الخميس 26 / جمادى الأولى / 1446 - 28 / نوفمبر 2024
(169) قوله تعالى: {ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا...} 154
تاريخ النشر: ٢٦ / جمادى الآخرة / ١٤٣٨
التحميل: 574
مرات الإستماع: 918

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

في هذا السياق الذي يذكر الله -تبارك وتعالى- فيه وقعة أُحد، وما جرى لأهل الإيمان، وما حصل من تساؤل من أين أتوا؟! فأجابهم الله -تبارك وتعالى-، وبيّن لهم منشأ ذلك، وعزاهم هذه التعزية، وعرفهم بذنوبهم، وأخبر بعفوه عنهم، وما كان من ألطافه، حيث جازاهم بغم بعد الغم الأول، فكان ذلك مُنسيًا لآلام الجراح والقتل والهزيمة، وفوات النصر، وكان الغم الآخر في أمر لا حقيقة له، وهو أن النبي ﷺ قد قُتل، فلما تكشف ذلك، واستبان الأمر على وجهه، كان ذلك انقشاعًا للغم الأول بالغم الثاني.

ثم قال الله -تبارك وتعالى- بعد ذلك مُخبرًا عن مزيد ألطافه بهم، بخلاف غيرهم من أهل النفاق، وضعفاء الإيمان: ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِّنكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور [آل عمران:154] ففي هذه الآية الكريمة يذكر الله -تبارك وتعالى- رحمته بعباده المؤمنين في تلك الوقعة، حيث انهزموا، ولكن الله لم يتخل عنهم، فأنزل عليهم من بعد ذلك الغم أَمَنَةً نُّعَاسًا والنُعاس معروف، وهو مقدمة النوم وخثورته، والعلماء يقولون: النُعاس في العين، والنوم في القلب، وبعضهم يُفرق بين السِنة والنُعاس والنوم، فيقول: السِنة في الرأس، والنُعاس في العين، والنوم في القلب، أَمَنَةً نُّعَاسًا بمعنى: أن هذا النُعاس كان أمنة لهم؛ لأن النُعاس لا يُداخل جفنًا قد أقضته المخاوف، فملأ الله -تبارك وتعالى- قلوبهم ثقة وطمأنينة، فسكنت نفوسهم، فداخلهم هذا النُعاس، الذي غشي طائفة منهم، وهم أهل الصدق والإيمان واليقين، وأهل الثقة بالله -تبارك وتعالى-، والتوكل عليه، وَطَائِفَةٌ أخرى، وهم من أهل النفاق، وقد يكون بعض هؤلاء من ضعفاء الإيمان، الذين يتزعزعون ويضطربون في الشدائد، فهؤلاء كما وصفهم الله -تبارك وتعالى-: قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ أهمهم خلاص هذه النفوس، وأهمهم النجاة كيف تتحقق لهم؟ بصرف النظر عن دين الإسلام ونصره وإعزازه، أو هزيمته، وبصرف النظر عن رسول الله ﷺ وأصحابه، إنما مطلوبهم الأساس، ومقصودهم الأكبر، هو خلاص هذه النفوس، وهؤلاء أصحاب الهِمم الدنية، كما أشرت في بعض المناسبات السابقة، كما قال الله -تبارك وتعالى-: قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ يظنون به ظن الجاهلية، بأن الله لا ينصر دينه، وأن الله يُديل الكفار على أهل الإيمان إدالة دائمة مستمرة، وأن ما جرى في أُحد مؤذٍ باستئصال شأفة المسلمين، والقضاء على هذا الدين قضاء مُبرمًا، وأن هذا الدين لا يمكن أن يكون له عود وقوة وانتشار، يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يظنون الظنون الباطلة، ظنون أهل الجاهلية، الذين لا يعرفون الله، ولا يتوكلون عليه، ولا يثقون به، ولا يُحسنون الظن بربهم -جل جلاله وتقدست أسماؤه-، هؤلاء من المنافقين، أو ضعفاء الإيمان، يندمون على خروجهم في هذه الوقعة، ويتساءلون: هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ يعني: هذا الخروج إلى أرض المعركة هل هو اختيار لنا؟ وهل كان لنا رأي فيه؟ ومثل هذه العبارات تنشأ في أوقات التمحيص والشدة، وتُنبئ عن نفوس مضطربة، غير واثقة بالله، وغير واثقة برسول الله ﷺ؛ ولذلك انظر إلى هذا التعريض: هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ فرّد الله الأمر كله له، وليس لكم، ولا لغيركم، فهو الذي قدر هذا الخروج، وقدر ما وقع، وهؤلاء يتساءلون بهذه الطريقة، ولكنهم يخفون في أنفسهم أمرًا آخر، لا يُظهرونه، يُنبئ عن حسرات قد خالطت هذه النفوس، وامتلأت بها قلوبهم، يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا أي: لو كان لنا اختيار وإرادة ورأي لما حصل ذلك أصلاً، فهذا طعن منهم بقيادة النبي ﷺ، وتدبيره في أمر الحرب، وطعن في أصحابه الصادقين ، فردّ الله عليهم بقوله: قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ فالآجال عند الله -تبارك وتعالى-، وهؤلاء السبعون الذين قتلوا في هذه الوقعة قد كُتب عليهم القتل، ولو كنتم بين أهليكم في غاية الأمان، وفي بيوتكم؛ لبرز الذين كُتب عليهم القتل إلى مضاجعهم، وإلى المكان الذي قدر الله الموت فيه، وفي اللحظة التي قدر أن يموت فيها، لا يتقدم ولا يتأخر، يبعثه الله لحاجة، فيكون مضجعه في هذا المكان، سواء في معركة، أو في حادث سير، موتة يموتها حتف أنفه، فيفجأه الموت من غير عِلة، فيخرج الرجل من بيته في لحظة لا يتقدم عنها ولا يتأخر، حتى يصل إلى المكان المُحدد، في اللحظة المحددة، ويسقط، وتأتيه سيارة مُعترضة، أو يأتيه من أمر الله ما قُدر له كما قُدر، فهذا التساؤل لو كان لنا من الأمر شيء؟ لا محل له، فالله -تبارك وتعالى- يرد على هؤلاء: لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ [آل عمران:154] وقدر الله أنكم تموتون في موضع لخرج الذين كُتب عليهم الموت إلى حيث ذلك الموضع؛ وذلك كله ليختبر الله ما في الصدور، ويُمحص النفوس من أجل أن يظهر ما فيها من المُخبآت، من الشك والكفر والنفاق، وغير ذلك، ويتميز الخبيث من الطيب، والمؤمن الصادق من المنافق، فينكشف الحال عن أمور ما كانت معلومة قبل ذلك، وأحوال لم تكن ظاهرة قبل وقوع هذا المُقدر، وهكذا الشدائد تتجلى بها مُخبآت النفوس، وتظهر الحقائق التي كانت خافية، فتكون مُشاهدة للجميع؛ ولذلك كان من المصالح والحِكم في الشدائد: أنه يظهر فيها ما لم يكن ظاهرًا -نسأل الله الثبات-؛ فيتساقط أولئك الذين لا ثبات عندهم، ممن يعبدون الله على حرف، الذين عندهم تردد وشكوك وضعف واضطراب وريب، فهؤلاء يتساقطون، فقد يتساءل أهل الإيمان: ما بالهم؟ والواقع أن هذا خبث قد طهر الله الصف منه، فلا تحزن، ولا تأس عليهم، ذهبوا غير مأسوف عليهم، وهكذا في الفتن الكبار يتساقط أقوام، فيتطهر الصف في كل مرة ويتمحص، وقد يكون بعض هؤلاء -نسأل الله العافية- ممن يظن الناس أنه قامة وقدوة، ونحو ذلك، ثم بعد ذلك يتبيّن أنه لا ثبات له، وأنه ليس كما يظنون، فهو يضطرب ويتلون، ويتحول من حال إلى حال، والله المستعان.

