الخميس 26 / جمادى الأولى / 1446 - 28 / نوفمبر 2024
(217) تتمة قوله تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ...} الآية 191
تاريخ النشر: ٠٨ / شوّال / ١٤٣٨
التحميل: 489
مرات الإستماع: 1047

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فلا يزال الحديث متصلاً بالكلام على قوله -تبارك وتعالى-: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَاب ۝ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار [آل عمران:190-191]، وقد مضى الكلام على صدر هذه الآية الكريمة أعني: الآية الثانية وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم ويتفكرون، وقد أخذ بعض أهل العلم من قوله -تبارك وتعالى- في صفتهم الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ أنه يجوز ذكر الله للجُنب؛ لأنه يشمله قوله: وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ يعني في كل حالاتهم، وقد فُهم ذلك أيضًا من اختيار الإمام البخاري -رحمه الله- في صحيحه في ذكر قول عائشة -رضي الله تعالى عنها-: "أن النبي ﷺ كان يذكر الله على كل أحيانه"[1]، فُهم هذا لما ذكره البخاري في ترجمة الباب: "باب قراءة القرآن للجُنب"، أن البخاري يرى أن ذلك لا بأس به.

والكلام هنا في الذكر، والقرآن نوع من الذكر، وليس المقصود هنا تحقيق الكلام في المسألة لكن على كل حال الذكر لله -تبارك وتعالى- يكون في حال الطهارة وفي حال غير الطهارة، والجمهور يقولون: بأن الجُنب لا يقرأ القرآن، وما ذُكر من الأدلة لهذا القول لا تخلو من مقال، سواء كان ذلك في إسنادها أو في متنها، والله تعالى أعلم.

لكن الذكر فيما عدا القرآن هذا لا إشكال فيه، وإن كان الأفضل أن يكون الإنسان على طهارة فإن النبي ﷺ حينما لم يرد السلام على من سلم عليه ضرب بيديه الجدار تيمم، وذكر أنه كره أن يذكر الله إلا على طُهر[2]، فهذا لا شك أنه الأكمل والأفضل.

وكذلك أيضًا فإن قوله -تبارك وتعالى-: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ معناها في حال الاضطجاع، وليس لأحد أن يقول: لم يذكر مثلاً الاستلقاء على الظهر، فإن هذا داخل فيه، والمقصود كما سبق هو أن يكون في جميع الحالات.

كذلك أيضًا هنا قدم الذكر: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا على التفكر، وهو يُشعر بأن الذكر هو الذي يكون سبيلاً إلى الفكر بمعنى أن الإنسان إذا كان يذكر ربه كثيرًا في حالاته كلها فإن قلبه يصلح ويكون محلاً قابلاً للتفكر، وموضعًا للاعتبار بخلاف القلب الغافل فإنه لا يعتبر ولا يتفكر ولا ينتفع بما يرى ويُشاهد من الآيات الدالة على عظمة الله -تبارك وتعالى- وما يحصل به الاعتبار والاتعاظ ونحو ذلك، فحياة القلب لا شك أنها تكون بكثرة الذكر، فإذا حصلت الحياة كان القلب موضعًا للتفكر، وإنما موضع التفكر هو القلب، وكما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "بأن القلب إنما عمله الفكر"[3]، وتحدث عن تعطيل الأعضاء والأبعاض عن وظائفها وأن ذلك يُضعفها، فالمقصود أن القلب لا يعمل بهذه الصورة عملاً صحيحًا إلا إذا كان القلب سليمًا فيه الحياة الكاملة فيكون ذلك أوعى، ويكون محلاً للتفكر والتدبر والانتفاع والاتعاظ.

كذلك أيضًا فإن ذكر التفكر بعد الذكر يدل على أنه لا بد من هذا وهذا، وأنها قضايا كما سبق مرتبطة فلا يكفي الذكر مع تعطيل القلب عن التفكر؛ لأن ذلك هو الذي يحصل به التعقل والانتفاع والاتعاظ والاستدلال، كذلك الاهتداء؛ فإذا لم يتفكر لم يحصل له الاهتداء المطلوب، ومما يدل على أهمية التفكر ما جاء عن أم الدرداء -رضي الله عنها-: أنها سُئلت: ما كان شأن أبي الدرداء ؟، يعني ما هو العمل الذي كان يزاوله ويُكثر منه في بيته- قالت: كان أكثر شأنه التفكر، قيل له: أترى التفكر عملاً من الأعمال؟ قال: نعم، هو اليقين"[4]، يعني: بمعنى هو الذي يورث اليقين، وإلا لا شك أن التفكر هو من جُملة الأعمال هو عمل القلب، حركته كما يقولون في المعقولات وكما ذكرت أن هذه الحركة في الواقع تتوجه إلى المحسوسات في السماوات والأرض ونحو ذلك فهذه أمور محسوسة لكن يمكن أن يلتئم قول أهل العلم هذا الذي ذكرته مع ما جاء في هذه الآية من أن ذلك النظر في المحسوسات يورث المعقول ويورث أمورًا معقولة من وحدانية الله، ومن عظمته، ومن قدرته وعزته، ونحو ذلك.

