الأربعاء 25 / جمادى الأولى / 1446 - 27 / نوفمبر 2024
(135) قوله تعالى: {إِذْ هَمَّت طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلَا...} الآية 122
تاريخ النشر: ٢٨ / ربيع الآخر / ١٤٣٨
التحميل: 479
مرات الإستماع: 1000

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فيقول الله -تبارك وتعالى- في هذا السياق الذي يتحدث عن غزوة أحد: إِذْ هَمَّت طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُون [آل عمران:122]، هذه ثاني الآيات التي تتحدث عن هذه الغزوة.

إِذْ هَمَّت طَّائِفَتَانِ، واذكر إذ همت طائفتان مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ، يعني: أن ذلك كان مما وقع في نفوسهم، وهؤلاء هم بنوا سلِمة، وبنوا حارثة من الأنصار -رضي الله عنهم وأرضاهم- ولم يكونوا من المنافقين بدليل أن الله -تبارك وتعالى- قال: وَاللّهُ وَلِيُّهُمَا، فذلك يعني أنه الناصر، فإن من معنى الولاية النصر والتأييد، ومن جهتهم أيضًا فإنهم يتولون الله -تبارك وتعالى-، وهذا لا يكون من حال المنافقين، فعصمهم الله -تبارك وتعالى- وحفظهم، فسلموا مما وقع فيه أهل النفاق، وذلك كما هو معلوم أن عبد الله بن أُبي قد رجع بثلث الجيش، وقالوا ما قالوا: لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لَاتَّبَعْنَاكُمْ [آل عمران:167]، تذرعوا بمثل هذه الحُجج الواهية وتفوهوا بتلك العبارات التي تُنبأ عن ضعف في اليقين والإيمان، وانعدام للإيمان بالقدر: لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا [آل عمران:168]، لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا [آل عمران:156]، عبارات لا يقولها من كان يؤمن بأن الله -تبارك وتعالى- قد قدر مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، فلا الحذر يُنجي من المقدور، ولا الإقدام يوقع في غير المقدور.

وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُون، يعتصموا به، ويلجئوا إليه، ويفوضوا أمورهم إليه، واثقين بكلاءته وحفظه وتأييده ونصره -جل جلاله وتقدست أسماؤه-.

يؤخذ من هذه الآية الكريمة من الهدايات: إِذْ هَمَّت طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ، "طائفتان منكم" الظاهر -والله أعلم- أن المقصود بقوله: "منكم" يعني من أهل الإيمان، يكون ذلك من جملة ما يشهد لهاتين الطائفتين بالإيمان، فذلك وإن كان فيما قد يتبادر -أعني هذا الهم الذي وقع قد يتبادر- أنه من قبيل الأمور المذمومة إلا أنه جاء في مضامينه الشهادة لهاتين الطائفتين بالإيمان، وولاية الله -تبارك وتعالى-، وهذا يدل على كمال رحمته وكمال لطفه، إذا كان هؤلاء الذين وقع عندهم مثل هذا الهم الله يقول: وَاللّهُ وَلِيُّهُمَا، فكيف بأهل الثبات العظيم من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار -رضي الله عنهم وأرضاهم-!.

فالله ولي المؤمنين، ويكون لهم من ولايته -تبارك وتعالى- بقدر إيمانهم؛ لأن الحكم المعلق على وصف يزيد بزيادته وينقص بنقصانه، فبقدر الإيمان يكون للعبد من ولاية الله ، وإذا نقص إيمانه كان ذلك نقصًا في ولايته.

وهكذا أيضًا: إِذْ هَمَّت طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ، هذا يدل على أن ترك الحق والعمل بطاعة الله والسعي في مرضاته ونشر دينه وجهاد أعداءه أن التخلي عن ذلك فشل، فالفشل يعني أن يصير إلى حال لا يُحقق فيها رشدًا، ولا نفعًا لنفسه، ولا لغيره، فيُقال: فلان فاشل، هذه طائفة فاشلة، بمعنى أنها لا يتحقق على يدها مطلوب ولا نفع ولا دفع، فدل ذلك على أن ترك العمل بطاعة الله، والسعي في نشر دينه، والذب عنه أن ذلك من الفشل، وإن تبادر لبعضهم أن ذلك لربما من العقل المعيشي وأنه يُحرز دنياه، وأنه في ظنه ووهمه يحقن دمه، مع أن الآجال: لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ [آل عمران:154].

والله -تبارك وتعالى- ضرب لنا الأمثال في هذا القرآن في سورة البقرة: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ [البقرة:243]، فالحذر لا يُنجي من القدر، وعلى العبد أن يسعى جاهدًا في طاعة ربه ومليكه وهو يوقن قوله -تبارك وتعالى-: قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا [سورة التوبة:51]، فعبر بقوله: إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا، ولم يقل: ما كتب علينا، فكل ما يقع للمؤمن فهو له، فإن كانت سراء شكر فكان خيرًا له، إن كانت ضراء صبر فكان خيرًا، ولهذا شيخ الإسلام -رحمه الله -كان يقول: "ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، إن رحت فهي معي لا تفارقني، إن حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة"[1]، مثل هذا يتحير فيه عدوه، وكان يقول -رحمه الله-: "أنا مثل الغنمة كيفما تقلب على صوف"[2]، فهو في عبوديات: عبودية السراء، وعبودية الضراء.

