الخميس 26 / جمادى الأولى / 1446 - 28 / نوفمبر 2024
(177) قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ...} الآية 159
تاريخ النشر: ١١ / رجب / ١٤٣٨
التحميل: 671
مرات الإستماع: 1205

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

يقول الله -تبارك وتعالى- في هذا السياق الذي يذكر فيه وقعة أُحد في سورة آل عمران: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِين [آل عمران:159].

فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ، فبرحمة من الله لك ولأصحابك، منّ الله عليك وأكرمك فكنت رفيقًا لينًا بهم وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ، الفظ: هو سيء الخُلق الغليظ، الجافي الذي يتصف بالصلف، لو كنت تحمل قلبًا قاسيًا وخُلقًا صعبًا، لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ تفرقوا وانصرفوا.

فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ، لا تؤاخذهم، تجاوز عن أخطائهم وإساءاتهم وما أخفقوا وما قد يُخفقون فيه، وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ أسأل ربك أن يغفر لهم هذه الخطايا والإساءات، وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ، فيما يحتاج إلى مشورة، أشركهم معك في ذلك، واستمع إليهم، وتعرف على آرائهم، فإذا عزمت على أمر فتوكل على الله بعد الاستشارة أمضه من غير تردد، مع التفويض إلى الله -تبارك وتعالى- والاعتماد عليه والثقة به، إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِين، يُحب من توكل عليه وفوض أمره إليه، والتجأ إلى ربه -تبارك وتعالى-، واعتمد عليه اعتمادًا كليًّا، فلا يكون في القلب أدنى التفات إلى غيره، ولا تعلق بمخلوق.

يؤخذ من هذه الآية الكريمة من الهدايات والفوائد: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ، هذا يدخل فيه دخولاً أوليًّا أولئك الذين تولوا يوم أُحد؛ لأن السياق ذكر ذلك قبله، فهؤلاء هل يكون الموقف منهم الزجر والهجر والقطيعة، أو يكون التجاوز والعفو والرفق بهم؟ وهذا -كما قلت- يدخل بهذا المعنى دخولاً أوليًّا، لكنه لا يقتصر عليه.

فالله يمتن على رسوله ﷺ بهذه الأوصاف، فهي عامة مع أصحابه، سواء أولئك الذين حصل منهم هذا التراجع والهزيمة، أو مع غيرهم ممن لم ينهزم، أو في سائر المقامات، فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ، وإذا كان ذلك مع من انهزم فكيف تكون أحواله وأخلاقه ورفقه بمن ثبت؟ إذا كانت هذه أحواله مع من أساء وقصر فكيف بمن وفى وثبت؟! فهذه لا شك أنها فضيلة عظيمة كانت من الله -تبارك وتعالى-.

فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ، وهذا يدل على أن هذه الصفة اللين أنها منحة ربانية، فالله يمتن على رسوله ﷺ بهذا فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ، حيث وفقه لذلك، وكمله بهذه الخصلة، فكان ذلك من رحمة الله -تبارك وتعالى- به، وإذا كان الأمر كذلك -أيها الأحبة!- فإنه يدل على أن من مُنح هذه الصفة اللين، والرفق فإنه قد رحمه الله -تبارك وتعالى- هذه رحمة، وأن من عدم هذه الصفة، فكان إلى الغِلظة والقسوة والشدة والرعونة أعلق وألصق فإن ذلك يدل على بُعده من الرحمة فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ، والنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- صح عنه أنه قال: إذا أراد الله بأهل بيت خيرًا أدخل عليهم الرفق[1].

أما البيت الذي شعارهم الغِلظة والقسوة والردود والمجاوبات الفظة القاسية من قِبل الزوج أو الزوجة، والأب مع أبنائه، والأبناء مع بعضهم، العلاقة هي الشدة، والردود الشديدة العنيفة؛ فهذا يدل على خلاف ما ذكره النبي ﷺ: إذا أراد الله بأهل بيت خيرًا أدخل عليهم الرفق، فإذا لم يُدخل عليهم الرفق، فمعنى ذلك أنهم فقدوا خيرًا كثيرا، وعائشة -رضي الله عنها- لما ركبت دابة صعبة، وكانت تزجرها، فقال لها رسول الله ﷺ: يا عائشة ارفقي، فإن الرفق ما وضع في شيء إلا زانه، وما نُزع من شيء إلا شانه[2]، لاحظ صيغة العموم فإن الرفق ما وضع في شيء إلا زانه، وما نُزع من شيء إلا شانه.

