الخميس 26 / جمادى الأولى / 1446 - 28 / نوفمبر 2024
(109) قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ...} الآية 102
تاريخ النشر: ٢٥ / ربيع الأوّل / ١٤٣٨
التحميل: 532
مرات الإستماع: 1217

الحمد لله، والصلاة، والسلام على رسول الله، أما بعد:

لما حذر الله -تبارك وتعالى- عباده المؤمنين من طاعة أهل الكتاب، وجه الخطاب إليهم ثانية بهذا الوصف المُحبب إلى نفوسهم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون [آل عمران:102]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أقروا، وأذعنت قلوبهم، وانقادت، ونطقت ألسنتم بالإيمان، وعملت بذلك جوارحهم، اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ اجعلوا بينكم، وبين عذاب الله وقاية، بفعل ما أمر، واجتناب ما نهى، بالعمل بطاعته وشرعه، واجتناب مساخطه، اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ -وكما سيأتي- أن حق تقاته أن يُطاع فلا يُعصى، وأن يُشكر فلا يُكفر، وأن يُذكر فلا يُنسى، وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون أن تلزموا دين الله -تبارك وتعالى- إلى الممات، فلا تتخلوا عنه بحال من الأحوال.

يؤخذ من هذه الآية الكريمة من الهدايات تكرير الخطاب بهذا الاسم، أو الوصف بالإيمان يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ [آل عمران:100]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وهذا فيه تشريف، وفيه التلطف بهم، وفيه ذكر ما يستدعي الإجابة، فإن مُقتضى الإيمان -كما سبق- هو أن يستجيب المؤمن لربه -تبارك وتعالى- وينقاد، فإن إيمانه يحمله على ذلك، ثم أيضًا تصدير هذه الآية الكريمة بالنداء يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ يُشعر بالعناية بما يُذكر بعده مما يتصل بالتقوى اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ والموت على الإسلام الذي يعني العيش عليه.

كذلك في قوله -تبارك وتعالى-: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ فهذا مُشعر بأن الإيمان يقتضي التقوى، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ فخاطبهم بوصف الإيمان؛ ليأمرهم بتقواه، كذلك أيضًا اتَّقُواْ اللّهَ هذا أمر، والأمر للوجوب، فدل ذلك على أن تقوى الله -تبارك وتعالى- واجبة، وهذا لا شك فيه، والأمر بالتقوى كثير في القرآن، وهي كلمة جامعة، تجمع فعل المأمورات، واجتناب المنهيات، وترك المشتبهات، وفعل المستحبات، هذه حقيقة التقوى؛ ولهذا قالوا: أن لا يجدك حيث نهاك، وأن لا يفقدك حيث أمرك، والناس يتفاوتون في ذلك، ولكن القدر الواجب من التقوى هو تحقيق الإيمان الواجب الذي يدخل في ضمنه فعل الواجبات، وترك المحرمات، هذا القدر هو الواجب في التقوى، وما زاد على ذلك من فعل المستحبات، وترك المكروهات هذه لأهل الدرجات العُلى يتفاوت الناس فيها.

فأهل الإسلام على ثلاث درجات كما قال الله -تبارك وتعالى-: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ فهذا الذي ينتهك حدود الله، يترك بعض الواجبات، يفعل بعض المحرمات، وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ هو الذي يفعل الواجبات، ويترك المحرمات، يقتصر على هذا، وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ [فاطر:32]، فهؤلاء هم الذين يفعلون الواجبات والمستحبات، ويتركون المحرمات والمشتبهات، وهم في ذلك أيضًا يتفاوتون لكثرة شرائع الإيمان.

ثم أيضًا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ كما قال الحسن، وعكرمة، وقتادة، ومقاتل، وقبلهم قاله ابن مسعود : "تفسيرًا لحق تقاته أن يُطاع فلا يُعصى، وأن يُشكر فلا يُكفر، وأن يُذكر فلا يُنسى"[1]، هكذا فسره هؤلاء السلف -رضي الله عنهم، وأرضاهم-، حَقَّ تُقَاتِهِ.

