الخميس 26 / جمادى الأولى / 1446 - 28 / نوفمبر 2024
(112) تتمة قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا...} الآية 103
تاريخ النشر: ٢٨ / ربيع الأوّل / ١٤٣٨
التحميل: 414
مرات الإستماع: 1237

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ما زال الحديث متصلاً في الكلام على قوله -تبارك وتعالى-: وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُون [آل عمران:103] وقد تحدثنا عن صدر هذه الآية، وهو قوله -تبارك وتعالى-: وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ.

قال الله -تبارك وتعالى-: وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ اذكروها بقلوبكم باستحضار هذه النعمة، واذكروها أيضًا بألسنتكم، فإن ذكر النِعم من شكرها، وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّث [الضحى:11] وهكذا في قوله -تبارك وتعالى-: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا [الأحزاب:9] فهذا تذكير بالنِعم، فإن المؤمن يذكر إنعام الله -تبارك وتعالى- عليه، فيزيده ذلك شكرًا وإخباتًا وإقبالاً على الله -جل جلاله، وتقدست أسماؤه-، بخلاف غيره الذي ينسى نعمة الله عليه، ويغفل عنها، ويكون في حال من التضييع والتفريط، بل قد يستعمل ذلك في معصية ربه وخالقه وملكيه .

وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ فهذه النعمة مُضافة "نعمة الله" فهذه الإضافة تُفيد العموم، واذكروا نِعم الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم؛ لأن هذا إنما يحصل بجملة من الأمور: ائتلاف القلوب، وزوال العداوات، وحصول الأخوة الإيمانية، فهذا كله من الله -تبارك وتعالى-، وهكذا أيضًا في إنقاذنا من النار وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا وهذه النعمة بالهداية إلى الإسلام التي حصل بها ذلك جميعًا هي أعظم النِعم، فكل نعمة ناشئة ومتفرعة عنها، كما لا يخفى.

وهذا التعبير: كُنتُمْ أَعْدَاء يدل على تأصل هذه العداوة، ومعلوم في التاريخ أن هذه الحروب التي كانت بينهم ربما دارت رحاها أربعين سنة، فالأوس والخزرج كان بينهم حروب طاحنة، في سنين طويلة، حتى أتت على كبرائهم وسادتهم، واستأصلتهم، ولما هاجر النبي ﷺ إلى المدينة لم يبق من سادتهم إلا القليل، والكثير قد ذهبوا، أذهبتهم تلك الحروب.

فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ ويُلاحظ هنا أنه لم يقل: فألف بينكم؛ لأن الائتلاف الحقيقي هو ائتلاف القلوب، وليس ائتلاف الأجسام، فقد تجتمع الأجسام في مكان واحد، وعلى طاولة مستديرة، كما يُقال، ولكن القلوب متنافرة متعادية، فيخرجون من ذلك المكان وكل واحد يُزور في نفسه ما يضر به الآخر، ويوصل إليه المكروه والشر، ويتربص به الدوائر، فالائتلاف إنما هو ائتلاف القلوب، فالقلب عليه المدار، وهو ملك الجوارح، فإذا حصل ذلك في القلوب انقادت الأجساد تبعًا لها، وحصل التآلف بين الناس، والله -تبارك وتعالى- يقول عن المنافقين، أو عن اليهود، أو عن اليهود والمنافقين، أقوال في التفسير: تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى [الحشر:14] يعني: فيما يبدو أنهم يجتمعون ويلتئمون في حرب المسلمين، ولكن قلوبهم متنافرة متناحرة، بينهم من العداوة ما الله به عليم.

وهكذا في قوله -تبارك وتعالى-: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ [آل عمران:102] إلى قوله: فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا [آل عمران:103] فهذا ركيزة الإيمان والتقوى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ [آل عمران:102] فهي الطريق إلى كل خير وصلاح في العاجل والآجل، فبها يحصل النجاة من النار، الحفرة التي كان الناس على شفا جرف منها، وكذلك يحصل به التئام القلوب، واجتماع النفوس والأرواح والأجسام تبعًا لذلك، إذا حصلت هذه حصل الإيمان والتقوى لله -تبارك وتعالى-، فهذه ركائز وأصول يتحقق بها مصالح الدنيا والآخرة، ويتفرع عنها كل خير، فبذلك تتحقق الأخوة الإيمانية، هذه الرابطة التي تكون حتى بين الملائكة والمؤمنين، كما قال الله : وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا [غافر:7] يعني: حملة العرش يستغفرون لأهل الإيمان، فالذي جمع بينهم وبين المؤمنين إنما هو الإيمان بالله -تبارك وتعالى-، فرابطة الإيمان أقوى من رابطة القبيلة والنسب والدم، وما إلى ذلك؛ ولهذا نقرأ في القرآن: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَب [المسد:1] وهو عم النبي ﷺ، وبلال الحبشي أقرب منه إلى أهل الإيمان، وهكذا سلمان الفارسي، فالرابطة الحقيقية هي رابطة الإيمان.

