الخميس 26 / جمادى الأولى / 1446 - 28 / نوفمبر 2024
(100) قوله تعالى: {فَمَنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ..} الآية - وقوله: {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ...} الآيات 94-95
تاريخ النشر: ١٥ / ربيع الأوّل / ١٤٣٨
التحميل: 437
مرات الإستماع: 985

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فلما أكذب الله -تبارك وتعالى- اليهود في منعهم النسخ، ودعواهم أنه ما حُرم عليهم شيء في التوراة غير ما كان محرمًا عليهم قبل ذلك، فقال الله -تبارك وتعالى-: كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِـلاً لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِين [آل عمران:93]، قال بعد ذلك: فَمَنِ افْتَرَىَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُون [آل عمران:94]، من اختلق الكذب على الله -تبارك وتعالى- بعد هذا البيان واتضاح الحقيقة والحق بصورة لا لبس ولا اشباه معها، فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُون، الذين قد أصروا على الباطل والكذب والافتراء وحادوا عن الحق.

يؤخذ من هذه الآية الكريمة أن قوله: فَمَنِ افْتَرَىَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ، أن الكذب بعد اتضاح البراهين والدلائل والحُجج التي تقطع المعاذير أنه يكون أعظم وأشد، فَمَنِ افْتَرَىَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ، لا يجوز للإنسان أن يفتري على الله الكذب بحال من الأحوال لكن قد يكون لديه بعض اللبس، بعض الشُبهة، فبعد أن تتضح الحقائق وتقوم الدلائل فعند ذلك ليس لأحد أن يتوقف دون الإقرار بالحق والإذعان له والإعلان لاعتناقه، فَمَنِ افْتَرَىَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ، وهذا يُبين خطورة الإصرار على الباطل، وفي هذا أيضًا في ضمنه الحث على اتباع الحق متى ظهر فينقطع الإنسان من قول السوء والباطل والزور واتباعه، وهذا يقتضي أن يكون قائلاً بالحق متبعًا له مُذعنًا إليه، الإنسان إذا لم يكن كذلك يكون قد وضع الاعتقاد والقول والعمل في غير موضعه وهذا غاية الظلم؛ لأن الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، ليس معنى الظلم التصرف في ملك الغير بغير إذنه، هذا تعريف المتكلمين أهل الكلام من الأشاعرة وغيرهم، وهو خلاف قول أهل السنة في معنى الظلم، وهذه قضية يُحتاج إلى معرفتها في التفسير، وفي الاعتقاد، وفي الحكمة الإلهية وما إلى ذلك، فالظلم عند أهل السنة والجماعة هو الذي يُقرره علماء اللغة الكبار من المتقدمين الذين هم على اعتقاد أهل السنة والجماعة.

فالظلم وضع الشيء في غير موضعه، فكل من وضع شيئًا في غير موضعه فقد ظلم، فإذا وضع العبادة في غير من خلق فهو ظالم: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيم [لقمان:13].

وحينما يشهد بغير الحق، ويتكلم بغير الحق، ويُضيف إلى الله -تبارك وتعالى- الكذب والباطل ونحو ذلك فهو ظالم، ولهذا وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا [الأنعام:21]، يعني: لا أحد أظلم منه فهو أظلم الظالمين.

ويؤخذ من هذه الآية الكريمة أن قوله -تبارك وتعالى-: فَمَنِ افْتَرَىَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ [سورة آل عمران:94]، الافتراء هو اختلاق فهذا أعظم الكذب وأشنعه فرية فهو شيء مُختلق من غير التباس، فلا أصل له بحال من الأحوال، والكذب على مراتب هناك الإفك كأنه قلب للحقيقة كما قال الله في قرى قوم لوط: والمؤتفكات، يقولون: الملك رفعها إلى الأعلى ثم قلبها: وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى [النجم:53]، وهكذا إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ [النور:11]، هؤلاء الذين كذبوا على عائشة -رضي الله عنها- واتهموها بما هي نزيهة بريئة منه، فهي الطاهرة الشريفة -رضي الله عنها وأرضاها-، فهؤلاء قلبوا الحقيقة فجاءوا بكذب فج عظيم قلبوا فيه الحقائق، فهذا يُقال له: الإفك، وهكذا الافتراء فهو اختلاق للكذب.

وقال بعده: فَمَنِ افْتَرَىَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ، فلفظة "افترى" تدل على كذب قبيح فج، لكنه قال بعد ذلك: فَمَنِ افْتَرَىَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ، فهذا مما يؤكد ما سبق ويقويه ويكون ذلك آكد وأعظم وأشد في تقبيحه، وكذلك أيضًا في الوعيد المترتب عليه، وفي مثل هذه المقامات: مقامات الوعيد أو مقامات الوعد أو نحو ذلك يحسُن فيها الإيضاح والبيان بمؤكدات، بل والاستطراد في ذلك فإنه يكون من مُحسنات الكلام، كما هو معلوم عند البلاغيين.