فيُؤخذ من قوله -تبارك وتعالى-: ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا فـ(ثم) تدل على التراخي، ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً فيدل على أن ذلك وقع بعد ذلك الغم بمُهلة؛ لأنه قال: مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً وهذا أيضًا تذكير بهذه النعمة التي أنعم الله بها عليهم، وهي نِعم متتابعة في وسط المحنة، وفي وسط الشدة، تتنزل الألطاف؛ ولذلك فإن أهل الإيمان في أوقات الشدائد لا يُضيعهم الله، ولا يُسلمهم، فينزل عليهم من الألطاف ما يحصل به الثبات واليقين؛ ولذلك تجد من الناس من يحصل له مصيبة عظيمة، ويتحدث عن نفسه أنه كان في تلك اللحظات كأن شيئًا قد نزل عليه، فيجد برد اليقين والطمأنينة، وربما كان مُبتسمًا مع أن حاله في غاية الشدة، وقد تكون هذه الشدة مرض، أو مصيبة نزلت به، أو بأهله، وقد يكون مصارع مجموعة من أهل بيته أمامه في هذه الحوادث -نسأل الله العافية للجميع-، فينزل على الإنسان من الثبات أحيانًا بخلاف ضعيف الإيمان واليقين فمثل هذا ينكسر وينهار، وينكشف الحال عن ضعف وتلاشٍ، ما كان الناس يظنونه، ولا يظنون قريبًا منه.

وقوله -تبارك وتعالى-: ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا فالإنزال عليكم يدل على أن هذا النزول نزل عليهم من أعلى، وأنه صار يتجللهم، وهذا النُعاس حصل لهم في بدر أيضًا، إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ [الأنفال:11] فألطافه تتابع، فنزل قبل المعركة في يوم بدر، ونزل هذا النُعاس بعد الهزيمة والوقعة في يوم أُحد، ففي يوم بدر من أجل أن تسكن النفوس؛ لأنه كان هناك شيء من القلق والاضطراب والخوف؛ لأنهم ما خرجوا يريدون القتال، وما استعدوا له، والكفار عددهم وعُدتهم كثير، فكان القلق يساور نفوس أهل الإيمان، فنزل عليهم هذا النُعاس، فسكنت نفوسهم، فكان رأس الواحد منهم ربما يخفق، وربما وقع سيفه، وهو لا يشعر، يُغالب النُعاس؛ ولهذا قيل: بأن النُعاس في الحرب أمنة، {أَمَنَةً نُّعَاسًا} وفي مجالس الذكر والعلم من الشيطان، يعني: عكس المعركة، بل بعض أهل العلم له كلام شديد في هذا، والله المستعان.

