الخميس 26 / جمادى الأولى / 1446 - 28 / نوفمبر 2024
(214) قوله تعالى: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ...} الآية 189
تاريخ النشر: ٢٤ / شعبان / ١٤٣٨
التحميل: 448
مرات الإستماع: 1344

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فلما قال الله -تبارك وتعالى-: لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم [آل عمران:188]، أخبر أن لهم ملك السماوات والأرض: وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللّهُ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِير [آل عمران:189]، هؤلاء الذين يفعلون هذه القبائح من قعودهم عن طاعة الله -تبارك وتعالى- ومحابه، والجهاد مع رسوله -صلى الله عليه وآله وسلم- ثم هم مع ذلك يُحبون أن يُحمدوا بما لم يفعلوا؛ هؤلاء متوعدون بالعذاب، وليسوا بمنجى منه.

فالله له ملك السماوات والأرض، هو في غنى عنهم، ودين الله غني عن هؤلاء، والله ينصر رسوله -صلى الله عليه وآله وسلم-، وينصر أوليائه وإن قعد هؤلاء من أهل النفاق، وإن تخلفوا عن طاعته واتباعه، فله ملك السماوات والأرض.

وكذلك هو قادر على أخذهم ومعاقبتهم، هذا بالنظر إلى الآية التي قبلها، وبالنظر إلى هذا السياق الطويل في أُحد، فإن ما جرى لأهل الإيمان من الجراح والقتل والهزيمة وفوات النصر، كل ذلك بأمره -تبارك وتعالى-، ولا يحصل موت ولا فوت إلا بإرادته، كما ذكر ذلك صراحة في الآيات السابقة، فله ملك السماوات والأرض ينصر من يشاء، يُعز من يشاء، يُذل من يشاء، يقبض من يشاء، يمد بالأعمار لمن يشاء، الملك ملكه، هذا وجه في الارتباط بين هذه الآية وما قبلها.

وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ولله وحده ملك السماوات والأرض، وَاللّهُ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِير، يفعل ما يشاء لا يُعجزه شيء ولا يتعاصى عليه شيء.

ويؤخذ من هذه الآية الكريمة من الهدايات والمعاني والفوائد أن قوله: وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُدم هنا الجار والمجرور: وَلِلّهِ فهذا عند العلماء يُشعر بالحصر، يعني: لله وحده ملك السماوات والأرض، ليس أحد يُشاركه في ذلك، والأملاك التي في أيدي الناس؟ الناس يملكون، هذه إنما هي بإملاك الله لهم فهم عبيده ونواصيهم بيده، وهي أيضًا عارية مُستردة أن الله سيتسرد ذلك، فكل أحد سيُسلب ما ملك، ولا يبقى إلا ملك الله وحده لا شريك له، ولذلك يقول الله في اليوم الآخر الذي هو أعظم يوم، الدنيا لا تساوي شيئًا بالنسبة لذلك اليوم ومقداره كما أخبر الله: فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَة [المعارج:4]، الدنيا منذ أن خلق الله آدم، لا نقول منذ أن خلقها نحن لا نعلم لا شك أن الدنيا خُلقت قبل آدم، خُلقت السماوات والأرض قبل آدم، لكن منذ أن خلق الله آدم إلى يومنا هذا فإن ذلك لا يبلغ هذا المقدار خمسين ألف سنة ولا قريب منه، وكما ذكرت لكم في بعض المناسبات أننا حينما نحسب ما يذكره المؤرخون على أبعد ما ذُكر من الأعمار والمُدد بين آدم مثلاً إلى نوح مثلاً ثم إلى الأنبياء بعد ذلك ما بين كل نبي وآخر إلى بعث محمد ﷺ إلى زماننا هذا فإن هذا مع تكميل ذلك بأطول تلك التقديرات، ولا دليل عليها، لكن بأطول تلك التقديرات هذا لا يتجاوز اثنتي عشرة ألف سنة، أو قريب من هذا، وإذا أردت أن تُضيف أضف ألف سنة قل لا يتجاوز ثلاث عشرة ألف سنة لا يتجاوزها، منذ آدم ، أما الكلام هذا العصر البرونزي، والعصر الحجري هذا كله كذب، ويقولون: قبل ملايين السنين وهذه الجرة وهذه صار عمرها خمسمائة مليون وتسعمائة وواحد وستين سنة وستة أشهر، هذا كلام كله كذب، من آدم إلى يومنا هذا لا يتجاوز هذه المدة اثنا عشر ألف سنة تقريبًا إلى ثلاث عشرة ألف سنة.