وقد جاء عن ابن عون -رحمه الله- أنه قال: "الفِكرة تُذهب الغفلة، وتُحدث للقلب الخشية كما يُحدث الماء للزرع النبات، وما جُليت القلوب بمثل الأحزان"[5].

والمقصود هنا بالأحزان يعني الخشية، فإن الحُزن أحيانًا يُطلق على الخشية، أما الحزن هكذا على ما مضى وانقضى فإن هذا لا ينفع، وشيخ الإسلام يقول: بأنه يُضعف القلب ويوهنه فلا ينتفع بعمل دنيا ولا عمل آخرة، فعلى المؤمن أن يدفع الحُزن ولا يستجر الأحزان بتذكر الأمور المؤلمة فليس هذا من شأن العقلاء.

يقول ابن عون: "ولا استنارت بمثل الفِكرة"[6]، وتحدثنا عن التفكر طويلاً في الكلام على الأعمال القلبية.

وإذا كان الثناء في هذه الآية كما هو ظاهر: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فأثنى عليهم باعتبار أنهم يتفكرون في صفحة هذا الكون المشهود، فهذا أيضًا يؤخذ منه: أن التفكر الذي هو التدبر بالآيات المتلوة أنه كذلك أيضًا؛ بل إنه أبلغ بالإيمان وأعمق، النظر في صفحة الكون هذا كل أحد يُشاهده، ولكن التدبر للقرآن واستخراج الهدايات، وعَقَل الأمثال التي لا يعقلها إلا العالمون كل ذلك مرتبة فوق مرتبة التفكر في الأمور المُشاهدة؛ لأنه أدق وأبلغ وأعمق وأنفع، القرآن اشتمل على جميع الهدايات، وفيه أوصاف الله -تبارك وتعالى- تفصيلاً، ودلائل العظمة، وفيه الأحكام، وفيه ذكر أوصاف أهل السعادة وأهل الشقاوة، وصفة الدنيا، وفيه صفة الآخرة.

هذا لا يُقرأ هكذا بهذا التفصيل بالنظر في صفحة الكون لكنه قد يُستخرج جُمل منه بهذا النظر، ولذلك كان هذا التفكر في الآيات المتلوة هو السبيل إلى استخراج العلوم النافعة والهدايات والعِبر والعظات والحِكم والأحكام.

فالنظر في القرآن هذا سبيل العالمين، وكل يأخذ منه بقدر ما أعطاه الله -تبارك وتعالى- على تفاوت بين الناس، ولكن القلوب الغافلة بمنأى عن هذا كله، يعني: الانتفاع بالآيات المشهودة، أو الانتفاع بالآيات المتلوة، نسأل الله أن يلطف بنا وأن يرحمنا.

تجد الإنسان يقرأ الجزء كاملاً ولو أنه انشغل بشيء آخر لحظات لربما لا يدري هل قرأ هذه الصفحات أو لم يقرأها، لو أطبق المصحف أو أطبقه غيره، ذهب لحاجة يسيرة ووجد أن المصحف قد يلتبس عليه الأجزاء، وهو حديث قراءة لها هذا شيء يقع، تجد الإنسان أحيانًا نفسه يقرأ السورة من القرآن، ثم يجد نفسه في أواخرها أو في منتصفها وهي سورة طويلة، ولا يتذكر ما جاء فيها من القصص ونحو ذلك أنه قرأه، كأنه لم يمر على شيء من ذلك؛ لأنه يجري على اللسان منفصلاً عن قلبه، والقلب هو موضع التفكر كما سبق.

وعبارات العلماء في التدبر عند التتبع لكلامهم من المفسرين وغيرهم نجد أنها ترجع إلى عبارة وهي التفكر، أنا لا أقصد تفسير التدبر بالتفكر لكن عامة عبارات أهل العلم ترجع إلى التفكر، يقولون: التفكر بما فيه من الأمثال والقصص والأخبار والحِكم والأحكام، وما إلى ذلك، وإن لم يكن هذا هو التفسير الدقيق لكلمة التدبر لكنه قريب منه، ولذلك العلماء يتوسعون في العبارة قليلاً فيُعبرون بالتفكر عن التدبر.

