الخميس 26 / جمادى الأولى / 1446 - 28 / نوفمبر 2024
(087) قوله تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ...} الآية 79
تاريخ النشر: ٢٢ / صفر / ١٤٣٨
التحميل: 527
مرات الإستماع: 1054

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

في هذا السياق الذي ذكر الله -تبارك وتعالى- فيه أحوال أهل الكتاب وبين بطلان ما هم عليه من الإشراك بالله -جل جلاله وتقدست أسماؤه-، وما يصدر عنهم من تحريف الكتب المُنزلة، قال الله -تبارك وتعالى- بعد ذلك في بيان بطلان مزاعمهم من اتخاذ المسيح إلهًا: مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُون [آل عمران:79].

مَا كَانَ لِبَشَرٍ، يعني: أن هذا لا يتأتى ولا ينبغي بحال من الأحوال لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة، فيكون ممن أوحى الله -تبارك وتعالى- إليه بكتاب، وجعل له الفصل بين الناس في قضاياهم، وكذلك أيضًا اختاره للنبوة أن يقول مع ذلك كله: اتخذوني إلهًا من دون الله، فإن هذا لا يكون بحال من الأحوال؛ لأن من يصطفيهم الله -تبارك وتعالى- للنبوة هم أعبد الناس لله، وهم خيار الناس، وهم أعلم بالله وعظمته، وهم أكثر إجلالاً وخوفًا لله من غيرهم، فمثل هذا لا يكون منهم بحال من الأحوال.

ومثل هذا التركيب مَا كَانَ لِبَشَرٍ، يدل على الامتناع، سواء كان ذلك الامتناع من قبيل الامتناع الذي يكون من جهة الشرع، باعتبار أن الله حرمه مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ [التوبة:120]، فهذا امتناع شرعي، وتارة يكون ذلك من قبيل الامتناع العادي يعني في مجاري العادات، وتارة يكون ذلك من قبيل المُحال، فالمقصود أن مثل هذا التركيب يدل على الامتناع، وفي قضايا الأحكام يدل على التحريم إذا قال الله : "ما كان لك أن تفعل كذا" أو قال الشارع: "ما كان لك أن تقول كذا" فإن هذا يدل على أنه مُحرم، وفيما يتعلق بالمُستحيل الذي لا يكون مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ [مريم:35]، فهذا من المُحال.

ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ، يعني: مع هذا كله مما أعطاه وحباه لا يقول لهم: كونوا عبادًا لي؛ أن يؤلهوه، وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُون، كونوا ربانيين، الرباني منسوب إلى الرب، وهذه اللفظة فيها معنى التربيب والتربية، فذلك يعني أن يكونوا حكماء علماء فقهاء، أن يكونوا ممن يُعلمون الناس بصغار العلم قبل كباره، وأن يسوسوا الناس سياسة صحيحة في العلم، وأن يرعوهم رعاية حسنة بما أعطاهم الله ومنحهم من هذه الفضائل، بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ، يعني: تعلمون غيركم، تعلمون الناس من شرع الله -تبارك وتعالى- ووحيه، وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُون، يعني: في تعلمكم ودراستكم وحفظكم، وما إلى ذلك، فهذا كله يقتضي أحوالاً كما سيأتي.

يؤخذ من هذه الآية الكريمة: مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ، هذا فرق واضح كبير بين الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وغير الأنبياء من الأدعياء من السحرة، ومن يدعي النبوة، فإن الأنبياء لا يدعون الناس إلى عبادتهم أو تأليههم، وكذلك أيضًا من يدعي الإلهية كفرعون، وكالمسيح الدجال، فإن هؤلاء لا يدعون إلى عبادة الله -تبارك وتعالى-.

مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ، فهذه لا تلتبس بحال من الأحوال أعني أحوال الأنبياء مع أحوال غيرهم من السحرة والكذبة والمفترين، فهؤلاء يدعون إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأمور، وإلى عبادة الله وحده لا شريك له، وأما أولئك فإنهم يدعون إلى أهواء مُضلة، وإلى تعبيد الناس لهم، هذا من أعظم الفروقات بين الأنبياء وغيرهم.