يوم القيامة في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة يوم واحد، فهذا في ذلك اليوم هذا اليوم يوم القيامة يقول الله -تبارك وتعالى-: لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ، لا أحد يدعي فيه شيئًا، لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّار [غافر:16]، يأتي الناس يوم القيامة كل يُريد فكاك رقبته ليس معه أحد، لا أهل ولا مال ولا أعوان، الكل يريد الخلاص حافيًا عاريًا ليس معه من الدنيا شيء ولا يدعي شيئًا، يعني: من الأملاك إلى غير ذلك، وإنما يريد الخلاص والفكاك عن نفسه لا يسأل عن ولد ولا والد ولا زوجة ولا قريب ولا صديق، يُبَصَّرُونَهُمْ، يرونهم، يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيه [المعارج:11]، فهذا الملك الحقيقي: وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللّهُ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِير.

ثم ما يقع في أيدي الناس من الأملاك يكون على شيء محدود يسير من الأرض، مسبوق قبله بعدم، ويعقبه السلب سلب هذا الملك منه يموت، أو يُسلب منه ذلك بأن يتقوى ويتسلط عليه غيره فيأخذ ملكه، أما الله -تبارك وتعالى- فمن الذي يستطيع أن يأخذ من ملكه شيئًا -قل أو كثر- بغير إذنه وإرادته وتقديره.

ثم هذا الملك ملك السماوات والأرض أي وما بينهما كله لله، وإذا استقر ذلك في نفس المؤمن توجه برغبته ورهبته وحاجته إلى ربه ومليكه؛ لأنه يملك كل شيء، المخلوق مهما كان في يده فإن خزائنه تنفذ، ويخشى الفقر والحاجة، وأن يذهب ما بيده، وهو يحسب هذه الحسابات، كم أنفق وكم بقي؟ أما الله فخزائنه ملأى لا تغيضها نفقة، فهذا لا شك أنه يورث المؤمن التوكل على الله ، وأن يتعلق قلبه به، وأن يكون رجاءه متوجهًا إلى ربه، لا يرجو المخلوق أن يُعطيه، أن ينفعه، أو يتوقع أن هذا المخلوق يملك مستقبله وعيشه ونحو ذلك، لا، الله هو الذي يملك ذلك جميعًا.

وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فهذا الملك الذي لا ينقص ولا يزول، الملك الدائم الأزلي فملكه أزلي، وكذلك ملكه باقٍ دائم مستمر لا زوال له.

وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وإذا كان لله ملك السماوات والأرض فإن ذلك يقتضي أن يكون الإنسان مراعيًا بالتصرف بما في يده مراعيًا حدود الله وأحكامه وشرعه، فلا يتصرف بما في يده إلا بحسب إذن مليكه ومولاه؛ لأن الله له ملك السماوات، الناس وما في أيدهم كلهم ملك لله -تبارك وتعالى-، وتصرف الناس بما في أيديهم ينبغي أن يكون بحسب شرعه وما يرضاه؛ لأنه ملكه لا يتصرف الإنسان يقول: أنا حر آخذ هذه النقود وأمزقها، لا يقول: أنا حر مالي، يُقال: لا، ليس كذلك سُتحاسب عليها، والله سيُحاسب الإنسان عن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، من أين لك هذا؟ وفيما صرفته؟ سؤالان، كل إنسان سيوجه إليه هذا الحساب، من أين؟ مصادر، وبماذا أنفقت هذا المال؟ في شيء يُرضي الله أو فيما يُسخطه؛ في معصية، في لهو، في إسراف، تبذير، تضييع، فيُحاسبه ما يقول الإنسان: هذا مالي وأنا أتصرف كما أشاء، ترى في بعض المقاطع وبعض الصور من يُعلف البهائم نقود فئة خمسمائة ريال؛ ويوجد من هو أحوج ما يكون إليها ممن يتمرغ في الفقر، ويتقلب فيه ظهرًا لبطن، هذا سيُحاسب عليه، بعض الصور والمشاهد من يغسل أيادي الأضياف بالطيب بدُهن العود يُصب، هذا سيُحاسب على هذا، تظنون أن هذا حق للإنسان يتصرف كما يُريد لا يُحاسب عليه! من أين اكتسبه؟ وفيما أنفقه؟ هذا ملك لله، وكذلك أيضًا في صور مشينة هذا الذي ينحر الجزور تلو الجزور وهكذا من أجل التفاخر والكبرياء والتعاظم على الناس، من أجل أنه يسخر من فلان ويقول: أنا الذي أُنفق ولا أُبالي فتُدفع إليه الجزور تلو الجزور ثم ينحرها ويُلقيها، هذا سيُحاسب، هؤلاء الذين ينقلون الموائد بشاحنات أو بجرافات كأن الضأن في تلك الأواني كأنها العصافير هؤلاء يُحاسبون على مثل هذه التصرفات وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ.

أيضًا نفس الإنسان هي ملك لله كيف يتصرف بها، ولهذا سيُحاسب على سمعه وبصره وجوارحه ماذا عمل بها إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولا [الإسراء:36]، كل شيء سيُحاسب عليه الإنسان القضية ليست متروكة، على القولين وهما صحيحان بينهما مُلازمة كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولا، أي: أنه سيُسأل عنها ماذا عملت بها، كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولا، يعني: أنها هي سُتسأل عنه، ماذا عمل بك؟ كيف استعملكِ؟!

