الخميس 26 / جمادى الأولى / 1446 - 28 / نوفمبر 2024
(144) قوله تعالى: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ...} الآية 34
تاريخ النشر: ٠٩ / جمادى الأولى / ١٤٣٨
التحميل: 404
مرات الإستماع: 873

الشيخ/ خالد بن عثمان السبت

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

لما ذكر الله -تبارك وتعالى- المتقين الذين أُعدت لهم الجنّة، فقال: وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِين [آل عمران:133] شرع في بيان أوصاف المتقين، فقد يسأل سائل من هم المتقون، حتى نتحلى بأوصافهم؟! فقال الله -تبارك وتعالى- في أول هذه الأوصاف: الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين [آل عمران:134] فلم يذكر ربنا -تبارك وتعالى- في أول أوصافهم الصلاة مثلاً، وهي الركن بعد الشهادتين، ولم يذكر اتقاء الفواحش، الذي ذُكر بعد ذلك، وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً [آل عمران:135] ولكن ابتدئ هنا بالإنفاق الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء فيمكن أن يكون ذلك -والله تعالى أعلم- باعتبار أنه ذكر قبل ذلك النهي عن أكل الربا، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون [آل عمران:130] وقلنا: الفلاح هو تحصيل المطلوب، والنجاة من المرهوب، فالمطلوب هو الجنة، والمغفرة يحصل بها دفع المكروه، من العقاب والعذاب والمؤاخذة وما أشبه ذلك، والربا هو أخذ لأموال الناس بغير حق، واستغلال لحاجتهم، وهنا ذكر ما يُقابل ذلك، وهو الذي يُنفق من غير أن يُرجي عائدة من هؤلاء الناس؛ ولذلك في سورة البقرة في آيات الإنفاق قال الله -تبارك وتعالى-: الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ [البقرة:274] ثم جاء بعده: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ [البقرة:275] وهكذا الآيات بعده، كقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين [البقرة:278] كل هذا بعد آيات الإنفاق، فالذين ينفقون ابتغاء مرضات الله -تبارك وتعالى- هم على الضد تمامًا من المرابين، فهذا المُرابي هذا الذي يستغل حاجة الناس وفقرهم لا يمكن أن يتصور منه أن يبذل المال هكذا، هو لا يعطيهم قرضًا حسنًا يردونه، فكيف يهب المال لهم ابتغاء ما عند الله ، فإن الخوف من الله لم يمنعه من أكل أموالهم بالباطل من أخذ الربا الذي جاء فيه الوعيد الشديد، والإعلام بالحرب من الله ورسوله، فذكر هؤلاء، وذكر ما يُقابلهم، أضداد أكلة الربا، فهذا وجه.

ووجه آخر: وهو أنه يمكن أن يُقال: باعتبار أن الإنفاق في السراء والضراء أدل على التقوى، وأشق على النفوس، وأنفع على البشر من سائر الصفات والأعمال، يعني: لما ذكر الجنة التي عرضها السماوات والأرض أُعدت للمتقين، ما هو البرهان على هذه التقوى؟ الإنفاق في السراء والضراء، دعوى الإيمان قد يدعيها كل أحد، وقد يعمل أعمالاً من العبادات التي لا تُكلفه مالاً، ولكن المال شقيق الروح؛ ولهذا كانت الصدقة بُرهان، بُرهان على ماذا؟ على صدق دعوى الإيمان، فهذا الذي يُنفق ماله في السراء والضراء لا شك أنه متحقق بالتقوى، وإلا لم يبذل المال، وهو عزيز على نفسه، فهذا وجه الارتباط بين الآية والتي قبلها.

وقوله -تبارك وتعالى- هنا: الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء يعني: يُنفقون أموالهم في حال اليُسر والعُسر، وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ [آل عمران:134] الذين يحبسون الغضب فيكظمونه بالصبر عن إنفاذه، وهم قادرون، وكذلك أيضًا زادوا على هذه الصفة -وهي كظم الغيظ- بالعفو عن الناس، والتجاوز عن إساءتهم، بل زادوا على ذلك، أن رغبهم بالإحسان، وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:134] وسيأتي الكلام على هذا -إن شاء الله تعالى-، وما دل عليه هذا الموضع.

فقوله -تبارك وتعالى-: الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء عبّر بالفعل المضارع (يُنفقون) فهو ما أنفق مرة واحدة، ويذكرها لكل من ذكره بالإنفاق، ويقول: أنا في قديم الدهر، في سنة كذا وكذا، تبرعت بكذا، وأعطيت كذا، وعمرت كذا من المساجد، ونحو ذلك، فهذا يدل على التجدد والاستمرار، فهذه صفة دائمة مستمرة، فلا يكفي أن يقول الإنسان: تصدقت، وإنما تحتاج إلى أن تُكرر هذه الصدقات والإحسان والبذل.