وقوله -تبارك وتعالى-: مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ، بشر هنا نكرة في سياق النفي فتعُم، يعني: أي: بشر ممن أوتي الكتاب والحكم والنبوة لا يمكن أن يصدر عنه ذلك.

وهكذا أيضًا في ذكر البشرية مَا كَانَ لِبَشَرٍ، ما قال ما كان لأحد أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة، ثم يقول للناس اتخذوني، يعني: اعبدوني من دون الله -تبارك وتعالى-، كونوا عبادًا لي من دون الله، فهنا ذكر البشرية مَا كَانَ لِبَشَرٍ، أن البشرية لا تصلح للإلهية بحال من الأحوال، ولا يمكن أن تتفق معها.

وهكذا أيضًا يؤخذ من هذه الآية: أنه ليس لأحد كائنًا من كان مهما بلغ علمه، أو رتبته أن يُطالب الناس أن يتبعوا قوله مطلقًا، يعني: مهما كان مرتبته في الفقه والحفظ والعلم والتبحر في العلوم المختلفة ليس له أن يُطالب الناس أن يُقلدوه، وأن يتبعوه في كل ما يقول، فإن هذا لا يكون لأحد من الناس إلا للمعصوم -عليه الصلاة والسلام-؛ لأنه لا ينطق عن الهوى، فهذا الذي يُطالب الناس أن يأخذوا بقوله مهما كان على كل الأحوال هذا يكون حاله ومآله، كما قال الله -تبارك وتعالى-: اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُون [التوبة:31]، فهذا سماه الله -تبارك وتعالى- ربًا، اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ، كيف كان ذلك؟ جاء هذا باعتبار أنهم كانوا يُحلون لهم الحرام فيُحلونه، ويُحرمون عليهم الحلال فيُحرمونه، فصاروا بذلك أربابًا من دون الله -تبارك وتعالى-.

وهكذا يؤخذ من هذه الآية الكريمة ما عليه الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- أنهم يأمرون بالكمالات، ويأمرون بطاعة الله ، ولهذا هرقل لما سأل أبا سفيان، وكان أبو سفيان على الشرك فلما سألهم عن رسول الله ﷺ لم يسأل عن معجزة واحدة، وإنما سألهم عن أمور أخرى كان منها: سألهم عمَّا يأمرهم به؟ فلما ذكروا الفضائل التي يأمر بها من صلة الأرحام ونحو ذلك عرف بعد هذا -بعد مجموع هذه السؤالات وما كان من إجابات- أنه نبي، واعتذر مما هو فيه من اشتغال بالملك؛ وإلا لأتى النبي ﷺ وغسل عن قدميه، وقال: بأنه إن كان ما تقول حقًا فإنه سيملك ما تحت قدمي هاتين[1]، يعني في الشام، وهي عاصمته في ذلك الوقت.

فما يأتي به الأنبياء ما يدعون إليه يدل على أحوالهم وكمالاتهم وفضائلهم، وعلى صحة ما جاءوا به؛ لأن الأشياء التي يأتي بها الأنبياء نوعان: النوع الأول: ما يُسمى بدلائل النبوة من غير المعجزات، يعني: غير خوارق مثل لما رأيت وجهه عرفت بأنه ليس بوجه كذاب[2].

وكذلك أيضًا سؤالات هرقل، وغير ذلك مما يبدو عليه من أمارات الصدق، وما كان يُقال له قبل ذلك في مكة من أنه الأمين، ونحو هذا.

والنوع الثاني من دلائل النبوة: هو خوارق العادات وهي المعجزات فهذه مثل القرآن، وانشقاق القمر، ونحو ذلك، فدلائل النبوة عامة تشمل المعجزات وخوارق العادات، وتشمل أمورًا أخرى يُعرف بها صدق هذا القائل.

