الخميس 26 / جمادى الأولى / 1446 - 28 / نوفمبر 2024
(101) قوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ...} الآية 96
تاريخ النشر: ١٦ / ربيع الأوّل / ١٤٣٨
التحميل: 515
مرات الإستماع: 1092

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فلما أمر الله -تبارك وتعالى- باتباع ملة إبراهيم فقال: قُلْ صَدَقَ اللّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِين [آل عمران:95]، قال بعد ذلك: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِين [آل عمران:96]، فلما أمر باتباع ملة إبراهيم ذكر القبلة التي بناها إبراهيم ، فهؤلاء اليهود الذين يزعمون أنهم ينتسبون إلى إبراهيم  أكذبهم الله -تبارك وتعالى-، وطالبهم باتباع ملته حنيفا، وما كان من المشركين، ثم أيضًا هؤلاء اليهود كانوا قد اعترضوا على تحويل القبلة وهم السفهاء المذكورون في قوله تعالى: سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا [البقرة:142]، قالوا ذلك على سبيل الاعتراض على تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، فالكعبة هي قبلة الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-، وهي أول بيت وضع للناس: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ} [آل عمران:96]، أول بيت وضع لعبادة الله -تبارك وتعالى-، والجمهور على أن ذلك على سبيل الإطلاق والعموم، يعني: هو أول بيت للعبادة وضع في الأرض هو الكعبة، وقد جاء عن بعض السلف كعلي [1] أن ذلك بقيد يعني أنه بهذا الوصف: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِين [آل عمران:96]، يعني: البيت أول بيت كان بهذه الصفة فهو مبارك وهدى للعالمين هو بيت الله الحرام، باعتبار أنه كان للأنبياء قبل إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- كنوح وهود، وكذلك أيضًا صالح -عليهم الصلاة والسلام- وشعيب، وقبل ذلك آدم ، ومن تناسل من ذريته كانوا على التوحيد عشرة قرون، ثم وقع الشرك في قوم نوح، فبعض أهل العلم يقولون: كانت لهم أماكن للعبادة بيوت في الأرض وضعت للعبادة، وأن الأولية هنا مقيدة بالبركة والهدى، لكن الذي عليه عامة أهل العلم أنه أول بيت مُطلقًا، وقد سُئل النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- كما في حديث أبي ذر عن أول مسجد فذكر المسجد الحرام، مسجد الكعبة.

فقوله -تبارك وتعالى-: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ، للناس لكل الناس فهو قبلتهم جميعًا، فاليهود غيروا هذه القبلة وحولوها، يُقال: إنهم كانوا يستقبلون التابوت في مغازيهم وأسفارهم وتنقلهم وأنهم كانوا إذا قروا ببيت المقدس وضعوه على الصخرة، فكانوا يستقبلونها فكانت قبلة مبتدعة، وأما قبلة الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- فهي الكعبة، وقد ذكر النبي ﷺ جمعًا من الأنبياء حجوا إلى بيت الله الحرام، وذكر مسجد الخيف، وأنه قد صلى فيه سبعون نبيًّا -عليهم الصلاة والسلام-[2].

إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ، فينبغي أن يتوجه إليه بالصلاة، وأن يُقصد بالنُسك بالحج إن كانوا حقًا على دين إبراهيم ، لَلَّذِي بِبَكَّةَ، جاء بالاسم الموصول: لَلَّذِي بِبَكَّةَ، وجاء بهذا الاسم الذي هو أقل شهرة من الاسم الآخر وهو مكة.

بعض أهل العلم يقول: "عبر هنا بالموصول لَلَّذِي بِبَكَّةَ، لأنه ما قال مثلاً: الكعبة"، إن أول بيت وضع للناس الكعبة، وإنما قال: لَلَّذِي بِبَكَّةَ، لأنه بعض أهل العلم يقول: وجد كعبات مزعومة بُنيت للعبادات وديانات محرفة وباطلة، قالوا مثل: الكعبة التي بناها القُليس، يُقال لها: الكعبة سماها الكعبة فقد يتوجه الذهن أو يدعي مُدعي أن كعبته هي المقصودة، فقال: لَلَّذِي بِبَكَّةَ، وبكة اسم من أسماء مكة كما قال الحافظ ابن كثير[3] وغيره، وقيل لها: بكة باعتبار ما يحدث فيها من البك والتباك وهو التضاغط والازدحام في الطواف ونحو ذلك، فهذه اللفظة البك تدل على مغالبة ومُزاحمة، لَلَّذِي بِبَكَّةَ.

وبعضهم يقول: لأنها تبُك أعناق الجبابرة، كما فعل الله -تبارك وتعالى- بأصحاب الفيل، وأنه لا يقصدها أحد منهم إلا بكته.

وبعضهم يقول: هذا باعتبار أنهم يخضعون عندها، يعني: الجبابرة.

وبعضهم يقول: هي لغة في مكة فحصل الإبدال في الحروف الباء والميم مكة وبكة، وأن العرب تعاور بينهما، تناوب بين هذين الحرفين، كما يقولون: لازم ولازب والمعنى واحد، فقالوا: مكة وبكة هي شيء واحد وهما لغتان.