فأسرار القرآن لا شك أنها أدق وأعمق وكل ذلك مطلوب من المؤمن أن يتدبر، ويتفكر، وينظر في الآيات المُشاهدة وفي الآيات المتلوة ليحصل له كمال الاهتداء، هل يحتاج الإنسان إلى سفر من أجل أن ينظر في الآيات المشهودة؟ أصحاب النبي ﷺ ما سافروا من أجل هذا، بل كان ما يُشاهدون: أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَت وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَت ۝ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَت ۝ وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَت [الغاشية:17-20]، فالعلماء قالوا: "ذكر أدنى ما يكون إليه وهو جمله الذي يركبه، فإذا ركبه وارتفع نظر إلى السماء فذكر السماء، وإذا طأطأ رأسه نظر إلى الأرض، ثم بعد ذلك إذا صوب نظره يرى الجبال، وإذا طأطأ رأسه نظر إلى الأرض"، بهذا الترتيب فكانت الأرض آخرًا.

فهذه أشياء يُشاهدها الإنسان صباح مساء ولكن الإلف هو الذي يجعل الإنسان لا يقف عندها، ولذلك ذكر بعض أهل العلم أن أحدًا من الناس لو أنه بقي في مكان لا يرى شمسًا ولا قمرًا ولا أرضًا ولا سماء، وجد في مكان وولد لم يخرج إلى الخارج، ثم بعد ذلك حينما أدرك خرج فإنه لن ينقضي عجبه حينما ينظر إلى السماء والأرض ثم ينظر إلى الشمس طالعة فينظر إليها إلى أن تغيب، ثم ينظر بعد ذلك إلى القمر والنجوم، وإذا نظر إلى البحر فإن ذلك يشده ويجذبه، وإذا نظر إلى الجبال لأول وهلة، فكذلك الآيات التي أمر الله فيها أو حث على السير في الأرض هذه كما ذكر أهل العلم تكون لمن عنده شيء، يعني: من التردد أو الشك، يذهب وينظر، وكان النظر الموجه هناك هو إلى آثار الأمم التي أهلكها الله ، مع أن قصد تلك الديار لا يُشرع كما هو معلوم، ولكن ذلك يكون لمن عنده تردد أو شك أن يسير في الأرض فينظر في تلك المحال والمواضع للغابرين الذين نزل بهم بأس الله -تبارك وتعالى-، هؤلاء يحتاجون إلى هذا السير، أما السماء والأرض والجبال ونحو ذلك فهو لا يحتاج إلى أن ينتقل ويُسافر من أجل أن يراها؛ لأن ذلك مُشاهد مُتاح له في موضعه إذا كان له قلب ينتفع به، وهذا القلب الحي كما قال الله : إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيد [ق:37]، فبعض أهل العلم يقولون: "إن تنكير القلب هنا: لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ يدل على العظمة التعظيم يعني لمن له قلب كامل هذا الذي ينتفع"، وعلى هذا أكثر المفسرين.

وذهب بعضهم وهو ما اختاره الشيخ عبد الرحمن ابن سعدي -رحمه الله-[7] أن قوله: لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ يعني ما يصدق عليه أنه قلب ولو كان شيئًا يسيرًا، يعني: بقية من حياة ولو شيئًا يسيرًا ينتفع ويتعظ ويعتبر: لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيد [ق:37]، فهذا كما سبق يدل على أن صاحب القلب الحي هو الذي ينتفع بآيات الله بنوعيها.

هذا، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بالقرآن العظيم، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، اللهم اغفر لنا ذنوبنا كلها دقها وجِلها، وارحمنا برحمتك، واغفر لوالدينا ولإخواننا المسلمين، واجعل القرآن ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وذهاب أحزاننا، وجلاء همومنا، اللهم ذكرنا منه ما نُسينا، وعلمنا منه ما جهلنا، وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يُرضيك عنا، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. ذكره البخاري معلقاً في صحيحه بصيغة الجزم (1/129)، وأخرجه مسلم، كتاب الطهارة، باب ذكر الله تعالى في حال الجنابة وغيرها، برقم (373).
  2. أخرجه أبو داود، كتاب الطهارة، باب التيمم في الحضر، برقم (330)، وضعف إسناده الألباني في ضعيف أبي داود، برقم (58).
  3. انظر: مجموع الفتاوى (9/304).
  4. انظر: التحرير والتنوير (4/197).
  5. تفسير البغوي (2/152).
  6. تفسير البغوي (2/152).
  7. انظر: تفسير السعدي (ص:807).

مواد ذات صلة