوا يقولون لموسى : لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة:55] ونجاهم الله من اليم، ومن فرعون، وأغرقه أمامهم، وهم ينظرون، ومع ذلك فبمجرد ما خرجوا ونجوا قالوا: اجْعَل لَّنَا إِلَـهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ [الأعراف:138] فتصور من يفعل هذا؟! الله أنجاهم، آية عظيمة، ففرعون الذي يدعي الإلهية والربوبية يغرق أمامهم، والبحر ينشق كالجبال، ويقف ويمشون على طريق يبس، بعدد قبائلهم، ثم يخرجون ويجدون هؤلاء يعكفون على صنم، فيقولون: اجْعَل لَّنَا إِلَـهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُون [الأعراف:138] فهذا من يفعله؟! أجهل الجاهلين، يترفع عن هذا، ثم لم يكتفوا بهذا، فلما ذهب موسى إلى الميقات، وفيهم هارون ، عبدوا العجل، واستهانوا بهارون ، وكادوا أن يقتلوه، فمن يفعل هذا؟!

فالله أنجاهم ويعبدون العجل، ويُقال لهم: هذا إلهكم، وإله موسى فنسي، يعني: موسى ذهب يطلب إلهه عند الطور، وهذا إلهه وإلهاكم، عجل صنعوه بأيديهم ويعبدونه، بعد أن نجوا من فرعون، وشُق بهم البحر، وإذا عطشوا ضرب بعصاه الحجر، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينًا، لكل قبيلة عين، فهذه آيات، ومع ذلك ماذا يُنتظر من أمثال هؤلاء اليهود تجاه هذه الأمة؟ إذا كان هذا فعلهم مع كبير أنبياء بني إسرائيل موسى ، على حزمه وقوته وهيبته عندهم، ومع ذلك يتصرفون بهذه الطريقة، ونبي الله هارون يقول: إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء [الأعراف:150] فهم أعداء ينتظرون حدثًا يشتمون به نبيًا كريمًا، فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء [الأعراف:150] عداء مِن منَ؟ من بني إسرائيل، منهم من هؤلاء الذين نجاهم الله -تبارك وتعالى-، يوجد منهم أعداء لهارون ، هل هذا يُعقل؟ حين يفكر المرء، ويتأمل الآيات، يقول: هؤلاء من ماذا خلقوا؟! وأي قلوب وعقول يحملون؟! وكيف يفكرون؟! نسأل الله العافية.

أقول: إذا كان هؤلاء بهذه المثابة، وفي يوم واحد قتلوا سبعين نبيًا، وفعلوا الأفاعيل، فما ظنكم بموقفهم من رسول الله ﷺ، ومن هذه الأمة إلى يومنا هذا، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فهل يُظن فيهم رحمة ونظرة متعقلة أو مُصنفة أو عادلة؟ أبدًا، فعلوا الأفاعيل منذ القِدم، وكل ما تمكنوا فعلوا، وعبر العقود الماضية فعلوا بإخواننا في فلسطين الأفاعيل، ربما حبسوهم في مكان واحد، ويستغيثون يريدون الشُرب، فيأبى هذا الذي هلك قريبًا إلا أن يشربوا -أعني شارون- ويأمرونهم أن يشربوا أبوالهم، وهكذا يقتلون جميعًا بلا رحمة، هؤلاء من يرجوا منهم شيئًا، أو نفعًا، أو دفعًا، أو عدلاً أو إنصافًا أو رحمة أو تعقلاً فهو في غاية الوهم والضياع والضلال والجهل، والله المستعان.

الوقت انتهى، وبقي في الآية وقفات، نتركها إلى الليلة الآتية -إن شاء الله تعالى-.

وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين.

اللهم ارحم موتانا، واشف مرضانا، وعاف مبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

مواد ذات صلة