ويؤخذ من هذه الآية الكريمة أيضًا أن العِصمة بيد الله فهو الذي يُثبت عبده على الحق ويعصمه من الزيغ، أو الفشل وأسبابه، إِذْ هَمَّت طَّائِفَتَانِ، هؤلاء أصحاب النبي ﷺ ومع ذلك يقع مثل هذا الوارد في نفوسهم، فكان العاصم من ذلك هو الله: وَاللّهُ وَلِيُّهُمَا، وبهذا يحذر الإنسان دائمًا ويخاف على نفسه من أسباب الهلكة والردى والانحراف والتفريط، إلى غير ذلك مما مجموعه يوصم بالفشل، فلا حول للإنسان ولا قوة، إذا كان يوسف الصديق  يقول: وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ [يوسف:33]، ففتن الشهوات، وفتن الشبهات خطافة، فلا يستطيع الإنسان أن يزعم لنفسه أنه يحمل من المؤهلات والقُدر والإمكانات العقلية والعلمية والتربوية ما يستدفع به ذلك جميعًا ثم هو يُعرض نفسه لهذه المخاطر، فينظر في الشُبه، ويُسرح طرفه في الصور الفاتنة، ثم بعد ذلك يطلب السلامة! وإنما الإنسان كما صور بعض السلف الحال براكب في البحر يقول: اللهم سلم، اللهم سلم، يطلب النجاة مع كل حركة وتسكينة، مع كل نفس؛ لأن المحفوظ من حفظه الله ، ولا ثبات إلا لمن ثبته الله، ولهذا نقول في كل ركعه: اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيم [الفاتحة:6]، العبد بحاجة ماسة إلى مثل هذا فلا تُعرض إيمانك وقلبك للآفات ثم بعد ذلك تطلب العافية، كالذي يُعرض نفسه للتلف والمرض ونحو ذلك ثم بعد ذلك يطلب السلامة.

وهكذا أيضًا في التخلص من الذنوب والمعاصي ونحو ذلك، إنما يكون ذلك باللجأ إلى الله والاعتصام به، والثقة بربه -تبارك وتعالى-، يكون العبد دائم الصلة بالله، يكون قريبًا منه، كثير المناجاة، كثير التوكل، عظيم اليقين؛ من أجل أن يُحفظ ويسلم.

وكذلك أيضًا يؤخذ من هذه الآية الكريمة: إِذْ هَمَّت طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ، هنا لم يُسميهما كما هي عادة القرآن، وذلك سترًا على هؤلاء ثم إن القرآن في منهجه العام هو يتحدث عن حقائق دون الاشتغال بمن وقع له ذلك بعينه باسمه، فيكون بذلك صالحًا لكل زمان ومكان، انظر إلى العدو التقليدي للمسلمين منذ أن بعث الله رسوله ﷺ ثلاث عشرة سنة في مكة إلى فتح مكة السنة الثامنة، فهذه مدة طويلة تزيد على العشرين سنة بقليل، ومع ذلك لا تجد حديثًا عن زيد وعمرو من قريش، أو عن قريش نفسها على سبيل الذم باسمها فهؤلاء تحولت الأحوال وتغيرت وصاروا من الذابين عن دين الله المدافعين عنه، إنما يتحدث عن الحقائق، وهذا هو المنهج الأدق والأحسن والأوفق في الحديث عن القضايا التي يطرقها الخطيب أو المُحاضر أو المُربي، أو نحو ذلك.

وفي قوله -تبارك وتعالى-: إِذْ هَمَّت طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ، فهذا التوارد ابن أُبيّ رجع من بعض الطريق لم يصل إلى أرض المعركة، وأظهر الاعتراض والتسخط أن النبي ﷺ أطاع هؤلاء ولم يُطعه حيث كان رأيه البقاء في المدينة، أن لا يخرج إلى أحد، وأن يُقاتلهم في المدينة فكان يُظهر أنه ساخط على هذا القرار، ولكن عبر عن هذا السخط بالرجوع بثلث الجيش خذلان ليس بعده خذلان، والعدو يُهاجم بلده، لو كان فيه نخوة، والمنافق ليس فيه نخوة أبدًا، لو كان فيه مجرد نخوة لثبت وبقي، لكن الذي أوقعه أصلاً في النفاق هو أنه ضعيف جبان يتلون، هو مع من غلب، ولذلك لا تنتظر منه مروءة وثباتًا وشجاعة؛ لأن ذلك ليس من مظانه وهو ليس بموضع لهذه الأوصاف.