كذلك أيضًا في قوله -تبارك وتعالى-: مَا كَانَ لِبَشَرٍ، اللام هذه لام الاستحقاق، يعني: أن ذلك غير مُستحق له بحال من الأحوال، ففيه ما فيه من المُبالغة في نفي ذلك عنه، يعني: ما كان فلان فاعلاً كذا، يعني: أن هذا لا يتأتى ولا يكون، فجاء بهذه الصيغة وهي صيغة تدل على نفي الجنس.

ثم يؤخذ من قوله -تبارك وتعالى-: ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ، "ثم" هذه تدل على المُهلة، وقد يكون التراخي فيها من قبيل الرُتبي، يعني: بعد هذا كله وهذا العطاء والمنح والهبات يقول للناس فوق هذا كونوا عبادًا لي، أو يقول بعد ذلك كونوا عبادًا لي من دون الله، فهذا منتفٍ لا يكون بحال من الأحوال ممن أوتي هذا العطاء العظيم.

وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ، يعني: أنه يقول لهم يأمرهم يُرشدهم إلى أن يكونوا ربانيين، يعني: قيل الرباني منسوب إلى الرب كما ذكرت آنفًا، ويكون ذلك باجتماع أوصاف أول هذه الأوصاف لمن يُقال له الرباني أن يكون متحققًا بالعلم، هذا أول ما يكون؛ لأنه يأمر وينهى ويُعلم، وهذا لا يتأتى إلا برصيد من العلم ينطلق منه، وإلا فإن الجاهل كما هو معلوم يُفسد أكثر مما يُصلح، فهذا الأساس الأول أن يكون متحققًا بالعلم.

الأمر الثاني: أن يكون مخلصًا لله فإنه منسوب إلى الرب، ومعنى ذلك أنه لا يريد بتعليمهم ودعوتهم جزاء ولا شكورا، لا يتقاضى على ذلك أموالاً ولا يطلب شيئًا من دنياهم، ولا يفعل ذلك رياءً ولا سمعة، ولا طلبًا للمنزلة والجاه في نفوس الخلق، كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ، فإذا كان بهذه المثابة فهو متصل بالله -تبارك وتعالى- يريد وجهه لا يريد شيئًا آخر، أما المُرائي والذي يطلب الدنيا ويتبعها فمثل هذا لا يكون ربانيًّا، قد يُعطى هذا الذي يُعلم الناس رزقًا من بيت المال، أو نحو ذلك، لكن ليس هذا هو مقصوده، وليس ذلك من قبيل الهدف الذي يسعى من أجله، وإنما هذا يكون مما لابد له منه من أجل أن يتفرغ لتعليم هؤلاء الناس وتربيتهم ونحو هذا، لكن لا تكون الدنيا هي همه ومقصوده وطلبته التي من أجلها يقوم ومن أجلها يقعد، ولذلك الرباني لا يكون قلبه مملوءا بحب الدنيا وتطلبها والاشتغال بها وتعظيمها، وتعظيم أهل الدنيا، ويكون قلبه مشغوفًا بحب المال، ويتتبع ذلك ويحرص عليه، فهذا الإنسان المادي الذي يكون بهذه الطريقة لا يكون ربانيًّا، ولو كان من أوعية العلم، يعني: قد يكون عنده علم كثير، وحفظ كثير، ويكون عنده فقه كثير، لكنه صاحب دنيا، هو يريد أن يكون له ثروة، أن يكون عنده من الأموال والأرصدة والعقارات، وما إلى ذلك، فهو يُنافس أهل الدنيا في دنياهم، هذا لا يكون ربانيًّا، ولا يكون له عاقبة بحال من الأحوال، ولا تُقبل عليه قلوب الخلق؛ لأنهم يرون أنه يُنافس أهل الدنيا على دنياهم، وهذا لا يكون للرباني، ليس معنى ذلك أن الرباني يترك الاشتغال بالدنيا، ونحو ذلك، الأنبياء كانوا يسعون في الأسواق، وكانوا يكتسبون، ويرتزقون، فهذه سنة الله في هذا الخلق، إنما أتحدث عن شأن آخر، وهو التهافت على الدنيا، الحرص على الدنيا، أن تكون الدنيا في قلب الإنسان، ولو لم يكن في يده منها إلا القليل، فهذا الذي قد امتلأ قلبه بمحبتها، والحرص عليها لا يكون ربانيًّا.