ويؤخذ من هذا اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ أن يأخذ الإنسان الدين أخذًا صحيحًا، يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ [مريم:12]، وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَار [ص:45]، أولي الأيدي يعني القوة، القوة في ماذا؟ القوة في العمل، والعلم، والدعوة، والصبر، وما إلى ذلك، القوة في حمل الدين وتبليغه للعالمين، خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ [البقرة:93]، يعني: أخذًا قويًّا صحيحًا جادًا من غير تذوق، ولا تخير، ولا تشهٍ، ولا تفريق بين شرائع، يعني: لا يقول الإنسان المؤمن الذي اتقى الله حق تقاته: أنا أريد هذه فأعمل بها، وهذه لا تُناسبني فأتركها، لا، ليس كذلك، وإنما يتلقى عن الله وعن رسوله ﷺ تلقيًا صحيحًا، فيعمل بطاعة الله من غير تخير، ولا تشهي، ولا تذوق، وإنما حاله: سمعنا وأطعنا، ولا يخلو من تقصير، غفرانك يستغفر مما قد يقع منه من ذهول، وتقصير، وتفريط مما لا يخلو منه أحد.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون هذا يعني أن الإنسان يجب عليه أن يبقى على الإسلام، وأن يموت عليه، وذلك بالتمسك به في حال الحياة، في حال الدنيا، في حال الصحة والسلامة، وما إلى ذلك حتى يوافي، فعندئذ يُرجى أن يُختم له بخير، فإن الإنسان يموت على ما عاش عليه غالبًا، والله -تبارك وتعالى- لطيف بعباده رحيم بهم، فمن عاش على شيء رُجي أن يموت عليه.

فقوله -تبارك وتعالى-: وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون فالموت غيب، والخاتمة غيب، لا يدري الإنسان بما يُختم له، وعلى أي شيء يموت، ومتى يُدركه الموت، فمن أراد أن يكون على حال مرضية عند الوفاة، فعليه أن يلزم الحق من حينه؛ لأنه لا يدري متى يوافي، وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون فيكون مستعدًا مجتهدًا بطاعة ربه، ومليكه -جل جلاله وتقدست أسماؤه-.

ثم أيضًا هنا قد يرد سؤال ذكرته في بعض المناسبات، وهو أن الإنسان لا يملك خاتمته، فكيف نُهي عن شيء لا يدخل تحت قدرته؟ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون لا يملك الإنسان الخاتمة.

وذكرت لكم قاعدة بهذا المعنى، وهي أن خطاب الشارع إذا توجه إلى المُكلف في أمر لا يدخل تحت قدرته؛ لأن الله لا يُكلف نفسًا إلا وسعها، فإن الأمر يتوجه إما إلى السبب، أو إلى الأثر.

وذكرنا أمثلة لذلك، قلنا: يتوجه إلى السبب، مثل هذا يتوجه إلى سببه؛ لأن الإنسان لا يملك الخاتمة، قال: لا تمت إلا مسلمًا، طيب هل هو يستطيع أن يُحدد خاتمته؟ لا، فيتوجه الخطاب هنا إلى السبب، بأن يكون على الإسلام، وأن يتمسك به، وأن يعمل بطاعة ربه -تبارك وتعالى- ليكون موته على الإسلام؛ ليُختم له بخير، فهذا مثال لما توجه فيه الخطاب إلى السبب.

وأما توجه الخطاب إلى الأثر فذكرت لكم بعض أمثلته، قلنا: كإقامة الحد على الزاني -كما في قوله في سورة النور- فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [النور:2]، والرأفة رحمة رقيقة قد تتسلل إلى قلب الإنسان، فيرحم هذا الذي يُقام عليه الحد من غير إرادة، فماذا يصنع، يأثم؟

الجواب: لا، فهنا النهي عن الرأفة لما كانت الرأفة غير مقدورة للمُكلف تقع في قلبه من غير إرادة، توجه الخطاب إلى الأثر، ما هو أثر الرأفة؟ إلغاء الحد، أو تقليل الحد بدلاً من مائة يُجلد خمسين، أو تخفيف الحد، يُضرب تحلة قسم، رأفة به وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ [النور:2].