إِذْ هَمَّت طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ، فلمثل هذا الرجوع أثر في النفوس، يفت في الأعضاد، فوقع مثل هذا الهم، ثلث الجيش يرجع! فهذا لا شك أنه يؤثر، ولكن ينبغي للمؤمن دائمًا ألا يلتفت إلى مثل ذلك، وإنما كما قال الله -تبارك وتعالى- في خبر أولئك الذين قالوا: لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:246]، كان التساقط متتابعًا، لما كُتب عليهم القتال تساقط طائفة، وقالوا: رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ [النساء:77].

ثم بعد ذلك لما قال لهم: بأنه قد بعث طالوت ملكا اعترضوا، ليس من بيت ملك ولم يؤتَ سعة من المال.

ثم بعد ذلك لما ابتلوا بالنهر شرب منهم أكثرهم فلم يصبروا، وبقي قلة، فلما برزوا لجالوت وجنوده: قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ [البقرة:249]، هؤلاء الصفوة، قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ [البقرة:249] يعني يستيقنون أنهم ملاقوا الله كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ.

إذن أولئك الذين تساقطوا لا خير فيهم، وكما قال الله : لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً [التوبة:47]، فلا تأس عليهم، غير مأسوف عليهم؛ لأنهم معول هدم وتخذيل، فتساقط مثل هؤلاء هذا تمحيص وتنقية للصف، فلا يؤسف على من تولى وأعرض سواء كان منتسبًا للعلم أو كان منتسبًا للدعوة، أو غير ذلك، فيبقى الذين ثبتوا هم الفئة النقية الصافية التي تستحق النصر بعد ما يتميز هؤلاء الذين اختلطوا في وقت العافية.

ويؤخذ من قوله -تبارك وتعالى-: وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُون، وجوب التوكل على الله ، وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ، فهذه صيغة أمر صريحة دخول اللام على الفعل المضارع، وصيغة الأمر إما: افعل، أو لتفعل، هذه الصيغ الصريحة صيغتان، فهنا: فَلْيَتَوَكَّلِ، فالتوكل من الواجبات، وتقديم الجار والمجرور: وَعَلَى اللّهِ، يُفيد الحصر، ولهذا فهم منه بعض أهل العلم أن التوكل على الله وحده واجب، وأنه لا يجوز التوكل على غيره، ولو كان ذلك في أمر يقدر عليه هذا المخلوق، هذا قول لبعض أهل العلم وليس محل اتفاق، يعني: إذا كان المخلوق يقدر على هذا هل لك أن تقول: أنا متوكل عليك في هذا الأمر؟ في هذه المعاملة أنا متوكل عليك؟ أو أن التوكل يختص بالله فلا يتوكل على غيره؟ أخذوا من هذه الصيغ الدالة على الحصر في التوكل: وَعَلَى اللّهِ، يعني: لا على غيره، ولم يُقيد ذلك في الأمور التي لم يقدر عليها إلا الله، وإنما أطلقه ففهم منه بعض أهل العلم الإطلاق أن التوكل لا يكون إلا على الله ولو كان ذلك الأمر مما يكون مقدورًا للمخلوق، وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ، فيجعل الإنسان وجهته في التوكل واحدة، لا يعتمد على المخلوق، ولا يركن قلبه إليه، لكن قالوا: لا بأس أن يقول: أنا موكلك في كذا يعني في المعاملة الفلانية، أو في بيع أو شراء، باب الوكالة في الفقه معروف، لكن هل له أن يقول: أنا متوكل عليك؟ هذا الذي قال بعض أهل العلم بأنه لا يُقال وليس محل اتفاق، فإن من أهل العلم من فرق وقال: إذا كان ذلك في أمر يقدر عليه المخلوق فلا بأس، بخلاف ما لا يقدر عليه إلا الله فلا شك أن هذا شرك، والشيخ محمد بن إبراهيم -رحمه الله- له فتوى مشهورة في هذا ويرى أنه لا يصح استعمال مثل هذا اللفظ ولو كان في أمر يقدر عليه المخلوق.

فهنا أيضًا: وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُون، قرنه بالإيمان فدل على أن التوكل من الإيمان ومن مقتضياته ولوازمه وأنه لا يصح الإيمان بحال من الأحوال مع انعدام التوكل بالكلية، وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُون، فالمؤمن يكون توكله على الله وحده دون سواه، ومن ثَم فإنه لا يقيس الأمور في المعايير والمقاييس المادية كما سيأتي في الآية بعدها في قوله: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ [آل عمران:123].

والإنسان حين يقع به شدة ونحو ذلك فإنه إذا توكل على الله واعتصم به مع ثقته بربه ويقينه بقدرته -تبارك وتعالى- على دفع ذلك عنه أو رفعه فإن ذلك لا شك من أعظم العبوديات: وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [سورة الطلاق:3]، يعني: كافيه، فجاء بالنتيجة المطلوبة مباشرة: فَهُوَ حَسْبُهُ، ومن كان حسبه الله فلا خوف عليه، ثم إن اقترانه بالإيمان هنا: وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُون، يدل على أنه بحسب إيمان العبد يكون توكله.

هذا ما يتعلق بهذه الآية الكريمة، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. الوابل الصيب من الكلم الطيب (ص:48).
  2. انظر: شرح العقيدة الأصفهانية (ص:12).

مواد ذات صلة