وذكر هذه الصفة أولاً، باعتبار أن المال عزيز على النفوس، الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء يُبرهنون على تقواهم، وعلى إيمانهم، فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ السراء يعني في حال السَعة والجِدة والغنى، والضراء في حال الفقر والشدة، قد يقول قائل: ذكر الضراء لأن الإنفاق في الضراء يكون له وقع، ويدل على رسوخ في الإيمان، لكن لماذا ذكر الإنفاق في السراء؟! يُقال: هذا يدل على أنهم ينفقون في كل الحالات، والأمر الآخر: قد يكون الإنسان في حال الغِنى في حال غفلة وغمرة وسكرة، لا يشعر بالفقراء والمحتاجين، بل قد يظن أن كل الناس أغنياء، ويكون منغمسًا في لذاته وشهواته ومنهمكًا في جمع المال، كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى ۝ أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى [العلق:6-7] فقد يكون هذا الطغيان سببًا لنسيانه المحتاجين، والإنفاق في وجوه البر، والإنفاق في حال الشدة والفقر قد يقول الإنسان: أنا أحوج إلى هذا المال، وقد يكون العكس فيمتنع الإنسان في حال السراء؛ لأنه في سكرة، وفي غفلة، وإذا أصابته الضراء والبؤس أحس بغيره، فلانت عريكته، وانكسرت نفسه، فقد يُنفق في مثل هذه الحالات، فالناس يتفاوتون؛ ولهذا من الناس من تُستخرج عبوديته بالضراء، ومن الناس من تُستخرج عبوديته في السراء؛ ولهذا يُقلب الله العباد في هذا وهذا؛ ولهذا جاء الصوم مثلاً بالشتاء والصيف والربيع والخريف، في مختلف الفصول، وهكذا ما يقع الناس من حر وبرد، إلى آخره، كل هذا يُقلبهم الله  في هذه الابتلاءات، وفي الصحة والمرض، والخوف والأمن، فبعض الناس في حال العافية عبد صالح، وإذا جاءت الشدة ساءت ظنونه بالله ، وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ يعني: على طرف، فهو بين بين، فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ [الحج:11] فهذا يُقال له: عبد العافية، وعبد السراء، يعني: هو عبد إذا أُعطي، ولكنه إذا مُنع، أو حُرم تحول إلى حال أخرى من النكوص، وسوء الظن بالله، والاعتراض على أقداره؛ ولماذا أنا أكون بهذه الحال؟

وقد ذكرت نماذج من سوء الظن بالله ، مما ذكره ابن الجوزي -رحمه الله- وغيره، في أمثلة مشينة، وذكرت هذا في شرح كتاب التوحيد، وذكرته في مناسبات بعد ذلك في الأعمال القلبية في الكلام على الصبر والرضا والشكر.

فهنا هؤلاء يُلازمون الإنفاق دائمًا في كل الأحوال، وهذا أيضًا يدل على أن من أنفق في السراء والضراء أنه من المتقين، {الَّذِينَ يُنفِقُونَ} فهذا أول صفات المتقين، هل أنت تنفق في السراء والضراء أو لا؟! ومن كان يُنفق في حال الضراء، ففي حال السراء من باب أولى، لكن الذي يُنفق في حال الضراء هذا يدل على أنه يريد ما عند الله، وليس قلة مبالاة بالمال، كما قد يفعل الغني، يكثر عنده المال فلا يُبالي، لا سيما إذا كان وارثًا، وليس بحارث، وقد جرت العادة أن الذي جمع المال بتعبه أنه يضن به، فيُمسكه، وأما الوارث الذي أخذه من غير تعب، فهو يتصرف فيه، ويتوسع، ويُضيع هذا المال.

وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ يعني: الجارعين الغيظ عند امتلاء نفوسهم منه، يُقال: فلان كظم غيظه، إذا تجرعه، وحفظ نفسه من أن تُمضي ما هي قادرة على إمضائه، كما يقول أبو جعفر ابن جرير -رحمه الله-[1]، يحبس غيظه عن إنفاذه، فهذا لا شك أنه من خصال التقوى، بنص هذه الآية: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ فهذه هي الصفة الثانية، فهذا يدل على أهمية كظم الغيظ، وأنه بمنزلة من التقوى، قد يقول قائل: إن حبس الغيظ عن إنفاذه وصف سلبي، يعني هو لم يُقدم شيئًا للآخر، يعني من باب التروك، يُقال: إن القدرة على هذا، كما قال النبي ﷺ: ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب[2] الشديد يعني: القوي، وهذا الترك هو جزء من العمل والفعل، فالفعل أربعة أقسام: عمل القلب، وعمل اللسان، وعمل الجوارح، والترك، عمل القلب، مثل العزم المُصمم، والترك فعل، كما قال صاحب المراقي:

والكف فعلٌ في صحيح المذهبِ[3]  

وذكر أمثلة عليه؛ ولهذا قال بعضهم يرتجز والنبي ﷺ يبني مسجد قُباء:

لئن قعدنا والنبي يعمل فذاك منا العمل المُضللُ[4]

فسمى القعود عملاً، وهكذا في قوله تعالى: كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُون [المائدة:79] فسمى ترك التناهي فعلاً، وهكذا قوله: لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُون [سورة المائدة:63] فالصُنع: أدق من مجرد الفعل، هو فعل بحذق، فهذا كان من الربانيين والأحبار حينما تركوا نهيهم عن ذلك فسماه صنعًا.