وبعض أهل العلم يُفرق بينهما، بعضهم يقول: بكة هي موضع الكعبة، موضع البيت، ومكة الحرم.

وبعضهم يقول: بكة هي بطن مكة، وبعضهم يقول غير ذلك في وجوه الفرق بينهما لكن لا يثبت من ذلك شيء، وليس ذلك محل اتفاق، لَلَّذِي بِبَكَّةَ، يعني: مكة.

مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِين، "مُبارك" يعني كثير الخيرات والبركات، وإبراهيم دعا لمكة قال: اجْعَلْ هَـَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِير [البقرة:126]، فهو كثير الخيرات والبركات، وقال النبي ﷺ: تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير[4]، يعني: نار الحداد، خبث الحديد.

مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِين، ففيه من الهداية للناس جميعًا والصلاح وما إلى ذلك ما لا يُقادر قدره، هدى للعالمين.

ويؤخذ من هذه الآية الكريمة من الهدايات والفوائد: أن قوله -تبارك وتعالى-: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ، فهذا يدل على عظمة هذا البيت، فهو الأول لم يُسبق ببيت قبله للعبادة، وكذلك ما ذُكر فيه من البركات والهدى والآيات البينات إلى غير ذلك كما سيأتي، ففيه من مصالح الخلق الدنيوية والدينية الشيء الكثير، حتى قال الله -تبارك وتعالى- عنه: قِيَامًا لِلنَّاسِ [المائدة:97]، يعني: به تقوم أديانهم، وبه تقوم أيضًا حياتهم، ولذلك فإن هذه الدنيا لا تزال ما دام هذا البيت يُقصد بالحج والعمرة، فإذا انقطع ذلك فهذا مؤذن بخراب الدنيا واضمحلالها وزوالها، وغير ذلك.

فهذا بيت الله -تبارك وتعالى- الأول، وهو الذي إذا أُضيف إليه على سبيل الإطلاق توجه إليه بيت الله، فهي إضافة تشريف.

وقوله: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ، يدل على أن الأقدمية هنا معتبرة وأنها زيادة في التشريف، فالقِدم والأقدمية ولذلك سماه الله العتيق ووصفه بذلك، فالعتيق قيل: القديم وهذا هو الأقرب والأرجح.

وبعضهم يقول: عتيق أي أنه مُعتق من الجبابرة فلا يتسلطون عليه.

والقِدم يكون سببًا لزيادة الشرف، وهذا يكون في مثل هذا البيت أعني بيت الله الحرام، وكذلك يكون في بعض الأمور القِدم، ولهذا يُقال في المساجد بأن الأقدم أفضل المسجد القديم أفضل في الصلاة من المسجد الحديث، المسجد الذي تتابع الناس جيلاً عن جيل يصلون فيه الصلاة فيه أفضل من غيره.

إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ، وهنا هذه الجملة كأنها تعليل لما قبلها من قوله: فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا [آل عمران:95]، إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ [آل عمران: 96]، فهذا الذي بناه إبراهيم فعليكم أن تستقبلوه وأن تقصدوه بحجكم وعمرتكم، وفيه أن إبراهيم هو الذي تولى بناءه بنفسه: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ [البقرة:127]، فمن شرف هذا البيت أن الذي بناه هو خليل الرحمن، ولا تسأل عن مثله في إخلاصه وصدقه ونُصحه وما إلى ذلك، فهذا لا شك أنه أنقى ما يكون في الأعمال، والبناء، والمساجد، ونحو ذلك؛ لأن هذه تتفاضل بأمور منها: النيات والمقاصد والإخلاص، وشرف من بناها، والأموال التي بُنيت فيها من حيث الحِل والبُعد عن الشبهة أو الحرام، وما إلى ذلك، فهنا قال: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ، وجاء هنا بـ"إنّ" التي تُشعر بالتعليل، وهي تدل على التوكيد، لكن من أهل العلم من يقول: أنها هنا تدل على الاهتمام باعتبار أن هذه قضية يُفترض أن تكون مُسلمة ليست محل نزاع أن أول بيت وضع للناس هو بيت الله الحرام.

وأيضًا في قوله -تبارك وتعالى-: لَلَّذِي بِبَكَّةَ، فهذا باعتبار أنه لا يوجد في مكة يومئذ بيت للعبادة سوى المسجد الحرام، بخلاف كما ذكرنا من قبل حيث إن الكعبة أُطلقت على غيره مثل القُليس الذي بناه ملك الحبشة وأمر الناس بقصده وحجه، وما إلى ذلك؛ ليكون بديلاً عن بيت الله الحرام.

ويؤخذ من هذه الآية الكريمة: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِين، أن ذلك لا يختص بقوم دون قوم، لا يختص بالعرب مثلاً، وإنما لو عرف الناس مصالحهم لعلموا أن هذا البيت هو موضع البركة، والهدى، والخيرات، وما إلى ذلك، ولهذا جعل الله له هذه الخصائص الكثيرة التي ستأتي في الآية بعدها جملة منها.