فقال هنا: ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِّنكُمْ فالقلق وجد في بدر قبل المعركة، كما سبق، ووجد في أُحد، وكانوا يتخوفون أن الكفار يرجعون ثانية، والكفار كانوا يتوعدون بهذا، وهموا بالرجوع، فكانت نفوسهم لم تطمئن بعد، يعني حتى بعد الهزيمة، وانقضاء المعركة؛ لأنهم توقعوا رجوعهم؛ ولذلك أمر النبي ﷺ أن يُنظر ويُتبع هؤلاء، فإن ركبوا الإبل فهم يريدون مكة، وإن ركبوا الخيل فهم يريدون المدينة، وقد عزم النبي ﷺ على مُناجزتهم في المدينة، فهؤلاء كان رجوعهم متوقعًا، فلاحظ كيف عولج هذا القلق والخوف والانزعاج والاضطراب الذي يُخالطه حُزن على ما سبق، بأمنة بالنُعاس، أَمَنَةً نُّعَاسًا فالنُعاس يساوي الأمن؛ لأن الخائف لا يطمئن، ولا يمكن أن يسكن، ولا يذوق للنوم طعمًا -نسأل الله العافية-، بل ولا للأكل وللطعام، ونحن نسأل الله أن يُديم علينا وعليكم وعلى المسلمين عافيته، فالذي نشأ في الأمن، وما ذاق الخوف وما جربه، لا يعرف معنى هذا الكلام، ولا يستشعر حقيقته، فالخوف -أيها الأحبة- مقلق، من أي أمر من الأمور، ولو كان من قبيل الأوهام، فلو كان الإنسان في مكان، وحُدث فيه عن وجود الجن في هذا المكان، فصدقه وساورته المخاوف، إلى آخره، وأظلم عليه الليل، ويريد المبيت في هذا المكان، وقد خرج لنُزهة، فتتكدر عليه هذه النُزهة، ويحيط به الخوف، ويملأ قلبه، وإذا تحرك الهواء خاف وانزعج، ولا يمكن أن ينام، ويتخيل أن أحدًا قد أتى، وآخر قد مر، وثالث ينظر إليه، ويرى الشجرة كأنها مارد يتربص به، أليس كذلك؟! هذا في وهم! وينتظر متى يأتي الصباح، فيتطاول عليه الليل، وهكذا من كان يتخوف قُطاع الطُرق، أو أهل الإجرام، أو نحو ذلك، ربما يدور حديث بين بعض الناس من غير قصد ولا شعور، وهذا خلاف الحكمة، خاصة مع ضعفاء القلوب، يخرجون لنُزهة مثلاً، ويريدون المبيت، فيأتي من يتحدث عن جرائم وقعت في مثل هذه الأحوال، وأنه قد بيتهم قوم، فقتلوهم، وأخذوا مراكبهم، وما معهم من نقود، ونحو ذلك، فيتحول كل ما رأى ضوء سيارة، ولو على بُعد عشرة كيلو مترات أنه يقصده في خيمته، ويترقب متى يأتيه الموت، ومتى يأتي هؤلاء ليُجهزوا عليه ومن معه، هو ينتظر فقط متى ستأتيه هذه الرصاصة التي سمع عنها، وينتظر الصباح متى يأتي الفرج، وهكذا من يتخوف في البلاد غير الآمنة، التي يكثر فيها الفتن والهرج والقتل، وما إلى ذلك، فهؤلاء لا يستطيعون النوم، ولا يستطيبون الطعام، وهذا أمر يعرفه من جربه وذاقه، نسأل الله العافية، وأن يعم الأمن بلاد المسلمين، وأن يأمنهم من المخاوف، ويحفظهم ويحقن دمائهم، ويحفظ أعراضهم، ويكفيهم شر الأشرار، وكيد الفجار.