وكذلك أيضًا في النصوص الأخرى مثل: وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ [الحجر:88]، الحزن يقع في القلب من غير إرادة، فيكون متوجهًا إلى السبب، وهو بمدافعة ما يوقع المؤمن في الحزن، ولربما إلى الأثر بحيث إن ذلك لا يورثه يأسًا، أو قنوطًا، أو قعودًا عما أمره الله به، لكن توجهه هنا إلى السبب أوضح.

والعلماء يذكرون في هذا أشياء، في شروط التوبة المعروفة، الندم، قد يريد الإنسان الندم ولا يستطيع، عامل معصية، نال من امرأة يعشقها في غاية الجمال، فإذا تذكرها يلتذ، فهنا يُقال: يجب الندم، ويحاول الندم، ولا يستطيع، فماذا يفعل؟ نقول: يتذكر ما يوجب له الندم أنه عصى الله، وأن الله يراه، وأن ذلك قد كُتب عليه، وأنه سيُعرض عليه، وسيُحاسب عليه، وسيقف بين يدي الله -تبارك وتعالى- فإذا أيقن بذلك؛ ندم، لو قيل لهذا الإنسان هذه المرأة التي واقعتها هي مصابة بالمرض الفلاني، الخطير، فإنها تتحول لذته إلى ألم، هذا الطعام الذي أكلته قد وضع فيه السُم، وليس لك، كيف أكلته؟ كيف يتحول لذة هذا الطعام إلى نار تُحرق جوفه، أليس كذلك؟ بمجرد ما يسمع هذا الخبر، تتلاشى عنه كل الأوهام، واللذات في لحظة.

وقل مثل ذلك في معصية الله والندم على ذلك، فهنا توجه الخطاب وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون إلى السبب، حافظوا على الإسلام في حال سلامتكم، وفي حال دنياكم لتموتوا عليه، فإن الكريم كما قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله-: "قد أجرى عادته بكرمه أن من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بُعث عليه"[2]، ولذلك إذا رأينا أحدًا من الناس يموت على خير يموت على الإسلام يموت بعيدًا عن الفتنة، يموت غير مفتون، فمثل هذا لا نحزن عليه كثيرًا نقول: الحمد لله أنه مات على الإسلام والإيمان والسنة غير مفتون، لكن المشكلة والبلية العظمى حينما يموت الإنسان وهو مفتون، يموت وهو على ضلالة، يموت وهو على باطل على زيغ، فهذا الذي لا ينفع معه طب، لا يحزن الإنسان كيف مات على مثل هذا، أو يموت على معصية، أو يموت على تفريط وتسيب، ونحو ذلك.

إنسان عابث بسيارته ونحو ذلك فانقلبت به أو صدم غيره أو صُدم أو نحو ذلك فمات؛ حياة انقضت بعبث مثل هذا مشكلة، وكذلك أيضًا حينما يكون موت الإنسان في منكر يتعاطاه، ومقيم على باطل ومنكر مات بسببه، فهذا يحزن الإنسان على مثله، كيف وقع له ذلك؟ وكيف كانت خاتمته وموته بسبب هذا؟

فيحذر المؤمن من التفريط، وإذا أراد أن يواقع معصية، أو ينظر إلى معصية، أو غير ذلك يتذكر أنه قد يُقبض عليها، ومن مات على شيء بُعث عليه، يموت على المعصية.

لعلكم ترون وتسمعون كثيرًا في بعض الصور التي تُعرض ونحو ذلك في رمضان بعد صلاة العصر يُعثر على شابين قد سقط رأس أحدهما -أعزكم الله- في المرحاض في حمام المسجد، والإبر في أيديهما المخدرات، في نهار رمضان بعد العصر، والخاتمة أين رأسه، هذه صور نُشرت، رأسه -أعزكم الله- في المرحاض، حياة تنقضي، وشباب يضيع بهذه الطريقة، هذه النهاية، أو يؤتى به ويُلقى عند باب أهله من قُرناء السوء، وقد تعاطى هذه السموم، فأدى تعاطيها إلى موته، فيلقونه على عتبة الباب وينصرفون، ثم أهله بعد ذلك يتحيرون ماذا يقولون للناس، صُدم، مات فجأة بسكتة، أم ماذا؟ فضيحة، نسأل الله العافية.