هذا رفق مع دابة، فالذي يتعامل مع دابة بالشدة والقسوة لن يُبلغه ذلك مُراده، والذي يتعامل مع الناس بالشدة والقسوة فإن ذلك لن يوصل إلى مطلوب بحال من الأحوال.

إن الكثيرين -أيها الأحبة!- يظنون أنهم بالصلف ينالون مطالبهم، وهذا غير صحيح، فإنه يُنال بالرفق ما لا يُنال بالعُنف، وذلك لا يختص بالتعامل مع الناس، بل في التعامل مع النفس، في التعامل مع ما يحتف بالإنسان من أثاث ورياش ولباس، وغير ذلك، الإنسان أحيانًا يريد أن يخلع ثوبه، فيضيق عليه، أو نحو ذلك لربما هتكه وقطعه لشدة حنقه ورعونته وغضبه وصعوبة أخلاقه، لكن بالرفق يستطيع أن يتوصل إلى مطلوبه دون شق لهذا الثوب، قد يؤذي نفسه يريد أن يخلع لباسًا يلبسه من خاتم، أو غير ذلك، فإنه يكاد أن يقطع أُصبعه، يؤلمه عضو من أعضائه، فربما تعامل معه بشيء من القسوة والشدة والضرب على هذا العضو مما لا يزيده إلا وجعًا وألمًا.

وهكذا حينما يسير الإنسان في مركبته أو على قدميه، أو نحو ذلك بشيء من الشدة والرعونة؛ فإنه يؤذي نفسه كثيرًا ويؤذي دابته، وأول من يشقى بهذه الرعونات -أيها الأحبة!- هو الإنسان نفسه، هذا الإنسان الجاف الغليظ هو دائمًا ضيق الصدر يشعر بحرج في نفسه، بخلاف الذي يتعامل بالرفق فإنه يُحصل مراده، ويجد انشراحًا، وسعادة وراحة، فهذا أمر يُحتاج إلى التفطن له، أن يكون الرفق شعارًا للإنسان في سائر شؤونه، في تعامله مع نفسه، حتى في عبادته، قد يتحمل من العبادة في النوافل ما لا يُطيق، فما يلبث أن ينقطع، بل قد يكره العبادة.

وقد ذكر العلماء لهذا أمثلة في مزاولات في الحج لربما قد يقصد الإنسان المشي في المناسك، وهذا على قول جماعة كبيرة من أهل العلم أنه أفضل من الركوب، وبصرف النظر عن هذه المسألة، لكنه قد لا يحتمل، وقد يمشي في الحر الشديد، وتُصيبه ضربة شمس، ويمرض، ويتعطل عن مناسكه، ولا يستطيع الإتمام، وهكذا، قد يكون ذلك بصوم يصومه، يشق به على نفسه، فيكره الصوم، ويستثقل هذه العبادة.

قد يكون في تبكير للعبادات، لو أخذ نفسه بالذهاب إلى الجمع مثلاً بعد طلوع الشمس بعد الإشراق من الساعة الأولى، ولكنه لا يحتمل هذا، فيثقل عليه، ويشق، فقد يكره يوم الجمعة برُمته، فإذا أقبل يوم الجمعة، أو قرُب هو من الأسبوع يحسب ليوم الجمعة متى يأتي؛ لأنه حمل نفسه عملاً هو شاقٌ عليه، بخلاف من لا يشق عليه هذا، وقد يُصلي من الليل صلاة أيضًا قد تورثه مثل ذلك.