فهو أول بيت وضع للعبادة وهو عتيق، ومُبارك، وهدى للعالمين، فيه آيات بينات، ومن دخله كان آمنا، وقال: وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [آل عمران:97]، أوجب قصده للنُسك، وهو حرم وحرام ومُحرم: وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيم [الحج:25]، يعني: لمجرد الهم والإرادة، إضافة إلى أنه قيام للناس، ومثل هذه المعاني حينما تكون حاضرة في قلب قاصده من الحجيج أو من المعتمرين من قصده للحج أو العمرة وهو يستحضر هذه المعاني هذا أول بيت، وهذا أشرف بيت، وأعظم بيت، وأبرك بيت، ومكان الهدى وما إلى ذلك فإنه يأتي بقلب خاشع مُخبت، لا يمكن أن يهم فيه بمعصية وظلم وإلحاد، ولا يمكن أن يتخذ ذلك الموضع لأذى الناس والسرقة أو أذى الناس في أعراضهم، والتسكع في الطرقات، والأسواق، والساحات؛ للنظر إلى الرائحات الغاديات، أو أن تلك المرأة تتبذل وتتبرج وتُبدي زينتها ومفاتنها بين جموع الرجال وتُزاحمهم، فلو عرف الناس مثل هذا.

وحفظ حرمة هذا البيت من جهة العناية به ونظافته ونقاءه وأمنه وما أشبه ذلك فكل هذه المعاني وغيرها مما يقوم في قلب الإنسان إذا كان قد أحضر ذلك في قلبه ابتداء، أنه لم يذهب إلى مكان عادي إلى مكان كغيره من الأماكن، أماكن نُزه أو نحو ذلك، والعجيب أنه في مكان لا يوجد فيه أي مظهر من مظاهر النُزهة والرفاهية بوادي غير ذي زرع، حتى قال بعض أهل العلم: بأن من حكمة الله أنه بقي إلى هذه الساعة عبر هذه الدهور هكذا بهذا الوادي الأجرد الذي لا مُتنزه فيه، وليس فيه ما يجذب النفوس من الأشجار والنبات والزروع والأنهار السارحة مما يقصده الناس ويتمتعون بالنظر إليه، لا يوجد شيء من هذا، فتتجرد المقاصد والنيات من أجل العبادة والتقرب إلى الله -تبارك وتعالى-، لو كان في مكان آخر من الأماكن الجميلة الأماكن الفاتنة كما يُقال في خُضرتها وجمالها لقصده كثير من الناس يتنزهون ويتفرجون ويتمتعون بتلك المشاهد والمناظر والمياه وما إلى ذلك، أما الكعبة لا يوجد فيها شيء أو مكة لا يوجد فيها شيء من ذلك.

فبقاؤه هذه المدة الطويلة وقصد هؤلاء الخلائق تهفو أفئدتهم وأمنيتهم أنهم يرونه ويصلون إليه، فكثير منهم إذا وصل لم يتمالك حتى يخر ساجدًا كما تُشاهدون، ولا يتمالكون من البكاء ولربما كان الإنسان يجمع العمر كله من أجل أن يجد نفقة حتى يصل إليه، فهو يتشبث بذلك ويترقبه متى يتيسر له، هذا لا يوجد لأي مكان في العالم، لا يوجد، مكان الناس يعدون العُدة ويجمعون الدرهم على الدرهم، وأمنيتهم أنهم يصلون إليه، وكل شيء يُذكرهم بهؤلاء الأنبياء الكبار -عليهم الصلاة والسلام-، هذا إنما هو بإجابة دعوة إبراهيم : فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ [إبراهيم:37].

فهذه الأفئدة تتوجه وتكون متعلقة بهذا الموضع من الأرض، ولذلك ذكر ابن القيم -رحمه الله- في أول كتابه "زاد المعاد" كلامًا جيدًا يحسُن مراجعته في هذا، ذكر من خصائص مكة أن من قدم إليها ثم رجع فإنه لا يزال يهفو قلبه من جديد للرجوع ثانية[5]، وهكذا، لكن الناس حينما يذهبون إلى أماكن بلاد جميلة أو نحو ذلك يذهبون إليها لربما مرة ثم يسأمون يملون، لو ذهبوا ثانية ثالثة فإنهم بعد ذلك يبتأسون ولا يجدون لتلك المشاهد جاذبية كما حينما رأوها أول مرة، فهذا لا شك أنه آية من آيات الله ، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

  1. تفسير ابن كثير ت سلامة (2/78).
  2. أخرجه الفاكهي في أخبار مكة (3/390)، برقم (2313).
  3. تفسير ابن كثير ت سلامة (2/77).
  4. أخرجه الترمذي، أبواب الحج عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، باب ما جاء في ثواب الحج والعمرة، برقم (810)، والنسائي، كتاب مناسك الحج، فضل المتابعة بين الحج والعمرة، برقم (2630)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (2901).
  5. زاد المعاد في هدي خير العباد (1/52).

مواد ذات صلة