والعلماء يذكرون في مثل هذا الألفاظ في هذه الآية: فَمَنِ افْتَرَىَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ، أنه أشار بهذه الإشارة إلى البعيد، وهكذا في قوله: "فأولئك" كأن هذا لبُعد مرتبتهم وبُعد حالهم عن الخير والصدق والبر وما إلى ذلك، والله أعلم.

ثم قال الله -تبارك وتعالى-: قُلْ صَدَقَ اللّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِين [آل عمران:95]، لما احتج عليهم وبين ما هم عليه من الافتراء والكذب؛ لأن قوله: فَمَنِ افْتَرَىَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ [آل عمران:94]، وهكذا في الآية قبلها: قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِين [آل عمران:93]، كل هذا تكذيب لهم وتوهين لما هم عليه، أعني هؤلاء اليهود وهم يدعون أنهم أهل علم، وأنهم على حق، وأنهم على محجة وعلى جادة وما إلى ذلك، وكان العرب المساكين إذا احتاجوا في بعض أحوالهم رجعوا إليهم وسألوهم، ولذلك كانوا يتطفلون عليهم في سؤالات يوجهونها إلى النبي ﷺ، العرب ليس عندهم رصيد علمي في باب النبوات والإلهيات وما إلى ذلك، فكانوا يرجعون إلى هؤلاء اليهود ويطلبون منهم أسئلة يوجهونها إلى النبي ﷺ، يختبرونه فيها ويطلبون عجزه كما حصل ذلك منهم كما هو معلوم في مواضع من كتاب الله -تبارك وتعالى- ذُكر أنها نزلت بسبب هذا، ولا شك أن السياقات تدل على شيء من ذلك بصرف النظر عن صحة الأسانيد في الروايات في أسباب النزول، سواء كان ذلك في كتمان الحق الذي ذكره الله في مواضع أو كان في غيره.

وهنا: قُلْ صَدَقَ اللّهُ، قل لهم: صدق الله فيما أخبر وفيما شرع، فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا، الله -تبارك وتعالى- ذكر هذه الحقائق في هذه السورة بأن إبراهيم ما كان يهوديًّا ولا نصرانيًّا ولكن كان حنيفًا مسلمًا، وهكذا في سورة البقرة حيث ذكر من ذلك شيئًا كثيرًا في وصية إبراهيم : وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ، وهو أبو الإسرائيليين، يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون [البقرة:132]، أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـهَكَ وَإِلَـهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَـهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُون [البقرة:133]، وهكذا أيضًا في هذه السورة، فالدين عند الله -تبارك وتعالى- الإسلام، وإبراهيم لم يكن على اليهودية، وما كان على النصرانية، فقال الله -تبارك وتعالى- بعد هذا البيان: قُلْ صَدَقَ اللّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِين، يا من تدعون الانتساب إليه -عليه الصلاة والسلام- إن كنتم تريدون النجاة وتحبونه حقيقة فعليكم أن تتبعوا ملته حنيفا، فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِين، يعني: أنه كان موحدًا مائلاً عن الأديان وعن الشرك إلى التوحيد.

ومعنى الحنيف أن عامة أهل اللغة والمفسرين يقولون: بأن الحنف هو الميل، فإبراهيم  كان حنيفا يعني مائلاً عن الشرك إلى التوحيد، هذا الذي يذكره عامتهم.

وبعض أهل العلم كابن جرير -رحمه الله- يُقرر غير ذلك، يقول: بمعنى الحنيف هو الذي يكون مستقيمًا، وهذا عنده يقتضي أو يستلزم أن يكون مائلاً عن سائر الأديان، مائلاً عن الباطل، مائلاً عن الإشراك، كونه مستقيم فيلزم من ذلك أن يكون مائلاً عن كل دين يُخالف الإسلام، وأولئك عندهم أن الاستقامة هي من لوازم المعنى، يعني: المعنى عندهم الحنيف هو المائل فيلزم من ذلك أن يكون إذا كان مائلاً عن سائر الأديان أن يكون مستقيمًا على دين الإسلام.

والأحنف بن قيس قيل له: الأحنف؛ لميل كان في قدميه، فكانت تُرقصه وهو صغير تقول:

والله لولا حنف في رجله ما كان في فتيانكم من مثله[1]

الحنف هو الميل، فدل هذا على أنه إطلاق صحيح.