وقوله -تبارك وتعالى-: وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ [آل عمران:103] هذا يُمثل ويصور حالهم بقوم كانوا على طرف أو على شفا جُرف هار، سيتهافتون في النار، وليس بينهم وبين السقوط فيها إلا اليسير، يعني: أن يموتوا فيدخلوا النار، فمثلهم بقوم كانوا على طرف، وتحتهم هذه الحفرة من النار، ويكادون أن يقعوا فيها، لكن الله -تبارك وتعالى- أنقذهم، وامتن عليهم بذلك.

وهكذا أيضًا فإن ما بين الإنسان ودخول النار ورؤية العذاب، ونحو ذلك إلا أن يموت، فإن الكفار يصلهم في البرزخ من عذاب الله -تبارك وتعالى- ما قد عُلم، النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا [غافر:46] فهذا في البرزخ، أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا [نوح:25] فالفاء تدل على التعقيب المباشر.

وهكذا النعيم ما بين الإنسان وبين النعيم إلا أن يموت، فإنه إذا كان على خير وهدى وصلاح فإنه يُنعم في قبره، كما هو معلوم، وهذا التصوير: إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ وهذا التذكير وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا من أجل أن يتذكروا شناعة ما كانوا فيه، ويعرفوا قدر ما صاروا إليه، فيتمسكوا بهذا الدين، وهذا الإيمان، ويتوجهوا إلى ربهم -تبارك وتعالى- شاكرين إنعامه وإفضاله عليهم، ويتمسكوا برابطتهم الإيمانية، وبوحدتهم، ولا يحصل منهم تفرق وانقسام واختلاف، فالله -تبارك وتعالى- قد أنقذهم من ذلك، وانتشلهم من هذه الوهدة.

وقوله -تبارك وتعالى-: كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُون "كذلك" يعني: كذلك البيان يُبين الله لكم آياته، كذلك التبيين الظاهر الواضح، والإشارة في قوله: كَذَلِكَ للبعيد، فهذا مُشعر بعلو هذه المرتبة المُشار إليها، وبُعدها في الفضل، كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ فهذه الإشارة إليها بهذه الصيغة جعلها كأنها مُشاهدة، كأن هذا البيان شيء يُشاهده الإنسان بعينيه.

وجاءت هذه الكاف أيضًا تفيد تأكيد ما أفاده اسم الإشارة "ذلك" من الفخامة.

وأيضًا أخبر الله -تبارك وتعالى- أنه يُبين لهم آياته هذا البيان، إذًا لم يبق لأحد أن يستدرك على الله بدعوى أن القرآن يحتاج إلى تتميم وتكميل، أو أن الوحي يحتاج إلى زيادة، أو نحو ذلك من بدع ومحدثات يخترعها الناس، ويتقربون إلى الله بها، من غير أن يشرعها ربنا -تبارك وتعالى-، والنبي ﷺ يقول: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد[1] يعني: مردود عليه، ويقول الله تعالى: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ [الشورى:21] فبيّن الله -تبارك وتعالى- هنا غاية البيان، وهذا فيه رد أيضًا على طائفة المفوضة، لا سيما الذين قال منهم: بأن معاني صفات الله لا يعرف المراد منها، لا الرسول ﷺ، ولا غيره، كيف يكون أدق ما في القرآن وأجل ما في القرآن وهو أوصاف المعبود -تبارك وتعالى- بهذا الإلغاز والإبهام، بحيث لا يفهمه أحد؟! كأن الله خاطبنا بما لا نعقل ولا نفهم، والله يقول: كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ كذلك البيان الواضح الظاهر، يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ.

وكذلك فإن قوله -تبارك وتعالى-: لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُون فيه إثبات التعليل، فالله -تبارك وتعالى- عليم حكيم، ولا يُشرع إلا لحكمة، ولا يُقدر إلا لحكمة، فأفعاله -تبارك وتعالى- مبنية على الحكمة، وأقداره مبنية على الحكمة، ولو لم يعقل العباد ذلك.

فالله -تبارك وتعالى- بين هذا البيان من أجل أن يحصل الاهتداء، يعني: لم يُبق ذلك مُلتبسًا، فلا يُفهم، أو يُفهم على غير مراد الله -تبارك وتعالى-، وهذا يدل أيضًا على عِظم رحمة الله بعباده، أن بيّن لهم هذا البيان الواضح، من أجل أن يحصل لهم الاهتداء التام لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُون.

أسأل الله -تبارك وتعالى- أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

  1. أخرجه مسلم في كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة، ورد محدثات الأمور برقم (1718).

مواد ذات صلة