فأقول -أيها الأحبة- هؤلاء لا يكون لهم نصيب من هذا النوم إذا كانوا في حال من الخوف، إلا أن يكون أمنة من الله، فالإنسان الذي يكون في مكان حوله سِباع، أو نحو ذلك، فلا يمكن أن ينام، فهو في غاية التوثب، لكن لو وقع عليه النوم فذلك أمنة؛ ولذلك فإن الحزن أو القلق أو الخوف، أو نحو ذلك قد يُعالج بالنوم، فإذا كان الإنسان كثير الهم والغم، ونحو ذلك، فيمكن أن يسترخي وينام، وكان من العبارات السائرة المعروفة عند العامة: "إذا كثرت همومك خذ من الأرض طولك" يعني: نم؛ ويقال: بأن أول سكون النفس في المصيبة يكون بعد النوم، مع أنني قرأت لبعض الأطباء: أن النوم في وقت الحزن يضر، ولا أظن هذا صحيحًا لهذه الآية، مع أنها غير صريحة، والأمر الثاني: أن هذا من طبائع البشر، والله ركب هذه النفوس تركيبًا خاصًا، فإذا حصل الخوف أو الغضب بدأ الدم يتحرك بقوة، والقلب يضخه من أجل أن يكون الإنسان عنده قدرة على الانطلاق، أو البطش، أو الدفع، أو المقاومة أو الهجوم، وإذا كان لا يجد شيئًا من ذلك تجده ساكن ومسترخي، ولا يوجد عنده هذا الضخ الكثير، ونبضات القلب، فإذا غضب أو خاف، فنبضاته تزيد؛ لأن القلب يتحرك بقوة، ويضخ الدم للأطراف والأعضاء، فيكون عنده قدرة على الانطلاق والإسراع، ونحو هذا، فهذه طبائع، مما جبل الله عليه النفوس؛ ولذلك إذا عطش الإنسان طلب الماء، وإذا جاع طلب الطعام، إن لم يوجد الجوع أو العطش لم يطلب الطعام ولا الشراب، وقد قال النبي ﷺ: لا تُكرهوا مرضاكم على الطعام والشراب، فإن الله يُطعمهم ويسقيهم[1]؛ ولذلك إكراه المريض على الطعام لا يكون مستساغًا بالنسبة لهذا المريض، فهو يكره رائحة الطعام، ونفسه تعافه؛ لماذا نفسه تعافه؟ لأن النفس مشغولة بمدافعة المرض، وغير مُهيأة لاستقبال الطعام، ثم ينزل الدم للأمعاء ليهضم وليمتص هذا الغذاء، ونحو ذلك، فالجسم مشغول بشيء آخر، فهو غير مُهيأ؛ ولذلك دواعي هذه النفس التي جبلها الله عليها لا حاجة لحملها على خلاف ما فطرها الله عليه؛ ولهذا يقولون: المريض إذا اشتهى نوعًا من الطعام فقد يكون عافيته فيه، فقد يطلب المريض نوعًا من الطعام، وقد يكون غريبًا، يشتهيه فيطلبه، وقد يكون على غير عادته، فبعضهم يقول: إن ذلك يكون أنفع لجسده، وأجدى فيه، وهكذا في أمور كثيرة؛ ولذلك في غزوة المُصطلق لما تكلم عبد الله بن أُبي، وقال: لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ [المنافقون:8] فجاء زيد بن أرقم، وهو شاب صغير، خرج مع عمه إلى الغزوة، فأخبر النبي ﷺ أنه سمع عبد الله بن أُبي يقول هذا الكلام، فجاء عبد الله بن أُبي يحلف أنه ما قال، فقبل منه النبي ﷺ ذلك وصدقه، فرجع زيد بن أرقم مغمومًا، ويقول: نزل بي من الغم ما لم أعهده قبل ذلك؛ لأنه لما قبل النبي ﷺ كلام عبد الله بن أُبي جاء بعض أصحاب النبي ﷺ إلى زيد بن أرقم يلومونه، ومنهم عمه، ويقولون له: ما حملك على ذلك؟ كذبك رسول الله ﷺ وصدقه، فكنت في غنى عن هذا، فركبه من الغم شيء عظيم فنام، فهذا النوم يكون دفعًا لهذا الغم، حتى نزل الوحي مصدقًا له: يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ [المنافقون:8][2].

فالمقصود: أن النوم له شواهد من السيرة، ومن القرآن، ومن الواقع، وأنه يكون سببًا لتخفيف الأحزان والهموم والغموم، وما أشبه ذلك؛ والناس يعرفون هذا، فإذا رأوا أحدًا يميل إلى النوم الكثير، أو نحو ذلك، يقولون: أنه يُغالب الحُزن والهم، ونحو هذا، بل عندهم عبارات لها دلالة معينة، ولا حاجة لذكرها، تدل على مثل هذا المعنى.

أتوقف عند هذا، الوقت زاد، ونُكمل -إن شاء الله- بعد ذلك، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه الترمذي في أبواب الطب، باب ما جاء لا تكرهوا مرضاكم على الطعام والشراب برقم (2040) وابن ماجه في كتاب الطب، باب لا تكرهوا المريض، على الطعام برقم (3444) وصححه الألباني.
  2. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (23/402) وليس فيه النوم.

مواد ذات صلة