فهذا الإنسان الذي يعصي الله ويستعمل سمعه وبصره وجوارحه فيما حرم الله ويقول: أنا حر، أفعل ما أشاء، لا أنت عبد مُجدّر، عبد لله ، أخبرني هات صك الحرية، متى صرت حرًّا والله خلقك عبدًا، متى نلت هذه الحرية؟!

فالإنسان لا ينفك من عبوديته لله -تبارك وتعالى-؛ إما عبودية اضطرار أو عبودية اختيار: إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا [مريم:93]، فكلهم عبيده ومماليكه.

ومن ثَم أيضًا هل يسوغ للإنسان أن يتصرف في أبعاضه وأعضاءه كما يشاء؟

الجواب: لا؛ لأنه لا يملكها هي ملك لله ، وإنما يتصرف الإنسان فيما يملك لو أراد الإنسان أن يبيع أعضاءه أعلن أنه يريد أن يبيع عينه وكبده ورئته وكُلاه ونحو ذلك، هل يملكها حتى يبيع؟

هو لا يملكها، هي ملك لله ، وهي أمانة يجب عليه أن يُحافظ عليها وأن يحفظها.

كذلك أيضًا فإن قوله: وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللّهُ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِير هؤلاء الذين يقعدون عن طاعته ونحو ذلك أين يخرجون من مُلكه هم تحت نظره وتحت قبضته فأين يذهبون، ولذلك الإنسان إذا أراد أن يعصي الله فليُفكر أين يذهب، يعصيه في أرضه وملكه وتحت نظره، وفي سلطانه، وهو قادر على أخذه كيف شاء، فكيف يجرؤ الإنسان على المعصية، ولو كان وحده، ولو كان في أرض بعيدة في جزيرة لا يراه فيها إلا الله؟ كيف يجرؤ وهو مملوك لربه -تبارك وتعالى-، يمكن أن يقبضه على هذه المعصية فيفتضح ويُختم له بخاتمة السوء، فالمؤمن يُحاسب ويخاف ويستحي من ربه -تبارك وتعالى-.

كذلك أيضًا فإن قوله -تبارك وتعالى-: وَاللّهُ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِير هذا لما كان الخبر فيه عن سعة ملكه -تبارك وتعالى- بمعنى أنه لا يخرج عنه شيء، ذكر الله -تبارك وتعالى- بعده بأنه على كل شيء قدير، يعني: هذا الكون على سعته وتراميه ومع ذلك كله في قبضة الله ما تسقط ورقة ولا حبة ولا يتحرك أحد إلا بعلمه وتقديره أحاط بهم علما، وهو الذي يُدبرهم ويُصرفهم كيف شاء، أما المخلوق الإنسان في بيته هو سيد في بيته، والمرأة سيدة في بيتها يحصل في بيته ما لا يطلع عليه، بل قد يسطو اللصوص على بيته وهو خارج منه لا يشعر بهم، وقد يضيع له المتاع في بيته ولا يعلم موضعه، فكيف بما خرج عنه؟ لو كان هذا الإنسان يملك شركة ذات فروع في العالم وتحت هذه الإدارة آلاف من الموظفين هل يُحيط بهم ويعرف أحوالهم وما يجري هنا وهناك وما يحصل من اختلاس وتفريط وقعود عن العمل وتخلف وما إلى ذلك؟

هو لا يعرف شيئًا، يضيع الكثير، ويؤخذ الكثير، ويُسرق الكثير، ولذلك بعض هؤلاء الذين يملكون إذا قيل له هناك ترى سرقات، وهناك قال على الأقل الذي يأكل ويؤكل أحسن، يعني: كونه أنه يأخذ يقول: أنا أعلم أنهم يأخذون لكن على الأقل يأتيني نصيب من الأرباح، فهذا أفضل من لا شيء، هو لأنه عاجز وإلا لم يُفرط بشيء.

فأقول: هذا الإنسان لا يستطيع أن يُدير هؤلاء وكم يبلغون، يعني: كم سيبلغ هؤلاء من الموظفين عنده؟! هل سيبلغون المليون؟ لكن هذه المليارات من الناس مع الجن مع سائر الكائنات في العالم العلوي والسُفلي الله يُديرها وليس فقط الكائنات الحية بل حتى الجمادات، حتى سقوط الأوراق أحصاه، وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا، الدواب لا يخفى عليه منها شيء يَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا، وكل هذا مدون مُسجل في كتاب لا يتطرق إليه الخلل أو الخطأ والنسيان والنقص أبدًا.

فإذا كان الحال كذلك فما على الإنسان إلا أن يسلك الجادة، وأن يستقيم على أمر الله ، وأن يُراجع نفسه وعمله وحاله، ويُراقب ربه في سره وعلانيته، فيصل بذلك إلى مرتبة الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك.

هذا، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

مواد ذات صلة