وبعضهم يقول: لا؛ لأن العرب يتفاءلون فيُطلقون على من كانت رجله مائلة مثلاً الحنيف بمعنى المستقيم، كما يُطلقون على اللديغ السليم، ويُطلقون على البيداء المُهلكة الصحراء المُهلكة يُطلقون عليها مفازة كأنه يفوز بقطعها، ويُطلقون على الركب الذين يسافرون ويتعرضون للأخطار لاسيما في القديم يقولون: قافلة، يعني تيمنًا بأنها ترجع سالمة، يسمونها قافلة وإن لم تكن في حال رجوع وإن كانت ذاهبة، فهذا يقوله بعض أهل العلم، والأمر في ذلك يسير؛ لأن المؤدى واحد هو مائل عن الباطل إلى الحق أو أنه على الحق مائل عن الباطل، فعاد الاختلاف إلى معنى متحد، أو إلى نتيجة متحدة، والله تعالى أعلم.

ويؤخذ من هذه الآية: قُلْ صَدَقَ اللّهُ، أن النبي ﷺ مأمور فهو يتبع ما أمره الله به ولا يأتي بشيء من عند نفسه فهو عبد لله -تبارك وتعالى-، قُلْ صَدَقَ اللّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا، يعني: اتبعوا الدين الحق، فهؤلاء الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- كانوا يدعون إلى دين الإسلام بالمعنى العام، كلهم وهو الذي وصى به إبراهيم بنيه، ووصى به يعقوب أيضًا بنيه.

فهذا هو الدين الحنيف الذي تتابع على تقريره الأنبياء، من ثَم فإن المؤمن يتبع ذلك ويلتزمه ولا يحيد عنه بحال من الأحوال: {فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا}، وإبراهيم ما بُعث إليهم مُباشرة، يعني هؤلاء اليهود بُعث إليهم موسى ولكن هم يدعون الانتساب إليه باعتبار أنه أبو الأنبياء وهم من نسله، فهنا الله -تبارك وتعالى- قال: فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ، ولم يقل: فاتبعوا ملة موسى ؛ لأنهم هنا يدعون أن شريعتهم وأن دينهم هو اليهودية، والله -تبارك وتعالى- يأمرهم باتباع إبراهيم ؛ لأنه كان قبل مجيء بني إسرائيل؛ ولأنه أبو الأنبياء، وكل الأنبياء الذين جاءوا من بعده كانوا من نسله فهو بهذه المثابة خليل الرحمن ، والله -تبارك وتعالى- يقول لنبيه محمد ﷺ وهو أفضل الأنبياء: ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا [سورة النحل:123]، فالأنبياء من بعده مأمورون باتباع ملته وهي الحنيفية، وكان العرب في الجاهلية يدعون أنهم على ملة إبراهيم وكانوا على بقايا من دين إبراهيم -عليه السلام-، ولكنهم غيروا وبدلوا كما هو معلوم في التاريخ، فعمرو بن لُحي بن قمية الخُزاعي هو أول من غير دين إبراهيم وجاء بالأصنام إلى جزيرة العرب، وهو أول من سيب السائبة، وحمى الحامي، ولذلك قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: رأيت عمرو بن لُحي يجر قُصبه في النار[2]، يعني: يجر أمعاءه في النار؛ لأنه أول من غير دين إبراهيم .

ويؤخذ من هذه الآية: قُلْ صَدَقَ اللّهُ، هذا فيه إشارة إلى كذب هؤلاء اليهود فالله -تبارك وتعالى- صادق فيما أخبر، إذن فما ينسبه هؤلاء إلى الله وإلى أنبياءه وإلى الكتب المُنزلة أنهم يكذبون في ذلك ولا يوثق بخبرهم، وذلك أن صدق الخبرين المتنافيين أمر ممتنع، فالله يُخبر أن إبراهيم لم يكن يهوديًّا ولا نصرانيًّا، وهم يقولون: بأنه كان يهوديًّا والنصارى يقولون كان نصرانيًّا ونحو ذلك من الأكاذيب، وهكذا صدق الله في كل شيء قُلْ صَدَقَ اللّهُ، والرجل الذي ذكر للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أن أخاه يشتكي بطنه، فقال: اسقه عسلاً، فسقاه فقال: ما زاد إلا استطلاقًا، فقال: اسقه عسلاً، ثلاثًا، ثم الرجل يقول: ما زاد إلا استطلاقًا، فقال النبي ﷺ: صدق الله، وكذب بطن أخيك[3]، يعني: صدق الله في قوله: يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ [النحل:69].

فهذا خبر من الله صدق، لكنه قد يكون بعض الناس لا يوافقه فيكون شاذًا خارجًا عن هذا الحكم، وإلا فالأصل أنه شفاء كما أخبر الله -تبارك وتعالى- لا يُشك في ذلك، وهكذا في كل من شكك في أخبار الله، أو أحكامه الكونية، أو أحكامه الشرعية فإنه يُقال له: صدق الله.