وقل مثل هذا -أيها الأحبة!- في آثار هذه التصرفات من الشدة والرعونة، ونحو ذلك في غير العبادة في تعاملات الإنسان، الناس يكرهون الفظ الغليظ، والله يُبغضه، وأخبر النبي ﷺ عن أهل النار وأهل الجنة فذكر من صفات أهل النار الجعظري الجواظ لا يدخل الجنة الجواظ، ولا الجعظري[3]، وذكر من صفات أهل الجنة السهل، والرجل الذي كان يُعامل الناس بالسماحة والسهولة كان ذلك سببًا لعفو الله عنه.

فالمقصود أن الرفق صفة يُحبها الله، وقد اتصف بها، فالله رفيق يُحب الرفق، ويُعطي عليه ما لا يُعطي على العنف، يعني: حتى في الأجور والثواب، العبادة والأعمال التي تأتي تؤدة ورفق ليست كالتي تأتي بشدة ونزق وعُنف، والنبي ﷺ أخبر: أن التؤدة والسمت الحسن جزء من أربعة وعشرين جزءًا من النبوة، فهذه أوصاف تُبلغ العبد المراتب العالية مع أنها سهلة على من يسرها الله عليه.

فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ، هذه إذا تذكرها الإنسان دائمًا يرجع إلى نفسه هل هو متحقق بهذه الصفة أم لا؟ لا شك أن الناس يتفاوتون، فمن الناس من جُبل على اللين والرفق قد يكون ذلك في أهل بيته جِبلة، والنبي ﷺ قال لأشج عبد القيس : إن فيك خصلتين يُحبهما الله: الحِلم والأناة، فسأل عن ذلك هل هذا شيء تخلق به أو أن الله قد جبله عليه؟ فقال: قد جبله، فأخبره أن الله جبله على ذلك، "فقال: الحمد لله الذي جبلني على ما يُحب".

فهذه تكون جِبلة عند بعض الناس، تجد في بعض الناس، أو بعض البيوت هذا اللين في الكبير والصغير، والرجل والمرأة، في الأطفال والكبار والشباب، تجد اللين والدماثة والسهولة في التعامل، وتجد في بعض البيوت خلاف ذلك، تجد الشدة والرعونة والقسوة والفظاظة، فسبحان الله! الله خلق هؤلاء الخلق من الأرض من طين، فجاء بعضهم على بعض نواحيها وأوصافها سهلاً، وجاء بعضهم غليظًا شديدًا قاسيًا، نفسه وعقله وقلبه كأنه حرة.

فهذه قد تكون جِبلة في الإنسان، أعني: الرعونة يتوارثها عن آبائه، ولكنه يمكن أن يُغير، فيحتاج إلى مجاهدات ومعالجة وصبر وتحمل؛ لأن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم، وقد يكون عند الإنسان من يتدرب على الحِلم؛ لكثرة إخفاقاته واستفزازاته من خادم أو زميل في العمل أو في الدارسة، أو غير ذلك.

ولهذا كان بعض السلف عنده خادم سيء التصرف والخلق، فسئل: لماذا لا تبيع هذا الخادم، لماذا لا تتخلى عنه؟ فقال: أتعلم عليه الحِلم، مدرسة، تعلم، تطبيق، فقد تُبتلى بمن يستفزك كثيرًا، فيمكن أن تجعل هذا ميدانًا للتعلم، تتعلم عليه الحِلم.

 ولا يصح أن يُقابل الشدة بالشدة، والقسوة بالقسوة، والرعونة بالرعونة، فإن ذلك يؤدي إلى الفرقة والتطاحن والتشاحن والعداوات والغِل وسائر الأدواء، وقد يؤدي إلى أنواع السفول والانحطاط مع هؤلاء الناس، وقد يؤدي إلى ما لا تُحمد عُقباه من القتل والعدوان على الناس، وقد يُحرم الإنسان كثيرًا من الخير والأجر عند الله ، ويُحرم كثيرًا في الدنيا فلا يصل إلى مطلوبه؛ لأنه جاءه بالقسوة والشدة.