فأقول: يتذكر المؤمن دائمًا إذا أراد أن يُقدم على معصية أراد أن يُقدم على محرم أنه قد يموت في نفس اللحظة، يلحقه من الخزي والفضيحة ما يلحقه، الله ينظر وهو أعظم، والملك يكتب ويُشاهد لكن الناس من ذويه وأهله يأتون ويرونه في هذه الحال، يشاهد صور محرمة، يتواصل مع ما حرم الله -تبارك وتعالى- امرأة تعرض جسدها أمام أعين الذئاب، إلى غير ذلك، فيأتي ملك الموت، فيقبضه، وهو على هذه الحال -نسأل الله العافية- وأن يُحسن لنا، ولكم الختام.

ويُكثر المؤمن دائمًا يا مُقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك، ليموت على الإيمان والسُنة، ليموت على الحق وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون نهي عن الموت على حالة في الدين إلا على حالة الإسلام، يعني لا تُفارق الإسلام بحال من الأحوال، ومت عليه إلى آخر لحظة، إلى آخر رمق، فإن الفتن تُعرض -كما في الحديث- على القلوب كعرض الحصير عودًا عودًا، فأيما قلب أُشربها نُكت فيه نُكتة سوداء، وأيما قلب أنكرها -ردها، ورفضها- نُكت فيه نُكتة بيضاء، حتى تصير القلوب على قلبين: أسود مرباد كالكوز مجخيًا، لا يعرف معروفًا، ولا يُنكر منكرًا، إلا ما أُشرب من هواه هذا يُخشى أن يموت على هذا، مختم على قلبه، وأبيض كالصفا لا تضره فتنة، لاحظ ما دامت السماوات والأرض[3].

هذا طريق يُبين لنا كيف يثبت الإنسان؟ أن يرفض ما يُعرض له من الفتن، ما هي هذه الفتن؟ الشبهات والشهوات، تُعرض له صورة، يُعرض له مقطع، يُعرض له فُرصة لمواقعة فاحشة، يُعرض له صفقة مالية محرمة، كل هذه أشياء محرمات فيُنظر يُقِدم عليها، أو ما يُقِدم عليها، يأخذها، أو ما يأخذها، فإذا كان يرفض كل هذه الأمور المحرمة التي تُعرض على قلبه، فإنه بعد ذلك يكون قلبه كالصفاة لا تضره فتنة، هذه مهمة غاية الأهمية في الثبات على الإيمان والحق، وإلا فإن الإنسان إذا كان يُغرر بنفسه ويُعرضها للفتن فإن من عرض نفسه للفتنة أولاً لم ينجو منها آخرًا، في البداية هو يُجرب، لكنه في النهاية قد يتحول إلى -أعزكم الله- مروج، أو غير ذلك من العبارات الصعبة التي أُنزه أسماعكم عنها، يعني يكون داعية إلى الفساد والشر، سواء الفواحش أو غير الفواحش، هي هكذا، وما هؤلاء الذين وصلوا إلى تلك الأحوال المتقدمة في المنكر ما كانوا يتوقعون بحال من الأحوال أنهم يصيرون إليه منذ أول وهلة، منذ أول محاولة، منذ أول تغرير، منذ أول تجربة مع الزملاء والرفقاء والأصحاب، وما إلى ذلك، لكنها كانت خطوة تبعتها خطوات حتى صار بهم الحال إلى أن يتحول الإنسان إلى مارد من المردة، نسأل الله العافية.

وقوله: وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون هذه جملة اسمية؛ فهي أبلغ وأثبت، وكذلك يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون "وأنتم مسلمون" فلو قال مثلاً، ولا تموتن إلا وقد أسلمتم، أو نحو ذلك، ليس فيه من المعنى ما وجد هاهنا في هذا التعبير، ثم أيضًا تكرير الضمير -ضمير الخطاب- وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم جاء مع الجملة الاسمية كذلك توجيه الخطاب مباشرة إليهم وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون أمر خطير يترتب عليه المستقبل الكبير، المستقبل الحقيقي، هذه الحياة ليست بشيء، بحلوها ومرها، ولذاتها وأفراحها وأحزانها، وذهابها ومجيئها.