قال هنا: فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا، "الفاء" هنا للتفريع يعني هي تدل على ترتيب ما بعدها على ما قبلها، صَدَقَ اللّهُ، بما أن الله صدق في خبره فالواجب عليكم هو اتباع ملة إبراهيم؛ لأنها هي الدين الذي ارتضاه الله -تبارك وتعالى- لعباده، فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ، وكما قال الله : وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ [لقمان:15]، ولما ذكر الأنبياء في سورة الأنعام قال: وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ [الأنعام:84]، قيل من ذريته: أي إبراهيم .

وقيل: المقصود نوح : وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ [الأنعام:84]، لما ذكر الله خبر إبراهيم وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِين [الأنعام:74]، ثم ذكر قصته في المناظرة المعروفة، قال بعد ذلك: وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ [الأنعام:84]، إلى أن قال: أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام:90]، ولذلك في سجدة ص هي سجدة نبي فالنبي ﷺ لما سجدها داود شكرًا سجدها النبي ﷺ اقتداء به؛ لأنه مما أُمر بالاقتداء به، ولهذا أخذ بعض أهل العلم وجوب إعفاء اللحية من القرآن، الأدلة من السنة معروفة ومشهورة بالأمر بإعفاء اللحى، لكن من القرآن قالوا: بأن هارون قال لأخيه موسى لما عبد بنو إسرائيل العجل ورجع إليهم موسى غاضبًا فأخذ بلحية هارون وبرأسه فكان هارون يقول: لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي [طه:94]، قالوا: كانت له لحية، ولحيته كثة ما كان يجذها حتى لا يمكن أن يُقبض عليها، فدل ذلك على أن هذا من سُنن الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-، والله قال في سورة الأنعام لما ذكر الأنبياء ذكر موسى وهارون من جملة هؤلاء الأنبياء قال: أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام:90]، ومن هداهم إعفاء اللحية، الإعفاء يعني الترك بحيث لا تُحلق، ولا أيضًا يتعرض لها بالتشذيب بحيث إنها لا يمكن أن يستتم منها قبضة، وهذا استطراد.

قال: فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ، فالأمر جاء باتباع ملة، هذا قد يُفهم منه أن التعلق لا يكون بالأشخاص وإنما يكون التعلق بالدين، والمبدأ، والمنهج، والملة، ونحو ذلك، ولهذا قال الله في وقعة أحد في هذه السورة -سورة آل عمران- كما سيأتي قال: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ [آل عمران:144]، فهذا حينما يكون التعلق بشخص إذا وجد كما فعل المرتدون من العرب لما مات النبي ﷺ رجع كثير منهم إلى دين آباءهم؛ فهذا قصور في الفهم.

قال: وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِين، فهذا فيه رد على اليهود؛ لأنهم وقعوا في الإشراك، ورد على النصارى أيضًا يعني تصريح بأنه ليس منهم، وكذلك أيضًا أهل الإشراك من العرب فكانوا يدعون أنهم على ملة إبراهيم ، فقال: وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِين، ونفي الكون الماضي قد يُفهم منه أنه لم يكن في وقت من الأوقات قط، ولهذا في المناظرة التي ذكرها الله في سورة الأنعام: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَـذَا رَبِّي [الأنعام:76]، الراجح أنه قال ذلك مُناظرًا لا ناظرًا، يعني: قاله على سبيل التنزل في المناظرة، ولم يقله مُقررًا له ومعتقدًا في أول حاله وأمره كما يقوله بعضهم، فإن الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- لم يكونوا على دين قومهم قط، وإنما كانوا على الفطرة، وهم خيار أهل الأرض في زمانهم فاصطفاهم الله واجتباهم للنبوة وللوحي.

وذكرنا الكلام على قصة شعيب أيضًا : أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا [إبراهيم:13]، ونحو ذلك.

وذكرنا أن العود يُقال لمعنيين متقابلين: الرجوع إلى الشيء السابق كما تقول عاد فلان إلى بلده أو إلى داره أو نحو ذلك، ويُقال العود لمطلق الصيرورة كما تقول مثلاً: عاد الطين خزفًا، وعاد الماء ثلجًا ولم يكن كذلك، وعاد الصبي شيخًا، ولم يكن شيخًا قبل ذلك، يعني: كبير السن.

فهنا: وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِين، فيه تنزيه له عن الإشراك في جميع أطواره وأحواله في ماضيه، وما كان عليه في عمره كله، هذا ما يتعلق بهاتين الآيتين الكريمتين، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وسلم.

  1. انظر: لسان العرب (9/57).
  2. أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلاَ سَائِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ} [المائدة:103]، برقم (4623)، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء، برقم (2856).
  3. أخرجه البخاري، كتاب الطب، باب الدواء بالعسل، برقم (5684)، ومسلم، كتاب الوصية، باب السلام، برقم (2217).

مواد ذات صلة