فهنا كظم الغيظ وحبسه عن إنفاذه هذا فعل، وهو من أوصاف المتقين، وهو عبادة، يُتقرب إلى الله بها، ويؤجر الإنسان عليها، وهو خُلق من الأخلاق الكاملة، فالله -تبارك وتعالى- لما ذكر أشق ما يُبذل بعد النفس، وهو المال، أتبعه بأشق ما يُحبس، وهو الغيظ، الذي يحبس غيظه، بعد ما امتلئ منه، فهذا شيء صعب، ولاحظ لماذا ذكر كظم الغيظ بعد الإنفاق، والمال عزيز على النفس، طيب وكظم الغيظ؟ شديد جدًا، المال أشد ما يُبذل، والغيظ أشد ما يُكظم ويُحبس؛ وذلك أن الإنسان في حال الغضب، لا يكون في حال من الاتزان؛ ولهذا فإن الدرجة العليا من الغضب التي يُقال لها: الإغلاق بالإجماع لا يقع فيها الطلاق؛ وذلك أن الإنسان يكون في حال لا يشعر بما يقول أو يفعل، يعني: غُطي على عقله، فصار كالمجنون تمامًا، فمثل هذا لا يقع طلاقه، وتبقى المرتبة الثانية، وهي الغضب الشديد، ولكنه يشعر بما قال، فهذه التي اختلف فيها أهل العلم، هل يقع فيها الطلاق، أو لا يقع؟ والمرتبة الدُنيا من الغضب هو الغضب المعتاد، الذي لا يكون شديدًا، ويشعر الإنسان بكل تصرفاته، فهذا يقع طلاقه بالاتفاق، فصار ثلاث مراتب الغضب؛ ولذلك فإن الفرح الشديد، والغضب الشديد مظنة لأن تكون أحكام الإنسان وتصرفاته غير موزونه؛ ولذلك ذكر الحافظ ابن القيم -رحمه الله- كراهة أن يؤخذ من الإنسان الهِبة، أو نحو ذلك في حال الفرح الشديد، يعني: قد يكون الإنسان في لحظة فرحة، بُشر بشيء فيفرح به كثيرًا، فربما وهو لا يشعر أخذ مفتاح السيارة وأعطاه من بشره، وقال: خذ سيارتي هذه لك هدية على بشارتك، ابن القيم يقول: يُكره أن يؤخذ منه في هذه الحال، إذا كان فرح شديد؛ لماذا؟ لأنه غير مُتزن في تصرفاته، وفي أحكامه، فقد يندم بعدها إذا بدأ يرجع إلى حاله، فيندم أنه أعطى سيارته، وبقي بلا سيارة، وأن الأمر ما كان يحتمل هذا، وهكذا بعضهم يُنفق مالاً كثيرًا، يكون بيده، يحكي بعضهم: أنه أخذ غلة من متجره، وهي كثيرة جدًا، فذكر له أحدهم خبرًا سارًا، فطاش عقله، فأعطاه ما بيده حثوًا من غير عد، لا يدري ما مبلغه، لكن إذا رجع له عقله قد يندم، وهكذا في الغضب الشديد، فهذا الإنسان قد يغضب غضبًا شديدًا، ثم يُطلق، أو يتصرف تصرفات، كأن يقتل أو يؤذي ويعتدي ويبطش ويشتم ويُقطع الأواصر، ويُسيء إلى أقرب الناس إليه، ثم إذا تراد إليه العقل، وانقشعت سحابة الغضب، ندم كثيرًا، وقد يهم بشيء من هذا، فيذهب ويبحث عن الطرف الآخر، أو يتصل عليه، وقد هيأ له كيلاً من الشتائم، وما إلى ذلك، أو لزوجته، أو نحو ذلك، فلا يوفق بلُقياه، أو بمهاتفته، أو نحو ذلك، ثم بعدها بمدة يرجع إليه عقله، ويقول: الحمد لله، أني ما لقيته، وأنه ما جرى شيء من هذا، الأمر ما كان يستحق، لكن إذا كان لسان الإنسان ويده تسبق عقله، فهذا يدل على ضعف العقل.

ليست الأحلام في حال الرضا إنما الأحلام في حال الغضب[5]

في حال الراحة والرضا يستطيع الإنسان أن يتكلم بكلام حسن وجميل، ولكن إذا جاء الجد هنا يتبين هل هو حقًّا متصف بهذه الصفات أو لا؟

أتوقف عند هذا.

وأسأل الله أن ينفعني وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (7/214).
  2. أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب الحذر من الغضب برقم (6114) ومسلم في البر والصلة والآداب باب فضل من يملك نفسه عند الغضب برقم (2609).
  3. نشر البنود على مراقي السعود (1/70).
  4. البيت في العقد الفريد (5/90) بلا نسبة لقائل.
  5. البيت في زهر الأكم في الأمثال والحكم (1/253) والدر الفريد وبيت القصيد (9/58) بلا نسبة لقائل.

مواد ذات صلة