في البارحة كنت أتفكر وأتأمل في هذه الحياة التي نجري خلفها دائمًا، لكن أقرب مثال أقول -سبحان الله-: لو عُرض للإنسان هذه الحياة التي يعيشها ستين سنة، أو سبعين سنة، أو ثمانين، أو تسعين، لو سُجلت منذ أن ولد إلى أن مات، سُجلت، ثم سُرع هذا التصوير، يمكن تُتخصر بعشر دقائق، يدخل ويخرج، لكن وين يدخل ويخرج! بعض الناس يدخل ويخرج المسجد، يتكرر كثيرًا ذهابًا، ترون بعض الصور المُسرعة حين يعرضون مدينة من المُدن مثلاً الرياض، أو غيرها بعض القنوات كذا مقاطع، وفواصل تجد السيارة تُسرع، والشمس تغرب، وكذا، هذه صورة حقيقية مُسرعة من شروق الشمس إلى غروبها لحظات بثواني، قد تُختصر حياة الإنسان لو صُورت.

ورأينا بعض المواسم، بعض الغابات في الثلوج التي تكون في أوقات الإمحال، كيف تتساقط الأوراق وتصفر وتذبل، ثم الثلوج، ثم تكون سوداء، ثم بعد ذلك تبدء الثلوج تنزاح، ثم تجري الأنهار، ثم تخضر، هي صور حقيقية لسنة كاملة شتاء، وصيفًا، صورت بلحظات سُرعت فيها، صورة حقيقية، وأظن أني عرضت في الكلام على الأمثال في القرآن مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [يونس:24]، عرضت شيئًا من هذا، فأقول حياة الإنسان هي هكذا لو سُرعت.

البعض لربما يتردد إلى أماكن المنكر، لربما ترى من البعض تصرفات، وخصومات يتضارب مع هذا، ويضرب هذا، ويشتم هذا، ويقف عند هذا، ويتخاصم معه إلى آخره، ويُطارد هذا، ويُطارده هذا، حياته كلها كر وفر بالإجرام والمنكر والعبث، والآخر في اللهو والغفلة: نُزه، وذهاب، ومجيء، وفي البر، والبحر، والنهر، والمروج، والمنتجعات، وغير ذلك الحياة كلها هذه السبعين سنة، أو الثمانين سنة يتردد على هذه الأماكن، ثم ماذا؟ ثم بعد ذلك في ملحودة جوانبها غُبر.

قبل يومين صورة رأيتها -صورة مقبرة- أتأمل أقول: سبحان الله، أهل الدنيا ماذا يتخيرون؟ أبو شارعين، ولا أبو ثلاث شوارع، أو بُلك قبر لحاله ما عنده قبور، كلها جنب بعض سواء، هذه هي البيوت، هذه المساكن التي صاروا إليها، وما بعد ذلك في الآخرة يكون الجزاء والحساب.

الحقيقية أيها الأحبة! إن هذه الحياة التي تغُر الكثيرين، إنما هي مجرد ابتلاء واختبار فقط لا غير، وعندها بعد ذلك لما يموت الإنسان، ويوافي بأي لحظة يُقال له ارحل، شاب أو شيخ كبير، ارحل بمرض أو بغير مرض، بحادث أو بغير حادث، إذا جاء الأجل ارحل، الحادث ليس له علاقة بالموت، الأجل لا يتقدم ولا يتأخر، هذه مجرد أسباب، والمرض كذلك، وهكذا، عندها يعلم ماذا كان تحت قدمه، هل كان على فرس أو حمار؟! والله المستعان، ويعلم أن هذا الجري من أجل الدنيا، وتضييع الآخرة، وتضييع أمر الله، وتضييع الصلوات، وتضييع حقوق الله، وحقوق العباد، أن ذلك لم يكن سوى غفلة عارمة، بحياة عابثة، انتهت، وانقضت كأنها أحلام، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله، وصحبه.

  1. انظر: تفسير ابن عطية، (1/483).
  2. انظر: تفسير ابن كثير، (2/87).
  3. أخرجه مسلم، كتاب الأيمان، باب بيان أن الإسلام بدأ، غريبا وسيعود غريبا، وأنه يأرز بين المسجدين، برقم (144).

مواد ذات صلة