المُعلم مع تلامذته إذا كان قاسيًا شديدًا، الرجل في بيته إذا كان مع زملائه مع الناس، التاجر إذا كان فظًا غليظًا، الناس لا يتبايعون معه، ولا يريدون الدخول في متجره، ولا رؤية هذا الإنسان، وهكذا إذا كان من يستقبل الناس من العاملين والموظفين ونحو ذلك فيه فظاظة وغِلظة الناس يكرهونه وينفرون منه، وإذا رأوا سهلاً هينًا رفيقًا أحبوه وأقبلت نفوسهم عليه ودعوا له، وبقيت له آثار في نفوسهم محمودة، ويكفيه رحمة الله ، والجزاء من جنس العمل.

فالذي يرفق بعباد الله الله يرفق به، الذي يتعامل معهم بسهولة ويُسر، الله يُيسر عليه، لكن هذا الذي لا تدري ما تلقى منه من العبارات القاسية الجارحة بسبب أو غير سبب، هذا أعوذ بالله الناس ينفرون منه ويتحاشونه، ولا يُحبون الجلوس معه، ولا مقابلته، فنسأل الله العافية.

نحتاج إلى ملاحظة هذا الجانب، والنظر في أحوالنا وأخلاقنا، وكما قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي -رحمه الله- عند هذه الآية: "بأنه لا يليق بمؤمن يؤمن بالله ورسوله ويدعي اتباعه والاقتداء به أن يكون كلاً على المسلمين، شرس الأخلاق، شديد الشكيمة عليهم، غليظ القلب، فظ القول فظيعه"[4] فالمسألة عباده حينما يكون لنا في رسول الله ﷺ أسوة حسنة، ونحن مأمورون باتباعه، ثم نُخالفه في مثل هذه الأوصاف، والأخلاق فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ.

إذًا على أتباعه أن يكونوا متحلين بهذه الصفة، الاتباع -أيها الأحبة!- ليس فيه صفة الصلاة فقط، أو صفة الصوم، أو صفة الحج، وإنما الاتباع أيضًا في أخلاقه وسلوكه؛ ولذلك فإن بعض العلماء في كتب الاعتقاد يُدخل قضايا السلوك في مصنفه الذي صنفه في التوحيد والإيمان والاعتقاد، ولذلك تجد هذه الخصائص السلوكية عند أهل السنة والجماعة مبثوثة في كتبهم التي صنفوها في العقيدة.

وتجد مثل هذا في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في أواخر الواسطية جُمل جميلة جدًا راجعوها، وهو كتاب في العقيدة، أن يصل من رحمه، وأن يُعطي من حرمه، كمالات في كتب الاعتقاد، فالاتباع لا يقتصر على العبادات المحضة التي يُمارسها الإنسان بجسده، بل أيضًا في السلوك والأخلاق والتعامل مع الناس، وهذا هو الذي يجذب الناس إلى الدين الصحيح، ويتأثرون به، بما يرون من التعامل.

قد يكون الإنسان كثير الصلاة، وكثير الصوم، لكنه سيء الأخلاق، يتعامل مع الناس بالشدة والغِلظة والعُنف فما أثر هذه الصلاة؟! وما أثر هذا الصوم؟! وقد يعتذر بذلك، يعتذر أنه صايم، وأنه قد تغير مزاجه بسبب الصوم، الصوم يُهذب الأخلاق، ولا يكون سببًا لسوء الخُلق، لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183].

فأقول -أيها الأحبة!- نحتاج أن نُراجع أنفسنا، وأن نُلاحظ هذه المعاني، وألا ننساق مع دواعي النفس التي لربما تحملنا على خلاف هذه الخِلل والأخلاق والصفات الكاملة.

هذا، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين، والله أعلم.

نُكمل -إن شاء الله تعالى- في الليلة الآتية.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه أحمد في مسنده، برقم (24427)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (303).
  2. أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الجهاد، باب ما جاء في الهجرة، وسكنى البدو، برقم (2478)، وأحمد في مسنده، برقم (24809)، وصححه الألباني السلسلة الصحيحة، برقم (524).
  3. أخرجه أبو داود، كتاب الآداب، باب في حسن الخلق برقم (4801)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، برقم (2902).
  4. انظر: تفسير السعدي، (598).

مواد ذات صلة