الركن الثالث للربانية، أو الأساس الثالث: وهو أن يكون حكيمًا، ولذلك قالوا: حكماء، أن يكون حكيمًا يعني يسوس الناس بالعلم، يُعلمهم صغار العلم قبل كباره، يعرف ماذا يقول لهم، يخاطب كل فئة بما يصلح لمثلها، لا يُخاطب الصغير بما يُخاطب به الكبير، لا تكون عبارته واحدة في تعليم الجاهل مع تعليم طالب العلم، أو المُتخصص في هذا العلم، أو نحو ذلك، وإنما يُفرق بين هؤلاء وهؤلاء، وكذلك في سياسة الناس وتوجيههم وتربيتهم؛ فإنه يُحسن ذلك، ولا يُخاطب الناس بشيء لا تصل إليه عقولهم، فيكون ذلك سببًا لفتنتهم، فالذكاء شيء، والحفظ شيء، القدرة على الحفظ شيء، والعقل شيء آخر، وكذلك الحكمة؛ فالحكمة لا تتم إلا مع وجود العقل الراجح إضافة إلى العلم الصحيح، فهذا هكذا يكون حكيمًا، ولذلك فُسر الرباني بالحكيم، والواقع أن هذا تفسير له ببعض أوصافه أو ببعض أجزاءه، فمن قال حلماء فهذا صحيح، أو قال حكماء فهذا صحيح، ومن قال علماء فقهاء، كل ذلك صحيح، وإنما يكون الرباني من اجتمعت فيه هذه الأوصاف المختلفة، ولذلك فإن أبا جعفر ابن جرير الطبري -رحمه الله- فسر هذا الموضع بتفسير جيد دقيق صحيح، وذكر في جملة ما ذكر في الرباني أنه يسوس الناس بالعلم ونحو ذلك، ويرجع إليه الناس فيما نابهم[3].

يعني: أنهم يجدون فيه الحكمة والعلم والفقه وحُسن التدبير وحُسن النظر، فيرجعون إليه، ويصدرون عن قوله ورأيه، يعني: يكون مرجعًا للناس، أما هذا الذي يختزن علمه، ولا ينتفع الناس به، أو يكون عنده علم لكنه لا يُحسن التدبير، ولا التوجيه، ولا التعليم، وإنما هو أخرق أرعن يُلقي الكلام على عواهنه، ولا يحسب لعواقبه، فمثل هذا لا يصلح أن يرجع الناس إليه، ولا أن يوجههم؛ لأن ذلك يودي بهم إلى المهالك.

وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ، وذلك أيضًا لا يتأتى إلا بالعمل أن يكون قدوة في نفسه، فيظهر أثر العلم على سمته وهديه ودله وأخلاقه وأعماله وأحواله كلها، أما إذا كان عنده علم كثير، ولكن الحال بعيدة كل البُعد عن هذا العلم، فمثل ذلك لا يصلح للربانية، ولا يكون قدوة للناس، بل يكون فتنة لهم، العلم كثير، ولكن العمل بعيد عن مقتضى هذا العلم، فهو مفرط ومُضيع لحدود الله -تبارك وتعالى-، ولهذا فُسر الرباني كما قال سعيد بن جُبير: بأنه العالم الذي يعمل بعلمه[4].

وبعضهم يقول: بأن الربانيين فوق الأحبار، فالأحبار هم العلماء، والربانيون هم من جمع بين العلم والبصر بسياسة الناس وتوجيههم وتربيتهم.

بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ، الباء للسببية فهذا يدل على أن التعليم له مقتضيات، كونوا ربانيين، بماذا؟ بسبب ما تعلمون الناس، فالذي يُعم الناس ينبغي أن يكون على حال مرضية، أن يؤدي مقتضيات هذا التعليم، أما أن يُعلم الناس هذا التعليم لا يقتصر على المساجد، الذي يُعلم الناس في المدارس في المعاهد في الجامعات ونحو ذلك، هذا التعليم له متطلبات له مقتضيات ينبغي أن يكون ذلك متحققًا في نفس هذا المعلم بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُون، هذه الدراسة وهذا الطلب وهذا الاشتغال ينبغي أن يكون له أثر ظاهر في نفوس هؤلاء العلماء، أو طلاب العلم أو الذين يُعلمون الناس.

وهكذا أيضًا فإن قوله: وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ، كما قال الضحاك -رحمه الله-: "حق على من تعلم القرآن أن يكون فقيهًا"، ومن هنا نعلم أن المُعلم ليس هو الذي يملأ عقول التلاميذ بالمعلومات ويحشدها بل إنه هو الذي يُربيهم تربية صالحة صحيحة، وقبل ذلك هم يستقون مما يشاهدون من أحواله حيث إنه في مقام القدوة فيتأثرون به، قبل أن يتأثروا بقوله وكلامه، هذا هو الرباني، وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُون، فالتعليم والتعلم هذا كله له مقتضيات، فيجب على صاحبه أن يكون بهذه المثابة، أن يكون ربانيًّا وإلا ضاع سعيه، وخاب عمله، وهذا كما قيل كمن غرس شجرة جميلة حسناء مونقة بمنظرها، ولكن ليس فيها نفع، ليس فيها ثمر، فهذا الذي عنده علم كثير هو مثل الشجرة الجميلة لكن بعيدة كل البعد عن الثمر، لا ينتفع الناس بها.

وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ، لاحظ التعبير بالفعل المضارع بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُون، فهذا يدل على التجدد أن هذا الاشتغال المتكرر منكم يجب أن يكون له أثر، وأن يكون محركًا للنفوس.

وكذلك أيضًا بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ، وكذلك كررها للإيذان باستقلال كل من استمرار التعليم، واستمرار القراءة بالفضل وتحصيل الربانية، فهذه تدعو إليها تعليم الكتاب، وكذلك أيضًا الدراسة تدعو إليها دراسة العلم، وتقديم التعليم بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ، على الدراسة يمكن لكونه أشرف، فهذا الذي يُعلم يكون قد درس العلم قبل ذلك فقدمه باعتبار أنه أكمل الأحوال، أو الصفة الأوفى، أو نحو ذلك، -والله تعالى أعلم-، ويحتمل أن يكون ذلك باعتبار أن الخطاب بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ، هو لمن كان بمرتبة أعلى من هؤلاء، والثاني لمن دونهم، يعني من المتعلمين، يكون للعلماء وللمتعلمين، لكن القول الأول الذي ذكرته آنفًا أقرب، والله تعالى أعلم.

وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُون، هنا أعاد "وبما" هذا يدل على ماذا "وبما كنتم"؟ بما كنتم: بسبب كونكم تعلمون الكتاب، وبما كنتم تدرسون، فكل واحدة لها مقتضيات مستقلة، فطالب العلم يظهر عليه أثر ذلك، والمُعلم يظهر عليه أثر ذلك، وهكذا أيضًا فإن هذه اللفظة وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُون فإنها تدل على التمكن والتحقق، هكذا ينبغي أن يكون طالب العلم أن لا يجاوز مسألة، أو كتابًا حتى يضبطه، ويفهمه فهمًا صحيحًا، ولا يستعجل، ثم بعد ذلك ينتقل إلى غيره، وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُون، فهذا يدل على الفهم والإتقان والضبط، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

  1. أخرجه الترمذي، أبواب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، رقم: (2485)، وابن ماجه، أبواب إقامة الصلوات والسنة فيها، باب ما جاء فيمن أيقظ أهله من الليل، (1334).
  2. أخرجه البخاري، كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ رقم: (7).
  3. انظر: تفسير الطبري (6/544).
  4. تفسير البغوي (2/60).

مواد ذات صلة